من خصائص الشخصية الإسلامية
من خصائص الشخصية الإسلامية
5 / 4 / 1985
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هـم محسـنون .. أما بعـد أيها الإخوة المؤمنون :
فما زلنا نقول ونكرر ونؤكد أن فهم حقائق القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة لا يتم تمامه إلا بالاطلاع الواسع والعميق على تجربة النبوة ، لأن هذه التجربة النبوية تحكي قصة نشأة أمة ، وصيرورة نظام وسيادة دين ، فوق أنها أعني هذه التجربة توضح لنا بجلاءٍ أكبر وأشد المفاهيم الأساسية والقوانين العامة التي تحكم سير المجتمع المسلم في صعوده وفي هبوطه . وهذه وإن كانت ملاحظةً عابرة لا أكثر ، لكنها تشكل مدخلاً لا بأس به إلى لفت النظر نحو ظاهرةٍ من ظواهر المجتمع الإسلامي ، وظاهرةٍ من ظواهر الإنسان العربي المسلم الذي صاغه الإسلام وربّاه محمد صلى الله عليه وسلم ، ولنستذكر بعض الشيء الوصف العام والرئيسي للمجتمع العربي الجاهلي ، لنرى تحت أي شرط أو أية شروط يمكن أي يتحقق شيء ذو بال وذو أهمية من خلال مجتمعٍ هو على هذا النحو من التركيب .
فالمعروف لكل من اطلع أيسر اطلاع على تاريخ العرب في الجاهلية أن العرب لم يكونوا محل طمع القوى الكبرى في ذلك الوقت ، لسببين جوهرين في عرف القوى الكبرى في ذلك الزمان، أولهما : قساوة الطبع العربي ، وما يريد البعض أن يسميه شراسة الإنسان العربي ، ونسميه نحن إباء الإنسان العربي وامتلاءه شعوره بالذات وإحساسه الغامر بمعاني العزة . وثانيهما : أن بلاد العرب أرض واسعة فسيحة ، لكن لا خير فيها ، ليس فيها شيء يُطمِع ولا يجلب إليه الناس ، صحارى ورمال وقحط وجوع . والذي يعنينا من التعرّف على هذا الوصف الأساسي للمجتمع العربي الجاهلي أن نقف عند النتيجة المترتبة على هذه التركيبة ، فالحقيقة أن اتساع البلاد وتباعد المدن على قلّته مع الإحساس العميق لدى كل فردٍ من أفراد هذا المجتمع بأنه يُشكل أمة قائمةً بذاتها ، لا تدين ولا تستطيع أن تدين بالولاء لبشر مثلها ، هذا الواقع أدّى إلى عدم إمكان قيام حياة مدنيةٍ سياسية مستقرة في الجزيرة العربية . فلم نعرف في التاريخ الجاهلي نظاماً ملكياً على نحو ما هو معروف حول الجزيرة العربية في الحبشة أو في مصر أو في فارس أو في الروم . ولم يحدثنا التاريخ الجاهلي عن جمهوريات تشبه جمهوريات اليونان القدماء ، وإنما هو نظام قبلي ، كل قبيلة في مرحلةٍ معينة من تطوّرها تنقسم إلى عشائر وإلى أفخاد وإلى بطون وإلى إلى .. لتشكل كل وحدة من هذه الوحدات البشرية الصغيرة عالَماً مستقلاً تمام الاستقلال .
هذا الواقع الصلب القاسي لم يسمح ولا يسمح بتجلي مفهوم الأمة ، وأنا أؤكد وأشدد على هذه النقطة لأقول : إن الذين يتغنون بالأمجاد العربية بحتاً وصرفاً من دعاة القومية في هذا الزمن الحديث وفي أيامنا هذه يظهر أنهم ضعفاء جداً في التاريخ ، أو أنهم أبالسةٌ مخادعون ، فقبل الإسلام لم يكن للأمة العربية مفهوم مستقر لمعنى الأمة بمعناها الاجتماعي ومعناها السياسي ، هذا المفهوم لم يوجد ولم تعرفه الأمة العربية إلا مع ظهور الإسلام ، قبل الإسلام لم يوجد على الإطلاق في القاموس العربي وفي الأدبيات الجاهلية ما يوحي ولا من بعيد بوجود مفهومٍ في الأمة أو مفهوم في الدولة أو مفهومٍ للمجتمع المدني المستقر المتطور المادي . وبناءً على ذلك فعلى كل دارسٍ منصف أن يعلم أن التضحية بالإسلام لصالح القومية العربية وهْم لا يسـتند إلى أساسٍ من الوقائع ولا من حقائق التاريخ ، فاللحمة بين الإسـلام وبين الأمة العربية لحمة غير قابلة للتفكيك والفصل ، لأنها هكذا وُجدت .
فمهوم الأمة بمعناه السياسي وبمعناه الاقتصادي وبمعناه الاجتماعي لم يتبلور في الذات العربية وفي العقل العربي وفي الشعور العربي إلا مع ظهور الإسلام ، وقبل ذلك لا شيء . اقتضى الأمر أن نصحح هذا المفهوم الخاطئ في أذهان كثير من الأغرار الذين ينخدعون بالشعارت ولا يكلّفون أنفسهم عناء الدرس والبحث ، والتي يروّج لها كثير من المغامرين والأفاقين الذين يريدون أن يصرفوا الأمة عن أهم مكامن قوتها وعزتها ومناعتها كيداً لهذه الأمة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً .
وإذاً فالواقعة التاريخية كمـا رأيتم ، مجتمع مفكك ، وبلاد مترامية الأطراف ، ونفوس جافية غليظة قاسية لا تدين بالولاء لأحد . يتساءل المرء كيف أمكن وخلال أقل من ربع قرن أن تنقلب الأمور ؟ وكأن قوانين التاريخ أجهزة قابلة للتفكيك وإعادة التركيب ، لا يوجد وفاقاً لقوانين التاريخ ما يسمح لنا أن نتصوّر ضمن المفاهيم السائدة إمكانية قيام مجتمعٍ سياسيٍ واجتماعيٍ واقتصادي ثابتٍ ومستقر وذو أهداف يتطلع إليها ويسير نحوها ، لا يوجد أبداً ضمن المفاهيم التاريخية المعروفة لدى الناس ما يسمح بهذا . قل لمن يُسمون أنفسهم أساتذة التاريخ من الماركسيين وأشباههم الذين يدعون أنهم هم الذين اكتشفوا قوانين التاريخ ، قل لهم : كيف تفسرون نشأة الإسلام وظهور الإسلام وسرعة قيامه وانتشاره بهذا الشكل . أية قوانين مادية أو اقتصادية كانت قائمة في ذلك الوقت تدعو إلى هذا الانقلاب الهائل السريع الذي حقق المعجزات دون أن يأخذ زمناً طويلاً ودون أن يحرق ضحايا كثيرة ، فالزمن كما رأيت أقل من ربع قرن ، والضحايا ولعل الكثيرين لا يدرون ضحايا المعارك التي قامت بسبب ظهور الإسلام من الطرفين من المسلمين ومن الكفار ضمن الجزيرة العربية لم تتجاوز الألف إنسان من الطرفين ، فلا الضحايا البشرية كانت كثيفة ولا الزمن كان واسعاً لنقول : إن القوانين الاقتصادية والمادية اختمرت في رحم هذا المجتمع ثم وُلدت على النحو الثوري الذي يقول عنه الماركسـيون وأشباههم من جهلة القرن العشرين .
وكذلك المثاليون من أساتذة التاريخ يعجزون عن تعليل وتفسير ظهور الإسلام في هذا المكان وفي ذلك الزمان وضمن الشروط الاجتماعية التي كانت سائدة في ذلك الوقت . ونحن قد أغنانا الله نحن المسلمين عن الفلسفة واللت والعجن وعن التضحية بحقائق الحياة البشرية من أجل وهْم ما يسمى بالقوانين التاريخية ، نحن المسلمين نعلم أن الله قد خلق الإنسان على مثاله ، وأنه وهبه من القوى والقدرات ما يسمح له بأن يقوم بالخلافةٍ عن الله في الأرض ، وأنه بذلك استحق من الله جلّ وعلا ومن الملأ الأعلى التكريم والإعزاز ( فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ) ( ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً ) فنحن لا نقول بقوانين تاريخية ولا بقوانين اقتصادية ولا بحقائق مادية لا تقبل الاختراق ، ولكنا نقول بقوانين إنسـانية ، ونعتقد كما علمنا الله جلّ وعلا وكما أفرزت تجربة النبوة العظيمة أن الإنسان حين يتمتع ببعض الخصائص والمواصفات يكون قادراً على أن يعطي أموراً لا تخطر على البال .
نترك الكلام النظري ولننزل إلى الواقع ، وأقصد بالواقع ذلك الواقع الذي تحرك ضمن ومن خلال محمد صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه ، لنرى ما هي الصفة وما هي الخصيصة الرئيسية أو مجموعة الخصائص التي سمحت لهذا الإنسان المنفرد أن يُحدِث هذا الانقلاب الهائل في التاريخ الإنساني وفي الحياة الإنسانية في مجتمع هو أبعد المجتمعات عن أن يكون قابلاً لأن يُنتج شـيئاً من هذا القبيل . لننظر : إن الله جلّت قدرته أنزل وحيه على نبيه صلى الله عليه وسلم ( والله أعلم حيث يجعل رسالته ) وكلّف هذا النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام أن يدعو الناس إلى ما كلّفه الله جلّ وعلا بأدائه إليهم ، ولم يفعل له شيئاً أكثر من أن أوصاه بالصبر والمصابرة وبالتمسك بحبل الله جلّ وعلا ، بل لقد بيّن له في محكم الكتاب أنه سيلقى الأذى وسيكذّب وسيصد ( ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبل ) لقد جاءت الأمم من قبلنا رسلهم بالبينات فأوذوا وكُذبوا وطُردوا ، ومنهم من قُتل ومنهم من أُخرج من دياره . والقانون الذي طُبّق على الأنبياء والمرسلين من قبل طُبّق أيضاً على محمد صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن له من القرآن ومن الوحي ميزات يُعينه في هذه المعركة إلا الأوامر المتتالية بضرورة الصبر والوثوق بمواعيد الله جلّ وعلا ، مـع التأكيد على أن هذه الرسالة ليست لعب أولاد ، إنها التكليف المجهد ( إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً ) فليست هي لعب أولاد ، ولكنها التكاليف الفادحة والأثقال التي تتزلزل لها رواسـي الجبال . وعلى هذا الخط ، خط الصبر والمصابرة والثقة بمواعيد الله جل وعلا ثبت وسار محمد صلى الله عليه وسلم ، ولك أن تنظر إلى الوقائع التي يعرفها الخاص والعام ، فمحمد صلى الله عليه وسلم لقي السخرية والاستهزاء في أول الأمر ، لأنه كان لا يشكل ـ وهو الإنسان المفرد ـ أي خطر على بنية المجتمع الجاهلي ، ولا يشكل تهديداً يُذكر على مواضعات الأعراف الجاهلية التي يعيـش عليها المجتمع الجاهلي ، ولا يهدد قوام الحياة التي يستفيد منها السادة والكبراء في العصر الجاهلي . في البداية لم يكن شيء من هذا القبيل ، وإنما كان إنساناً جاء بدين مبتدع لم يعرفه هم ولا آباؤهم ، وكانت بسمة السخرية والاستهزاء كافية للرد على ظاهرة من هذا القبيل . لكن هؤلاء الناس ليسوا وحدهم الجهلاء ، في الواقع في كل عصر يوجد ناس أغرار وجهلاء يظنون أن كلمات الله تبارك وتعالى التي تمثّل رسالاته إلى البشر يمكن أن تقابل بهذه الأساليب الولادية السخيفة الصغيرة ، مع أنها حقيقة الحقائق ولب الكون وجوهر الوجود ، لا تُكافأ كلمات الله بالأساليب الصغيرة السخيفة التافهة التي اصطنعها الجاهليون من قبل ويصطنعها جاهلوا العصر الحديث ، أبداً ، حقائق الإسلام أقوى وأكبر وأعظم من أن تطالها سفاهات الصغار .
إلا أن سيرورة الرسالة المحمدية التي حملها إلى الناس مع ما يتمتع به شخصه الكريم صلوات الله وسلامه عليه من عفة وأمانة وثقة من كل الناس جعلت القلوب تهوي إليه والناس يتوافدون نحوه ، بسائق الرغبة في الاطلاع وبسائق الإعجاب بالثبات الذي كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم . ومع الأيام ومع السنوات تكوّنت حول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلقات الأولى التي شكّلت اللبنات الأساسية التي قام عليها بناء الإسلام ، وتبين للذين كانوا يظنون بالأمس أن السخرية والاستهزاء هي الرد الكافي على هذه الظاهرة غير المألوفة ، تبين لهم أن الأمر أكبر وأخطر مما كانوا يظنون ومما كانوا يتصورون ، وأن زمام الأمور يُفلت من بين أيديهم شيئاً فشيئاً ، وأن خيرة عناصر المجتمع الجاهلي كانت تتسرب من بين أصابع الزعماء والكبراء الجاهليين لتنضم إلى صف محمد صلى الله عليه وسلم . وبطبيعة الحال كانت أولى الصدامات ، ومع الصدام المتكرر ، كان الرد المحمدي الصبر والثبات واليقين بأن الله جلّ وعلا معه وأنه لن يتخلى عنه . والشيء الذي أذهل الجاهليين أنهم برغم تسخيرهم لكل ما لديهم من قوى من أجل مكافحة الظاهرة الإسلامية ليس فقط لم يفلحوا في وقفها عند حدها ، ولكنها استشرت وانتشرت وتطورت وتقدمت ولم تبقَ دار من دور مكة تقريباً إلا وغزاها الإسلام ودخلها برجل أو امرأة أو بصبي .
ما الذي يفعله خصوم الإسلام في ذلك الوقت إذا لم تجدِ ولم تفلح القوة ؟ فدعونا نساوم ، وهذه خلائق إنسانية معترف بها ، وجاءت المساومة بصورةٍ فيها جانب من الإغراء ، لكن أيضاً فيها جانب كبير من التهديد والوعيد ، جاء وفد من قريش إلى أبي طالب وهو الذي بسـط حمايته على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : يا أبا طالب إن لك فينا سناً وشرفاً ، وإن ابن أخيك قد جاء بما جاء به من عيب آلهتنا وتسفيه أحلامنا وتكفير آبائنا ، مما لا نستطيع أن نصبر عليه ، والذي نعرفه أنك أنت على مثل رأينا فيه ، فإما أن تكفه عنا ، وإما أن ننازلك وإياه حتى يفنى أحد الفريقين . ومع هذا التهديد الواضح والمرعب كان الإغراء ، ما الذي يريد ؟ مالاً ؟ كل أموالنا تحت تصرف محمد . نساءً ؟ أي امرأةٍ إن كانت به صبوةٌ إلى النساء يختارها ، فهي تحت تصرفه . ملكاً وجاهاً وسلطاناً ؟ هم مستعدون لأن يملّكوه عليهم ولا يقطعوا أمراً دونه . ولم يملك الشيخ الكبير أبو طالب إلا أن ينقل كلام قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ما هو الموقف الذي وقفه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ؟ منتهى ما يمكن أن يقدم من إغراء وغاية ما يمكن أن يجابه به من وعيد ، قال له : يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ـ أي الدعوة إلى الإسلام ـ ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه . إذاً لو أن قريشاً ومن على رأيها في محمد وفي الإسلام الذي جاء به ملّكوه الخافقين ، بل ملّكوه الدنيا بل ملّكوه الكون كله فهو غير مستعدٍ لترك الدعوة إلى الله والجهر بالدين الذي كلفه الله جلّ وعلا أن يدعو الناس إليه . تسأل نفسك : إلى أية قاعدةٍ يستند محمد صلى الله عليه وسلم ؟ هل يستند على العشيرة ؟ وبنو هاشم من أضعف قبائل قريش ، من أقلهم عدداً ، هل يستند إلى ثروة ؟ ومحمد صلى الله عليه وسلم لا يملك من متاع الدنيا شيئاً ، وإنما أكرمه الله جلّ وعلا بزوجه خديجة رضي الله عنها فهي تنفق عليه من مالها بعد أن تفرغ لأداء رسالة الله ، والأنصار والمؤيدون والمسلمون لم يصلوا بعد إلى أربعين إنساناً ، لم يكن شيء من ذلك على الإطلاق ، لكن الذخيرة التي كان يفيء إليها رسول الله ويستعين بها على الثبات في مثل هذا الموقف وما شابهه من مواقف هو القوة والثقة بالله تبارك وتعالى .
عند هذه النقطة أحب أن أخرج على المألوف لمفاهيم الناس ، فحين تُذكر القوة كمفهوم الذي يتبادر إلى الذهن قوة العضل ومتانة الساعد ، أي القوة المادية ، ونحن حين نقول إن الذخيرة التي استند إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم واستند إليها المؤمنون معه ومن بعده لمغالبة مشاقاة الحياة هي القوة فإنما نعني القوة بمعناها الواسع والأشمل . ولنذكر أن المتنبي شاعر العربية كان يقول :
لولا العقول لكان أدنى ضيغم ... أدنى إلى شرف من الإنسانِ
بمعنى أنه لولا أن الله جل وعلا وهب الإنسان عقلاً وقدرة على التدبير الحكيم المتقن لكان أقل حيوان أقرب إلى الشرف من الإنسان ، لأن أقل الحيوانات شأناً هي أقوة أقدر على الصبر والاحتمال من الإنسـان وفاقاً للخصائص الغريزية البحتة ، لكن الإنسان هو فوق القوة المادية والقوة العضلية . لنعلم أن القوة مستويات ، بل قل إن القوة أصنافاً وشكولاً وألواناً ، هناك قوة اليد والساعد وقوة البدن وهي القوة المادية ، هناك قوة السلاح الضارب الذي تستطيع أن تصيب به خصمك وتبطل مقاومته عن قرب أو عن بعد ، لكن أيضاً هناك قوة العقيدة ، وهناك قوة العلم ، وهناك قوة الأخلاق ، وهناك قوة المجتمع التي هي حصيلة لمجمل المفاهيم التي يعيش عليها أي مجتمع .
فحين نقول إن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مع أصحابه كانوا يفيئون ويرجعون ويستندون إلى مفهوم القوة في الثبات في مكافحة الأعداء وفي التغلب على الخصوم فإنما نعني مفهوم القوة الأشمل والأكمل والأوسع . لا يكفي أن أكون قوي الساعد ، فاثنان يغلبان واحداً ، وإذ لم يغلبه اثنان فثلاثة يغلبونه على كل حال ، فقوة البدن ليست هي العنصر الحاسم . والسلاح يأتيك سلاح آخر أشد منه فتكاً وأكثر تدميراً ، والسلاح أيضاً ليس العنصر الحاسم . لكن العنصر الحاسم في الواقع هو الخصائص الذاتية التي توجد في الإنسان ، قوة العقيدة وقوة العلم وقوة الأخلاق ، ثم قوة الجماعة التي تعيش على هذه المفاهيم .
والرسول صلى الله عليه وسلم من حيث قوة العقيدة كان في الذروة ، وأصحابه أيضاً كانوا ينهلون من معينه وينسـجون على منواله ويتعلمون على يديه . لولا أن محمداً صلى الله عليه وسلم واثق كل الثقة بأن الله معه وبأنه لن يتخلى عنه وبأنه لن يخذله لتضعضع أمام الموقف القرشي الجاهلي المشرك ، ولكنه واثق يرى ما لا يرى الناس ، ويشعر بنسائم المستقبل ، ويحس أن المستقبل له ومعه وليس لهؤلاء ولا مع هؤلاء ، ويشعر أن الكون هو والمشركون والأرض والسماء كلها في قبضة الرحمن تبارك وتعالى ، ما شاء فعل وما لم يشأ لا يستطيع أحد أن يفعله . هذه الثقة المطلقة فجّرت في نفس محمد والذين آمنوا معه ينابيع القوة التي لا تغلب على الإطلاق ، ولأذكر لكم حادثتين ، كيف يمكن للإيمان أن يتغلب على أقصى الظروف ؟ تعرفون حادثة الهجرة ؟ تعرفون أن الرسول الكريم صلوات الله عليه وآله وسلم خرج ومعه صاحبه أبو بكر في طريق غير مألوف متوجهين إلى المدينة ، وتعرفون أن قريشاً أرسلت رسلها بعد أن أضعفت الجوائز لمن يجيئها بمحمد حياً أو ميتاً ، وحين أدركه الطلب كان أبو بكرٍ يتلفت يميناً وشمالاً ووراء وأمام وتارةً يمشي وراء محمد صلى الله عليه وسلم وتارةً يمشي أمامه وتارةً يمشي عن يمينه وتارةً عن شماله ، وضع الإنسان القلق المتوتر الذي يشعر أن حلقة الخطر تضيق من حوله شيئاً فشيئاً ، لكن ما كان شأن محمدٍ صلى الله عليه وسلم ؟ لم يلتفت لا يميناً ولا شمالاً ولا وراء ، وإنما كان يركب راحلته وهو يذكر الله تبارك وتعالى ، لم يلتفت أبداً ، وحين كان في الغار ينظر إلى أقدام المشركين على باب الغار وأبو بكر يهمس في أذنه : يا رسول الله ها هم . يقول له بلهجة الواثق المطمئن : يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما .
هذا اليقين العميق كان حرياً أن يتغلب على أي موقف ، وهو الذي سمح للرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون في الذروة في التأبّي والمقاومة ورفض كل العروض والمغريات والسخرية من التهديدات والوعيد . نذكر حادثةً أخرى : في إحدى الغزوات أنزل المسـلمون أثناء العودة رحالهم لكي يقيلوا ويستريحوا شيئاً ما ، ونزل النبي صلى الله عليه وسلم في ظل سَمُرة ، والسمر شجر ضخم له شوك من شجر البادية ، وحلّ سيفه وعلقه على الشجرة ونام في ظل الشجرة ، فلم يشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا والسيف يلمع فوق رأسه ، وإذا رجلٌ من المشركين يقول له : يا محمد من يمنعك مني ؟ الرسول نائم وسيفه معلق على الشجرة ، مجرد من السلاح ، وسيف المشرك فوق رأسه ، والموت قاب قوسين أو أدنى من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويُلقى عليه السؤال : من يمنعك مني ؟ هل خانته الشجاعة ؟ هل تخلى عن يقينه وثقته بالله ؟ نظر طويلاً إلى المشرك والسيف في يده صلتاً ، وقال له : الله . بكل هدوء وبكل طمأنينة ، هذا الوثوق العميق مَغنطَ هذا المشرك ، وإذ السيف يسقط من يده ، ويتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف ويقول للمشرك : الآن من يمنعك مني ؟ فيسلم الرجل وتنتهي المسألة .
فالقوة الحقيقة إذاً هي قوة العقيدة التي تجعل الإنسان شديد الوثوق بالله تبارك وتعالى ، وحين نبحث مسألة الطمأنينة والسكينة ، وحين نبحث مسألة التوكل واليقين بالله ، سوف نرى أن هناك خيوطاً تربط هذه المفاهيم والخصائص بعضها ببعض لكي تتعاون جميعاً من أجل إنتاج الإنسان الحضاري الذي يصلح لأن يبني الأمم ولأن يقود الأمم ولأن يحافظ على تراث الإنسـانية وشرف الإنسانية . حين نبحث هذه الأشياء سنرى أن الإسلام صنع ما لم يصنعه دين وما لم يصنعه بشر وما لا يمكن أن يصل أحدٌ إلى صناعته إلا هذا الإسلام وإلا هذا القرآن .
مسألة القوة أيها الإخوة مسألة لازمة ولو على صعيد الفهم ، نحن الآن أصبحنا نرضى بأيسر بشيء بالنسبة لنا في هذه الأيام . النبي صلى الله عليه وسلم ربى في المسلمين خلق القوة ، فقال لهم : المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍ خير . لكن الله يحب المؤمن القوي الذي إذا سيم ضيماً أبى ، وإذا وُجّه إليه التهديد رفض ، وإذا طُلب إليه أن يتنازل عن شيءٍ من عقيدته شمخ بأنفه ورفض كل شيء إغراءً أو تهديداً ووعيداً . ربى في المسلمين قوة العقيدة التي تربطهم بالله جلّ وعلا الذي قال لهم ( إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ينصركم من بعده ) ولا نعرف عقيدةً تغلغلت في النفوس ، حتى الآن في هذا الزمن الأعجب الرديء كعقيدة الإسلام ، ما تزال تفعل فعلها وتعمل عملها في النفوس ، فتخلق بين الآن والآن أفراداً وجماعات يتحسسون قيم الإسلام ويلتزمون قيم الإسلام ويمشون وفقاً لتعاليم هذا الإسلام . هذه العقيدة الصلبة القوية كانت الأساس الذي بنى عليه محمد صلى الله عليه وسلم كل أسباب القوة الأخرى ، عنه تفرعت قوة الجسم والساعد ، فالعبادات التي شرعها الإسلام سواء كانت صياماً أو صلاةً أو حجاً .. كل عوامل تدريب تنمي قوة البدن في ذات الإنسان ، وكذلك الحض على ممارسة الرياضة وتقوية البدن والبعد عما يضعف البدن من تحريم المسكرات والمفترات والمخدرات وما أشبه ذلك ، كل ذلك جاء من أجل أن يحافظ على بدن الإنسان قوياً راسخاً . وكذلك قوة الخلق فنحن لا نعلم إلا أن يدرينا بعض الذين يتعالمون أكثر من اللازم أن جيلاً من الأجيال عُني بمسألة الأخلاق كما عُني الإسلام .
فلماذا نذهب بعيداً ؟ لماذا لا نستذكر حال الإنسانية اليوم ؟ نحن نعلم أن الخلق وحدة متكاملة ، فالإنسان لا يكون صالحاً في جانب ورديئاً في جانب ، الإنسان إما صالح وإما رديء ، وأما نصف ونصف ، ليل ونهار على سـطح واحد ، صيف وشتاء على سطح واحد ، فلا يوجد . نحن نسمع في هذه الأيام أن مسألة الأخلاق مسألة شخصية ، وتقول عن فلان : هذا زاني هذا سارق هذا آفّاق هذا كذا هذا كذا ، يقال لك هذه الأمور شخصية ولا علاقة لها بمسائل الوطنية والدفاع عن الوطن وما أشبه ذلك . أنا شخصياً يا إخوة بلا مؤاخذة أتعجب ، كيف يسمح إنسان عاقل لنفسه أن يقول كلاماً من هذا النوع ؟ الإنسان الذي لا يتمالك نفسه أمام فرج امرأة ، الإنسان الذي لا يتمالك نفسه أمام شيء من المال الزهيد يُقدَم له على سبيل الرشوة ، الإنسان الذي يكون بهذا الشكل كيف ومتى يكون أميناً على مصالح الوطن وأميناً على حدود الوطن ؟ أنا لا أفهم ذلك ، صدقوني هذا العقل اليابس لا يمكن أن يدخله مفهوم من هذا القبيل ، أنا أعرف أن الدنيء دنيء على كل حال وأن الفاسد فاسد على كل حال وأن الساقط ساقط على كل حال ، ولا أستطيع أن أستوعب مطلقاً أن إنساناً سيء الخلق يمكن أن يكون أميناً على المجتمع المسلم أو على مصالح الوطن المسلم ، هذا غير وارد بصورة نهائياً . الإسلام هكذا ربّانا ، ربّانا لكي يعلمنا أن قوة الخلق ركن ركينٌ من أسباب ظهور المجتمعات القوية ، فإذا انهارت الأخلاق فلا شيء يمكن أن يمسك هذا المجتمع على كل حال .
كذلك قوة العلم ، عاشت الإنسانية أيها الإخوة الأحباب ظهوراً على الخرافة وعلى الجهل وعلى الوهم ، جاء الإسلام ليقرر أن الإنسان يجب أن يكون قوياً في علمه ، وليس من قوة العلم أن يكون الإنسان رائد جهالةٍ وخرافةٍ وما أشبه ذلك ، العلم يجب أن يكون يقيناً ، واليقين يتحصّل وفقاً للحس والمشاهدة . واحد : عدوا على أصابعكم ، الحس والمشاهدة . ثانياً : بديهة العقل الإنساني . ثلاثة : النص الثابت عن الله أو عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما وراء ذلك فزبالة الأذهان ونخالة الأفكار وأمور لا ينبغي لأحدٍ أن يقف عندها ، لأنها ظنون والظن لا يغني من الحق شيئاً . فقوة العلم عند المسلمين هكذا .. كانت سابقاً لا تنظروا الآن من المجتمع المسلم الذي يزدحم أو تزدحم فيه الخرافات والجهالات والسفاهات ، هذا المجتمع ليس حجةً على الإسلام ، الإسلام حجةٌ على هذا المجتمع وعلى كل مجتمع آخر .
وكذلك قوة وحدة الجماعة وقوتها الناتجة عن تماسـكها في ظل المفاهيم العامة ، فمعلوم أن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم شدد في هذا الأمر ما لم يشدد في غيره ، ويكفي أن أذكر لكم أن الرسول صلى الله عليه وسلم خاطب المسلمين خطاباً جامعاً مانعاً حازماً قال : من جاءكم وأمركم جميع ـ يعني وحدتكم جامعة ـ يريد أن يفرق جماعتكم فاعلوا رأسه بالسيف كائناً من كان . فالإسلام شدد على وحدة الجماعة ، لأنها الإطار الذي يضبط عناصر القوة ، لكي تكون هذه الجماعة كتلةً متماسكة ، إن ضربتَ بها جبلاً زال . هذه القوة يا إخوة هي الخصيصة التي يجب أن نستذكرها هذه الأيام ، الأيام التي ننظر فيها فنجد أننا كأفراد لا نتمتع بالحد الكافي والمشرّف من قوة العقيدة أو قوة الخلق أو قوة العلم ، وكمجتمعات نحن كمسلمين نشكّل ربع سكان الكرة الأرضية أو يزيد ، ولكننا أكثر من ستين أمة وستين دولة وستين علم وستين وزير خارية وستين تمثيل في هيئة الأمم المتحدة ، يا عيب الشوم .
في هذا الزمن الأعجب الرديء علينا أن نتذكر أن الإسلام يرفض جملةً وتفصيلاً أن يجرّ حالةً من هذا النوع ، فإذا عرفنا أن كل مأساةٍ أصابتنا وكل مأساةٍ يمكن أن تصيبنا فإنما هي سبب مباشر وأساسي لتخلينا عن عوامل القوة التي ربّانا عليها محمد صلى الله عليه وسلم ، وربانا عليها القرآن ، إذا علمنا هذا ندرك أي جرمٍ نرتكب حينما نقرّ هذا الواقع المفتت ، هـذا الواقع المجزّأ ، هذا الواقع المشتت ، حينما نقره وحينما نقبل به .
إن التفكير بموضوعة القوة في هذا الزمن شيء لازم ، ولنرى أنكم تقرأون في القرآن وصف الأنبياء والمرسلين ووصف الأمم التي سارت معهم واقتحمت الصعاب تحت لوائهم ، في سورة آل عمران يقول الله تبارك وتعالى ( وكأين من نبي قاتل معه ربّيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله ولا ضعفوا ولا استكانوا والله يحب الصابرين ، وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ، فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين ) فأنتم ترون أن القرآن الكريم وفي هذه السورة الكريمة سورة آل عمران يصف المجتمع المؤمن في زمن الأنبياء الماضين قبل محمد صلى الله عليه وسلم لكي يكون مثلاً أمام المؤمنين ، يصفهم قادةً وأتباعاً بأنهم سادة وأقوياء وعلماء وحكماء وهم الربيون ، وأنهم يدعون الله جلّ وعلا أن يثبت أقدامهم وأن ينصرهم على القوم الكافرين ، وكذلك كان ، فآتاهم الله ثواب الدنيا بالنصر ، وحسن ثواب الآخرة بالرضوان ، وإعلاء الدرجات والله يحب المحسنين .
فإذا سألنا أنفسنا الآن : كيف نقاتل ؟ فأحسب أن البون شاسع وأن الفرق عظيم ، نحن نقاتل تحت راياتٍ جاهلية ليس فيها شيء من روائح الإيمان ، بل ليس فيها شيء من روائح الإنسانية الكريمة المهذبة العالية ، نحن نقاتل من أجل الأرض ، هذا التراب شبيه بالتراب الموجود في جنوب إفريقيا ، لا يتغير عنه في العنصر والتركيب ، وطنك حيث تكون عزيزاً حراً كريماً ، وإلا فبئس الوطن ، هل الوطن تراب أم مجموعة من القيم التي تسمح لك بالامتلاء وبالنبوغ وبالتمتع ؟ نحن نقاتل تحت رايات أشخاص ، ويا ولينا وويل هؤلاء الأشخاص ، لأننا كركاب السفينة التي يتقاتلون ضمنها ، فإذا هي تنقلب بهم جميعاً على المحسن والمحق سواء ، نحن لا نقاتل من أجل أن نعلي شأن الإنسانية ، ولا نقاتل من أجل أن نستعيد كرامةً مهدورة وحقاً سليباً ، وإنما نقاتل لندعّم مراكز أشخاص لا يساون الذي في أرجلهم . من أجل ذلك هُزمنا ، ومن أجل ذلك سنظل ننهزم حتى نرجع إلى عقولنا ونعلم أن القتال يجب أن يكون من أجل قيمةٍ عالية واستناداً إلى أكبر قوةٍ في الوجود وهي قوة الله تبارك وتعالى . كهذا وصف الله جلّ وعلا الأنبياء والمؤمنين ، وصفهم بالقوة ووصفهم بالإتكال على الله جلّ وعلا .
وفي سورة النساء أيضاً يبكّت الله جل وعلا الذين يرضون بالذلة والمهانة والضعف والاستخذاء ، يقول الله جلّ وعلا من سورة النساء ( إن الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيمَ كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض ) أنا خائف من مخابرات تيجي تشحطني ، أنا خائف من فلان يجي يقتلني ، هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم ( الذين تتوفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ) يعني الملائكة ( ألم تكن أرض الله واسعةً فتهاجروا فيها ) يا إخوة ، أنت مأمور بأن لا تنام على الجور والضيم ، إذا كان بلدك لا يسعك فهاجر ، بلاد الله واسعة ، إذا كان بلدك يضغط على إنسانيتك ويحطم آدميتك ويهدر رجولتك امشِ في الأرض ، بلاد الله مفتوحة ، لكن يحرم عليك أن تقيم على الذل ، حرام شرعاً ، حرام اتفاقاً بين علماء المسلمين جميعاً ، يحرم على الإنسان أن يقيم على الذل ، تنفيذاً لقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم : من أعطى الذلة من نفسه طائعاً غير مكره فليس منا . وتنفيذاً لقوله صلى الله عليه وسلم : ما ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه .
( إن الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيمَ كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً ، إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم ) هؤلاء الذين لا يجدون طريقةً للتحرك عسى الله أن يعفو عنهم ، الإنسان إنسان ، رجل ، إذا مشى على الأرض يشعرها أنه فوقها ، وليس إمعة وليس روثاً ، لا ، إنما هو رجل ، إنسان بكل خصائص الإنسانية وخصائص الرجولة . هذه القوة التي أشرنا إليها أيها الأحباب هي التي صنعت أمة المسلمين وهي التي خطّت في التاريخ الإنساني أنصع الصفحات ، وضربت للإنسانية أروع الأمثلة ، على عدالة الأفراد والمجتمعات وسماحة الأفراد والمجتمعات ونظافة الأفراد والمجتمعات . وهذه القوة التي نذكرها ونريدها ونحرص عليها هي البلسم الذي يداوي جراحنا وأوجاعنا في هذه الأيام .
نحن نرى بكل أسف أن المسلمين يفرطون تفريطاً غير معقول وغير مقبول بأمرٍ لم يرخص الله جلّ وعلا فيه ، نحن نعلم أن حتى الدواب وقطيع الغنم حينما تكون سارحاً في الفلاة ، واحدةٌ هنا وواحدةٌ هناك ، حينما تشم رائحة الذئب تتجمع على بعضها وتكون قطيعاً واحداً ، لا تشذ منه واحدة ، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية ، أي البعيدة عن أخواتها . فإذاً حتى الحيوانات ، الحياة الإنسانية في أبسط مستوياتها تقول لنا أنه لا يجوز لنا أن يسـلّم بواقع التفتت والتجزئة ، هذا واحد . لكن الأنكى والأدهى والأمـر أن بعضنا يهجو بعضاً وأن بعضنا يجرّح بعضاً وأن الكوارث والنكبات لم تفلح حتى الآن في أن تنسـينا أحقادنا على بعضنا ، أن الكوارث والنكبات وأن العدو المتربص لا على الأبواب وإنما داخل البيت لم يفلح أن يقنعنا بضرورة أن ننسى خلافاتنا ونجتمع ، نحن وفي كل يوم صباحاً ومساءً وفيما بين ذلك افتح الإذاعة والتلفزيون واقرأ الصحف تجد أن العرب المسلمين يشتم بعضهم بعضاً ويهجو بعضهم بعضاً بأكثر مما يشتمون إسرائيل وبأكثر مما يهجون إسرائيل ، لماذا ؟ إذا لم تكن هذه هي السفاهة فلا أعرف في الدنيا سفاهة فوق هذه السفاهة . فالحقيقة أننا مجتمع سفيه بكل معنى الكلمة ، آن لنا أيها الإخوة أن نلتفت إلى هذه الناحية ، نحن في زمن لا يبقى فيه إلا الأقوياء ، والضعفاء لا مكان لهم ، وأنتم ترون ذلك بالتجربة وبالأحداث اليومية ، وطالما نحن ضعفاء في العقيدة وضعفاء في الخلق وضعفاء في العلم وضعفاء في كل ناحية من نواحي الحياة فلا أعتقد أنه يصح ذلك ، ويجب أن نرجو حالة أفضل من الحالة التـي نحن فيها ، لكننا يجب أن نخرج من هذه الحالة ، يجب وجوباً أن نتغلب على هذه الحالة ، أن نتغلب على التشتت وعلى التجزئة وعلى السفاهة وعلى الجهل وعلى الخرافة ، لكي نخلق المجتمع المسلم العربي القوي الرصين المتكامل الذي يستطيع أن يتصدى فعلاً لكل الكوارث المطبقة بنا ، وذلك أمر سهل إذا نحن وطّنا أنفسنا على حسن الفهم عن الله جل وعلا وعن رسوله صلى الله عليه وسلم ، وذلك هو الأمل والرجاء في أمة هي وريثة أعظم رسالة على الأرض وتلميذة أعظم رسول أرسله الله ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .