تفسير سورة النجم(3)
تفسير سورة النجم
الجمعة 15 صفر 1397 / 2 شباط 1977
( 3 ـ 5 )
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون :
وفيما قلناه في الأسبوع الماضي أن القرآن المكي بصورة عامة يدور حول أمور أساسية كلها على امتداد ثلاثة عشر عاماً التي قضاها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في مكة ، كان يدور حول قضية الألوهية ، وثانياً حول مشكلة الرسالة ، وثالثاً حول قضية اليوم الآخر . وإبراز هذه القضايا في الحاضر ضروري ، هو ضروري من وجهة نظر الدراسة ، فالسورة كما عرفتم في أول حديث عنه أثارت في وجهنا مشكلة ليست هينة ، لأن فاتحة السورة تنتمي إلى الوقت الذي حصل فيه الإسراء والمعراج وهو في أواخر السنة العاشرة ونحن نتحدث عن وقائع تدور في فترة زمنية لا تتجاوز السنة السابعة من المبعث ، ومن هنا فنحن نريد أن ننفذ إلى إكمال لبقية الحديث للحل الذي قدمناه عن هذه المشكلة ، ثم نكمل ما تبقى من السورة .
قلنا إنه لا شك أن فاتحة سورة النجم تشير إلى واقعة حصلت في الإسراء والمعراج متأخرة جداً من المرحلة المكية ، وقلنا إن هذه المشكلة تُحل على ضوء تاريخ القرآن ، فالقرآن حين دوّن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبأمر منه وبتوقيف منه أيضاً كانت آياته تنزل متفرقة ، كانت الآية تنزل اليوم ، وقد تنزل الآية بعد سنة أو أكثر ، وضربنا مثلاً سورة البقرة وهي مجموعة في القرآن في سورة واحدة وقلنا إن فيها آيات تُعد من أبكر الآيات في المرحلة المدنية ، كما أن فيها آية يقال إنها آخر ما نزل من القرآن ، فعمر هذه السورة في الإنزال لا يقل عن تسع سنوات ، ومع ذلك فهي سورة واحدة . والدارس للقرآن مضطر لأن يأخذ السورة على أنها بناء واحد ومتكامل ، لأن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرتبها علـى الوجه الذي رتبت عليه ، فوجود الآية في سورة معينة أو وجود عدة آيات في سورة معينة تشير إلى واقعة من الوقائع المحددة تاريخياً لا يعني أن السورة برمتها تنتمي إلى الزمن الذي حصلت فيه الواقعة . تسميات السور قد لا تدل مطلقاً على مضامينها وقد لا تشير إلى شيء مما تضمنته ، عندنا سورة قاف سميت بالحرف الهجائي الذي بدئت به ، فماذا تفهم من هذا الحرف مما يدل على مضامين السورة ؟ لا شيء . عندنا سورة صاد وهي سورة سميت باسم الحرف الهجائي الذي بدئت به السورة بصرف النظر عن مضامين السورة ، قلنا إننا على هذا النحو نستطيع أن نقول إن فاتحة سورة النجم لا يعني أن السورة برمتها نزلت متأخرة ، وبالتالي لا يسحب التشكيك على التوقيت الذي وضعه بصورة متقاربة علماء القرآن حينما رتبوا القرآن وفاقاً للنزول .
حينما ذهبنا نستعرض قضايا القرآن وقلنا لكم إن قضايا القرآن المكي عموماً تدور حول هذه الأقطاب الثلاثة : الألوهية والرسالة واليوم الآخر ، آن لنا أن ننظر إلى فاتحة السورة من زاوية أخرى . لنرى أهي متنافرة مع الجو العام الذي أشارت إليه السورة ؟ أم هي منسجمة معها كلياً ؟ هذا هو الحديث الذي نريد أن نبدأ به لنلفت النظر إلى أن الذين لم يرزقوا في القرآن ذوقاً خاصاً ولم تُكشف عن عيونهم الحجب لكي يذوقوا طعم هذا القرآن ، يتصورون الأمور في القرآن تتكرر متشابهة مكروهة وهذا خطأ ، فالقضية من القضايا التي تعرض في السورة كما تعرض في تلك كما تعرض في هاتيك ، وهي هنا لها دلالة وهي هناك لها دلالة أخرى وهنالك لها دلالة مغايرة ، قلنا إن فاتحة السورة تشير إلى واقعة الإسراء والمعراج فلماذا سحبت هذه الواقعة من السنة العاشرة أو بالأحرى من أواخر السنة العاشرة لتحشر في سورة أثارت قضايا ضمن السنوات الخمس الأولى من البعثة ؟ حينما نعود إلى استحضار ما نصصنا عليه من الأمور التي يدور حولها القرآن المكي ونتعرف على قضية الرسالة وما يتفرع عليها من مشكلات أثارها الحجاج المكي والجدال المكي لا نستغرب وجود الفاتحة ( أي فاتحة السورة ) في هذه السورة المبكرة زمنياً .
لقد كانت للمشركين ردود أفعال متباين ومختلفة حول ذلك ، أرأيت الذي يحاصره خطر داهم يريد أن يأتي عليه ، كيف يحاول أن يتملص من هذا الجانب أو ذاك ، كذلك حينما واجه محمد صلى الله عليه وسلم الأمة العربية وعلى وجه الخصوص المجتمع المكي القرشـي كذلك أُخذت عليهم الأمور وعميت عليهم السبل ، فهم تارة يدفعون عن أنفسهم بهذه الحجة وتارة يثيرون في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم تلك المشكلة .. حينما قال لهم : أنا رسول الله إليكم وإلى الناس جميعاً ، أثاروا في وجهه مشكلة الصلة بين الإنسان وعالم الغيب ، وأثاروا في وجهه مشكلة مبرر الاختيار ، لماذا أنت من دون الناس ، ألم يجد الله غيرك يرسله إلى الناس ، فكان من مقالتهم ( لولا أُنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ) لو أن الرسالة تنزلت على عظيم من عظماء مكة أو الطائف وهما البلدتان الأشهر في المجتمع العربي الجاهلي ، لو أن الرسالة جاءت إلى رجل من هاتين القريتين لكان مبررة ومعقولة ، ولكن أنت اليتيم والفقير تأتي بهذه الرسالة العظيمة على الأشياخ من قومك ، هذا شيء غريب ، وهناك مشكلات أخرى لا داعي لذكرها .
فكما أن القرآن الكريم يتولى تفنيد حجج المشركين والرد عليهم ويبرز من خلال ذلك مكانة النبي صلى الله عليه وسلم والمبررات التي جعلت الله جل وعلا يختار هذا اليتيم الفقير من أهل مكة ليختصه برسالته ، والله تعالى يقول ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) فالأمر ليس إلى الناس ، والمسألة ليست مسألة مجاملات ومودات ولكنه اصطفاء من الله ( الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس ) والاصطفاء قائم على مبررات كاملة والمعقولة في علم الله جل وعلا وأمام العقل البشري أيضاً .
هذه المشكلة أثيرت من زاوية معينة في فاتحة سورة النجم ، أشارت السورة إلى ما كان في الإسراء والمعراج ولكنكم ترون أن السورة لم تتعرض لتفاصيل الإسراء والمعراج وأن الإسراء اختص بالقرآن بسورة خاصة سميت بهذا الاسم هي سورة الإسراء تحدثت عن هذه المعجزة الخالدة ، لكن فاتحة سورة النجم أخذت جانباً آخر .
( والنجم إذا هوى ) والجمعة الماضية تحدثت إليكم عن الإيحاءات التي يحسها العربي صاحب اللغة المتمتع بالفطرة السليمة والسليقة السليمة حينما يأتيه الكلام الإلهي المعجز بلغته التي يتحدث بها يومياً ، تحدثت إليكم عن ماذا يحس الإنسان العربي حينما يسمع القسم بالنجم ، الله تعالى أقسم في سور عديدة قسماً مجرداً ، قال ( والسماء والطارق ) ولم يذكر شيئاً من أوصاف السماء فبحسب قارئ القرآن أن يلتفت ذهنه إلى هذا البناء والسقف المحفوظ لكي يدرك عظيم صنع الله وهو المراد في هذا الموطن . ولكن المراد في فاتحة النجم غير هذا ، المراد به أن يلفت النظر إلى ضلالة العرب حينما كانت تعبد النجوم فقال لهم ( والنجم إذا هوى) أقسم بالنجم ليس مجرداً وإنما موصوفاً بالهوي والتغير والانحدار والحدوث لكي يترك هذا الإشعاع اللطيف الذي ينفذ إلى الحس ويأخذ بمجامع النفوس حين يشير إلى آلهة من آلهة العرب تعبدها من غير استحقاق ومن غير جدارة ، وتعبدها لماذا ؟ لأنها بعيدة فقط ومتعالية عن أن تنالها اليد في ذلك الزمان . ولكن الأمر انتهى عند هذا الحد ليسوق الله تعالى الحديث في اتجاه قضية النبوة وهي إحدى القضايا الرئيسية التي عُني بها القرآن المكي ، قال لهم ( والنجم إذا هوى ، ما ضل صاحبكم وما غوى ، وما ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ، علمه شديد القوى ) وشديد القوى هنا يشار به إلى جبريل عليه السلام ( ذو مرة فاستوى ) المرة أي القوة ، والأصل في المرة الحبل يُفتل فتلاً شديداً حتى يقوى فيقال : استمر مرير فلان أي مضى في الأمر الذي هو قاصد إليه بحزم وعزم وقوة ، فالمراد بذي المرة ذو القوة ( ذو مرة فاستوى ، وهو بالأفق الأعلى ، ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى إلى عبده ما أوحى ) إلى هذا الحد من الآيات تكون فاتحة السورة قد عرضت علينا عدداً من القضايا ، أول هذه القضايا تبرئة محمد صلى الله عليه وسلم مما اتهمه به المشركون ، فالمشركون قالوا عنه أنه كذاب ومجنون وشاعر وساحر وكاهن وقالوا إن هذا الذي يأتي به أساطير الأولين أي كلام من الخرافات التي ترويها العجائز فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً ، وقالوا إنما يعلمه بشر من هؤلاء الذين لفظتهم دولة الرومان فجاءوا مشردين إلى الجزيرة العربية يسكنون هنا وهناك فرد الله عليهم قائلاً ( لسان الذي يلحدون إليه ) يتهمون محمداً صلى الله عليه وسلم بالأخذ عنه ( لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ) فلو أنك ضممت كل هذه التهم التي ألصقها الجاهليون بمحمد صلى الله عليه وسلم لكان حصيلتها أن من يتصف بهذه الأوصاف جميعاً هو ضال ومتقول ومفترٍ ، نزه الله تعالى نبيه وحبيبه صلى الله عليه وسلم من مطاعن المشركين بصياغة لا بد أن يلتفت إليها الإنسان ليدرك إعجاب القرآن وليدرك البلاغة التي تتقطع دونها الأعناق وليدرك أن قصارى ما يبلغه طوق البشر أن يشموا شيئاً من روائح هذه البلاغة المعجزة . لاحظوا ( ما ضل صاحبكم وما غوى ) ما قال ما ضل محمد ، وما قال ما ضل عبدي ، وما قال ما ضل رسول الله ، وإنما قال : ( ما ضل صاحبكم ) بهذه اللفظة المفردة التي هي صاحبكم أثيرت المشكلة على صعيد الواقع وهو أجدى الأصعدة التي تُثار عليها المشكلات ، من محمد ؟ أنتم الآن تماروا وتجادلون في صحة وأحقية هذا الذي يأتيكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أتجهلونه يا معاشر العرب ؟ أليس محمد هو اليتيم الذي ولد لعبد الله ، ثم ماتت أمه وجده ثم تُرك لمعضلات الحياة ومشكلاتها ؟ وهو الذي عاش بينكم أربعين عاماً ليس يوماً ولا يومين ولا سنة ولا سنتين وإنما هي أربعون عاماً ، صرفها بينكم يا معاشر المكيين فهو صاحبكم تعرفونه كما يعرف الصاحب صاحبه ، ليس غريباً عنكم ، في كل مراحل حياته أخذتم معه وأعطيتم ، أجرّبتم عليه كذباً ؟ هل رأيتم عليه فـي كل مراحل حياته صبوة أو كبوة ؟ هل لاحظتم عليه شيئاً من اختلال العقل أو ما شابه ذلك ؟ لا من هذا ولا من ذاك . يرحم الله أبا العلاء لقد كان يدرك أن الإنسان إذا قطع أشواطاً من عمره حتى جاوز مرحلة معينة فلا خوف عليه ، كان يقول :
وما بعد الأربعين صباء
ما بعد الأربعين انحراف إلا عند هؤلاء المسوخ التي يستعبدها الشيطان . تجارب الحياة الطويلة تعيب عليه أن يفعل ما يعيب ، بل تجعله أن يتوقر .
ولهذا نجد الله تعالى يكشف الحقيقة عارية حينما تزايدت تهجمات المشركين على محمد صلى الله عيه وسلم وهـو بشر يأخذه ما يأخذ البشر من ألم نفسي ، ولكن الله قال له ( فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ) كل واحد منهم فيما بينه وبين نفسه لا يجرؤ على أن يقول إن محمداً يتورط في الكذب ، بل أشرافهم حينما كانوا يجلسون في منتدياتهم كانوا يستعرضون أمر محمد صلى الله عليه وسلم فيقرون بأنه الصادق الأمين ، بل أين نحن من زمن سوف يأتي بعد سنوات من الخصومة قامت على أشدها بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين المشركين ، والمشركون قبل الرسالة يعرفون صدق محمد وأمانته ، فما منهم من أحد عنده شيء نفيس يريد أن يحافظ عليه إلا ذهب إلى محمد ووضعه عنده . أثناء اشتداد المعركة معهم يقولون له إنك كاذب أو شاعر أو كاهن أو ساحر أو مجنون ..ولكن أحداً منهم لم يفكر مطلقاً في أن يقول له : هات وديعتي التي عندك فإنك كذاب . ما قالوا هذا ، حين عزم محمد صلى الله عليه وسلم الهجرة إلى المدينة كانت ودائع المشركين عنده وقد خلّف الرسول صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه حتى يردّ هذه الودائع إلى أهلها . فشخص محمد صلى الله عليه وسلم فوق الريبة والشكوك .
( ما ضل صاحبكم وما غوى ) ولكن قد لا يضل الإنسان ، يمشي في الدنيا مستقيماً ولا ينحدر إلى رذائل الأخلاق ، ولكنه من ذات نفسـه ، بمحض تصوراته .. وهنا فارق أساسي وجوهري بين النبي وغير النبي . النبي مرسل أي مؤتمن ومبلغ ، والمبلغ لا يتقوّل وإنما يوصل ما أُرسل به لا أقل ولا أكثر ، فالله تعالى أبرز الوصف الثاني برسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( وما ينطق عن الهوى ) هذا الذي يقوله لكم ويجاهر به أمامكم ليسن من كلام محمد ولا تصوراً من تصورات محمد ولا تفكيراً من تفكيره ولا شيئاً من هواه ، نحن كما بشر نحب ونكره ويروق لنا أن نوصل الخير إلى من نحب ، وقد نُدخل هذا الخبر اللذيذ أن نلحق الشر بمن نكره ، ومن هنا فالإنسـان العادي إن لم تصحبه عناية الله من جهة ، وإن لم يكن رقيباً عليها فإن هذه العواصف المتضاربة التي تعتري الإنسان لا بد أن تنعكس على سلوكه ، محاباة ومجاملة أو تحاملاً وعنفاً على الأعداء . إلا أن الرسالة شيء آخر ، هناك فاصل حاسم بين الرسالة التي جاءت من خالق الكون لتنظم شؤون الكون إلى آخر عمر الكون وبين تصورات المخلوقين ، نحن فيما يتعلق بتصورات التي عاشت على البشرية وما زالت تعيش ما نزال قانوناً ينسخ قانوناً وشريعة تنهي شريعة واتجاهاً يدمدم على اتجاه ، ما معنى هذا ؟ الناس هم الناس ، الإنسان رأسه في أعلاه ورجلاه في أسفله ، لم يتحول ويمشي على رأسه ويفكر برجليه ، والإنسان يمشي رجليه لم يتحول ليمشي على أربع ، منذ أن خلق الله سيدنا آدم الإنسان لم يغير شيئاً في جوهره ، والملكات النفسية والأشواق الروحية والتصورات العقلية هي نفسها ، فإذا كان المخلوق البشري هو نفسه منذ أن خلقه الله فما الذي يبرر اختلاف النظم من وقت إلى وقت ، من جيل إلى جيل ومن زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان . الذي يبرر هذا فعلاً هو أن الإنسان إن لم يكن مرتبطاً بوحي الله جل وعلا يفيء إليه حين تختلط عليه السبل والطرق فإنه سوف يتأثر لا محالة بهذه النوازع التي توجدها في داخله الظروف والأحوال التي يعيش فيها .
لو أننا تركنا الناس يفكرون لأنفسهم فالإنسان يحب ذاته ويحب قريبه وأصدقائه ، والإنسان يكره أعداءه ويريد أن يلحق الضرر بهؤلاء الذين ألحقوا به الأضرار ، فساحة الحياة حين تُترك بين يدي الإنسان لن تكون أقل من ساحة حرب أو ساحة وحوش ولن تكون النتيجة أقل من مجازر هنا وهناك . التفتوا إلى الماضي البعيد أو القريب في التاريخ كله فأنتم تعثرون على النتائج الوخيمة التي وقعت فيها البشرية من وراء احتكامها إلى تصوراتها وأهوائها ومن وراء نبذها لكلام الله تعالى .
فالرسالة جوهرها الأساسي وهي تعرض الآن على المكيين المكذبين لتحدث تغييراً جوهرياً في حياتهم وحياة المجتمع البشري تعزل منذ بداية الطريق عاطفة الرسول وهواه ورغبته عن حقائقها النازلة وحياً من الله جل وعلا . الرسول صلى الله عليه وسلم يقول إنه يغضب كما يغضب البشر فإذا حدّث الناس عن شيء من شؤون دنياهم أنتم أعلم بشئون دنياكم . أنتم تستطيعون أن تفلحوا وتزرعوا ، وبالتأكيد أي إنسان من المسلمين في ذلك الزمان كان يعرف من أمور الزراعة أكثر مما يعرف محمد صلى الله عليه وسلم ، جاء مرة في المدينة فوجدهم يلقحون النخل ، قال : ما تفعلون ؟ قالوا : نلقح النخل . قال : ما أظن أن هذا يغني شيئاً . هذا رأيه ، لو لم تلقح النخلة لأثمرت ، هذا ما تصوره الرسول صلى الله عليه وسلم ، فترك المسلمون التلقيح ، فجاء التمر غير كامل النضج . فلما رأى ما رأى صلى الله عليه وسلم قال لهم : ما حدثتم عن أمر دنياكم فأنتم أعلم بشئون دنياكم ، وما حدثكم عن الله فإني لا أكذب على الله . فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يتقوّل ولا يقول من عنده شيئاً ، والله تعالى يخرج هذه القضية مخرج التهديد المرعب لرسول صلى الله عليه وسلم فيقول ( ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ، ثم لقطعنا منه الوتين ، فما منكم من أحد عنه حاجزين ) مسألة التقوّل على الله غير واردة في سلوك الأنبياء .
نحن المسلمين يتكرر فشلنا ، لماذا ؟ لأننا لم نملك بعدُ القدرة الضرورية على أن نعزل عواطفنا وأهواءنا عن ميدان الدعوة . الدعوة توجه إلى العدو والصديق بمنتهى اللطف والرغبة في أن يأذن الله جل وعلا لهؤلاء الناس أن تتفتح مغاليق قلوبهم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعث علياً إلـى اليمن أوصاه : لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت . فالمهم أن يهتدي الناس ، وليس أن نتشفى من الناس . والمهم أن يتعرّف الناس على طريق الله وليس أن نسفك دماء الناس . ولهذا فهذه القضية عرضت بهذا الإيجاز ( وما ينطق عن الهوى ) شخصه معزول ، رغباته معزولة عن المجال الوحي ثم يصف هذا الكلام ( إن هو ) بهذه الصياغة التي تدل على أشد النفي والإبعاد ( إن هو إلا وحي يوحى ) هذا الكلام إذاً وحي من الله ، والوحي عرضنا قبل اليوم في ما مضى ، لكن هذا الوحي حينما يتحدث عنه القرآن في هذه السورة يأتي الحديث مقروناً أو مشحوناً بما يلمح إلى ادعاءات المشركين ، نحن نقتطع من القرآن شريحة ، هذه الشريحة ليست شيئاً جامداً وإنما هي تعبر عن واقع المعاش عن فترة زمنية عاشتها الدعوة المحمدية ، عن أناس تحركوا خلالها وانفعلوا بأحداثها وتركوا بصمات عليها ، هذه الشريحة لا يمكن أن تكون موعظة معزولة عن الواقع ، ولكنها كلام يتصل بالواقع ولكنه اتصال الذي يحتاج إلى الذهن اللماح الذي يستطيع أن يدرك نوعية هذه الصلات ، قال المشركون إن محمداً صلى الله عليه وسلم يتسقط الأخبار والأحاديث من الذين يعرفون أخبار الفرس والروم أو من أهل الكتاب ، فجاء الكلام بأنه ( علمه شديد القوى ) وإنما هو من طريق جبريل عليه السلام ، طريق الملك الذي هو الصلة بين الله جل وعلا وبين من اصطفاه تبارك وتعالى لأداء الرسالة . هذا الملك ربما يقع في تصور الناس أنه مخلوق كنحن ولا غرابة ، فالإنسان في تصوراته محكوم بواقعه ، بحالته التي هو فيها بشرائط الدنيا ، ولهذا فنحن حينما نستعرض الساحة الدينية في العالم القديم نجد أن الأمم القديمة الوثنية حينما نحتت أصناماً آلهة نحتتها علـى شـكل الآدميين ، جسم إنسان ربما يزيد فيه ذنب سمكة أو أجنحة لكي يشيروا إلى تمييزه عن الناس ، ولنه على الجملة وفي الأساس على التصور البشري جاء ، فالإنسان لا يستطيع أن يتصور المغيبات إلا انطلاقاً من ذاته وشخصه ومن معطيات هذه الذات فقط ، فالإنسان قد يتصور الله على صورة إنسان وهذا خطأ ، وقد يتصور جبريل على صورة البشر وهذا خطأ ، والبشر يخضعون إلى هذه الحالات من الضعف كل هذا خطأ ، وإنما هو شديد القوى ، هذا الملك قوي على أمر الله جل وعلا لا تحيط به عقولكم ، لأن أبصاركم لا تدركه .
( ذو مرة فاستوى ، وهو بالأفق الأعلى ) أي أن جبريل عليه السلام قوي مستوٍ بالأفق الأعلى حينما جاء إلى محمد صلى الله عله وسلم بهذه الرسالة ، حينما نضع هذه الآية إلى جانب الآية الماضية ( وما ينطق عن الهوى ) تكتمل صورة التفريق بين ما يريد الإنسان وما يريده الله جل وعلا ، أولاً : طبيعة الوحي أنه معزول عن رغبات البشر ، ثانياً : الذي يحمل كلام الله مخلوق مستوٍ في أفق السماء ، والموحى إليه هو محمد صلى الله عليه وسلم البشر الذي تختلف طبيعته عن طبيعة جبريل . فترون القضية متشابكة .
( ثم دنى فتدلى ، فكان قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى إلى عبده ما أوحى ) أي أوحى جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) هنا نصل إلى نهاية السورة تقريباً التي صورت قضية الوحي ، أبرزتها للمؤمنين كي يزدادوا إيماناً إلى إيمانهم ، وقربتها للمشركين لكي يفيئوا إلى أمر الله ولكي يدركوا أن القضية على خلاف ما يتصورون كما وقع في أخيلتهم وأذهانهم ، وإنما هي عملية قادر مقتدر رتبها الله جل وعلا لتكون بلاغه الأخير إلى الناس .
حينما تصل الآيات في التشخيص والتصوير هذا الحد يلتفت الخطاب لا إلى أحد ، وإنما يُترك مطلقاً ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) ليس ضرورياً أن يوجه هذا الخطاب إلى المشركين ، وليس ضرورياً أن يوجه إلى محمد صلى الله عليه وسلم ولا إلى المسلمين ، إن القضية عُرضت بمبرراتها الكاملة ، وعُرضت بحججها الحسية والعقلية ، فإذاً تُركت القضية مجردة ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) إن قلب محمد صلى الله عليه وسلم بما وقع به من تصديق لأمر الله جل وعلا لم يكن كاذباً ولم يكن زائغاً ، وإذا كان الأمر كذلك فسينصب الخطاب إلـى المشـركين ( أفتمارونه على ما يرى ) أتكذبونه بهذا الشيء الذي رآه ، إننا أمام شـخصين مثلاً : شخص يتمتع بقدرة بصرية خارقة ، وشخص آخر ضعيف البصر ، الذي يتمتع بالقدرة البصرية الكاملة قد يرى الشخص يتحرك على بعد عدد كبير من الأمتار ، والذي يتمتع ببصر ضعيف لا بد أن تناوله الشيء مناولة ، حينما يقول صاحب البصر الممتد : أنا أرى من الجانب الثاني من النهر خيال شخص ، يأتي صاحب البصر الضعيف ويقول له : لا . نقول له يا هذا الزم حدك . إن المجال ليس مجالك ، هـذا يرى وأنت لا ترى ، والأعمى ليس حجة على المبصر ، فما دام الأمر كذلك وما دام محمد صلى الله عليه وسلم رأى من أمر ربه ما رأى واطمأن إلـى ما رآه وكان بشـهادتكم صادقاً فيما يقول فلماذا تكذبونه فيما رآه ؟ ( أفتمارونه على ما يرى ) .
( ولقد رآه نزلة أخرى ، عند سدرة المنتهى ) هنا جاء الحديث عن الإسراء والمعراج ، لأن محمد صلى الله عليه وسلم لم يرَ جبريل عليه السلام على صورته الحقيقية التي خلقه الله عليها إلا مرتين ، مرة وهو في حراء ، ومرة في المعراج ، أول ما جاء إليه الوحي وبعد أن فتر قليلاً وذهب محمد صلى الله عليه وسلم ليتردى من الجبال حزناً على هذا الوحي الذي فتر عنه تبدى له جبريل عليه السلام ، ناداه : يا محمد ، قال : فالتفت يميناً فلم أرَ شيئاً ، والتفت شمالاً فلم أرَ شيئاً ، وأمامي وخلفي فلم أرَ شيئاً ، فتكرر النداء فرفعت طرفي إلى السماء فإذا جبريل ساد بجناحيه أفق السماء ، فجفلت رعباً ، فطمأنه جبريل عليه السلام وقال له : أنا جبريل وأنت رسول الله . هذه هي المرة الأولى ، والمرة الثانية التي أشار إليها القرآن بهذه السورة ( ولقد رآه نزلة أخرى ، عند سدرة المنتهى ) في الرحلة العجيبة في الإسراء التي أُسري به من مكة إلى بيت المقدس وعُرج به إلى السماء إلى حيث ينتهي كل مخلوق ، إلى سدرة المنتهى التي لا يعرف وصفها إلا الله جل وعلا ، هناك أيضاً رأى الرسول صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام بصورته التي خلقه الله عليها ، قال : لقد رأيته وله ستمائة جناح . الرسـول صلى الله عليه وسلم رأى جبريل مرتين ، أما المرة الأولى فمفهوم أن يشار إليها ، وأما المرة الثانية فما مبرر الإشارة إليها ؟ من هذه الزاوية الضيقة ولكن ليس لنا غيرها نستطيع أن ندخل إلى تأطير فاتحة السورة في هذا الجو المكي المبكر ، إن الكلام ينصب على أمين الوحي فهو جبريل وهو القوي والأمين وهو الذي رآه في الأفق الأعلى ثم رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى وذلك في حادثة الإسراء والمعراج ، فالإشارة إلى ما كان في الإسراء والمعراج ليست مقصودة بالذات وإنما هي مقصودة تبعاً لكي تزيد من الظلال التي توقع القناعة في النفوس بقوة أمين الوحي وبقدرته على إبلاغ كلام الله جل وعلا إلى الناس ، خذ إليك ما شرحناه الآن تجد أن فاتحة السورة من أولها إلى الحد الذي انتهينا إليه يتحدث عن موضوع النبوة . وموضوع النبوة من الموضوعات المبكرة في الدعوة ، بل لعل موضوع النبوة أسبق الموضوعات جميعاً التي أثارها المشركون في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هنا دخلت فاتحة السورة بإشارتها إلى ما حدث في الإسراء والمعراج دخلت في جسم السورة دخولاً طبيعياً أنيقاً هيناً ليناً معجباً معجزاً ، وهذا هو الذي يجب أن يلتفت إليه دارس القرآن . القرآن نزل ليخاطب جملة الملكات الإنسانية ، ليس فقط يخاطب عقلك ، ولكن يخاطب عقلك وما فيه من مقاييس ، ويخاطب معارفك ومعلوماتك وما تستدعيه أنت من خزانة ذاكرة وأنت تقرأ الكتاب ، ويخاطب أحاسيسك ومشاعرك ، ويخاطب قلبك أي يخاطب الكينونة البشرية بكل ما فيها من قوى ومواهب وإمكانات وحوافز ودوافع ، فالإنسان الذي يقرأ القرآن إذا لم يكن مقبلاً عليه بكل ما فيه من طاقة وقوى وإمكانات لا يمكن بتاتاً أن يفيد من هذا الكلام الإلهي إلا كما يفيد الإنسان الذي يمر فيسمع لغواً من لغو الحديث لا أكثر ولا أقل . فاتقوا الله في قرآنكم ، واقرأوه كما ينبغي لكم أن تقرأوه ، وثقة أحدثكم ـ وهذا من التحدث بنعمة الله جل وعلا ـ أنا الآن في الخمسين من العمر ، وما أعرف بين أصحابي من حصل من العلم ما حصلت ، عمري كله دراسة ، كنت أقرأ القرآن وأنا طفل ، وقرأته بعد ذلك في الليل والنهار ، وأشهد صادقاٌ غير متواضع تواضعاً زائفاً أنني أقرأ القرآن اليوم على غير ما كنت أقرأه من قبل ، وأنني في السنتين أو الثلاثة الأخيرة أصبحت أذوق للقرآن طعماً حينما أتذكر أيامي الماضيات أشعر بالمرارة في حلقي ، لماذا لم أذق هذا الطعم قبل اليوم ؟ لماذا لم أُدرك هذا العالم قبل اليوم ؟ قدّر الله وما شاء فعل ، وها نحن نعيش مع القرآن عيشة من يتطفل على مائدة القرآن ، فاقرأوه إذاً بهذا الشكل . إذا كنتم تريدون أن تستفيدوا من هذا القرآن المعجز وإلا فدعوه ، إنه لن يغني عنكم شيئاً ، لأنه لن يزكي لكم نفساً ولن يقوّم لكم سلوكاً ، وإنما الذي يستفيد من القرآن هو من يعطي كله للقرآن . فعيشوا مع القرآن بكليتكم ثم انتظروا بعد ذلك مدد ربكم جل وعلا فسيفتح عليكم ، والإنسان حينما يلتجئ إلى الله يفتح الله له منافذ من العلم ما كانت تخطر له من بال .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، والحمد لله رب العالمين.