سنن الصراع بين الحق والباطل (5)
خطبة الجمعة 23 / 1 / 2015م
3 /ربيع الآخر / 1436هـ
أ.د. محمد سعيد حوى
صلى الله عليه وسلم ﴿... وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30]
ما زلنا مع سنن الله في الصراع بين الحق والباطل؛ لماذا؟ لنعمل ونخطط ونثبت ونفهم ونحسن المواجهة، ونثق بالله ونسلم ونتوكل عليه، ونصحح الولاء، وليكون الإصرار على الحق، وليكون وضوح الرؤيا والهدف مهما طال الزمن، واشتد الكرب، ليبقى الأمل، لئلا نقع في اليأس .
ومما سبق بيانه:
قيمة الدنيا،2- قيمة الزمن،3-غايتنا وغايتهم، وأثر ذلك في الصراع،4-سنة التطهير، 5- سنتة التمحيص، 6- سنة تعرية المنافقين والمدعين، 7- سنة الإمهال،8- سنة الاستدراج.
لنصل إلى القانون التاسع من قوانين الصراع بين الحق والباطل: ﴿... وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30]:
المكر تخطيط وتدبير بخفاء ودقة وقوة ودهاء، وأصله مأخوذ من صفة الشجر الكثيف الملتف بعضه على بعض حتى لا يُعرف هذا الغصن لأي شجرة وهذه الورقة من أي غصن.
لكن مكر الله بهم أن يمهلهم أمداً ويمد لهم ويظنون أنهم يحققون أهدافهم، وأنهم تمكنوا من كل شيء، ثم يقع عكس مرادهم تماماً، ويخذلون، وترتد عواقب التخطيط عليهم تماماً. فهذا العدو يريد أن يصل إلى نتائج محددة يريدها، لكن الله يعاملهم بضد مكرهم، وبضد مقاصدهم، وإذ يظنون أنهم أحكموا كل شيء، وسيصلون إلى ما يريدون ترتد النتائج عكسياً عليهم.
ذلك أن أمر الله غالب؛ كم خطط إخوة يوسف لإنهائه؛ النتيجة: عزة يوسف وشدة احتياج إخوته له مع ذلتهم بين يديه.لذا جاء في سورة يوسف ﴿... وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 21]
فمكر المجرمين ومواجهة المكر وإزهاقه سنة ماضية:
تؤكد الأيات أن هذا المكر منهم قائم مستمر خطير، وأن ذلك من سنن الصراع بين الحق والباطل؛ لنستعد ونعمل ونصبر ونواجه: ﴿ اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلاَ يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ﴾ [فاطر: 43] لاحظ التركيز على السنن.
وتؤكد الآيات أن المكر شأن المجرمين: لكن ذلك يحيق بهم:﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾[الأنعام: 123]
﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ﴾ [الأنعام: 124]
كما أن المكر شأن المستكبرين: ( استكباراً في الأ رض ومكر السيء)، (وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله...)
تصور الأيات شدة مكرهم: ﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ ﴾ [إبراهيم: 46] ﴿ وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً ﴾ [نوح: 22]
وأخطر موضوع وقضية يقع فيها المكر إضلال المؤمنين : ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا العَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [سبأ: 33]
والقضية الثانية الخطيرة: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30](إذن هدفهم سحق الإيمان والهوية، والعمل على إنهاء الأمة وأثرها ولو بالقتل أو السجن أو النفي)
ومن أساليب المجرمين اتهام المؤمنين:
﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي المَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 123]
لذا قال تعالى: ﴿ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ [النمل: 70]
لكن أمام ذلك كله:
سنة ربانية مطمئنة، دائماً تأتي الأيات وهي تحدثنا عن مكر الكافرين و المستكبرين ؛ تحدثنا أيضاً بما يطمئن المؤمن ويثبته، وأنهم جميعاً في قبضة الله. فهي كما أنها تقرر طبيعة الكفر والظلم ومنهجه، تقرر سنة الله فيهم:﴿ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 54] ﴿ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ ﴾ [الأعراف: 99]
فمكرهم في قبضة الله جل ّ جلاله : ﴿ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ المَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 42]
﴿ وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ [النمل: 50] ﴿ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ ما مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ العَذَابِ ﴾ [غافر: 45]
وتؤكد الآيات على المصير المحتوم لأولئك الماكرين:
﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ ﴾ [فاطر: 10]
﴿ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [النمل: 51]
﴿ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ القَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ [النحل: 26]
﴿ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ [النحل: 45]
كيف نواجه المكر:
قال تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ [النحل: 127]
إنه عندما نتحقق بالصبر ، ونستمد الصبر والقوة من الله، وتكون علاقتنا مع الله صحيحة، وقوية، وبالتالي لسنا ممن انهزم نفسياً، بل لسنا في ضيق ولا قلق، وعندما نكون من المتقين المحسنين، فالله معنا، وينتهي كل أثر لمكر الماكرين، ولسر أن يأتي ذلك في نهاية سورة النحل بين يدي سورة الإسراء وهي تحدثنا عن أخطر صراع ؛ الصراع مع الصهاينة واليهود على الأرض المقدسة.
تطبيقات قرآنية:
وإذ نلاحظ أنه في سورة إبراهيم جاء وصف شدة المكر ﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ ﴾ [إبراهيم: 46]
ومجيء ذلك في سورة إبراهيم لأنهم مكروا بإبراهيم وألقوه في النار، ماذا كانت النتيجة؟ ارتد ذلك عليهم.
ولكن في سورة إبراهيم هذه التي صورت مكر العدو كان قوله تعالى: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [إبراهيم: 27] فهي من أعظم البشارات.
ومع ذلك فأمر الله غالب ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30].خططوا لقتل النبيصلى الله عليه وسلم خطة محكمة جداً في نظرهم، لكن النتيجة خروج النبيصلى الله عليه وسلم وإقامة الدولة، وفتح باب الجهاد.وكذا كان الأمر كما ذكرنا في قصة يوسف.
وفي قصة النبي صالح: ﴿ وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ، فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [النمل:50- 51]فأرادوا أن يقتلوا نبي الله صالحاً، بمكر وتخطيط وتواطؤ ليلي، فكانت النتيجة أن دمرهم الله أجمعين.
ومن ذلك مكر أهل الإخدود، ماذا كانت النتيجة؟باسم رب هذا الغلام، فآمن الناس.
تطبيقات من السيرة:
ولو جئنا نستعرض في السيرة بعض مظاهر مكر الله بالكافرين والمجرمين، وهو أن يقصدوا أمراً في الظاهر وأن الأمور استتبت لهم، وتمكنوا تماماً؛ ثم يخذلهم وترتد العواقب الوخيمة عليهم، ويجعل لمكرهم نتيجة مغايرة لما يريدون، ومظاهر ذلك في السيرة عديدة:
يوم الهجرة وما كان فيه من أسرار كثيرة، وحماية الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.
من مكر الله بهم أراهم عدة محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه قلة يوم بدر ليستدرجهم إلى القتال، ويخرجوا خروج البطر والرياء والأشر فكان مهلكهم.
يوم الحديبية شرطوا أن من جاء من مكة مسلماً إلى محمد لا يقبله محمد، ومن جاء من محمد إلىيهم مرتداً يقبلونه. ماذا كانت النتيجة؟ لم يرتد ولا واحد من المسلمين، بينما جاء أبو بصير وأبوجندل وغيرهم ولم يقبلهم محمد صلى الله عليه وسلم فأقضّوا مضجع قريش؛ حتى توسلت قريش إلى محمد أن يلغي الشرط فكان الشرط هذا وبالاً عليهم.
وهم الذين شرطوا من أراد أن يدخل في حلف محمد دخل ومن أراد أن يدخل في حلف قريش دخل فدخل في حلفهم بنو بكر، فاعتدت بنو بكر على خزاعة من حلف محمد صلى الله عليه وسلم وساعدتهم قريش في السلاح وهم الذين اعتدوا على خزاعة من حلف محمدٍ، فكان ذلك مبرراً لفتح مكة، تحملت قريش مسؤوليته، وهذا من مكر الله بهم.
تطبيقات معاصرة:
ولو أردانا أن نستعرض مظاهر تحقيق سنة ﴿... وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30] اليوم:
- يسعون لتدمير البلاد العربية تارةً بالجوع، وتارة بالفرقة، وتارةً بالفتن، و تارةً بصناعة الإرهاب، و تارةً بالضعط والقهر ، وكلها ترتد عليهم مزيداً من الانتشار للإسلام:
- يروجون الصور المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم والأفلام المسيئة، ويمنعون الحجاب والمآذن؛ فيزداد إقبال الناس على فهم الإسلام، وحب النبي صلى الله عليه وسلم.
- ويضيقون على أهلنا في فلسطين فيزداد الناس قناعةً بمشروعية المقاومة، وأنه الحل الوحيد، ويزدادون التفافاً حول هذه القناعة.
- يمعنون في تشويه صورة الإصلاحيين فيزدادون انفضاحاً وسقوطاً في أعين الناس.
إذن من هنا قد ترى طول الأمد للظالم والفاسد، لكن له نهاية، ونهاية حتمية وقريبة جداً في ميزان الله، ونهاية وخيمة في الدنيا والأخرة، فعندئذٍ نقول أين ولاؤك أيها المؤمن؟ وأين نصرك للحق؟ وأين ثباتك؟ وأين ثقتك بالله، فلا تيأس؟ وأين حسن الفهم فلا تخدع ؟ وأين صدقك فلا تُداهن؟ وأين ثقتك بالله؟ فهذا دين الله أولاً وأخراً.