تفسير سورة البروج (3)
تفسير سورة البروج (3)
الجمعة 4 جمادى الأولى 1397 / 22 نيسان 1977
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مـع الذين اتقوا والذين هـم محسنون .. أما بعد يا أيها الإخوة المؤمنون :
سنتابع اليوم إن شاء الله تعالى حديثنا مع سورة البروج ، وكان من فضل الله تعالى أننا وقفنا في الجمعة الماضية عند جوهر الصراع بين المؤمنين والكافرين ، حسبما أدرجه الله تعالى في آية واحدة من هذه السورة الكريمة ، وما مضى فقد مضى وليس في نيتي أبداً أن أعود إلى التفصيل مما نفضت يدي منه في الجمعة الماضية ولكن ذكرى .
إن المسألة التي أدرجتها السورة الكريمة والتي منّ الله علينا بالحديث عنها في الجمعة الماضية بإسهاب وإطالة مسألة ذات أهمية خاصة ، وهي في الوقت نفسه ذات أهمية بالغة وما ينفع شيئاً أن تغطى الشمس بطرف الرداء ، إنه قد آن أن يتعلم الناس كل الناس أنصاراً وخصوماً ، بل قد آن للكثير أن يعلموا أن ما حكاه الله عنهم فهو الأصل لا ريب فيه ، وأن ما كشفه من خبيئتهم فهو الحق لا مراء فيه ، وأنه مهما يحاول أعداء الله جل وعلا أن يُلبسوا أنفسهم من اللباس مما يجتذب الألباب ، ويتبعوا العقول ويستهوي الأفئدة ، فإن ربنا جل وعلا قد أوقفنا علـى الحقيقة عارية مجردة من كل بهرجة لا يعلق بها زيف ولا ينال منها التضليل .
إن المعركة الخالدة كان يجب أن لا تغيب عن بال أحد هي بين الإيمان من حيث هو إيمان ، والكفر من حيث هو كفر . وأي لباس بعد ذلك يلبسه الكفر فلن يخفى على المؤمنين إن شاء الله تعالى ، وذلك يتطلب على صعيد النظر والاعتقاد كما يتطلب على صعيد السلوك والعمل والحركة جميعاً رفض محاولات التزييف وتمييع المواقف من قبل الأنصار والخصوم على حدٍ سواء ، إن الله تعالى قد حكى في هذه السورة جوهر المسألة فقال تعالى ( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ) ولقد رأينا من خلال تاريخنا رايات تُرفع وشعارات تُقدم ، وأشنع ما في الأمر أن هذه الرايات والشعارات أنهم يريدون أن يدخلوا على المؤمنين من أبواب الإيمان والإسلام ، وفي السر غير المعلن ، ولكن نأمل إن شاء الله تعالى أن يكون قد استقر في أذهان المسلمين بصورة جلية أن النقيضين لا يجتمعان ، وأن الليل والنهار لا يجتمعان ، وأن السواد والبياض لا يجتمعان ، فإما إيمان خالص لله تعالى على النحو الذي شرحناه من قبل ، وإما شيء آخر وراء الإيمان ولكنه في كل الأحوال لا يمتّ إلى الإيمان بصلة .
وهذا شيء أحسب أنني قد فرغت منه في الجمعة الماضية وكشفت الأمر على نحو يكفي إن شاء الله ، إلا أنني لا أحب أن أجاوز هذا الموطن من السورة قبل أن أجبر نفسي وأجبركم على الوقوف مرة أخرى عند هذه الآية بالذات .
فيما مضى قلت لكم هنا إنه ينبغي أن لا يغيب عنا الهدف الذي نسعى إليه من خلال هذه الأحاديث فما نحن بمفسرين ، ولو كنا كذلك لاعتمدنا في أحاديثنا منهجاً آخر .
وينبغي أن لا ننسى أن القرآن الكريم هو الذي يقود المعركة في الدعوة الإسلامية ، وهل يستطيع أحد أن ينسى أن هذه الآيات البينات كانت هي السلاح الأول والأخير في المعركة . وحين يكون الأمر كذلك فسيكون حقاً ووفاءً للقرآن ولدعوة القرآن أن لا تهمل اللمحات حتى البعيدة منها ، وأن يحاول الإنسان وهو يقرأ القرآن أن يتصور لوحة الأحداث أمام عينيه كي لا يزيغ منها شيء ، وإن لم يفعل فسوف يُصاب بعمى الألوان ، وسوف يصاب بقصر النظر .
إن القرآن بالفعل كان ينزل ليكشف للمسلمين مواطئ المهمة في مزدحم الحوادث ومعترك النضال ، ولكن ينبغي أن لا نغفل عن مهمة مزدوجة للآيات الكريمة ، إنه كان يهدم ويبني في آن معاً ، كان يتجه إلى الكافرين ، وكان يتجه إلى المؤمنين في آن واحد . فهو يقود المعركة المزدوجة التي لا يجوز معها أن يُغفل فيها جانبا الصراع ، وإذا نظرنا من هذا المبدأ في الآية الكريمة فسنجد أنفسنا مضطرين إلى أن ننتبه حتى إلى الألفاظ المفردة لغرض أن نتعرف على الانطباعات التي تتركها هذه الألفاظ في مشاعر الطرفين جميعاً .
إن المسلمين في المرحلة التي نتحدث عنها قلة قليلة ، ولكنها قد تجاوزت الخطر ، أصبح لديها حجم مقبول من القضايا والقواعد والأسس التي تجعل السيطرة عليها أمراً مستحيلاً ، ولكن هذا شيء ، وضمان الطريق حتى النهاية شيء آخر ، ويجب أن نذكر ولا ننسى أن القرآن والإيمان والإسلام حقائق تتمثل في بشر ، وليست أشياء تنزل من السماء جاهزة لتحل محل أشياء أخرى موجودة على الأرض ، ولكنها قضايا وحقائق تنزل من السماء على أهل الأرض ليباشر أهل الأرض تغييراً أساسياً وحاسماً في داخل النفوس لكي يكونوا على استعداد لمواجهة المشقات والصعوبات .
إن هذه القلة التي آمنت برسول الله صلى الله عليه ترى ما حولها وتراه على الطبيعة ، إنها بشر من البشر ، ولو أنها تُركت للمشاعر الإنسانية البحتة ولنتائج الفعل التي تتولّد عنها لاستيأسوا وألقوا بأيديهم ، ولكن القرآن بأناةٍ عجيبة كان يأخذ بالهمم حتى لا تسقط ، كان يتناول هذه العزائم في ذروة الخطر ليحقنها بالمادة الصالحة والمؤهلة لتجديد الحيوية والنشاط .
إن المسلم يعرف من حقائق إيمانه الأولية أنه لا يعطي للناس رسالة نفسه ، ولكنه يقدم لهم رسالة الله ، وحين تدلهم الخطوب من حولنا ونكون في وسط الصراع وجهاً لوجه أمام أعداء الله تعالى ، من هنا يتطرّق اليأس إلى قلوب الناس حينما يعالجون أمر الرسالة وحينما يجابهون أعداء الله تعالى ، لكن المؤمن حينما يستحضر في ذهنه أنه مجرد أداة ووسيلة بيد القادر القاهر الجبار المنتقم ، وبأن أمر الرسالة نصراً أو هزيمة ليس إليه ، والذي هو فعلاً مسؤول عنه ومطالب عنه هو تحرير النية وإخلاص القلب لله تعالى والتدرّع بالثبات والصبر ، لو أن المسلم في معترك الصراع ذكر هذا لانزاحت عنه غاشية الهزيمة ، ولَشعر أنه يفيء إلى جانب عزيز كريم قوي قادر قاهر لا يُغالبه أحد إلا غلبه ولا يتصدى له أحد إلا دندن عليه .
هذه الحقيقة كما قلنا من أوليات الإيمان موجودة في الآية التي نتلوها ، إن الله يقول ( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد ، الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد ) فيناسب بعد تحديد جوهر الصراع بأنه لا خلاف بين المؤمنين ومن عداهم إلا على حقيقة الإيمان وبأنه لا صح ما يقال بأن الذين يقفون مع حقائق الكتاب المنزل ويحاولون إيصال هذا النور إلى الناس الذين حُرموا منه لعوامل وذرائع شتى لا أرب لهم في أموال الناس ولا شيء آخر .. وسواء عليهم عُرفوا أم لم يُعرَفوا ، بل إن المؤمنين حينما يُعرَفون من قبل الناس يتمنون لو أن الله أخفى لهم أعمالهم . إن المؤمنين ليسوا في سبيل من هذه السبل التي يتحدث عنها الناس في مختلف الأقطار وفي مختلف الأجناس ، ولكنهم إن كان لهم جرم ، إن كان لهم ذنب ، فذنبهم وجرمهم هو هذا الإيمان ، والذي حرّض عليه دعاة السوء والفساد هو أنهم آمنوا بالله ربهم .
بعد أن حرر الله تعالى جوهر الصراع لكي يقطع على المؤمنين طريق التأثر بما يثيره أعداء الله في وجوههم وبين أقوامهم من المغفلين من أن المؤمنين يريدون كذا وكذا ، بعد أن وقعت الأمثولة البارزة أمام أعين المؤمنين والكافرين جميعاً هو أنها جاءت وفود المكيين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرض عليه المغريات وتنثر بين يديه المفاتن .. إن كنت تريد مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً .. وإن كنت تريد ملكاً ســوّدناك علينا فلا نقطع أمراً دونك .. وإن كنت تريد النساء زوجناك من تشتهي وتختار من أجمل نسائنا وأكرم بيوتاتنا .. بعد هذا كله يقول لهم الرسول صلى الله عليه وسلم : إن الإنسان المؤمن لا يسعى إلى شيء من هذا القبيل ولا يطلب أغراضاً من هذا المستوى ، إنه يقول لهم : ما لي هذا الذي قلتم ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً فإن تقبلوا مني فذلك حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم وهو خير الحاكمين .
ومع ذلك فإن المؤمن ككل جهاز من أجهزة الدنيا محتاج إلى أن يُشحن بالطاقة كلما كادت هذه الطاقة أن تفرغ . وفي الصراع يُنفق الإنسان كمية هائلة من الطاقة فهو بحاجة إلى أن يُشحن باستمرار . فإذا جئتم إلى الآيات وذلك هو الغرض الذي أريد أن أقف اليوم عنده وأقف وقوف الإنسان المتدبّر المتأمل الذي يعلم أن هذا القرآن سلاح المسلمين في معركتهم مع أعداء الله تعالى ، فمن أجل ذلك عليهم أن يتدبّروه ( أفلا يتدبّرون القرآن ) ومن أجل ذلك حذّر النبي عليه الصلاة والسلام من عدم التدبّر لآيات الله وأشار إلى أن قوماً ينزلون بين المسلمين يقرأون القرآن ولكن لا يجاور حناجرهم ، ولذلك أريد أن ألفت نظركم إلى أن الآية حملت صفات من صفات الله تعالى ، والذي يلفت الذهن وينير الطريق أمام المؤمن هو الدقة في اختيار في الألفاظ ، إن الله تعالى يقول ( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله ) كان يمكن أن يُكتفى بالكلام عند هذا الحد وتكون القضية على سوائها ، إن جوهر الصراع مع هؤلاء الناس أنهم آمنوا بالله ، ويمكن أن ينتهي كل شيء عند هذه الكلمة ولكن الله تعالى أردف اسمه الكريم الذي هو ( الله ) بأوصاف ، ما هذه الأوصاف؟ الوصف الأول أنه العزيز ، والوصف الثاني أنه الحميد ، والصف الثالث أنه مالك كل شيء ، والوصف الرابع أنه شهيد على كل شيء .
هذه الأوصاف الأربعة : العز والحمد والملك والشهادة جاءت في مكانها اللائق والمناسب بل وفي مكانها الضروري من سياق القضية التي عرضتها سورة البروج ومن سياق الواقع التاريخي المادي الذي كان المسلمون يتحركون من خلاله وهم يأخذون طريقهم صُعُداً إلى الله تعالى .
إن المؤمن كما قلنا وهو في غمرة الصراع بحاجة إلى أن يشعر بمتانة الركن الذي يستند إليه ، وإن الإنسان كما هو مشاهَد يدخل المعركة يقاتل حينما يكون من حوله عدد محصور من الناس على نحو ، ولكنه حين يعلم وأن من ورائه جيوش جرارة يقاتل على نحو آخر لعله يكون مضروباً بعشرة أو بمائة أو أكثر ، إن الهمة التي تُشعر الإنسان بأنه مستند إلى ركن شديد ويأوي إلى كهف مكين همة لا تتقاعس ولا تتردد ولا تنكس ولا تنهزم ، وما أحوج المؤمنين وهم في تلك الظروف الحالكة إلى أن يُشار إليهم وإلى أن يُلوّح أمام أعينهم إن الله الذي يلجئون إليه عزيز حميد . ما معنى أن يكون الله عزيزاً ؟ ما معنى وصف الله بالعزة ؟ إن العزة مأخوذة من العزاز ، يُقال في لغة العرب التي نزل بها القرآن أن هذه أرض عزاز أي أنها أرض صلبة لا يؤثر فيها شيء ، بمعنى أنها مهما ضربت فيها المعاول فسوف تنثني عليك لأنها أرض عزاز ومتينة وصلبة ، ومن لوازم هذا المفهوم في أصل الوضع اللغوي الغلبة والقهر ، ولذلك ما حكاه الله في القرآن الكريم قال ( وعزّني في الخطاب ) أي غلبني وقهرني في الخطاب ، فوصف الله بأنه عزيز أي أنه يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء .
فإذا عرفنا أن هذا الإيمان وهذا الإسلام وهذه الرسالة التي يتحرك لها ويتحرك بها المؤمنون بالله هي من عند الله وأن الله عزيز لا يُغالَب وأن الله غالب على أمره فخليق بالمؤمن أن يشعر بالراحة وأن يشعر بالرضى وأن يشعر بعوامل القوة تتفجّر بين يديه . هذا على صعيد الجبهة المؤمنة ، فإذا نظرتَ إلى الجبهة التي تقاتل المؤمنين .. إلى معسكر الكافرين والمشركين فهم خلفاء أن يعلموا مَن يقاتلون ؟ إنهم لا يقاتلون هؤلاء الناس ، هم لا يدخلون معركة مع البشر ، إن معركتهم مع الله العزيز القاهر ، ومن كان منهم ذا قلب ولب فسوف يدرك أن هذه المعركة ما دامت طبيعتها بهذا الشكل فخاتمتها محددة ومحسومة .
إن الصف الكافر محكوم عليه بأن ينهزم وبأن يفشل وأن يتراجع إلى غير رجعة ، لو كان الأمر أمر بشر لبشر لانتهى كل شيء ولحسمت المعركة من بدايات الطريق ، ولكن المسألة مسألة صراع بين طرفين لا يتكافآن ، بين الله وبين هؤلاء الناس ، فمن أجل هذا فإننا حين نمشي مع وقائع تاريخنا فإننا نجد وقائع وأخباراً تكشف لنا عن حقيقة هذا الشعور الذي عُبّئ به المسلمون . في فتوح العراق كان رجل من المسلمين الأعراب ممن انتُدب لمقابلة رستم قائد الجحافل الفارسية التي هالها أن يحدث هؤلاء الأعراب أنفسهم بغزو فارس ، وقصاراهم كما قال لهم رستم أن يأتي الوافد منهم ويأخذ شيئاً من التمر ثم يرجع . ولكن العرب الذين عزّوا بالإسلام والتفتوا إلى شريعة محمد عليه الصلاة والسلام شعروا أنهم خُلقوا خلقاً آخر فأصبحوا أمة أخرى لا شأن لها ولا صلة بينها وبين الحياة التي كانت عليها فيما مضى ، إن رستم يسأل هذا الأعرابي : ما أخرجكم ؟ أمَا تعلمون أننا أقوى منكم عدة وأكثر منكم عدداً وأوسع منكم رقعة أرض ؟ ما يكون الجواب ؟ وماذا سيجيب هذا الأعرابي ؟
لو كان جاهلياً لجاء إلى رستم سائلاً متسوّلاً يطلب شيئاً من الميرة ويرجع بشيء من التمر . ولكنه الإنسان المؤمن المسلم الذي شرب حقيقة الإيمان وعرف أنه يسـتند إلى ركن شديد ، قال له : يا هذا دعك من هذا الكلام ، إنك لا تجادل البشر ، ولكن تجادل القدر . إن كل مسلم كان يشعر أنه قذيفة قدَرية من الله تعالى لا يقف في وجهها شيء ، وبذلك انتصروا ، وبذلك عزّوا . والمسلمون حين وُضعت أمامهم صفة الله العزيز إنما وُضعت تذكيراً لهم بالملجأ الذي يلجئون إليه تذكيراً لهم بأن الله الذي حمّلهم هذه الأمانة سيتولى كفايتهم وسيدمّر أعداءهم بشرط أن يُخلصوا معهم نواياهم وأن يحرروا قلوبهم خالصة لوجهه الكريم ، وكذلك هي إشعار للصف الكافر لكي يعلم بأن معركته ليست مع هؤلاء ولكن مع الله تعالى ، وهذا يعني أن المعركة محسومة منذ بداية الطريق . وعلى كل عاقل أن يجنب نفسه أن يخوض معركة من هذا القبيل في كل زمان وفي كل مكان . في الوقت الذي تتحرك فيه المعركة بهذا الشكل فإن قانون العبث يُلغى ، وإن قانون العدة يُلغى ، ولا يبقى إلا قانون واحد هو قانون الله العزيز الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه أي شيء .
حينما تحدّث بعض المكيين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ودعا قريشاً إلى العودة إلى عبادة هبل والعزى والأصنام قال سهيل بن عمرو رضي الله عنه يذكرهم بالله ويقول لهم : يا قوم .. الله الله في أنفسكم لا تكونوا آخر الناس إسلاماً وأولهم ارتداداً عن هذا الدين ، والله ليتمّن الله هذا الدين . قال قائل منهم : ما يدريك ؟ قال سهيل : لقد رأيتُ ورأيتم محمداً صلى الله عليه وسلم يقف إلى جوار هذا البيت وحيداً لا يوجد معه أحد يقول لكم : إن الله غالب على أمره ، ويقول لكم : والله لتدخلنّ في هذا الدين طائعين أو كارهين . ولقد كان محمد في ذلك الزمن أهون على أحدنا من كسرة الخبز في يد الصبي ، ولقد رأيتم ما حقق الله موعوده على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم .
إن تحرير المعركة كما قلنا علـى الشكل الذي توحيه هـذه اللفظة المفردة ( الله العزيز ) شيء ضروري ، كي تنقطع في نفوس المسلمين الالتفات إلى غير الله تعالى .
ثم هو أيضاً ( الحميد ) وقد يكون من الغريب أن يأتي وصف الحميد بعد وصف العزيز ، ولكن لا غرابة إذا مددنا البصر إلــى ما بعد هـذه الآيـة فقط ( إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق ) إن بين المعترضتين تتركز العلاقة بين الحميد وبين مناسبة هذا الكلام ، نرجع إلى وصف الله جل وعلا بأنه الحميد إن المعركة كما قلنا ليست مع الناس ولكن مع الله وإن المؤمنين كما قلنا ليس لهم مطمع ولا مناصب ، وحسبهم أن يؤمن الناس بالله تعالى وأن يتبعوا رسوله صلى الله عليه وسلم وليكن منهم ما يكون ، سنشرح هذا ولكن أريد أن أُجسّد العلاقة بين الصفة الكريمة لله ( الحميد ) وبين مناسبتها لهذا الكلام ، إن المؤمنين تعرضوا عبر أزمانهم لما لا يحصيه إلا الله من الكوارث والأهوال على يد الصديق أو العدو أو القريب أو البعيد ، ومن حكمة الله تعالى بهذه الإنسانية أن جعل المؤمنين برآء من الحقد ومن الضغينة . إن الفاسد في الأرض وقاتل الأخ وقاتل العم لا شيء بيننا وبينه حينما يؤمن بالله العزيز الحميد .
إن الرسول صلى الله عليه وسلم استقبل أبطال المعارك الذين مثّلوا بأصحابه بالأحضان ، استقبلهم باسماً . إن الأحقاد لا سبيل لها إلى قلبه ، فهو لا يتحرك بالأحقاد ، إنه حب غامر مجسّد . ومن هنا كان الإسلام يجبّ ما قبله ، جاء عمرو بن العاص رضي الله عنه في السنة الثامنة من الهجرة ليسلم فلما أراد أن يبسط يده لبيعة النبي صلى الله عليه وسلم قال : يا رسول الله إني أريد أن أشترط لنفسي . قال : تشترط ماذا ؟ قال : أن يُغفر لي ما تقدم من ذنبي . إن ابن العاص يعلم أن آذى المسلمين كثيراً ، فهو سافر إلى الحبشة لكي يردّ المسلمين من هناك كما تعلمون من القصة . فيقول له الرسول صلى الله عليه وسلم : يا عمرو ألم تعلم أن الإسلام يجبّ ما قبله ، أي فُتحت صفحة جديدة .
إن الله تعالـى حين يقـول ( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله الـعزيز الحميد ) تجيء كلمة الحميد لتفتح باباً واسعاً من الألم والرحمة أمام هؤلاء الذين يبذلون قصارى جهودهم من أجل إطفاء شعلة الإيمان .. من أجل إطفاء نور الله تعالى ، لا يا معاشر بني آدم ، إن رحمة الله مفتحة أبوابها ، وإن عليكم أن تعلموا أن الله حميد ، ووصف الحميد يتضمن معنيين متلازمين ، الأول : أن الله هو المستحق للحمد ، بمعنى أنه هو واهب النعم وليس معه أحد من الناس ، لا من شريك ولا وزير ، فمن حقه على الناس أن يحمدوه ، إنك ترى أن من صميم الطبع البشري أن يحمد الإنسان من يقدم له معروفاً . ولو أن أحداً أسدى إليك معروفاً بسيطاً فمن الطبيعي أن تشكره على ذلك . ذلك شيء موجود في طبع الإنسان ولكن الإنسان كما قلنا أكثر من مرة محكوم بقوانين الزمان والمكان فهو من أجل ذلك قلّما يتسامى بنظره وببصيرته إلى ما وراء قوانين الزمان وقوانين المكان ، انظر إلى ما وراء هذه الحجب التي أمامك لترى أن الله تعالى هو واهب النعم لا أحد معه في ذلك ( وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضرّ فإليه تجأرون ) إن كل خير وكل نعمة يتقلب فيها ابن آدم فمرجعها إلى الله تعالى . فمن هنا كان الله مستحقاً للحمد سبحانه وتعالى .
وأيضاً ثمة معنى آخر ، وهو أن الله يحمد عباده المؤمنين ، الله ليس بحاجة إليكم أبداً ، ليس بحاجة إلى عبادتكم ، ولكن من واسع فضل الله ومن عميم نعمة الله أنه يحمدكم أيضاً حينما تحمدونه على نعمة أنعمها عليكم . يقول النبي عليه الصلاة والسلام : إن الله يرضى من المسلم إذا أكل الأكلة أو شرب الشربة أن يحمده عليها . ويقول أيضاً : لو أن الإنسان قدّم كل شيء ، أي أخذ كل شيء من الله تعالى ، كل النعم الموجودة على الأرض ، لو أن الإنسان أخذها فقال : الحمد لله لكانت كلمة الحمد لله خيراً وأثقل في الميزان من كل هذه النعم التي أعطاها الله للإنسان . إن النعم يتمتع بها الإنسان والحيوان ، وتكون كلمة الحمد لله في مجال الاعتراف لصاحب النعمة بأنه هو الذي أوصلها إليك وهو الذي يسرها لك .
إن معنى الحميد تتجلى أن الله أيضاً يحمد عباده ، وفي ذلك يأتي الحديث القدسي الذي يرويه النبي عليه الصلاة والسلام عن ربنا تبارك وتعالى يقول : وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه ، وإذا تقرّب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً ، وإذا تقرّب إلي ذراعاً تقرّبت إليه باعاً ، وإن جاءني يسعى أتيته هرولة . إن الله جل وعلا يحمد عباده ولا يوجد شيء يعيبه في ذلك .
إن وصف الحميد في هذه الآية يفتح أمام هؤلاء المعاندين الأبواب مشرعة كي لا يتمادوا في هذا الطريق البغيض ، طريق الضلال وطريق البعد عن الله تعالى .
والوصف الثالث الذي جاء هنا هو أنه تعالى مالك كل شيء ، وينفع في هذا المقام أن نقول أننا نحن وخصومنا وكل ما في السماوات وما في الأرض ، ومن في السماوات ومن في الأرض بيد الله لا إله إلا هو ، يتصرف بنا كيفما يشاء ، لا نخرج عن إرادته ، ولا نغيب عن علمه ، هو المالك لكل شيء الذي له ملك السماوات والأرض . فإذا كان الأمر كذلك فيجب علينا نحن المؤمنين أن لا نبتئس وأن لا نيأس ، ويجب أن لا نشمئز ولا نتضعضع حينما تكثر النكبات والكوارث والمحن . وعلى هؤلاء الذين يقاتلون المؤمنين أن يتذكروا أنهم خلق من خلق الله دائماً تحت مفهوم الملك لله تعالى .
لو أنني أردت أن آخذ بأيديكم إلى الخوارق لذكرت لكم شأن ذلك الرجل التقي العابد الذي غضب عليه سلطان من الجائرين فأمر بأن يُلقى في الجب وأن تطلق عليه السباع لكي تفترسه ، وبالفعل ألقي هذا الإنسان التقي في الجب وأطلق عليه السبع وقال الناس : مات الرجل . ومن عجب أن يطلّ المطلّون على الجب فيروا أن الرجل مستغرقاً في الذكر والتأمل ، ويرون السبع الأسد يدور حول هذا الإنسان التقي . وحين أُخرج من الجب سألوه فقال : ما كان علي من بأس وكنت أفكر في لعاب الأسد ، هل هو طاهر أم نجس . هذا هو الشيء الذي خطر على بالي .
إذاً فلا ينبغي للمؤمنين أن يلقوا بالاً للمتاعب والمصاعب التي يرونها وهم في طريق الدعوة ، ذلك شيء من طبيعة الطريق ، وإنه لا علاج لهذه الحالة إلا الشعور بأننا جميعاً ملك لله تعالى .
ويأتي الوصف الرابع ، إنك حين تفعل السيئة وتستخفي بها عن أعين الناس لا تشعر بوخذ الضمير بنفس النسبة وبنفس المقدار الذي يكون عليه شعورك وأنت فعلت نفس السيئة أمام أعين الناس ، حين يكون ذنبك أمام الجمهور فإنك تتضاءل وتستحي وتخجل ، لأنك تشعر أنها الفضيحة التي لا يمكن أن يُغطى عليها . والله تعالى بإيراد هذا الوصف ( والله على كل شيء شهيد ) يريد أن يُعلِم هؤلاء الذين يناوئون المؤمنين أن جريمتهم كبيرة ، ألا يعلمون أن الله لا يعلم سرهم ونجواهم ؟ بلى ورسل الله لديه يكتبون ، إن الله على كل شيء شهيد ، إن الله يستجيش عاطفة الحياء في نفوس هؤلاء الناس لكي يفيئوا إلى شيء من المعاني الكريمة التي تتحرك عادة في نفس الإنسان .
هذه أوصاف أربعة ، كنت خليقاً أن أمرّ عليها حتى نبرزها كي يكون فهمنا للقرآن الكريم صحيحاً وسليماً ، على نحو مقارب مما كان يفهمه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ، ومما كان يفهمه أيضاً أعداء الله من المشركين والجبارين في ذلك الزمان .
وما أعظمها من عبر ودروس للمؤمنين لو أنها استقرت في النفوس لجعلت من الناس أناساً آخرين ، ولأحالت هذا الإنسان مخلوقاً آخر يستصغر كل شيء في جنب الله تعالى ، ويستهين بكل شيء طالما هو مؤمن بأنه يأوي إلى ركن شديد ، يأوي إلى الله العزيز الحميد .
ولو أننا عرفنا معاني أوصاف الله تعالى وانتفعنا بهذه المعرفة في حياتنا العملية لتغيرت الأحوال ولذللت مصاعبنا ، ولكن الله وحده هـو الذي بيده كل شيء ، فنسأله وهو المعين أن يهدينا سبل السلام وأن يحبب إلينا الإيمان وأن يزينه في قلوبنا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .