فضل يوم الجمعة 1
فضل يوم الجمعة
21 / 2 / 10985
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
(1)
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
قلنا لكم في الجمعة الماضية إننا سنبحث مسائل من المسائل التي تعود بالنفع على المسلم من حيث تُعرّفه ما يجهل من أحكام دينه ، أو تصحح له بعض الأمور الشرعية التي جعلها الجهل تنحرف عن مسارها . وبالنظر لما للجمعة من أهمية بين العبادات الإسلامية فقد قلنا إننا سنبدأ الحديث عنها ، وهذا أوان الالتزام والوفاء بهذا الذي وعدناكم ، ولن نبدأ بالكلام على فضل الجمعة فذلك سيأتي ، وإنما نبحث وسنبحث في كل جمعة مسألة أو مسألتين نحددهما ونبينهما بياناً شافياً وهذا يكفي ، لأن الإكثار على الناس بعرض الأمور والمسائل في هذا الزمن الذي تقاصرت فيه الهمم ، وخيّم على الناس فيه الكسل ، قد يفوت الغرض المقصود من حضور الجمعة وشهود الصلاة والاستماع إلى الخطبة ، وعلى ذلك فهذا اليوم مخصص لبحث أساس مشروعية الجمعة ، ولبحث مسألة تسمية يوم الجمعة ، ولا نزيد . ولا أحسب أحداً منكم لم يقرأ أو لم يسمع كلام الله في القرآن عن الجمعة ، فقد نزلت في الجمعة سورة تحمل اسمها هي سورة ( الجمعة ) في هذه السورة يقول الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إذا نُودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون ، فإذا قُضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ) فهذا وصف واضح ، يُشعر بمنطوقه وبصراحته بضرورة السعي إلى الجمعة حين يُنادى لها .
ونذكر أيضاً حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ونسوقه بالإسناد إن شاء الله ، تبركاً بذكر الرجال العظام الأطهار الذين أدّوا إلينا الأمانة وحملوا لنا توجيهات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فنقول : قال الإمام البخاري في صحيحه في فاتحة أبواب الجمعة : حدثنا أبو اليمان قال : أخبرنا شعيب قال : حدثنا أبو الزناد أن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج مولى ربيعة بن الحارث حدثه أنه سمع أبى هريرة رضي الله عنه أنه سـمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أُوتوا الكتاب من قبلنا ، ثم هذا يومهم الذي افُترض عليهم ، فاختلفوا فيه ، فهدانا الله له ، فالناس لنا فيه تبع ، غداً لليهود وبعد غدٍ للنصارى . فهذا الحديث الذي افتتح فيه الإمام البخاري رحمة الله عليه الكلام على أبواب الجمعة جامعاً أقوال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتصف بالجمعة .. يُشعرنا أيضاً بفرضية الجمعة ، لأنه قال : إنه اليوم الذي افُترض عليهم ، يعني افترض على أهل الكتاب من قبلنا ، لكنهم اختلفوا فيه ، وحين أضلهم الله عنه هدانا الله له ، فأصبح الناس لنا فيه تبعاً ، أي أصبحت الجمعة لنا عيداً ، وأصبح لليهود بعدنا يوم السبت عيداً ، وأصبح للنصارى بعدنا وبعد اليهود يوم الأحد عيداً .
ونسأل : هل يوم الجمعة أو الجمعة اسم كان معروفاً في الجاهلية نطقت به العرب وأجرته على ألسنتها أم هو اسم أحدثه الإسلام ؟ بعض العلماء وبعض أرباب اللغة يقولون إنه اسـم مثلى ، أي أنه لم يكن معروفاً بهذا الاسم في الجاهلية ، وإنما اسم أحدثه الإسلام وخاصةً بعد الهجرة وقبل وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حينما جمّع أسعد بن زرارة رضي الله عنه بالمسلمين يوم الجمعة فوعظهم وذكّرهم وصلى بهم . ثم استمر الأمر بهذا الشكل . من القائلين بهذا الإمام محمد بن علي بن حزم رحمة الله عليه . لكن معظم اللغوين وبعض رجال العلم والحديث يقولون إن الاسم يوم الجمعة كان موجوداً ، وينصصون على أن أول من أطلق عليه هذه التسمية أحد أجداد النبي صلى الله عليه وسلم وهو قصي ، وهذا ما جاء صريحاً في مجالس ثعلب ، وهي إملاءاته التي كان يمليها باللغة والعلم ، والكتاب مطبوع ومتداول .
ويذهب الزبير بن بكار في كتاب النسب إلى أن أول من جمّع وأطلق اسم الجمعة على هذا اليوم هو كعب بن لؤي بن غالب ، وهو أحد أجداد النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان في عصر موسى صلوات الله وسلامه عليه ، فقد جمّع بالناس وكان يعظهم ويذكرهم ويخبرهم أن الله سيبعث نبياً في العرب ، وأنه سيكون من نسله ويأمرهم بمتابعته وطاعته . وقبل ذلك فالجمعة لم تكن تسمى الجمعة ، وإنما كان تسمى يوم عَروبة أو يوم العَروبة بفتح العين لا بالضم ، يوم العروبة أو يوم عروبة . ويذكر علماء اللغة أن أيام الأسبوع : السبت والأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة لم تكن أسماؤها عند العرب القدماء بهذا الشكل ، وإنما كانت لها أسـماء أخرى ، كانت كالآتي : أولُ ، أهونُ ، جُباري ، جُباري ، مؤنس ، عَروبة ، شِيا ، هذه هي أيام الأسبوع عند العرب القدماء ، ثم غيروها إلى الأسماء المتعارفة بيننا . ويذكرون على ذلك شاهداً من الشعر الجاهلي ، وهذا الشاهد من أراده يجده في أي مكان من كتب اللغة التي اعتنت بالشرح والإطالة ، يذكرون أن الشاعر الجاهلي ولم يسموه يقول :
أؤمل أن أعيش وإن يومي
بأول أو بأهون أو جُباري
أو التالي جباري وإن أعشه
أفته فمؤنس أو عَروبة شِيا
وسلفاً أنا أتحفظ على هذا الشاهد ، فيبدو لي من ممارسة قراءتي للشعر الجاهلي أن هذا الشعر بعيد في روحه وتركيبه عن أساليب الشعر الجاهلي بعداً تاماً ، وأنه أشبه ما يكون بمنظومات المؤلفين الذين نظموا في الفقه والنحو وفي غيرهما من العلوم ، وأن القصد من صناعة هذا الشاهد فقط هو عدّ الأيام التي كانت معروفة في الجاهلية .
على كل حال ليس هذا هو المهم ، المهم فقط أن اذكر لكم أسماء الأيام الأسبوعية كما كان يتعارف عليها العرب في الجاهلية ، لكن الإسلام يوم جاء استقرت الأمور ، وليس بعيداً أن يكون الإسـلام هو الذي وضع للجمعة هذا الاسم . فنحن نعلم أن العرب الجاهليين كانوا يعبثون ويغيرون في الشهور وفي الأيام تبعاً لمصلحتهم الاقتصادية أو السياسية أو الحربية ، ولذلك لما جاء الإسلام أبطل هذه العادة ، كانت الشهور الحُرم لا يجوز فيها القتال ، لكن قد تكون هناك ثارات وقد تكون هناك دوعي للحرب فكانوا ينسئون الشهور ، أي يؤخرون شهور الحُرُم ويضعون بدلها شهوراً من الحلل حتى يتسنى لهم الغزو والسلب والنهب . لمّا جاء الإسلام أبطل هذا بنصين ، النص الأول هو ما جاء في سورة التوبة من قول الله جلّ اسمه ( إنما النسيء زيادة في الكفر يُضل به الذين كفروا يُحرّمونه عاماً ويحلونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرّم الله زين لهم سوء أعمالهم ) والنص الثاني من الحديث النبوي ، ففي حجة الوداع وفي خطبة النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما قال عليه الصلاة والسلام بأبي هو وأمي : إن الزمان قد استدار كهيأته يوم خلق الله السماوات والأرض ، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعةٌ حُرُم ، ثم عدّدها صلى الله عليه وسلم وأقر الأمور في أنصبائها على النحو الذي كانت عليه في علم الله يوم خلق السموات والأرض .
فلا يبعد والله أعلم أن يكون التغيير حدث في الإسلام ، وأن الجمعة أخذت اسمها من أين ؟ من اجتماع الناس ، لكن هذا لا يمنع من أن ننظر إلى مدلول اللفظ الجاهلي وهو يوم العَروبة ، فما معنى يوم العروبة أو يوم عروبة ؟ المادة كلها مادة ( عرب ) العين والراء والباء ، تدل على الظهور والانكشاف والبيان ، هذا في أصل المادة ، وتدل أيضاً على التجمل والتزين والتحبب ، نقول في اللغة : أعرض فلان عن نفسه إذا بيّن وكشف وأظهر . ونقول : هذه امرأة عروب ولا تقل عروبة ، عروب أي متحببة متزينة غزلة لزوجها . فالمادة في أساسها اللغوي تحمل هذين الجذريين الأساسيين اللذين يتشعب عنهما كل معاني المادة .
فإذا جئنا إلى الجمعة وبحثنا أو حاولنا أن نتعرّف على سبب تسميتها بيوم العروبة فلا شك أن الجمعة في وضع الله تعالى وليس في وضع البشر عيد لكل من أسلم قبل محمد وبعد محمد ، كما سنشرح ذلك بعض قليل . فهي تأخذ معنى العظمة ، وتأخذ معنى البروز، وتأخذ معنى الظهور ، وتكون من بين أيام الأسبوع كالشامة ظاهرة غير خفية . ثم هي أيضاً يوم له فضله كما سيمر ذلك معنا حينما نتحدث عن فضائل يوم الجمعة . والفضل من أين يأتي ؟ يأتي من مزيد العطاء الذي يكون في هذا اليوم ، فالجمعة من هذا الباب تشبه المرأة الجميلة الغزلة المتحببة إلى زوجها التـي لا تأتيه إلا بخير . فالجمعة كذلك لا تأتي للناس إلا بخير ، من هذا الباب كانت تسمية يوم الجمعة بيوم عروبة أو يوم العروبة مطابقةً للأصل اللغوي من جذريه على السواء . فهذا هو معنى الجمعة اللغوي ، وهذا هو السبب الذي أُطلق على يوم الجمعة اسم عروبة أو اسم الجمعة .
بقي أن نتحقق : هل يوم الجمعة يوم يختص بالمسلمين أم هو عيد الناس جميعاً ؟ نحن حينما نرجع إلى الحديث الذي تبرّكنا بروايته عليكم قبل قليل نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ثم هذا يومهم الذي افُترض عليهم ، وفي روايةٍ أخرى للبخاري أيضاً في غير أبواب الجمعة : الذي افترضه الله عليهم ، فاختلفوا فيه فأضلهم الله عنه ، فهدانا له . من هذا النص نعلم أن المفترض تعظيمه وإقامة الصلاة فيه على النحو المتعارف الآن من أيام الأسبوع على الأمم الماضية اليهود والنصارى وغيرهم ممن كان قبلهم هو هذا اليوم بالذات يعني يوم الجمعة . لا غرابة في ذلك ، نحن نصوم متى ؟ في رمضان ، لكن اليهود لا يصومون في رمضان ، والنصارى لا يصومون في رمضان ، مع أن الله جلّ وعلا أخبرنا في الكتاب الكريم بأن رمضان فريضة الله على عباده منذ بعث الأنبياء إلى لدن محمد صلى الله عليه وسلم ، إذ قال ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ) والتشبيه يقتضي المماثلة ، يعني كيف فُرض علينا شهر رمضان بيومه وشـهره ، بكيفية الصيام فيه ، كذلك كان مكتوباً على الأمم الماضية . لكن أتباع الديانات الماضية كما أخبرنا الله حرّفوا كلام الله وغيروا وبدلوا اتباعاً للأهواء واتباعاً للشهوات ، فحصل ما حصل من صيام اليهود وصيام النصارى على غير النحو الذي كان حاصلاً عندهم ، هذه واحدة .
وأخرى لو سألنا : ما بال النصارى يُعيّدون يوم الأحد ؟ ونحن نعرف أن عيسى بن مريم عليه السلام نبي من أنبياء بني إسرائيل ، وأنه من حيث الشريعة مخاطب بإقامة التوراة التي هي توراة موسى ، لماذا ؟ للمراغمة والمضادة والحسد ، وجدوا اليهود يُعيّدون يوم السبت فقالوا نحن لا نشابه اليهود ولا نعيّد السبت وإنما نعيّد الأحد ، وجدوا اليهود يستقبلون بيت المقدس في صلاتهم فقالوا لا نستقبل بيت المقدس في صلاتنا ، وإنما نصلي قِبَل المشرق ، هكذا مضادة ومعاندة وتماري وتحاسد بين أبناء النبوات السابقة . لكن الإسلام جاء فأقر كل شيءٍ على ما هو عليه .
هذا يساعدنا على أن نؤكد ما سبق أن قلناه بأننا لا نستطيع في حالٍ من الأحوال أن نعترف بأنه يوجد شيء اسمه الآن الديانة اليهودية ، أو يوجد الآن شيء اسمه الديانة النصرانية ، فالحقيقة أن هؤلاء ملصقون على عيسى وملصقون على موسى ، ولا علاقة لهم بهما ، لماذا ؟ لأن شرائع الله التي نزلت على إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام كانت هي الشرائع التي نزلت على محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، ونحن نسمع في القرآن كثيراً أن النبي صلى الله عليه وسلم يؤكد أنه على ملة إبراهيم ، لكن الذين جاؤوا من بعد حرّف أتباعهم ما أنزل الله وغيروا وبدلوا في الأوضاع ، وإلا فالحقيقة أن هذا اليوم الذي هو يوم الجمعة هو اليوم الذي طُلب إلى الناس جميعاً وعلى ألسنة أنبياء الله جميعاً أن يعظموه وأن يحتفلوا فيه بالصلاة وأن يكثروا فيه من الدعاء ومن التضرع إلى الله سبحانه وتعالى ومن عمل الخير .
نعود إلى الحديث لكي لا يظل فيه شيء غامض لنشرحه بسرعة ونختم الكلام كله . النبي عليه الصلاة والسلام يقول في الحديث : نحن الآخرون السسابقون يوم القيامة . معنى هذا أننا في الوجود في الزمن نحن آخر الأمم ، فالنبي صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء ، وأمته آخر الأمم ، لا نبي بعد محمد ولا أمة بعد المسلمين لحمل رسالات الخير إلى الناس ، تأكدوا من هذا وضعوه في أذهانكم بل اغرسوه في جذور قلوبكم ، لا أمة لا أمريكا ولا روسيا ولا فرنسا ولا إنكلترا ولا الصين ولا اليابان ولا أية أمة من الأمم بعد أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، هي الأمة الأخيرة التي حملت وستحمل رغماً عن كل شيء رسالات الحق والخير والمعدلة إلى الناس كافة . فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : نحن الآخرون ـ يعني في الوجود وفي الزمن ـ وقبلنا وُجدت أمم ووجدت نبوات ، فنحن بالاعتبار الزمني الآخرون ، لكننا نحن السابقون يوم القيامة ، لماذا ؟ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن أمته هـي أول الأمم التي تدخل الجنة يوم القيامة ، وأول من يقرع باب الجنة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأول من يُقضى لهم يوم الحشر أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فلها من حيث هذا المعنى السبق بكل اعتبار . فهذا معنى قوله صلـى الله عليه وسلم : نحن الآخرون ، يعني وجوداً ، السابقون يوم القيامة يعني في التقديم والتفضيل ودخول الجنة وما أشبه ، بيد أنهم أوتوا الكتاب قبلنا ، ( بيد ) في كلام العرب وأنا دائماً تلاحظون أنني أركّز من أجل الشباب الذين يكادون ينسون لغتهم ، أركّز على بعض معاني اللغة لكي أقربها إليهم وأحببها لهم وأحببهم فيها ، معنى ( بيد ) بمعنى ( غير ) يعني كأنك قلت : غير أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا . وتأتي أيضاً بمعنى ( من أجل ) يعني نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، لماذا الآخرون ؟ من أجل أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا . فكلمة ( بيد ) وهـي دائماً مبنية على الفتح غير منونة ولا مجراة ، يعني معربة ، تأتي بمعنى ( غير ) وتأتي بمعنى ( من أجل ) نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا . يعني أن أهل الكتاب كانت نبواتهم مـن حيث الترتيب الزمني قبل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم هذا ـ مشيراً بذلك إلى الجمعة ـ يومهم الذي افُترض عليهم . ومن هنا أخذ الفقهاء فرضية الجمعة إضافة إلى الآية التي تلوناها عليكم من سورة الجمعة ، ثم هذا يومهم الذي افترض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له ، أي أن اليهود لم يأخذوا به وأخذوا بالسبت ، وقالوا بزعمهم ، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً : إن الله بدأ الخلق يوم الأحد وفرغ منه ـ من الخلق ـ عصر الجمعة واستراح يوم السبت . كأن الله يلحقه التعب ويلحقه الإعياء ويلحقه الكلل ويلحقه الملل . هذا زعم اليهود ، ولذلك كان عيدهم يوم السبت .
والنصارى عاندوا اليهود فلم يتخذوا السبت عيداً كاليهود ، وإنما اتخذوا الأحد ، فكلا الطرفين ، اليهود والنصارى ، حين اختلفوا في تعيين اليوم أضلهم الله عنه ، يعني صرفهم عن الاهتداء إلى حقيقته ، فهدانا الله له نحن الأمة المعظمة المكرمة المشرفة بنبيها محمد صلى الله عليه وسلم ، نحن الأمة الأخيرة التي ستحمل إلى الخلق جميعاًرسالات الله وكلماته وبيان رسله وأنبيائه ، نحن هدانا الله لما اختلف فيه من قبلنا عن هذا الدين ، فالناس لنا فيه تبع ، والناس المراد بهم اليهود والنصارى في هذا الموطن بلا خلاف وبلا جدال . الناس لنا فيه تبع . معنى ( تبع ) يحتمل معنيين ، يحتمل أن يكونوا حينما يُسلمون ( اليهود والنصارى ) ، هذا أحد معنيي ( الناس لنا فيه تبع ) . والمعنى الآخر : الناس لنا فيه تبع ، أي أننا نحن نُعيّد يوم الجمعة أولاً وهم يُعيّدون بعدنا السبت لليهود والأحد للنصارى ، ويبدو والله أعلم من سياق الحديث أن المعنى الثاني هو المتعين وهو المراد بقرينة قوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث : اليهود غداً والنصارى بعد غد .
فالناس لنا فيه تبع ، أي أننا نعيّد قبلهم يوم الجمعة وهم يأتون تبعاً لنا ، يقع عيدهم في غير الموقع الشرعي .
هذه جملة الأشياء التي أردت أن أقولها لكم اليوم ، كي لا أشتت عليكم الموضوع ، لماذا سميت الجمعة جمعة ؟ لاجتماع الناس في هذا اليوم لأداء الصلاة ولسماع الخطبة . لماذا سمتها العرب قبلاً يوم عروبة أو يوم العَروبة ؟ لأن يوم الجمعة يوم ظاهر ومتميز على سائر الأيام ، ويوم فيه خير كثير . متى فُرضت الجمعة على المسلمين ؟ نحن بالتحديد لا ندري ، الشيء الذي نعرفه جيداً أن الجمعة لم تكن تُقام في مكة ، بل حتى الصلاة كانت متعذرة أو متعسرة في مكة ، ولكن قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وحينما بدأ المسلمون يتوافدون نحو المدينة جمّعوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وذلك في دار أسعد بن زرارة ، فخطبهم ووعظهم وذكّرهم وصلى بهم صلاة الجمعة ، ثم استمروا على هذا الشكل .
وهذا القدر فيما أظن يكفي لكي نعلم أن الجمعة فُرضت بعد الهجرة ، والدليل القاطع على ذلك أن كل الروايات التي بين أيدينا تشير إلى أن سورة الجمعة نزلت في المدينة ولم تنزل في مكة .
بهذا القدر أكتفي هذا اليوم وسنتتبع معكم إن شاء الله فيما يأتي الأحكام والأسرار المتعلقة بالجمعة ، مع بيان الشرائط الشرعية ـ غير المحرّفة وغير المبدلة والبعيدة عن العبث ـ التي جاءت في الكتاب الكريم أو على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ، أو نُقلت إلينا عن السلف الصالح لكي نؤدي فرائضنا على النحو الذي أراد الله تبارك وتعالى .
يا إخوة هذا أمر مهم ، فكم من إنسان يقضي عمره من أوله إلى آخره وهو يلازم العبادة ، فإذا وقف يوم القيامة للحساب ضُرب بهذه العبادة ، لماذا ؟ لأنه لم يكن يؤديها كما أُمر ، فكل عبادة لا تُؤدى على النحو المأمور به وعلى النحو المشروع به فهي باطلة ومردودة على صاحبها . وحرصاً منا على أن يقبل الله منا عباداتنا وأعمالنا نرغب ونحرص على أن ننزّلها في منازلها الشرعية لا ننقص ولا نزيد . فإلى الجمعة القادمة ، موعدنا كلام آخر ضمن الحديث عن يوم الجمعة ، وأسأل الله تبارك وتعالى لنا ولكم وللمسلمين مزيداً من الهداية والتوفيق والسداد ، وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين.