تفسير سورة الأعراف
تفسير سورة الأعراف
6 رجب 1399 / 1 حزيران 1979
( 42 )
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين آمنوا والذين هـم محسـنون .. أما بعـد أيها الإخوة المؤمنون :
فحسنٌ إن شاء الله تعالى أن نعيد إلى أذهانكم حقيقة أن سورة الأعراف هي من السور المكية المبكرة جداً في النزول ، حسنٌ أن نعيد إلى الأذهان ذلك ، لأن هذا يعطينا فكرةً مناسبة عن نوعية المشكلات التي كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم كما كان الإسلام بالذات يواجهها ويعاني منها ، وبنفس الوقت فإن هذا أيضاً يعطينا فكرة طيبة حتى الآن عن جوهر الأساليب التي اعتُمدت في مواجهة هذه المشكلات ، وأشدد على هذه الملحوظة ، أعني تصوّر أساليب المواجهة ، لأن الدرس الذي يُستفاد من استقراء التاريخ والسيرورة الحضارية البشرية يقنعك ـ لو تأملت قليلاً ـ بأن حقيقة الصراع بين الحق والباطل لم تختلف من عصرٍ إلى عصر ، وجيل إلى جيل ، وناسٍ إلى ناس .
وإذا كان كل فعل يستدعي فعلاً مضاداً معاكساً له في الاتجاه ومماثلاً له في القوة ، وإذا كان جوهر الصراع بين الحق والباطل واحداً فإن تصوّر أسلوب المواجهة الذي اعتمده الإسلام في أزهى وأبهى عصوره في زمن نبيه وقائده محمد صلى الله عليه وسلم .. يضع الإنسان المسلم في عصور الظلام والانحطاط أمام مسؤولياته ووجائبه من غير مداورة ولا تحايل . فإما رجل مسلم تتمثل فيه عزة الإسلام وتتجلى فيه قوة الله ، وإما إمّعة من الإمّعات الذين لا يساوون النعل الذي في أقدامهم ، ولا وسط بين الأمرين بحال من الأحوال ، ولا داعي للخداع .
وحسنٌ أيضاً ونحن نستذكر : أن سورة الأعراف من سور القرآن المكي المبكرة في النزول ، حسنٌ أن نتصوّر كم يحمل هذا الإسلام وهذا القرآن وهذه السيرة العطرة المواكبة لها من بذور وخمائر ثورية ؟ وأشدد ثورية لكن ليس بالمقاييس التي يعتمدها فكر أبناء هذا الزمان ، إنما بمقاييس الإسلام . لأن جوهر الثورية من الناحية النظرية على الأقل ليس علم الواقع ومعرفة طرائق التحايل عليه وتأزيم المشاكل انتظاراً لانفجار الصراعات كما طرحت ذلك الفلسفة الماركسية الخبيثة منذ أكثر من مائة سنة ، لكن جوهر الثورية كما يجب أن يفهمه المسلم الذي يمثل حضارة ويمثل وجهةً معينة كامن في الذات الإنسانية ، في قدرة هذه الذات على المواجهة الصريحة والمكشوفة والدخول في صراعٍ مكشوف تحت السماء العارية مع كل قوى الشر وقوى الظلام والفساد والإفساد والإلحاد .
سورة الأعراف بمجملها لو أردنا أن نلخصها في كلمتين لقلنا : إنها احتجاج لله ولرسوله صلى الله على وسلم ، وبالفعل فحين نكثّف المشكلة كلها في ذلك التاريخ الموغل في القدم ، والذي تنزلت فيه آيات الله على قلب رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام ، كان ينحلّ إلى نقطتين رئيسيتين أولاهما : ضرورة الإقرار بالوحدانية المطلقة غير المشوبة ولا المشرّكة لله تبارك وتعالى ، والثانية : الإقرار بصحة الرسالة وصدق الرسول . وما عدا ذلك من مشكلات تثور أثناء مسيرة الصراع فهي تفاريع على هاتين النقطتين لا أكثر ولا أقل . ومن غير الخافي على أحد أن الشيء الذي لا تستدعيه مبررات معقولة ، فضول وزيادة لا معنى لها ، وهذه قاعدة النبوات . إن الله تباركت أسماؤه لم يرحم الناس ببعثة نبيٍ من الأنبياء والأحوال مستقرة والأوضاع مستقيمة ، لأن ذلك يُعدّ في باب الزيادة التي لا معنى لها والفضول الذي لا يبرره شيء ، لكن النبوات كان الله يرحم بها الناس بعد أن تفسد الأحوال وتسوء الأوضاع وتستشري الرذيلة وتدعو الحاجة حيثما توجّهتَ إلى تغيير لا يمسّ السطوح والظواهر وحسب ، وإنما يهزّ الأعماق ويقتلع الجذور ، حينئذ تتنزل رحمة الله على هيئة رسول وعلى هيئة كلمات تقيم على الناس الحجة ( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) .
وحين أُرسل محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة فكل أحد يدري بأن أحوال الدنيا قاطبة وليس الجزيرة العربية وحدها ، بل لعل الجزيرة العربية أنظف بقعة وأزكى ناساً من غيرها من الأماكن ، بدلالة أن الله رشّح قطانها وسكانها لأنْ يُطوّقوا آخر وصاياه للناس ، ولأنْ يُبعَث من أنفسهم آخر نبي إلى البشر.
في أربعة أركان الأرض ظلام متراكم ، وجور يضرب أطنابه ، واختلال موازين وضياع قيم وتفشي الرذيلة ، وكل قيمة تستأهل أن يعيش الناس عليها فهي قيمة مطرودة ومحشورة في زاوية لا يكترث بها أحد ولا يأبه لها إنسان . وتجلّت رحمة الله في بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، لم يكن للدعوة أرض ثابتة حين تنزّلت سورة الأعراف ، ولنذكر أن سورة الأعراف تنتمي إلى السنوات الأربع أو الخمس الأولى من عمر الدعوة ، فالدعوة لم تكن لها أرض ثابتة ولا مستقرة ، وإنما كان المؤمنون بها قلة يلتف من يلتف منهم حول نبيهم صلى الله عليه وسلم ، ويستخفي من يستخفي ، ويهاجر من يهاجر ، والخلاصة هي المطاردة الواضحة والصريحة ، وكل معطيات الواقع في ذلك الوقت المبكر من عمر الدعوة يدعو إلى المزيد من اليأس ونفض اليد من هذه المهمات الصعبة والوجائب الثقيلة التي تتنزل على هيئة أوامر ونواهٍ ، لو حلّلتها لوجدتَ صعوبتها متأتيةً من وجهين ، الأول : أنها في ذاتها من حيث هي أمر ونهي قاسية لأنها تواجه على صعيد الواقع قوى هي أضخم منها بكثير وأعتى من أن يفكر إنسان في إمكانية السيطرة عليها أو الحد على الأقل من بلائها .
لكنها قاسية أيضاً من وجه آخر ، إن الإسلام ممثلاً في شخص نبيه صلى الله عليه وسلم في ذلك الزمان كان يشكم المسلمين شكماً عنيفاً لا يسمح للغريزة البشرية التي تميل إلى ردّ العدوان والتي تميل إلى مقابلة الشر بالشر ، لا يأذن لها ولا يسمح لها بأن تفعل هذا ، وإنما كان رسول الله عليه الصلاة والسلام بتوجيهاته وبما يقرأ عليهم بما نزل من كلام ربه حتى ذلك الحين يوصيهم بالاستكانة وبالصبر وبطول البال وبانتظار الفرج من عند الله تبارك وتعالى ، ويعلمهم أن المهمات الكبيرة وأن الوجائب الصعبة لا يمكن بطبيعة الحال أن تحلّ بالوسائل السهلة ولا أن تحلّ بيوم وليلة ولا بد أن تنضج ظروف معينة لكي يحدث الانفجار والتخلخل داخل المجتمع القديم المهترئ المتفسـخ بمعونة الله تعالى وبوسائط البشر . قبل ذلك لا يجوز بأن تستولي دوافع الرعونة ودوافع الغرائز على الناس كي يقوموا بأعمال طائشة ويتورطوا بمسالك قد تجرّ ويلات ولا تقدم أي نفع .
قسوة القضية كانت تتأتى من هذين الوجهين ، مهمة صعبة ، عدوان صارخ ، منع باتّ من أن يُقابل العدوان بعدوان ، تلك هي الصورة التي كانت تواجه المسلمين . لكن الشيء الذي يهوّن الأمر تحديد الواجبات والمهمات ، ليس ضرورياً أن نتناول بالإصلاح عرفاً من الأعراف ولا قانوناً من القوانين ، تلك أشياء سطحية .. الأعراف والقوانين والأخلاق وكل ما تفرزه الحياة الاجتماعية يتكيّف وفاقاً لمعتقدات البشر . معتقدات البشر هي التي تكيّف وهي التي تلون وجه المجتمع ، وحين يتصدى المصلحون وقصار النظر ـ كما يفعل البعض في أيامنا هذه وعلى امتداد التاريخ ـ حين يتصدون لمعالجة زاوية من الزوايا والإغضاء عن الأساس الفاسد التي يُفرز بصورة دائمة أوضاعاً فاسدة كما تفرز البؤرة المنتنة في الجسم أمراضاً متتالية .. هؤلاء يتعامون عن الحقيقة أو إنهم مغفلون بالفعل . لهذا كان أول شيء تصدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ بتوجيه ربه وفاقاً لما نزل عليه من الكتاب ـ الأساس الاعتقادي ، طالما أننا لا نصحح مكاننا في الكون ، أي طالما أننا لا نضع أنفسنا في حاقّ موضعنا من كون الله العريض فلا بد أن تتفجر المشكلات تباعاً ولا بد أن تتفاقم المشكلات يوماً بعد يوم ، كلام صعب فيما أتصور على كثيرين ، لكن تعوّدنا أن نتناول الوجبات العسيرة على الهضم ..
إن الشرك الممثَل في سجود العرب وغير العرب للأوثان ، والكفر الممثل في الإلحاد في أسماء الله الذي يتجلى في اليهود والنصارى ، والعدول عن عبادة الله إلى عبادة بعض ظواهر الكون كعبادة النار لدى المجوس ، وعبادة الشمس أو القمر أو النجوم لدى الصابئة وما أشبه ذلك .. هو المسؤول بصورة أساسية ومباشرة عن كل الويلات وعن كل المشكلات وعن كل الصعوبات التي تتعثر فيها مسيرة البشرية ، والواجب الأول هو أن تصحح هذه الناحية ، يجب أن يقتنع الإنسان بأنه مخلوق وبأنه عبد وبأنه مربوب ، وبأن الرب الخالق المعبود صاحب حق مطلق لا يُنازَع في التشريع ولا في التنظيم ولا في الأمر ولا في النهي ، وحين يتصدى بعض الناس ويشرّع مع الله أو استقلالاً من دون الله ، فسواء وعوا ذلك أم لم يعوه فهم ينازعون الله أخص خصائصه وهي الألوهية الكاملة التي تمنح ربنا جل وعلا سلطة الحكم والتشريع والأمر والنهي والتوجيه .
ولهذا كانت القضية الأساسية التي وُوجهت في المراحل الأولى من عمر الدعوة تصحيح هذا الوضع ، لإعادة الناس إلى أحضان الوحدانية ، وعدم السماح بتعبد الناس بعضهم لبعض ، وإخراجهم من جور الأديان إلى عدل الإسلام .
وكانت القضية الثانية فرعاً عن القضية الأولى ولازمة لها وهي صدق النبي المبلغ عن الله ، فما لم يتوفّر عنصر القناعة بأن هذا المخلوق مثلنا رجل مصطفى ورجل مجتبى ومختار من قبل الله ، مصنوع على عين الله ومحفوف برعاية الله ، وبأنه فيما يقول وفيما يبلّغ وفيما يفعل صادق وعلى الحق باستمرار فإن الشك يتطرق إلى هذا الكلام الذي يأتينا به وإلى هذه التوجيهات التي يبلغنا إياها .
حول هذين المحورين دارت سورة الأعراف جميعاً من أولها إلى آخرها ، بقطع النظر عن بعض التفصيلات التي شرحناها بإفاضة وبقي منها شيء يحتاج إلى مزيد من القول وبسط في البيان ، أشعر بأنني غير مؤهل له الآن وغير مستعد له .
في الجمعة الماضية لخّصت لكم ، وأكرر الآن أن الله جل وعلا وصّل القول وفصّله للناس ، ولم يترك سبيلاً ولا فناً من أفانين البلاغ إلا استخدمه من أجل إيصال القناعة إلى جذر قلوب الناس ، ليدركوا حقيقةً وهي أن عاقبة الشرود عن الله وعاقبة التزحزح عن قاعدة الوحدانية عاقبة وخيمة ، أقام لذلك شاهد التاريخ ، ومنذ بداية السورة وبعد فواتحها ، ومنذ الكلام على نوح وقومه مروراً بالأنبياء الآخرين عليهم الصلاة والسلام ومع الوقفة الطويلة مع بني إسرائيل في تجربتهم التي تُعدّ نسبياً حديثة العهد بالنسبة للإسلام ، فإن الكلام كان يُفصّل ويوصّل لإقناع الناس أن الإنسانية استقامت في ظروف محددة ، متى ؟ حين كان الناس يصدقون في مواثيقهم مع الله تبارك وتعالى ، وأن الإنسانية كانت تنتكس حين كانت تتمرد على رسلها وعلى أنبيائها وتخرج عن أوامر الله . تلك عبرة التاريخ ، شاهد التاريخ الذي لا يُنقض ، وعندنا نحن المسلمين أن كل حرف في القرآن حق لا مجال للمرية فيه ، لكن بعض الناس الآن وقبل الآن ولا أدري إلى متى يدندنون حول نقطة هي أن حوادث التاريخ التي جاءت في التوراة وفي القرآن والكتب المقدسة جميعاً حوادث يمكن أن يتطرق إليها الكذب والاختلاق ، لأن النقل لا يوثق به ، ولأن الناس لـم يعرفوا التدوين إلا منذ عصور قريبة نسبياً ، ولأنه حتى التدوين وبحكم أن العصور القديمة كانت ترزح تحت أنظمة تمنح الملوك والأباطرة والسلاطين وشيوخ القبائل والحكام جزءاً من الألوهية كان التاريخ ملزَماً بحكم هذا الواقع أن يدوّن سيَر هؤلاء الناس وأن يضيف إليها ما هو من باب المحاسن وأن يحذف منها ما يُسلَك في باب الرذائل ، وإذاً فالثقة بالتاريخ يمكن أن نقول إنها معدومة أو شبه معدومة .. بالرغم من أن هذا الكلام قيل قديماً ويقال الآن ، مع أننا نعتقد أن كل حرف ـ وليس كل حادثة جاءت في القرآن ـ فهي كما جاءت ، حق وصدق لا يتطرق إليه الريب والشك .. فإننا نسمع ونقرأ لكثير من المعاصرين ممن لجأوا إلى معالجة القصص القرآني مَن يزعم أن هذا القصص لا يعدو أن يكون رموزاً يُقصَد منه عبرة الحادثة بقطع النظر عن صحة الحادثة أو عدم صحتها تاريخياً ، وهذا من التجديف الذي لا يُحتمل ، ومن رمي الله جل وعلا واتهامه بالكذب والاختلاق . طبعاً هذا شيء على الهامش نقوله ليحذر إخوتنا من الشباب المتعلم هذه المزالق التي تصدر عن أماكن نعرفها ونعرف طلابها ونعرف أذنابها عندنا وفي الخارج ، لأنها ترتد إلى بؤرتين نجستين خبيثتين : الصليبية العالمية واليهودية العالمية ، فهما يشيعون كلاماً من هذا القبيل ليطعنوا بالإسلام ويشككوا ناشئة المسلمين بمصداقية ما جاء في القرآن الكريم .. قلت إن هذا كلام على الهامش .
لكني أعيد فأكرر أن الله أقام ـ تدليلاً على وحدانيته وتدليلاً على ضرورة التمسك بما شرع ـ شاهد التاريخ ، ابتداءً من نوح وانتهاءً إلى عهد موسى في تجربته الطويلة وتجربة بني إسـرائيل من بعده والتي كان العرب يتناقلون أخبارها ، لأن اليهود كانوا ينتشرون في شمال الجزبرة وفي وسطها وفي جنوبها ويحدثون العرب الأميين بما عندهم من هذه الأساطير الكثيرة .
وكما قلت فإن من الناس مَن يطيب لهم أن يرفض التصديق بالحوادث التاريخية وما يُستخلص منها من قواعد تنبني عليها علوم الحضارة ، ويستدلون بأن الخبر ينطلق في مدينة صغيرة ويذيع وينتشر ثم تذهب فتفتش فتعثر على أن هذا الخبر الذي بلغ من كثير من الناس مبلغ اليقين لا يعدو أن يكون شائعة من الشائعات لا أساس لها في الواقع . لا بأس ، دع المتشككين في هذه الناحية يتشككون ما يشاؤون . إن الله تبارك وتعالى أقام شاهداً آخر ، كل إنسان يقع في شدة ، وكل إنسان يتعرض لأزمة ، يجد هذا السائق في نفسه ينتزعه من كل الأكاذيب والأوهام التي كان يعيش عليها ليضعه فوراً بين يدي الله تعالى ( ثم إذا مسّكم الضرّ فإليه تجأرون ) الإنسان حين تتأزّم لديه الأمور يرفض الباطل وتكشف الرغوة عن الصريح ولا يبقى إلا الله ، والله تعالى أنبأ الناس بهذه الحقيقة بقوله ( ضلّ مَن تدعون إلا إياه ) كنتم في حال الرخاء والبحبوحة وتقولون : يا فلان ويا فلان ، ثم إذا مسّتكم اللأواء ضلّ مَن تدعون إلا الله ، غاب هؤلاء الأولياء والنصراء وبقي الواحد القهار الذي يجيب المضطر إذا دعاه ، ذلك هو ما عبّرت عنه الآية التي تلوناها عليكم وشرحنا بعض موحياتها في الجمعة الماضية ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ) لتكن هذه الشهادة وليكن هذا الأخذ على نحوٍ من الأنحاء ، فأنا لم أُكلّف نفسي شيئاً لم يكلفني الله إياه ، ولا أنطق إلا بما نطق به القرآن وكما نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأترك الفلسفة للفلاسفة وأترك التصورات للمتصورين ، وفي إطار الحقائق الدينية يجب أن يكون الإنسان المسلم العاقل محكوماً بنص كلام الله ونص كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الله ورسوله أخبرانا أن الله جل وعلا استخرج من ظهر آدم وذريته ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ( ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ) فسائق الفطرة قُدّم للناس شاهداً على وحدانية الله ، لأن العجز البشري المضروب على الإنسان كفيل بأن يلفت نظره إلى أنه لم يخلق نفسه ولم يخلق هذا الكون العريض ، وبداهة العقل تحيل أن يكون هذا الكون بنظامه البديع ونسقه المرتب وُجد من غير شيء ، فلم يبقَ إلا الفرض الثابت والأخير وهو أن الله هو الذي خلق هذا الكون وهو جزء ـ أي العبد ـ من الظاهرة الكونية وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلقها .
ربما يعيش الإنسان في غفلة ، جائز .. وربما تجد الإنسان منذ أن يعقل وإلى أن يُدرج في أكفانه يضرب الله عليه الغفلة ، هذا جائز ، لكن الله جل وعلا في هذا الميدان الحساس لن يترك الأمر بهذا الشكل . نحن نقول أن مجتمعات المسلمين اليوم مجتمعات شاردة وبعيد غاية البعد عن الصورة التي رسمها القرآن والتي رسمها محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا كلام يقوله الصغير والكبير والعالم والجاهل والمشكلة ليست هنا ، إن هذا يُعدّ من باب تحصيل الحاصل كتفسيرك الماء بالماء ، لكن الإنسان الذي يفتش عن الإدراك السليم يجب أن يسأل نفسه : لماذا أصبح الناس بهذا الشكل ؟ لماذا ارتكست الأحوال بعد استقامة ؟ الأمور لا تصبح على هذا النحو من غير أسباب , ومن أظهر الأسباب الإلف والعادة ، صعب على الإنسـان أن يخرج عن مألوفاته ، شارب الخمر ، مدمن الزنا ، عبد الشهوة ، بحكم الإلف لا يستطيع أن يتخلص من هذه الأمور ، لأنه لا يستطيع أن يتصور كيف يمكن أن يعيش لو تخلى عن هذه الأشياء .
بالنسبة إلى العادة ، كما تعرفون أن مجتمعاتنا فيها عوائد ، ومن أصعب الأشياء على الإنسان أن يتخلى عن هذه العوائد ، ولكن هل الإنسان الذي يستحق اسم الخلافة عن الله جل وعلا هو ذلك الذي يجبن أمام الإلف وأمام العادة ؟ لا ، حينما نتزرع بشجاعة الوقوف مع الحقيقة وبشجاعة الوقوف مع النفس بصدق كامل نجد أن هذه الأمور لا معنى لها ، وأن الأمر لا يعدو أن يكون أوهاماً من غير قيمة . الإنسان يتصور الموت شيئاً فظيعاً مهولاً ومخيفاً ، مع أنه في الواقع ليس أكثر من نقلة وانتقال من مكان إلى مكان ، ومن حال إلى حال ، ولولا أننا ألفنا هذه الدنيا لمَا وجدنا في الموت شيئاً مروّعاً ومخيفاً ، وما أصدق ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لتموتنّ كما تنامون ، ولتبعثنّ كما تستيقظون . فالمسألة عادية ، لكن العوائد والإلف تضخّم علينا هذه الحالة ، ولهذا نجد من كلام المتنبي ومن الحكم الغالية التي نطق بها هذا الشاعر الفذ أنه قال :
إلف هذا الهواء أوقع في النفس ..... أن الحِمـام مـرّ المذاق
لولا أننا ألفنا هذه الدنيا بجوائها وأشيائها لمَا اقتنعنا ولمَا توهّمنا أن الحِمام مرّ المذاق . ولهذا نجد النبي صلى الله عليه وسلم حين يُسأل عن مدى الألم الذي يحسّه الشهيد حينما يُقتل في المعركة يقول لهم : إن ضربة السيف التي تطيح برأس الشهيد عن جسده وتفضي به إلى الموت لا يشعر الشهيد بها إلا كما يشعر أحدكم بوخزة إبرة . فشيء بسـيط ، لكن العوائد والمألوفات هي التي تضخم الأمور .
العرب الذي خوطبوا بالرسالة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم هل كانت تنقصهم الأحلام ؟ هل كانت تنقصهم العقول ؟ هل ينقص أحداً من الناس حتى الحيوان حتى البغل أن يشعر وأن يُدرك أن السجود لحجر وأن التذلل لبشر هوان لا يبرره شيء ، لا موضوعياً ولا نفسياً ، لا أحد يستطيع أن يقتنع بشيء من هذا ، لكن العادة هي التي جعلتنا ننظر إلى أن هذا الصنم وُرث عن الآباء والأجداد ، ودائماً الأب والجد وأب الجد وهكذا وإن كان لا يساوي في النخاسة فلسين يشعر أفراد ذريته أنه شيء عظيم ، وكثير من الناس آباؤهم لا يساوون قيراً ولا قطميراً يفاخرونك بهؤلاء الأماثل الأماجد الأبطال وهم لا شيء .. هذه ظاهرة بشرية لا نجادل فيها ، لكني أريد أن أركز على أن العرب لم يكونوا يعتقدون أن هذه الأصنام المنحوتة أو المصنوعة أو التي كان يلجأ إليها البعض حينما تُعوزه الحجارة أو لا يستطيع أن ينحت صنماً على صورة بشر يأتي إلى التمر فيصنع منه كُتلاً يتخذ منه شبه إله ويسجد له ، فإذا عضّه الجوع عدا على إلهه فأكله .. العربي كان يعرف أن هذه خرافة ، لكن هذه الخرافة موروثة ، الآباء والأجداد وآباء الأجداد وأجداد الأجداد .. كلهم كانوا يفعلون هذا الشيء ، فحين أُقرّ بأن هذه ضلالة فهذه الضلالة لا تتناولني ، لاحظوا الصعوبة أين ؟ هذه الضلالة لا تتناولني ، حين أحكم أن هذا الفعل ضلالة فأنا بطبيعة الحال أحكم بأن أبي ضال وأن جدي ضال وأن أبا جدي ضال وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية .. فهم إذاً كانوا يرون في تصديق محمد صلى الله عليه وسلم حين يقول لهم أن آلهتكم هذه لا تضر ولا تنفع ولا تخلق ولا تحي ولا تميت ولا ترزق ولا تستجيب لداعٍ وأنهم ليسوا أكثر من دوّابهم إدراكاً ( ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً ) حينما كان يقول لهم ذلك كانوا يعرفون مصداقية النبي صلى الله عليه وسلم ويعرفون أن هذا حق ، لكن المشكلة تتعدى الإنسان ، تتعداه إلى سلسلة الآباء والأجداد ، ولهذا كان من جوابهم للنبي صلى الله عليه وسلم حينما كان يدعوهم كانوا يقولون له : سفّهتَ أحلامنا . أي رميتنا بقلة العقل وضلّلتَ آباءنا . وهذه مشكلة خطيرة عند الإنسان العربي الجاهلي ، أن يُحكم على الآباء والأجداد بهذه الضلالة التي درجوا عليها والتي رأوها ديناً ، ومع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان مصرّاً على أن يواجههم بهذه الحقيقة باستمرار ، وكانوا هم أيضاً مصرّين على التمسك بهذه العادة .
هل من حكمة الله أن يسـكت عن فضح هذه الأكذوبة البشرية الضخمة ؟ لا ، حينما قال ربنا تبارك وتعالى ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا ) علّل هذه الاستشهاد ، وبيّن السبب ، لماذا ؟ ( أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ) أي عن هذا الدين ، أي لم يبلغنا أحد إياه ( فقد جاءكم بشير ونذير ) وهذا محمد صلى الله عليه وسلم قطع العذر في هـذه الناحية ، جاءكم الرسـول ولم تعودوا غافلين بعد الآن ( أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذريةً من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ) هنا يشير الله جل وعلا بهذا الجزء من الآية وبهذا الشق الثاني من التعليل إلى قوة الإلف والعادة وإلى مدى سيطرتها على الناس وقدرتها على تحريك معتقداتهم ، نحن وجدنا آباءنا على أمة ونحن على آثارهم مقتدون . فالله إذاً فضح هذا الشيء .
مع ذلك ومع أن كل شيء واضح فقد كان العرب الجاهليون يتمسكون تمسكاً لا أغرب ولا أعجب منه بضلالات يعرفون هم زيفها وبطلانها ، والنبي صلى الله عليه وسلم يرى ذلك ، يعرف من قومه رجاحة العقول ، ونحن لا نريد أن نبخس الناس أشـياءهم ، ولا نريد أن نغمط العرب ، رجاحة أحلامهم وكبر عقولهم ، في الحقيقة التراث الجاهلي من شعر ونثر تشعرنا أننا أمام عقول مستنيرة ، لكنك تجد أن أكبر العقول ( أنشتاين ، فرويد ، سقراط ) عد ما شئت من كبار العقول تجد هذه اللوثة تعيش فيهم ، في زاوية ما من خلايا أدمغتهم تعيش هذه الجرثومة التي تحرف الإنسان عن الحق . النبي صلى الله عليه وسلم عربي يعرف مدى رهافة حس الإنسان العربي ، والرسول صلى الله عليه وسلم ابن الصحراء ويعرف أن ابن الصحراء لا يعرف لفلفة ابن المدن ، وإنما يواجه الأمور مواجهة صريحة كما يواجه الشمس العارية أمام ناظريه ، يعرف أن العرب كذلك ، ومع ذلك يرى منهم هذا الانحراف ويتألم ويتمزّق ، فهو يريد هداية قومه ، والله جل وعلا يعزّيه ويسليه وتارة ما يعنف به كي يعيده إلى الجادة الصواب والموقف الصحيح ويقصّ عليه أن كل نبي أرسله من قبل لاقى مثل هذا التكذيب ولاقى مثل هذا الصدّ ولاقى من العدوان أكثر مما لاقيتَ ، يقص عليه ذلك ويعزّيه ( فلعلك باخع نفسك ) أي قاتل نفسك ومهلكها ( على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً ) لعلك بإعراض قومك تتمنى أن تموت وأن تقتل نفسك ، لا ، هؤلاء في الواقع يعرفون الحقيقة ، المكذبون وكل المكذبين في كل أركان الدنيا وفي سلاسل الزمان يعرفون أنفسهم كذبة ، ولكنهم يتجملون بمواقف يختلقون لها المبرارات ويتذرعون لها بأوهى الأسباب ، ولهذا يقول الله في معرض التعزية لنبيه صلى الله عليه وسلم أمام هذا الموقف الصعب ( فإنهم لا يكذبونك ) هؤلاء يعرفون مدى صدقك وأمانتك ، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ، يتعامون عن كل آية ، والله جل وعلا يقول ( ولو أتيتَ الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعتَ أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير ) حينما يكون الموقف بهذا الشكل ، حقيقة واضحة بمنتهى الوضوح ، صارخة كأكثر ما تكون الأمور صارخة ، وقوم يكذبون ما الموقف ؟ الهروب من الساحة ؟ مسايرة التيار ؟ انفلاق الإنسان من عوامل الرجولة والسقوط في مستنقع الإمعات ؟ لا ، المزيد من الإصرار على الطريق ، المزيد من الثبات في الطريق من غير أن يأذن الإنسان لنفسه أن تميل هاهنا أو هاهنا تحت ضغط أي عامل من العوامل وأي داعٍ من الدواعي .
لذلك نجد الله تعالى لكي يهوّن على نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين مصاعب هذه المشكلة المحيرة يقول له بعد هذه الآية ( ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس ) أي خلقنا ذرية متتابعة كثيراً من الجن والإنس ، ما وصفهم ؟ ( لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ، ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون ، وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) تعزية في مكانها ، تعيد إلى الإنسان صوابه الطائش أمام هول المصائب وصعوبة المواقف ، لا داعي لكي يتمزق الإنسان ألماً أمام إعراض المعرضين واستكبار المستكبرين ، ولا داعي مطلقاً لأن يتضعضع أمام بطش البطّاشين وجبروت الجبارين ، لا داعي لذلك مطلقاً . إن الله تبارك وتعالى خلق خلقه بهذا الشكل ، التمايز والتغاير التي بسيرورتها المستمرة تفرز عناصر الخير وعناصر الشر بصورة مستمرة ، تلك هي السمة العامة لخلق الله ، ومشوا هكذا ، وفي موقف من المواقف يعنف ربنا جل وعلا مع نبيه صلى الله عليه وسلم ويخاطبه بغلظة يقول له ( وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعتَ أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء ربك لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين ) إذاً حينما يرى النبي أو يرى الذي يسير على قدم النبي ما يرى من جحود الناس ومن إعراضهم فعليك أن يلوذ بجناب الله وأن يعلم أن لله حكمة هو بالغها وأن الأمور حين تنضج وحين يحين قطافها سوف تكون ، وأنها قبل أن يأذن الله بذلك لن تكون ، ومن رعونة الأخلاق وضيق الصدر أن ينازع الإنسان ربه مقاديره وتصاريفه .
كذلك حين خلق الله الخلق كما جاء مصرّحاً به في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين : قبض قبضةً وقال هذه إلى الجنة ولا أبالي ، وهذه إلى النار ولا أبالي . والله تبارك وتعالى ذرأ للجنة رجالاً ونساءً ، وبرأ للنار رجالاً ونساءً ، وذرأ للجنة جناً وإنساً ، وبرأ للنار جناً وإنساً ، والله جل وعلا حينما يريد أن يسعد إنساناً يستعمله بعمل أهل الجنة ، وحين يريد أن يشقي إنساناً يستعمله بعمل أهل النار ، وحين يريد الرضى على إنسان يميته على عمل من أعمال أهل الجنة ، وحين يريد بإنسان السخط يميته على عمل من أعمال أهل النار . وإذاً فلا داعي لضيق الصدر ، ولا داعي للألم ، الأمور طالما ليست هي في يدك فالألم عليه عبث وباطل لا معنى له ، لا داعي له مطلقاً ، استمسك بجناب الله وانتظر الفرج من عند الله وامضِ مصمماً في طريقك .
لكن عليك أن تعلم ما علمك الله إياه ، ترى الرجل يعجبك سمته وتعجبك صورته وتقول : ما أسعده لأمه . ولكنه في موازين الرجال لا يساوي كلباً منتناً ، مرّ رجل زري الهيئة خلقان الثياب مهزول الجسد عليه علائم الفاقة والضر من مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ، وحين مضى سأل أصحابه : ما تقولون في هذا ؟ قالوا : يا نبي الله هذا حري إن خطب أن لا يُزوّج وإن حضر أن يُوسع له في المجلس وإن تكلم أن لا يُسمع له ـ يعني لا شيء ـ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ، ومرّ رجل من الذين يبرقون ، جسم غض طري ناعم وأكتاف عريضة وزند مفتول وثياب نظيفة ونعمة بادية ، قال : ما تقولون فـي هذا ؟ قالوا : يا نبي الله هذا حري به إن خطب أن يُزوج وإن حضر أن يوسع له في المجلس ـ يعني في صدر المجلس لأنه أبو فلان ـ وإن تكلم أن يُسمع له . هنا جاء التعليم النبوي ، قال لهم : ذاك ـ أي الذي احتقرتموه وازدريتموه ـ خير من ملء الأرض من مثل هذا . ليست المسألة مسألة أجسام ولا أزياء ولا شكول ولا ألوان ، المسألة مسألة قلوب صافية ونفوس كبيرة وهمم عالية ، هذه تجدها في أضعف الأجساد . ولكن العبرة ليست في المظهر : إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم ولكن ينظر إلى قلوبكم . فالمظهر لا يعني شيئاً ، فقد يكون خادعاً في كثير من الأحيان ، والله جل وعلا كشف عن هذه الحقيقة كشفاً واضحاً صريحاً بهذه الآية قال ( لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ) وفي موضع آخر وصف الكفار المعرضين قال ( وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدةً فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من الله شيئاً ) قد تجد الإنسان بصيراً ، عشرة على عشرة في النظر ، تجده سميعاً يسمع أدق الأصوات ، تجد له قلباً لو وضعته في التخطيط الكهربائي لنبض كما ينبض قلب الشاب في عنفوان شبابه ، لكن العبرة ليست في الجارحة ، هذه يد ويمكن لهذه اليد أن تشيد مسجداً ويمكن لها أن تمتد لمعونة فقير ويمكن لها أن تنتشل غريقاً كما يمكن لها أن تسرق وأن تبطش .. الجارحة إذاً محايدة ، العبرة بقدرة الجارحة على الأداء السليم ، الآلة إنما تعطي أداءها كاملاً حينما تكون مبرأةً من العوامل المعوّقة .
فهؤلاء الكفار لم يكونوا عمي الأبصار ، لا ، كانت أبصارهم مفتحة يرون ولكنهم لا يستطيعون الانتفاع بهذه الأبصار ، الله جلّ وعلا قال ( سنريهم آياتنا في الآفاق ) وكانوا يرون أن الشمس تشرق من مشرقها لتغرب في مغربها في مواعيد معينة لا تتقدم ولا تتأخر ، ويرون النجوم منثورةً في السماء زينة لها ، ويرون الهواء يهبّ من الاتجاهات جميعاً ، ويرون الزروع تنبت ، يرون هـذا النسق البديع ، لكن رؤيتهم هذه لم توصلهم إلى الفائدة المرجوة من خلق هذه الجارحة التي هي العين ، ولهذا قال الله ( ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً ) والعمل مقصود ، ليس مقصود عمل عين ولكن عمل بصيرة عمل قلب .
فكذلك لهم آذان كانوا يسمعون ، وأنت تسمع وأذنك سليمة لا شائبة فيه لا مرض لا شيء يعيقك عن السمع ، لكني أقرأ عليك القرآن ابتداءً من البقرة وانتهاءً بالفاتحة فلا تستطيع أن تستوعب شيئاً ، والنبي صلى الله عليه وسلم نزل عليه من ربه ما يُشعِر بأن هؤلاء الكافرين والمنافقين لا ينتفعون بالسمع ، فقال له الله جلّ وعلا أن قسـماً من هؤلاء الذين يحضرون مجلسك يظهرون الولاء ويبطلون الكفر ، كانوا ( إذا خرجوا من عندك قالوا ماذا قال آنفاً ) ماذا حكى ؟ ماذا تكلم ؟ إذاً هم سمعوا الكلام لكن لم ينتفعوا به .
لهم قلوب ، القلب ، الفؤاد ، الذي يصفي ما يصل إلى من العين ومن الأذن ومن سائر الحواس لتتحصل لديه الطمأنينة ، ولتتحصل لديه القناعة . ( ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذانٌ لا يسمعون بها ) هذه هي الجوارح الأساسية التي تنفع الإنسان والتي يمكن للإنسان أن يستخدمها للوصول إلى الحقيقة ، حينما تُعطَّل هذه الجوارح ماذا يبقى من الإنسان ؟ أبو الطيب المتنبي يقول :
لولا العقول لكن أدنى ضيغمٍ ..... أدنى إلى شرفٍ من الإنسان
لولا أن الإنسان مُيّز بالعقل والإدراك فأي دابةٍ من الدواب أقوى منه وأقرب إلى الشرف منه لو كانت المسألة مسألة قوة ومسألة جبروت ، لكن المسالة مسألة قلب ومسألة عقل ، إذا تعطل القلب وتعطل العقل ماذا يبقى من الإنسان ؟ لهذا فلا جور ولا ظلم في حكم الله جلّ وعلا هنا على هؤلاء الناس قال له ( أولئك كالأنعام ) الأنعام هي الشياه والماعز والإبل والبقر وما أشبه ذلك ، صحيح ؟ لا ليس هذا فقط بل هم أضل ، على الأقل الأنعام والدواب لها غرائز تهديها ، الكلب تربيه فيفهم عليك من الإشارة ، يعرف من تقاطع وجهك إذا كنتَ غضبان يربض في زاوية البيت ولا يتقرّب عليك ، وإذا كنت راضياً ومنشرحاً ومسروراً يحس بأنك كذلك فيأتيك ويبصبص بذنبه حولك ويلحس أطرافك بلسانه .
أية دابة تشعر حينما تدعوها أنك تريدها للماء أو تريدها للطعام ، لكن هؤلاء الناس بعد أن عطّلوا منافذ الإدراك وسبل الإستفادة لم يكونوا كالأنعام فحسب ولكن بل هم أضل ( أولئك هم الغافلون ) هؤلاء الذين يخاطبونك ويجادلونك يا محمد في أحقية عبادتهم للأصنام ، والذين يكذبونك في دعوتك إلى تنزيه الله وتوحيده كالأنعام بل هم أضل ، وكل الذين يأتون من بعدهم ـ هذا الحكم ليس فقط على أولئك الناس ـ الشيوعي الملحد هذا أيضاً أضل من حماره بدون شك ، لأن حماره أفهم منه ، كل إنسان يكون بهذه الشاكلة حيثما حل وفي أي زمنٍ وُجد ، حينما لا يستعمل منافذ الإدراك وأدوات الفهم وسبل تحصيل العقيدة السليمة استعمالاً صحيحاً يكون أدنى مرتبة من الحيوانات . حينما يكون أدنى مرتبةً من الحيوان ما الذي نفعله هنا ؟ هل نسايره ؟ لا ، دع الأيام تفعل فعلها ، دع حوادث الدهر تربي هذا الصنف من الناس ، هؤلاء يجادلونك في اللات والعزى وهبل ، لا بأس ، سيجادلك أقوام بعد عشر سنوات أو أكثر من اليهود والنصارى في أن الله ليس واحداً ، ولكن له ولداً ( وقالت اليهود عزيرٌ ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ) سيأتيك من يجادلك بأن الله ثالث ثلاثة ، سيأتيك من يقول لك ( ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ) نفس مقالة الماركسيين على اختلاف مناهجهم وألوانهم ، شيوعيين اشتراكيين ، إلى آخر هذه البالات ، سيأتيك من يقول هذا الكلام . هذا يجب ألا تتردد في أنه أضل من الحمار وأضل من أحط الحيوانات ، وعليك ألا تهتم به ، دع ما هو فيه من ضلالة وامضِ في طريقك .
العرب تدعو اللات والعزى ، ونحن اليوم ندعو فلاناً وفلان ، لا بأس نحن وهؤلاء سواء ، واجب المسلم ماذا ؟ أن يدعو الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى ، وفي حديث أبي هريرة في الصحيحين : إن لله تسعةً وتسعين اسماً ـ مائةً إلا واحداً ـ وإن الله وتر يحب الوتر . وفي رواية الترمذي لهذا الحديث عدّ هذه الأسماء عداً ، تسعةً وتسعين . والعرب كانت تدعو اللات وتدعو العزى وتدعو هبل وما أشبه ذلك ، والله جل وعلا قال ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ) والخطاب موجه للمؤمنين ، دعوهم ، اتركوا الأيام تربي هؤلاء الناس واثبتوا أنتم على طريقكم ، ثابروا على الأخذ بأسباب التوحيد ، ابتعدوا عن مزالق الشرك ، ادعوا الله بأسمائه الحسنى , أما العرب فقد ألحدت في أسماء الله ، للإلحاد في كلام العرب معنى معروف هو العدول ، تقول : ألحد فلان عن الطريق ولحد إذا عدل وجار ومال ، ومنه اللحد في القبر سميناه لحداً لأنه كان في جانب القبر ولم يكن في سمته ووسطه ، مفهوم هذا الكلام ؟
فالإنسان يلحد في أسماء الله حينما يخرجها عن مدلولها الصحيح ليعطيها معنى تشم منه رائحةَ الإشراك ، سواء أخذنا المسألة من جانبها العام أم من الجانب الخاص فهي صادقة ، من جانبها العام كل إنسان يدعو شيئاً من دون الله أو مع الله فهو ملحد ، وكل إنسان يغير في أسماء الله فهو ملحد ، خذوا مثلاً من أصنام العرب اللات ، بقطع النظر عن قول بعض المؤرخين العرب أن اللات هو رجل كان يلف السويق للناس في مواسم الحج فلما مات دفنوه ونصبوا عليه حجارةً ثم تطور الأمر بأن تحولت الحجارة الدالة على مكان قبر هذا الرجل الكريم إلى صنم يُعبد ، بقطع النظر عن هذا التفسير الذي لا أطمئن إليه ، فإن اللات يشبه أن يكون كلاماً معدولاً به وملحوداً عن كلام الله جلّ وعلا وعن اسمه الذي هو الله ، فاللات يشبه أن يكون مأخوذاً من الله . العزى صنم من أصنام العرب يشبه أن يكون معدولاً به عن اسم الله الذي هو العزيز ، وهكذا إن لم تتطرد القاعدة فهي سليمة إلى حد بعيد .
العرب لم تكن تجهل الله كله ، وإنما كانت تلحد في أسمائه ، وحين كشف الله جلّ وعلا مزالق الطريق وعرّى واقع العرب الاجتماعي والسياسي والأخلاقي والاعتقادي حدد للنبيه صلى الله عليه وسلم طريقه . ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون ) .
أتصور أنني أخذ من وقتكم الشيء الكثير ، كنت أريد أن أصل معكم في هذا الاستعراض إلى النقطة الثانية التي هي الاحتجاج للنبي صلى الله عليه وسلم والتي هي ثاني الأساسين الذين دارت حولهما سورة الأعراف ، بل قل سائر السور المكية بصورة عامة ، لكن الوقت ضاق ، كنت أحب ذلك من كل قلبي ، لأني واضع في المخطط أنني سأنتهي من السورة في الأسبوع القادم . لقد تعبت تعبت غاية ما يكون التعب ، مضيت معكم شوطاً طويلاً أسأل الله أجره ، وأسأله ألا يمنعكم ولا يحرمكم خيره إن شاء الله ، لكن الأمر بتفصيله العسير الذي سمعتموه الآن أكل منا الوقت أكلاً ، نرجئ ما تبقى من الكلام إلى الجمعة القادمة ، ولأتحملكم وتتحملوني جمعةً زائدة إن شاء الله ، وكل ما أرجوه أن يفتح الله أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا للحق كي ندين به وكي نقف معه وكي نعيش له وكي نموت عليه .
وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين .