خصائص الشخصية الإسلامية
15 / 3 / 1985
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
ففي الأحاديث المتعددة الماضية كنا نقف وقفات تطول أن تقصر عند سمات وأوصاف وخصائص تتعلق بالشخصية الإسلامية ، وبما ينبغي أن تكون عليه هذه الشخصية ، وأراه حسناً من الحسن إن شاء الله أن أعيد التذكير بالباعث والسبب الذي يجعلنا في هذه الأيام نحرص على أن نذكر بهذه الخصائص ونشرحها ضمن حدود طاقة السامعين على الفهم والاستيعاب ، ونستحث الهمم والعزائم على استجماع أسباب الشجاعة لتنمية هذه الخصائص وتزكيتها ودفعها إلى الأمام .
فقد سبق أن قلت لكم إن الذي يجعلني حريصاً على التذكير بهذه المعالم من المعالم الشخصية الإسلامية ليس الشعور حينما نقول الشعور ونحن نهّون من الأمر ، لكن اليقين هو اليقين الذي أصبح ثابتاً وراسخاً ، والذي يقوم عليه كل يوم ألف دليلٍ ودليل ، على أن المعالم الأساسية للشخصية الإسلامية ، خصائصها العالية ، أوصافها الحميدة ، أسسها الراسخة ، تتعرض لهجومٍ شرس ، وهذا يأتي في سياق المؤامرة التاريخية على الإسلام ، وأقول إنها مؤامرة تاريخية ، لأنها بدأت مع بداية الإسلام ، فمنذ تنزّلت على محمد عليه السلام كلمات ربه آمرةً إياها أن يكون للناس بشيراً ونذيراً .. تحركت قوى الشر والبغي والعدوان ، كل القوى المعادية لكل خيّرٍ في الإنسان ، لكل طيبٍ في الإنسان ، تحركت لتقف في وجه هذه الدعوة الكريمة . ومنذ ذلك التاريخ وإلى الآن لم يخمد غبار هذه المعركة المستمرة ، تأخذ صوراً شـتى ، تأخذ ألواناً متعددة ، تنتقل من معسكرٍ إلى معسكر ، لكن المهم أن أساس المعركة ثابت ، وأن المؤامرة مستمرة .
ونحن في طبيعة الحال لا نسمح بأن تتميّع حدود الشخصية الإسلامية ، لأن هذا ـ في رأينا ـ يرتبط بالأمانة التي حمّلنا الله تبارك وتعالى إياها ، أمانتنا على الجنس البشري وأمانتنا على المصير البشري . فالإسلام دعوة سلم وأمن وسكينة واطمئنان ومحبة ومودة وتآلف واجتماع ، ودعوة من هذا القبيل تُقيم موازين الحق والعدل وترفع راية الخير والمحبة لا تروق للأشرار ، ولا يطمئن إليها المفسدون في الأرض ، لأنهم يريدون الدنيا غابة ، يريدون الدنيا مسبعة ، يأكل فيها القوي الضعيف ، ويسـتعلي فيها الشر على الخير ، ويتبختر فيها الباطل على أشلاء الحق . وتلك رغبة خائبة أشد خيبةً من الذين يحملونها ، لأن طهارة الحياة ونقاء الحياة قانون من قوانين الله ، لا يُسقطه رغبة الأشرار ، ولا تؤثر عليه عوامل الظلم والجبروت التي تظهر من هنا أو من هناك . لهذا السبب لشعورنا ويقيننا بأن معالم الشخصية الإسلامية تتعرض لسحقٍ رهيب في هذه الأيام على يدي قوى ساقطة ومنحلة ومنحطة ومأجورة وعميلة ، تعمل في الداخل وتعمل في الخارج ، لكي تطحن هذه الشخصية ، لشعورنا هذا فنحن نقف معكم في الآن بعد الآن عند بعض معالم هذه الشخصية ، لكي يمناز صنفان من الناس ، أحدهم صديق الحياة والأحياء وهو الإسلام ، والآخر عدو الحياة والأحياء وهو كل ما عدا الإسلام ، أي لباسٍ لبس وأي بوقع تبرقع به ، فما عدا الإسلام معادٍ للحياة والأحياء ، ومعادٍ للإنسان من حيث هو إنسان .
ولقد تحدثنا سابقاً عن بعض هذه الخصائص والأوصاف ، وأظن أن الشروح التي أعطيناها تكفي الذين يريدون أن يعقلوا عن الله معنى ما أراد ، أو على الأقل تضعه على أول الطريق لكي يعطوا من أنفسهم شيئاً من التعب وشيئاً من الجهد ، ليكتشفوا العالم الجميل المضيء الذي بناه الإسلام . لكني أريد أن ألفت نظر أبنائي من الجيل الجديد الطالع الذي هو محط اهتمام أعداء الإسلام ، لكي يمنعوه عن أن يشم رائحة الإيمان وعن أن يكتشف جمال الإسلام ، أريد أن أذكر أبنائي هؤلاء بأن كل كلامٍ نظري ، وكل شروحٍ تُعطى قد تكون مفيدة ، لكنها لن تكون فائدتها بدرجة الفائدة التي تتحصل لو أنهم حاولوا ـ وهم الذين درسوا وتعلموا وتفقهوا ـ حاولوا أن يتقرّوا ويتعرفوا على حوادث الإسلام في أصوله وفي أزمنته الأولى ، وحاولوا كذلك وهذا مهم أن يتعرّفوا على الشخصيات البارزة في الإسلام ، يدرسوها ويحللوها ويستنتجوا من خلال ذلك العوامل التي بنت هؤلاء الرجال ، حتى جعلت منهم نماذج فريدة منقطعة النظير ، هذا شيء أحببت أن ألفت إليه نظر الإخوة .
حديث اليوم حديث لا أتصور أنه ملفت للنظر بصورة زائدة ، لكنه بالتأكيد صعب التطبيق ، حديث اليوم يتصل من بعض الجوانب بكلامنا عن صفة العزة الذي سبقنا أن تحدثنا عنه في مرةٍ ماضية ، والتي يجب أن تكون إحدى أهم خصائص الشخصية الإسلامية ، لأن الله تعالى أثبتها لنفسها فقال تعالى ( قل من كان يريد العزة فإن العزة لله جميعاً ) وأثبتها للمؤمنين أيضاً ملحقةً به جلّ وتقدس فقال ( ولله العزة وللرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون ) حديث اليوم من بعض الجوانب يتصل بكلامنا السابق ، وهو حديث ينصب على خُلق الصدق . قلت لكم إنه ليس ملفتاً للنظر ، فمن نافلة القول أن الإنسان المسلم يجب أن يكون صادقاً ، والله جلّ وعلا نادى المؤمنين في مواطن متعددة من القرآن الكريم فقال جلّ من قائل ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) لم يقل : كونوا من الصادقين ، ولكن قال ( كونوا مع الصادقين ) ليجتمع الصدق الذاتي وليجتمع المجتمع الصادق الذي لا يسمح ببروز عوامل الكذب والتحلل والنفاق ولبس الوجوه المتعددة ( وكونوا مع الصادقين )
قلت إن من نافلة القول أن يكون المسلم كذلك ، فهذا كما تقول : واحد وواحد يساويان اثنين . لكن التطبيق صعب صعب جداً ، فالإنسان مجموعة من الحوافز والدوافع والغرائز ، مجموعة أيضاً من الرغبات والشهوات ، الإنسان إضافةً إلى ذلك يتميز عن مخلوقات الله جلّ وعلا بأنه فاعلٌ منفعل ، يعني يتأثر بما يحيط به ومن يحيط به ، ويردد بما يحيط به وبمن يحيط به ، فحين يكون الجو العام الذي يعيش فيه الإنسان جو تزييف وكذب ودجل وإخبارٍ عن الذات بما لا تعتقد ووصف لليل بأنه نهار وقول عن النهار بأنه ليل وقول عن الأسود أنه أبيض وعن الأبيض أنه أسود وعن الخيّر أنه شرير وعن الشرير أنه خيّر وعن الساقط المنحل أنه إنسان كامل وعن الإنسان الكامل أنه إنسانٌ متحلل ، حين يكون الجو العام ضاغطاً بهذا الشكل فإن التلبّس بفضيلة الصدق تكون أمراً من أعسر ما يكون . لذلك قلت لكم من نافلة القول أن نذكر بالموضوع ، لأنه يُفترض في الإنسان المسلم بأن يكون صادقاً ، ولكن عند التطبيق تظهر المشكلة وتظهر الصعوبات ، لأننا نتعامل أولاً مع الذات وهي ذات متأثرة ومنفعلة بما حولها ، ونتعامل أيضاً مع المجتمع وهو مجتمع يموج ويتحرك بالرغبات والأهواء المتضاربة والمصطرعة في كثيرٍ من الأحيان .
عموماً من الخير أن نركّز القول ، وقبل أن أدلف إلى مسألة تركيز القول أتنمى على الإخوة جميعاً لو أنهم كلّفوا أنفسهم ففتحوا كتاباً من كتب الحديث كصحيح البخاري مثلاً ، وحاولوا أن يقرأوا في أبواب التفسير من الصحيح ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، تعليقاً على قول الله جلّ وعلا في سـورة التوبة ( لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار ) ثم ( وعلى الثلاثة لذين خُلّفوا ) لو حاولوا أن يقرأوا حديث كعب بن مالك وهو حديث طويل قد يتضمن صفحتين أو أكثر ، لعرفوا أن الصدق ليس بضاعةً رخيصة . الثلاثة الذين خُلفوا هم الذين عوتبوا من قبل النبي صلى الله عليه وسلم عن تخلفهم عن غزوة تبوك ، وغزوة تبوك كانت في السنة التاسعة من الهجرة ، استقبل النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون فيها سَفراً بعيداً وحرّاً شديداً وعدواً كذبا ، ذهبوا لمقابلة الروم . فالتخلف ها هنا يحمل إشارةً إلى أن مسألة الإيمان مهتزة ، ليست راسخة ، لذلك قال الله جلّ وعلا مخاطباًَ المؤمنين ( ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ) كان ينبغي أن يخف الناس جميعاً خفافاً وثقالاً ليواسوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنفسهم وليستقبلوا العدو كما استقبله محمد صلى الله عليه وسلم ، لكن ناس من الأعراب المنافقين تخلفوا ، فلما عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة عاتبهم فاعتذروا فقبل أعذارهم ووكل سرائرهم إلى الله جلّ وعلا ، فأنزل الله فيهم شر ما قال لخلقه إذ اعتبرهم في الدرك الأسفل من النار ولا نصير لهم يوم القيامة .
ولكن ثلاثةً من الذين تخلفوا فقط ، أحدهم كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه ، صدقوا النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه أنهم لم يكونوا أقوى ولا أكثر جدى ولم يملكوا قبل ذلك رواحل كما ملكوها في ذلك الوقت ، ولكن الله لم يقدر لهم أن يخرجوا ، فأرجأ أمرهم وخلّفهم ، فتخليفهم هو إرجاء النبي صلى الله عليه وسلم للبت في أمرهم وليس تخلفهم عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسألة الحرب ، هؤلاء الثلاثة شرح الله جلّ وعلا في سورة التوبة مآلهم ووضعهم الذي أصبحوا فيه بعد أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بمقاطعتهم وعدم الكلام معهم وعدم السلام عليهم وعدم رد السلام عليهم أيضاً ، ثم بعد عدة أيام أمر من هو متزوج منهم أن يعتزل امرأته ، واستمر الحال كذلك خمسين يوماً حتى نزلت توبة الله جلّ وعلا على هؤلاء المخلّفين ، ذكر الله شأنهم فقال ( ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ) حينئذٍ تنزلت توبة الله عليهم .
في الحديث الذي يرويه البخاري وغيره من الأئمة عن هذه الواقعة متاع لمن أراد المتاع الأدبي ، ودرس لمن أراد أن يتعلم أن الصدق ليس من رخيص البضائع ، ولكنه شـيء مكلّف ، مكلّف لأنه ضد كل رغبة ، وكل هوى وكل شهوة . نعود الآن بعد هذا التمني على الإخوة أن يحاولوا قراءة هذا الحديث ، نعود إلى التركيز لنقول : لا داعي إلى أن نسرد الآيات التي تحضّ على الصدق وترهّب فيه ، ولا داعي أيضاً إلى أن نكثر من استعراض الأحاديث التي تدور حول هذا الشأن ، حسـبنا أن نسمع النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وهو يقول : عليكم بالصدق فإن الصدق يدعو إلى البر ـ والبر هو ذروة الأخلاق الكريمة التي تتحصل للإنسان ـ عليكم بالصدق فإن الصدق يدعو إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة ، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يُكتب عند الله صديقاً ، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور ـ والفجور شر الخلائق التي تكون عند الإنسان ـ وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، وإن الرجل ما يزال يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتب عند الله كذّاباً . من هذا الحديث المختصر كما ترون تدركون بداهةً من سياق الكلام أن اكتساب فضيلة الصدق ليس كأس ماء يشربها الإنسان وانتهى ، لا ، وإنما هو تمرين وتدريب ، ما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق أي يتتبع الصدق ويحاول أن يتلبس بهذه الفضيلة ، يتمرّن ويتدرب على الصدق . فالمسألة إذاً كما قلنا ليست سهلة ، وإنما هي تدريب الإنسان لنفسه على أن يواجه مواقف الصدق برغم كل العوارض وبرغم كل العوائق التي تقف في طريقه .
نرجع إلى تعريف الصدق لكي نكشف عن ناحية ربما يغفل عنها كثير من الذين لم يعوّدوا أنفسهم مشقة البحث . نحن نعرف الصدق إخبار بالواقع ، أنا رأيت فلاناً فحينما أقول أنا رأيت فلاناً فأنا صادق في هذا القول ، لكن الحقيقة أن الصدق أعمق من ذلك ، مدلوله أعمق ، لذلك قلت لكم إن الكلام عن الصدق يتصل من بعض الجوانب عن الكلام من خُلق العزة الذي تحدثنا عنه من قبل . حينما نرجع إلى معاجم اللغة ، وبطبيعة الحال القرآن عربي ومحمد صلى الله عليه وسلم عربي ، والكلام الذي تحدث به القرآن والرسول عليه الصلاة والسلام جاء على المعهود بين العرب في مخاطباتهم بينهم ، أي على قوانين اللسان العربي ، وحينما نريد أن نستنتج معنى مفهوم من المفاهيم التي جاءت في الكتاب أو جاءت في السنة المطهرة فعلينا أن نرجع إلى قوانين العرب بالخطاب ، فما أرادته العرب في مخاطباتها فالله جلّ وعلا أراده في كلامه ، والرسول عليه والصلاة والسلام أراده في كلامه أيضاً . كلمة الصدق هذه المادة اللغوية جذرها المكون من ثلاثة أحرف : الصاد والدال والقاف ، تدل في أصل الوضع اللغوي على القوة وعلى المتانة وعلى الصلابة ، العرب تقول : هذا رمح صَدْقٌ ، بفتح الصاد وإسكان الدال ، هذا رمحٌ صدق أي قوي وصلبٌ وشديد ، وتقول العرب : صدق فلانٌ اللقاء في الحرب ، أي أنه ثبت وتترّس في مكانه ولم يسمح لنفسه أن يتراجع . فجذر الصدق الذي هو خليقةٌ من خلائق الإسلام يدل على الثبات والقوة ويدل على العزة والكرامة ، هذا التحليل اللغوي قد يغفل عنه الكثيرون ، مع أنه المراد في مسألة الصدق ، تصوروا إنساناً يتحرى أن يكون صادقاً باستمرار ، إنه بلا شك إنسانٌ قوي ، حتى لو افترضنا أن المجتمع الذي يعيش فيه كله كذّاب ، فهذا الإنسان الفاذ الوحيد المنفرد إذا اتّسم في صفة الصدق فهو قوي في وجه هذا المجتمع كله ، وكل المجتمع يدرك في أعمق أعماقه أنه ضعيف وتافه وحقير .
والإنسان الكذاب بالضد من ذلك على العكس ، حين يكذب يشعر تماماً بأنه يتمرغ في الهوان ويتمرغ في الضعف وينحدر إلى الدرك الأسفل من مواضع الإنسانية . فالصدق في أساسه قوة ، والكذب ضعف ومهانة . بعد هذه التحليلات التي لا بد منها لكي نكتشف ما نريده من معنى الصدق ولكي نستطيع أن نفرز بالبداهة وتلقائياً ولا سيما في مجتمعنا المعاصر الكذابين وهم زرافات ووحدانا وكتل كبيرة من الصادقين وهم قلة ندلف إلى تركيز المراد بالصدق الإسلامي . فالصدق نستطيع أن نميزه على ثلاثة مراحل : صدق مع الله ، وصدق مع الذات ، وصدق مع الآخرين . أكرر صدق مع الله وصدق مـع الذات وصدق مع الآخرين ، فالصدق مع الله ليس على النحو الذي يكون بيني وبينك ، وبينك وبين الآخرين ، ليس معناه أن تخبر الله بشيءٍ هو حقيقة وصدق ، فهذا غير متصور . لكن الصدق مع الله يتمثل بالوفاء مع عهده مع الله ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً ) فالوفاء بمواعيد الله جلّ وعلا ، الوفاء بالعقد الذي عُقد بيننا وبين الله أن نظل مستمسكين بعرى دينه متتبعين مواطن رضوانه سالكين آثار وخطى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، هذا هو الذي يمثّل الصدق مع الله تبارك وتعالى ، ولهذا جاء التعبير والوصف للمؤمنين ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ) فالصدق مع الله ليس كلاماً يقال ولا دعوى تُدّعى ولا شـارةً توضع على الصدر ولا وسام استحقاق ، ولكن الصدق مع الله مواقف ، ولكن الصدق مع الله تضحيات ، ولكن الصدق مع الله مشي على الشوك ، ولكن الصدق مع الله شراء رضاء الله بغضب الدنيا كلها ، فهذا هو الصدق مع الله تبارك وتعالى ، لا صدق مع الله مع الفسق ، ولا صدق مع الله مع الفجور ، ولا صدق مع الله مع إضاعة الفرائض ، ولا صدق مع الله حين تنحلّ عرى الولاء بين الله وبين الإنسان ، لا ، حينئذٍ لا يكون الصدق صدقاً مع الله على الإطلاق ، تصوّر حينما تجد الإنسان يمنح ولاءه لإنسانٍ مثله فيعتبره موجهاً وقائداً وزعيماً وآمراً وناهياً وحاكماً وقاضياً عليه ، ماذا أبقيت لله يا فلان ؟ أين إذاً ولاؤك لله أصبح ؟ وأين أنت من الإسلام كله ؟ إنك خرجتَ جملةً وتفصيلاً عن الإسلام ، فلا صدق مع الله مع ضعف الرابطة مع الله ومع وهن الولاء لله تبارك وتعالى ، ولا صدق مع الله حينما نمنح ولاءنا لغير الله تبارك وتعالى . ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرجل الذي جاءه لكي يسلم ، قال له : قل آمنت بالله وتخليت . آمنت بالله تبارك وتعالى رباً وخالقاً ورازقاً ومحيياً ومميتاً ومعبوداً ، وتخليت عن كل شيءٍ آخر . فهذا جوهر الصدق مع الله تبارك وتعالى .
أما الصدق في مستواه الثاني ، وهو الصدق مع الذات ، فصدقوني أنه شيء صعب ، لا تصدقوا أنه يوجد في حياة الإنسان حال أصعب من مواجهة الإنسان لذاته ، إن تعرية الإنسان أمام نفسه عملية صعبة ، صعبة للغاية ، أن يكتشف الإنسان في نفسه عوامل الضعف والانحلال والتدهور فهذا شيء مخيف ، أن يقرّ الإنسان ويعترف على نفسه أنه إنسان مقصر إنسان فاسق إنسان فاجر إنسان كذوب إنسان كذا إنسان كذا ، فهذا شيء صعب ، ذلك في أن طبيعة كل إنسـان ميلاً وجنوحاً إلى أن يبرر نفسـه ، حتى وهو مخطئ يلتمس لنفسه أعذاراً ، وهذا غلط وهذا مضاد لأخلاقيات الإسلام ، فالإسلام يطلب من الإنسان المسلم أن يكون دقيق المحاسبة لنفسه ، بمعنى أن يكون صادقاً مع ذاته ، حينما يخطئ لا يتردد في الاعتراف في الخطأ ، أما أن يكابر ويتبجح ويتمسك بالموقع الغلط الذي يقف فيه فهذا شيء لا يتصل بالصدق مع الذات . الصدق مع الذات هو أن تعرف نفسـك بما لها وبما عليها ، بمعايبها وبمحاسنها ، ما لها تحاول أن تنمّيه ، ما عليها تحاول أن تحذفه ، بهذا الشكل تكون قد صدقتَ مع ذاتك ، وتكون دائماً في حالة ترقٍّ وتقدم . فإهمال الذات والسكوت عليها وقبول التقصير يولّد لدى الإنسان اعتياداً وإدماناً على الخطأ والخلل ، وهذا لا يجوز ، الإنسان مخلوق عاقل مفكر ومدرك وقادر على أن يولد من جديد ، قادر على أن يجدد نفسه ، إن لم يراجع ذاته وإن لم يحاول وباستمرار أن يصلّح مما في نفسه من أخطاء فهو إنسا سوف يتردى ويتراجع باستمرار ، لكنه حينما يقف مع نفسه موقف المراقبة والمحاسبة والإصلاح وموقف التجديد فهو يتجدد باستمرار ويتقدم باستمرار ، بالتالي باستمرار يكون إنساناً نافعاً ومنتجاً وخيّراً ، ويكون دائماً يومه خير من أمسه ، وغده خير من يومه ، وهذا هو وصف الإنسان الراقي الإنسان الكامل ، لا نزيد على ذلك .
ننتقل بعد ذلك إلى المستوى الثالث والأخير وهو الصدق مع الآخرين ، اسمحوا لي أن أقول لكم إن توزيع الابتسامات والقبلات ونثر كلمات المجاملة بين الناس لا داعي له إن لم يكن فيها الصدق ، كل إنسان قادر على أن يتحدث بألفاظ المجاملة وأن يبتسم في وجه الآخرين ، هذا لا يدل على شيء ، الأصل هو ما أشعر به وما تشعر به أنت ، هذا هو الأصل . فالمودة والأخوّة والصداقة ليست كلاماً ولكنها عقد قلب ، وحينما نتصوّر أن الإنسان في المجتمع ، الإنسان المسلم في المجتمع المسلم أخٌ لكل إنسانٍ في هذا المجتمع ، ويحمل الود لكل عنصرٍ في هذا المجتمع ، ويحرص على إيصال الخير إلى كل إنسانٍ في هذا المجتمع ، حينما نتصور وضع الإنسان في مجتمعه بهذا الشكل فسوف نرفض جملة وتفصيلاً كل مظاهر النفاق الاجتماعي ، مظاهر الكذب والدجل الرخيص ، الابتسامات الزائفة ، الجلود الناعمة التي تنطوي على أشرس القلوب ، سوف نرفضها تلقائياً .
اسمحوا لي أن أقول لكم إن تعاملنا مع بعضنا غلط ، يحتاج إلى الكثير من المعنى الإسلامي ومن المعنى الإنساني ، اسمحوا لي أن أقول لكم إننا نعيش في عصرٍ انحلت فيه عرى الصداقة ، وذهبت فيه قوانين الأخوّة ، وأصبح كل إنسان يعتقد أن كل إنسانٍ عدو له ، وانتُزعت الثقة من بين الناس فلا يثق أحد بأحد ، وهذا مجتمع لا يبشر بالخير . ما يتحدث عنه الساسة من الوحدة الوطنية ومن المظاهر الأخرى دعونا منه ، فهذا شيء لا يقدم ولا يؤخر ، الشيء الذي نبحث عنه في الحقيقة هو ارتباط القلوب بعضها ببعض ، ارتباط القلوب ببعضها لا يكون إلا بالتعارف على الله والتعارف على الإسلام ( إنما المؤمنون إخوة ) وبغير هذا لا يكون ارتباطهم ، لهذا السبب فلا أريد أن أن أبكتكم طبعاً ، لأنني شريككم في هذه العاهة ، شريككم في هذا العيب ، ما هو موجود فيكم موجود فيّ أيضاً ، لأننا جميعاً قَصة واحدة ، ما شاء الله ، تربية واحدة ، إنما أريد أن أقول لكم إن الصدق مع الآخرين فضيلة ، وليس ضرورياً أن أكذب عليكم ، وأن تكذب علي ، غلط ، كم من المآسي والكوارث حصلت بسبب كذبة كان صاحبها يحسبها بيضاء فإذا هي سوداء مظلمة يتولد منها شر مستطير ؟ كم جنى هذا اللسان من جنايات ؟ ألم تسمعوا حديث معاذٍ رضي الله عنه حينما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يجيب سائلاً يسأله عما يضمن له الجنة ، فيقول له : أمسك عليك هذا ، ويشير إلى لسانه ، فيستغرب معاذ رضي الله عنه وهو يظن أن الكلام لا يقدم ولا يؤخر ولا تترتب عليه عواقب لهذه الدرجة من الخطورة ، ويسـأل النبي صلى الله عليه وسلم : أفنؤاخذ بما نقول يا رسول الله ؟ فيقول : ثكلتك أمك يا معاذ ، هل يكبّ الناس في النار على وجوههم ـ أو قال : على مناخرهم في النار ـ إلا حصائد ألسنتهم . كم جرّت حصائد الألسنة على الناس من مآسي ؟ كم جرت حصائد الألسنة على الناس من مشـاكل ؟ كم جرت حصائد الألسنة على الناس من متاعب ؟ يا إخوة إن العمل عمل والقول من العمل ، ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقول : من علم أن كلامه من عمله قلّ كلامه .
كم نسمع من الناس يثرثرون باستمرار ، يتحدثون بلا انقطاع ، لا يدرون أن هذا من عملهم وأنه محسوب لهم أو عليهم ، وحين يدرك الإنسان أن كلامه من عمله يقلل من كلامه . حينما يقلل الإنسان من الكلام ، وهذه نصيحة ، حينما يقلل الإنسان من الكلام يقلل من احتمالات الخطأ ويقلل من احتمالات الكذب ، فلنحاول ولنجرب ، إذا كان أحدنا يتحدث رشاً بمعدل مائة كلمة في الدقيقة ، ليحاول أن يجعلها خمسين كلمة ، وإذا كان متعوّداً أن يتحدث في المجلس ساعة فليجعلها ربع ساعة ، وكلما أقل من كلامه كان ذلك خيراً له وأجدى على المجتمع . هل نستطيع أن نفعل ذلك ؟ أظن أن هذا سهل .
عند هذا الحد أيها الإخوة أنهي ما أردت أن أقوله عن فضيلة الصدق ، لا أقول إنني تحدثت عنها من جميع الجوانب ، طبعاً لا أقول هـذا ، لأنني بالطبع لم أتعرض للعلاقة بين الصـدق والصـداقة ، ولم أتعرض للعلاقة بين الصدق والصدقة ، الصدقة التي يفعلها الإنسان ، ولم أتعرض للعلاقة بين الصدق وشمائل العزة وخلال الرجولة ، لم أتعرض لهذا كله ، أنا طبعاً حالياً فـي غنى عن هذا التعرض ، ويكفيني أنني نثرت أمامكم المسـألة وحدثتها لكم بتركيز ، وبحسـبي أن أتوجه إلى الله تبارك وتعالى أن يلهمنا وإياكم والمسـلمين القوة على أن نتمسك بفضيلة الصدق فـي القول والعمل ، ومع الله ومع الذات ومع الآخرين ، وصلى الله تعالى علـى سـيدنا محمد وعلـى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.