تفسير سورة عبس (2)
تفسير سورة عبس
( 2 ـ 3 )
الجمعة 14 ربيع الأول 1397 / 4 آذار 1977
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسـنون .. أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون :
هذه هي الوقفة الثانية مع سورة ( عبس ) ، ولعلها أن تكون الأخيرة ، على ما فيها مما يدعو إلى فضل تأمل وزيادة بحث ، وفي الجمعة الماضية عرضنا لكم فاتحة السورة الكريمة ، والذي يدعوني إلى الحرص على الفراغ من السورة الآن تصور واضح لتكامل هذه السورة الكريمة ، وأقول ( واضح ) علماً بأن كل سورة من سور هذا الكتاب المعجز تتمتع بهذا الخاصية بالذات علمها من علمها وجهلها من جهلها ، ولكن هذه السورة بالذات تمتاز بوضوح هذا التكامل وضوحاً عجيباً مما يحمل على الترجيح بأن السورة بكل إشاراتها وبكل ما أثارته من أمور تهدف إلى تأكيد الدرس الأول الذي عرضناه في الجمعة الماضية ، وملخص ما فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرجو ويطمع أن يسلم لله زعماء المكيين وأن يفتح الله قلوبهم لنداء الله ويتبعوا هذا النبي عليه الصلاة والسلام ، وكان في تصور النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك سيقتصر الطريق على الدعوة وسيذلل عدداً كبيراً من العقبات القائمة في وجهها .
فمن أجل هذا كان مشغولاً ومعنياً بالحديث إلى هؤلاء الزعماء حين جاءه رجل من المسلمين ليست له ما لهؤلاء من مكانة ، ولا يملك ما يملك هؤلاء من ثراء وليس له الصوت والجاه الذي يتمتع به هؤلاء الزعماء ، فجاءه يستهديه ، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم كره منه هذا الإلحاح وظهرت تعابير هذه الكراهية على وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى هذه السورة الكريمة تعاتب الرسول صلى الله عليه وسلم وتبيّن له خطأ هذا الطريق وفشل هـذا الرجاء ، فقال الله تعالى ( عبس وتولى ، أن جاءه الأعمى ، وما يدريك لعله يزكى ، أو يذّكّر فتنفعه الذكرى ، أما من استغنى فأنت له تصدى ، وما عليك أن لا يزكى ، وأما من جاءك يسعى ، وهـو يخشى ، فأنت عنه تلهى ، كلا إنها تذكرة ، فمن شاء ذكره ، في صحف مكرمة ، مرفوعة مطهرة ، بأيدي سفرة ، كرام بررة ) ولقد رأينا في الواقعة ، وهي واقعة يجمع الرواة على واقعيتها وعلى حجمها ، ولدينا من تاريخ أبطالها ما يشير إلى المعالم البارزة في شخصياتهم ومصائرهم .
ورأينا في الجمعة الماضية أن حوادث المستقبل بعد عدد من السنين جاءت مصدقة لهذا الوحي الذي وصف الرسول عليه الصلاة والسلام عند منهج من مناهج الدعوة وسبيل من سبل الدعوة كان عليه الصلاة والسلام يرجو منه خيراً للمسلمين فأبان الله له سلفاً وقبل تبيّن مصائر هؤلاء الأشخاص أن هذا غلط ، جاءت النتائج لتقرر لنا بواقعية أن كل الذين عرض لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ورجا منهم الإسلام ورجا منهم إسلام آخرين قد ماتوا على الكفر ، وجُرّوا جرّ الكلاب بأيدي المسلمين ، ولم ينفعهم شيئاً هذا الحرص الموجود في نفس محمد صلى الله عليه وسلم على هدايتهم ، وأن هذا الأعمى الضعيف الذي كره رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته وإلحاحه كان واحداً من عظماء المسلمين يتمتع بسوية عالية جداّ في الفضائل النفسية التي تُقدّر على أساسها قيم الرجال . فعاش مع النبي صلى الله عليه وسلم خليفة له في المدينة حين كان يخرج في الغزوات ، وعاش زمن أبي بكر ، وعاش زمن عمر حتى استشهد في معركة القادسية وهو يحمل لواء المسلمين ثابت الجسم لا يتزحزح بناءً على طلبه هو بالذات حين قال لهم : أقيموني بين الصفين وأعطوني اللواء فإني رجل ضرير لا أقوى على الفرار ، فعاش جندياً وقتل شهيداً رحمة الله تعالى عليه .
هذه هي السورة الظاهرة وهي كما ترون حادثة نموذجية . ظاهرها ما قلنا لكم وما سمعتم ، ولكن لا بد لنا من أن نعرف لماذا أنزل الله جل وعلا هذه السورة بهذه الصيغة من العتاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو عتاب شديد وقاسٍ ، ولقد كانت عائشة رضي الله عنها تقول : لو كان محمد كاتماً شيئاً مما نزل عليه لكتم هذه السورة ، لأنها تعرض بموقف من المواقف التي تعتبر في سياق الدعوة وفي مناهج الدعوة خطأ ، والتي جاء الوحي ليصححها له صلى الله عليه وسلم . لماذا ؟ لماذا هذه العناية البالغة بتصرف ربما لا نقيم له وزناً لأنه يدخل في باب الأمور الاجتهادية ، ولأنه أمر يخيل لكثير أنه فرعي وليس أمراً أساسياً . لماذا ؟ أولاً لأن الإسلام في تحركه وفي طرائق دعوته وفي أساليبه المعتمدة والمتبناة ليس شيئاً متروكاً في هذه الأصول للاجتهادات الشخصية ، فإن الإنسان بما يتقلب عليه من أضواء وأحوال قد تختلف نظراته إلى الناس ، فيظن خيراً بمن لا خير فيه ويظن شراً بمن يطوي جوانحه على الخير كل الخير .
من أجل هذا أخذ الإسلام في جملة ما أخذ موضوع سبل الدعوة وطرائق الدعوة في الحسبان كي تكون خطاها موزونة ومتناسقة ومؤسسة على هذا الذي سنقول ، أي على قواعد الإيمان وقواعد العقيدة التي تلقنها المسلمون . من الخطأ الكبير أن نتصور أن موضوع العقيدة شيء يسكن القلب أو يسكن الرأس قناعة وتطوراً دون أن يكون له مردود ودون أن يكون له أثر في السلوك .
في الواقع أن العقيدة أساس يبنى عليه وينبثق عنه كل التصورات الأخرى من تشريعات وأخلاق ونظم ومناهج وطرائق في التحرك والدعوة . تعالوا لندقق الأمر بعض الشيء وأنا سلفاً أقول لكم إنني لن أتعمق ببحث وتحليل هذه الظاهرة على ما هي عليه من أهمية خطيرة وعلى ما أدى إليه غفلة الكثير عنها من اشتباهات وأخطاء ، تعالوا لننظر في الواقع ، نحن مع هذه السورة مع السورة الثالثة والعشرين في سياق الدعوة ، وإذاً فلدينا من التوجيه رصيد نستطيع أن نرجع إليه وأن نستشيره وأن نرسم خطانا على هديه ، لسنا متروكين أي لسنا مع أول الخطوات ، نحن مع ثلاث وعشرين سورة مرت من القرآن الكريم ابتداء من أول النزول ، وإذاً فلو ألقينا نظرة إلى الوراء لتعرفنا على الركيزة وعلى القاعدة التي أسس عليها هذا الموقع ، ارجعوا مثلاً إلى سورة الفاتحة وهي سورة تكلمّنا عنها من قبل بإفاضة وبتخصيص .
إن سورة الفاتحة وأنا أختارها قصداً لأنها مما يقرأها المسلم عدة مرات في اليوم ، إن هذه السورة حين نزلت على رسول الله عليه الصلاة والسلام وأمر عليه الصلاة والسلام بوجوب قراءتها في الصلوات ، وأقامها بمثابة الدعاء والشعار والنغم الذي يردد باستمرار ، كانت تتضمن معاني لا بد أن نستحضر لكم جانباً منها مما يتصل بموضوعنا الذي نحن فيه .
إنك أول ما تستفتح السورة تقول ( الحمد لله رب العالمين ) فحين تقول الحمد لله فإن الحمد لا معنى له إلا أن تكون هناك نعمة سابقة لله تعالى عندك استحقت الحمد واستوجبت عند الشكر ، فالله رب العالمين حين تلفظ بهـذه الكلمة ( الرب ) فأنت تضع أصبعك على موضوع الحمد ، الرب هو المربي ، أي أن الله اعتنى بك أيها الإنسان منذ أن كنتَ نطفة في رحم أمك وحتى خرجتَ إلى هذه الدنيا .. يُغذيك الله ويُنشؤك الله ويربّيك الله ويسبغ عليك عنايته وأنت تتقلب في الدنيا حالاً بعد حال وطوراً من وراء طور . فأنت إذاً مع الله تتقلب في نعمه تعالى مكلوءاً ومحفوظاً برعاية الله تعالى ، فمن أجل ذلك أنت تحمد الله تعالى .
فإذا ذهبتَ تتعرف أوصاف هذا الرب المربي عرفتَ من السورة أنه رحمن وأنه رحيم ، وأن وجودك لتتعرفَ عليه أكبر مظهر من مظاهر هذه الرحمة ، ولو شاء ربك أن تكون حجارة من حجارة الأرض أو نيزكاً من نيازك السماء أو دابة تسرح على ظهر هذه الأرض أو هباءة سابحة في الفضاء ، ولكن الله من رحمته بك خلقك لكي تتعرف عليه وتعرف نعمة هذا الوجود ونعمة معرفة الله تعالى أثناء هذا الوجود . فالله رحمن والله رحيم ، فإذا فرغتَ من ذلك ومضيت مع السورة وجدتَ نفسك تدعو الله تعالى أن يهديك الصراط المستقيم وأن يجعلك مع الذين أنعم عليهم ، كما تسأله أن يعينك ، تطلب منه العناية وتطلب منه الهداية ( اهدنا الصراط المستقيم ) فأنت حينما تطلب هذا ، ما وصفك ؟ ما حقيقتك ؟ ترى بصورة واضحة أنك فقير ، وأنك ضعيف ، لا غنى بك إلا بالله . إن هذه الدعوة لها ميدان ، ميدانها لا يصلح لصنفين من الناس ، وهذان الصنفان لا يصلحان له بتاتاً ، الناس المستكبرون ، والناس الغافلون عن الله تبارك وتعالى ، المستكبرون الذين يرون أنهم مكتفون غير محتاجين إلى سند ، هؤلاء قلّما يجدي معهم النداء ، قلّما يلامس أفئدتهم التذكير ، والغافلون المنغمسون فـي الشهوات ، كذلك لا يصلحون .
إن الدعوة يستجيبون لها ذلك الصنف من الناس الذي لا يشعر وهو يطرق باب الإسلام أنه يمنّ على الإسلام بشيء ، إنها يصلح لها ذلك الصنف من الناس الذي يرى أن هذا الإسلام هو صاحب الفضل عليه وليس له فضل على الإسلام . هذه القاعدة ضرورية ، في موازين الدعوة مطلوب من أن نبيّن حقيقة الدعوة فيستجيب من يستجيب ويُعرض من يُعرض ، نحن لا نملك الأداة التي نستطيع بها أن نكشف أن فلاناً من الناس جيد وأنه سيستجيب للدعوة ، وأن فلاناً من الناس غير جيد وأنه لن يستجيب للدعوة . فمن أجل ذلك قال الله هنا فـي هـذه السورة ( كلا ) أي أن الطريق والتصوّر الذي سرتَ فيه يا محمد خطأ وليس الأمر كما تتصوّر ، ( إنها تذكرة ) مجرد تذكير ، وقلوب الناس بين يدي الله ، فليس لك أن تلحّ هذا الإلحاح وأن تُعرض في ذات الوقت عن هؤلاء الذين يتكففون من حولك ويأتونك دون أن تسعى إليهم ودون أن تنفق معهم هذه الجهود .
تعالوا إلى الواقع أكثر ، دعونا نتصور أنفسنا في ميدان الدعوة الأرضية ، لنتصور ذلك ، فنحن حينما نريد أن نقنع إنساناً ما من الناس بأن يلتزم معنا في طريقنا وأن يتعاون معنا في قضيتنا ، ماذا نقول له ؟ إننا طبعاً نبيّن له مصلحته التي تحققها طريقتنا أكثر من أية طريقة أخرى ، ونحن من جهة أخرى نلامس فيه عنصر الغرور نبيّن أهميته وأنه في تعاونه معنا سيزيدنا ثقة بين الناس ، وسوف يزيدنا صلابة وقوة ، نحن نرتكب بهذه الطريقة خطأين قاتلين في طريق الدعوة ، أول الخطأين أن نصوّر للناس أن هذا جاء ليحقق مصالح قريبة ذاتية ، ذلك يتعارض مع ألف باء الإسلام ، إن الإسلام لا ينظر إلى مصلحتك أيها الإنسان إلا من خلال الزمان المتراحب ، ومن خلال إنسانية عاشت في الماضي وتعيش الآن وستعيش إلى ما شاء الله ، فأنت واحد من هؤلاء الناس ، عجلة في آلة كبيرة ، لا أكثر ولا أقل ، وإن من الخطأ والتضليل ومن التغرير أن نصوّر لك مصالحك التي ستتحقق من جرّاء انتسابك إلى الإسلام .
ولو جاء الإسلام ليرضي مصالحك لكان دعوة من جملة الدعوات لا أكثر ولا أقل . إننا حينما نقول لك قل : لا إله إلا الله محمد رسول الله نحن لا نعدك بمصلحة على الإطلاق ، ولا نعطيك أي موعد ، وإنما نقول لك : أنت مطالب بأن تقنع نفسك بأن تميت شهواتك وبأن تضغط على نفسك ، ونقول لك : إن هذا الطريق طريق الشوك وطريق الدم والدموع والآلام التي لا نهاية لها .
موضوع مداعبة المصالح في طريق الدعوة شيء مخيف وشيء خطر ومدمّر لا يصلح مع الدعوة إلى الله تعالى ، هذا واحد . والشيء الثاني ، حينما نشعرك أنك ذو أهمية بالنسبة إلى الدعوة فنحن أيضاً نغرر بك ونغشك ، إن الله تعالى غني عنك ، وما لم تدخل بابه وتلج رحابه مسلحاً بالفقر والذلّة والخضوع بين يدي الله ، ما لم تشعر بأن الفضل لله جميعاً فأنت لا تصلح أبداً ، إن الله لا يأبه بك ولا يسأل عنك وليس فقيراً إليك بحال ، إنما أنت الفقير إليه ، إن الله له جنود السماوات والأرض ، فلو جئنا لك ننفخ في هذه الخنزوانة فنكبّر بك ونشعرك بأهمية تكون لك في الدعوة فنحن نكون بذلك قد قضينا عليك تماماً .
يا أحباب .. إن الله تعالى يقول ( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله ، والله هو الغني الحميد إن يشأ يُذهبكم ويأتي بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز) فلا يجوز أبداً أن نشعر أي إنسان بأنه ذو أهمية بالنسبة إلى الدعوة ، هذا خطأ . عندنا مثال نموذجي في القرآن ، عندنا إسلام الأعراب ، هؤلاء الذين أسلموا زمن النبي صلى الله عليه وسلم فداعبتهم هذه الخنزوانة المقيتة وظنوا بإسلامهم أنهم يزجون له وللمسلمين خيراً فقال الله لهم مقرّعاً ومؤنباً ( يمنّون عليك أن أسلموا ، قل لا تمنّوا علي إسلامكم ، بل الله يمنّ عليكم أن هداكم إلى الإيمان إن كنتم صادقين ) لا فضل لأحد على الإسلام ، إن الفضل للإسلام على كل أحد ، بهذا الطريقة فقط نستطيع أن نستوعب الجواهر الحقيقية في الإنسان ، لا نداعب فيه حاسة الغرور ولا نحدثه بلغة المصالح ، لأننا نقوم على أساس دعوة ، وعلى أساس إيمان ، فمن أجل يجوز لنا بتاتاً كما لم يجز لمحمد صلى الله عليه وسلم .
وقال آخرون للنبي صلى الله عليه وسلم : نحن نبايعك على الإسلام بشرط واحد وهو أن تجعل لنا الأمر من بعدك . أن نكون نحن أصحاب السلطة بعد أن تموت ، لو كان محمد عليه الصلاة والسـلام طالب دنيا أو رجل ومآرب أو مكاسب ، فلا يوجد في الدنيا زعيم يرفض ولاء هذه القبيلة الكبيرة من أجل وعد ، وهذا الوعد مضاف إلى ما بعد الموت ، ولكنه رسول الله ولكنه حامل الدعوة ولكنه مبلغ القرآن الذي وعى عن ربه ما أراد ، فقال لهم : إن الأمر لله يضعه حيث يشاء .
من هنا وبسبب من هذا الذي قلنا نستطيع إن ندرك ماذا يريد الله تعالى في قوله ( أما من استغنى ، فأنت له تصدى ، وما عليك ألا يزكى ، وأما من جاءك يسعى ، وهو يخشى ، فأنت عنه تلهى ) هؤلاء الناس لا يشعرون بهذا الشعور اللازم ، الإنسان الذي يدرك أنه بانتمائه إلى الإسلام يحقق ذاته ويحقق شخصيته ويرتفع فوق مستوى الطين والتراب ليكون إنساناً أعلى وأسمى ، هؤلاء الناس الذين كان يتحدّث معهم وصفهم الأساسي أنهم مستغنون ( أما من استغنى ، فأنت له تصدى ) فنحن شرحنا ظاهرة الاستغناء مع أول سورة نزلت في القرآن الكريم ( اقرأ باسـم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ) هناك جاءت كلمة الاستغناء ، وجاء وصف الاستغناء بعد ثلاث وعشرين سورة أثارت السورة الثالثة والعشرون هذه الظاهرة الخطيرة والمخيفة التي تصد الناس عن اتباع طريق الخير والحق والهدى والصواب . الإنسان يشعر أنه بغير حاجة إلى إله ، مستغني عن ذلك ، المال بين يديه كثير ، الجاه متوفر ، المكانة محفوظة ، كل شيء يريده يراه بين يديه ، كل ما يأمر به يُنفّذ ، لكن الله تعالى أقام من حوادث الزمان وعبر الدهر وتصاريفه ما يلفت نظر هذا الإنسان إلى هذا التغيّر .
في كل يوم نرى غنياً قد افتقر ، وفقيراً اغتنى ، ويرى حياً يموت ، ومولوداً يولد ، وينظر في الآفاق فيرى تعاقب الليل والنهار ، ومرّ الأيام والليالي والشهور والسنين ، هذه الأحوال المتغيّرة أقامها الله تعالى شواهد ناطقة لكي تكفف من حدة هذا الاستغناء ، لكي تُشعر الغني المنغمس إلى ما فوق أذنيه بالغنى أن الغنى عرَضي زائل وظلّ حائل وأمل باطل ، وأن المناصب والجاه شيء يزول وأنها لو دامت لغيرك ما وصلت إليك . إن الله تعالى أقام ذلك كله شواهد على هذه القضية .
فإذا سرنا مع هذه السورة الكريمة نجد الله تعالى يُفصّل هذه الأمور : ( قُتل الإنسان ما أكفره ، من أي شيء خلقه ) لفت نظر قوي ، إلى أصل الإنسان الذي يدركه بصراحة ووضوح ( من نطفة خلقه ) من ماء مهين كما وصفه الله تعالى في غير موضع من القرآن ( ثم السبيل يسّره ) ولاحظوا أدب القرآن في التعبير ، لا تتصوروا أن المراد هنا بالسبيل كما ذهب بعض المفسرين أنه طريق الخير وطريق الشر ، لا ، اسمعوا الآيات وانظروا ما معنى السبيل ( قُتل الإنسان ما أكفره ، من أي شيء خلقه ، من نطفة خلقه فقدّره ، ثم السبيل يسّره ، ثم أماته فأقبره ، ثم إذا شاء أنشره ، كلا لمّا يقضِ ما أمره ) فالله تعالى يعرض قضية الخلق بدءاً من النطفة وانتهاءً بيوم النشور ، أي سبيل هذا الذي يشير إليه الله ؟ استقرت النطفة في الرحم ، وتكوّن الجنين ، وجاء المخاض ، وآن لهذا الجنين أن يخرج إلى الدنيا ، من أي سبيل خرجتَ أيها الإنسان ؟ أنت من فرج أمك نزلت ، من أقذر مكان في الإنسان نزلت ، فلهذا جاء أدب القرآن بهذا التعبير اللطيف ( ثم السبيل يسّره ) يسّر خروجه من ظلمة الرحم ، ليخرج إلى فضاء الدنيا ونور الدنيا وهواء الدنيا لتتقلّب به الأدوار ، ثم يقبضه الله تعالى ، ثم ينشره ليوم النشور . أنت أيها الإنسان هكذا ، فلماذا تستكبر على الله تعالى ؟ أهي تجربة بعيدة عنك ؟ أنت تعيشها بدقائقها وبتفاصيلها . هذا لفت نظر لشيء ، ولكن معه شيء آخر سأعود إليه .
( كلا لمّا يقضِ ما أمره ) هذا الإنسان بما أن الله تعالى عُني به بهذا الشكل أوجب عليه واجبات ورتّب عليه حقوقاً وفرض عليه فرائض ، والإنسان مهما يعش ، ومهما يطل به العمر ، فلن يقضي حق أوامر الله جلا وعلا . لو أنك عبّدت الله ليلاً ونهاراً ، وأُعطيت عمر نوح وما هو أكثر فلن تؤدي شكر نفس واحد تأخذ الشهيق وتلفظه في الزفير ، لماذا ؟ لأنك تتقلب في نعم الله تعالى الذي أسبغها عليك ظاهرة وباطنة ، ولأنك تتقلب في كون الله المسخر من أجلك أنت أيها الإنسان ، فمن أجل هذا قال الله ( قُتل الإنسان ما أكفره ) إن الإنسان كفّار وظلوم يكفر نعمة الله تعالى ويتصور أن ما فيه من عزّ وجاه ونعمة ونعيم هو من صنع يديه ( إنما أُتيته على علم عندي ) ولكنه لا يدري أو يتجاهل أنها وديعة الله تعالى يسلبها منه متى شاء .
ثم يلفت القرآن نظر الإنسان ، وفي ظني أن المراد هنا بالإنسان الأول الوارد في قول الله تعالى ( قُتل الإنسان ما أكفره ) مطلق جنس الإنسان ، فالمراد بالإنسان الثاني غير الأول ، المراد بالإنسان الثاني وكما يتبادر إلي شخص النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول الله تعالى ( فلينظر الإنسان إلى طعامه ، أنّا صببنا الماء صبّاً ، ثم شققنا الأرض شقّاً ، فأنبتنا فيها حباً ، وعنباً وقضباً ، وزيتوناً ونخلاً ، وحدائق غلباً ، وفاكهة وأبّاً ، متاعاً لكم ولأنعامكم ) انظروا إلـى الصورة ، الماء ينزل من السماء ليهبط على الأرض ، فتنشق له الأرض ، وتبتلعه الأرض ، ماذا عندنا ؟ عنصران ، الماء والتراب ، انظر إلى النتائج ( أنّا صببنا الماء صباً ، ثم شققنا الأرض شقاً ، فأنبتنا فيها حبّاً ، وعنباً وقضباً ، وزيتوناً ونخلاً ، وحدائق غلباً ، وفاكهة وأبّاً ) مع اتّحاد الجوهرين اللذين هما الماء والتراب ، فإن النتائج تأتي مختلفة .
تنظر ما حولك فترى الجبال جدد بيض وحمر وصفر مختلفات الألوان ، وتنظر إلى الأناسي فطويل وقصير وأحمر وأسود وما أشبه ذلك ، تنظر إلى الأخلاق ، حسن الأخلاق وسيء الأخلاق ، تنظر إلى الإيمان ، إيمان وكفر وضلال وما أشبه ذلك . إن اتّحاد المظهر لا يعني أن النتائج يجب أن تكون واحدة بحال من الأحوال ، بل إن قدرة الله تعالى التي أراد أن يلفت إليها الأنظار أن تتعدد الوجوه والأشكال . إن الله أراد من محمد صلى الله عليه وسلم في مقابل موقفه الذي اتّخذه حيال الزعماء المكيين أراد منه أن يعلم أن الدعوة حينما تُبذل للناس من غير تمييز ، ومن غير نظر إلى مال أو جاه ولا شهرة ولا زعامات فإن الله هو الذي يحدد النتائج . وكما أن الله تعالى ينزل الماء من السماء ليهبط به على الأرض فيخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه ، مختلفاً طعومه ، فكذلك هـذه الدعوة . عليك أن تعرضها ثم تأتي النتائج كما جاءت عبر الزمان مصدقة لإشارة القرآن . عرضتَ الدعوة إلى هؤلاء الناس فكان منهم ابن أم مكتوم الأعمى المؤمن ، وكان منهم هؤلاء الذين جهدتَ معهم وتعبتَ وحرصتَ على إيمانهم وبالغتَ في الحرص حتى أخرجك الحرص إلى ما لا يليق ، فكانت عاقبتهم ما رأيت .
إن تحديد النتائج يا محمد ليس إليك ، إن عليك أن تبلّغ دعوة الله إلـى الناس ، وأن تدع إلى الله أن يحدد النتائج . أما أن تسلك طرائق أخرى مما يعتمده الآدميون في جمع الأنصار وشراء الذمم والضمائر ، وتكثير الناس من حولهم ، فذلك فشل وخطأ ، بل هو خطر . لماذا ؟ انظر إلى هؤلاء ، انظر إلى الإنسان ، يمرّ بكل هذه التجارب المتشابهة ، يكون نطفة فعلقة فمضغة إلى آخره .. ثم يخرج إلى الدنيا ، ثم يموت ، ثم يُنشر ، وانظر إلى الطعام ، يصب الماء من السماء فيشق الأرض فتخرج منه طعوم مختلفة وأشكل مختلفة . ما الذي لفت إليه القرآن أنظار المسلمين ؟ بعد أن ذكر هذا كله قال ( فإذا جاءت الصاخّة ) والصاخة تعبير من التعبيرات المفردة في القرآن الكريم ، إنك تستطيع أن تشعر بثقل هذه اللفظة وأنت تقرؤها ، تكاد تخرج طبلة الأذن ، إنها تعبير عن يوم القيامة الذي يكون فيه الهول كل الهول ، والفزع كل الفزع ، ويوم القيامة يوم تمييز وتمحيص ، ويوم صدور النتائج ( فإذا جاءت الصاخة ) هناك في يوم القيامة تكون كل نفس مشغولة بذاتها ( يوم يفرّ المرء من أخيه ، وأمه وأبيه ، وصاحبته وبنيه ، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ) ليست القضية هنا ، وإنما في الخاتمة التي تنعطف على البداية ، القضية أن الله بعد أن عرض عليك التجارب التي يمرّ بها الإنسان ولادة وحياة ، ونظراً إلى ما حوله من الأشياء ومن الكائنات ومن النباتات وما أشبه ذلك ، مع أن الناس يمرون كلهم بهذه التجارب الواحدة المتطابقة المتشابهة مائة في المائة ، فإن القيامة تنجلي عن أمر عجيب ( وجوه يومئذٍ مسفرة ، ضاحكة مستبشرة ، ووجوه يومئذٍ عليها غبرة ، ترهقها قترة ، أولئك هم الكفرة الفجرة ) إن نتائج التجارب تمحّصت الآن وتمحّص الحق الذي لا يلتبس فيه شيء من الباطل .
الناس كلهم يمرّون بتجارب واحدة ، ولكن النتائج تأتي مختلفة ، يوم القيامة يكون ناس في أعلى عليين ، وناس آخرون في أسفل السافلين ، يوم يتبيّن أن أُناساً لا نأبه بهم كانوا في المرضي عنه ، وأن أُناساً كنا نعوّل عليهم كانوا في المغضوب عليهم . كيف تقرر في البداية فشل هذا التعويل الذي لا معنى له على رؤوس المجتمع جاءت الخاتمة لتعيّن أن الطريق الحقة في الدعوة أن تُبذل الدعوة للعموم ، وأن تُبذل على قدم المساواة ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) والنتائج إلى الله تعالى ، ونحن لا نملك القدرة على أن نميّز بين من يؤمن ومن لا يؤمن ، كما لا نملك الحق في أن نفتح قلوب الناس لنحملهم على الإسلام حملاً ، كما لا نملك أن نمسك بالسوط لنسوق الناس إلى طريق الله جل وعلا .
( كلا إنها تذكرة ) والنتائج في يدي الله ، لا يجوز بتاتاً أن نعوّل على هذه الطريقة التي يعوّل عليها أبناء الدنيا .
كلمة صغيرة أهمس لكم بها ، ربما ساءت الكثيرين ولا أُبالي ، يجب أن تعلموا أنه نحن في القرآن نملك رصيداً هائلاً من التجربة هي تجربة النبوات ، وأنكم حينما تُعنون بدراسة هذه التجربة ستكتشفون أن أتباع الأنبياء لم يكونوا من السادة ولا من القادة ولا من الأثرياء ، وإنما كانوا من هذا الفئة التي لا يأبه لها أحد من الناس ، ولكن نفحة الله مستّهم فأحالتهم خلقاً آخر . الذي أريد أن أهمس به إليكم وإن شئتم أن أصرخ به أمامكم هو أن الطبقات العليا في أي مجتمع طبقات فاسدة متعفّنة متآكلة لا تصلح لشيء ، إنها مستهلكة للغاية . القادة ، الزعماء ، الساسة الكبار ، والأثرياء ، والوجهاء ، لا قيمة لهم في ميدان الدعوة .
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشار إلـى واحد منهم حينما سأل أصحابه : ما ترون فيه ؟ فأثنوا خيراً وأعظموه ، وكان قد أشار إلى رجل ضعيف مهين ، قال : إن هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا . إن المعول فيه في الإسلام هو هذا القلب ، هو هذا التوجه الصادق إلى الله تعالى ، فلا يجوز في طريق الدعوة أن تختلط النظرات إلى الأمور ، ولا يجوز في طريق الله أن ننخدع ببريق الألفاظ والألقاب والمكانة ، إن دعوة الله إلى الناس قاطبة .. قاصيهم ودانيهم ، فقيرهم وغنيهم ، من عاش منهم اليوم ومن يعش فيما بعد .
إن دعوة الله لم تجئ لتحدد لتدغدغ شهواتك ولا لتحدد لك مصالحك ، كما لم تجئ لتنفخ فيك نوازع الكبرياء ، وإنما جاءت لتضعك على العبودية المطلقة لله تعالى ، ولتشعرك بالفقر المطلق إلى الله تعالى ، ولتشعرك أن المنّ لله ، وأن الفضل لله ، وأنك ليست صاحب فضل ، وأنت حينما تستجيب للدعوة فبحظك أخذت ولصالحك اخترت ، وأنك لن تنفع الله باستجابتك ، كما أنك لن تضرّ الله بإعراضك .
أبعيد عنكم ما قاله الله تعالى في الحديث القدسي ( يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنّكم ، كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً . يا عبادي لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنّكم ، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً . يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أُوفيكم إياها ، فمن وجد خيراً فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه ) .
إذاً في نهاية مطاف السورة الكريمة نحن نستطيع أن نحددها باختصار مطلق وهي أن هذه السورة جاءت لتصحح مسار النبي صلى الله عليه وسلم في طريقه إلى دعوة الله تعالى كي لا يكون متأثراً بالمواضعات الموجودة فـي المجتمع ، ولكي يخاطب الإنسان من حيث هو إنسان ، لكي يضع يده على الجوهر الإنساني في الإنسان بقطع النظر عن المركز أو الثراء ، ثم ( من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) ونحن لسنا أوصياء على الناس ، وغير بعيد عنكم ما قلته في الجمعة الماضية تعقيباً على قول الله ( وما عليك ألا يزكى ) .
هب أن هؤلاء الزعماء لن يسلموا ، هب أنهم استمروا على العداء للإسلام ماذا يكون ؟ هــل عليك من حسابهم من شيء ؟ لا ، لأن كل إنسان يجزى بعمله ، ولأن كل إنسان يأتي يجادل عن نفسه . فهل لإخواننا الذين يهتمون في هذا الإسلام ويهتمون بنشره بين الناس هل لإخواننا أن يستوعبوا هذا الدرس ؟ هل لإخواننا أن يتعلموا أن طفلاً صغيراً لا تتعلّق به الآمال ربما يكون مفتاح خير في المستقبل ؟ هل لإخواننا أن يتعلموا شيئاً بسيطاً أن إنساناً قد يكون عديم الحول والطول ، قد يكون بلا منصب ، قد يكون لا يملك في جيبه قرشاً يأتي الزمان الذي تشحنه هذه الدعوة بكل مقومات الإنسانية السليمة لتجعل منه قائداً عظيماً أو زعيماً قوياً أو ثرياً جواداً سمحاً كريماً أو عالماً مفلقاً ؟ إنني أحب أن لا يغفل إخوتي عن هذه الحقيقة ، وأن لا يعوّلوا على الرؤوس الكبيرة ، فكما قلت لكم أن الرؤوس الكبيرة في كل مجتمع رؤوس مشحونة بالوساوس والأوهام ، ورؤوس متعفنة لا تصلح لشيء لا في دين ولا في دنيا .
فاعتصموا بحبل الله وتوكلوا عليه وابذلوا في هذا الخير الذي تحدّر إليكم من محمد صلى الله عليه وسلم ، فأنتم ورثته وأنتم مسؤولون عن هذا الدين ، لا من حيث النتائج والغايات ولكن أيضاً من حيث الوسائل والسبل .
فأسأل الله العلي القدير أن يسدد خطانا وأن يحفظنا في سرنا ونجوانا وإعلاننا وأن يطهر نوايانا وأن يكتب لنا الخير حيثما كنا . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . والحمد لله رب العالمين .