تفسير سورة(الليل)
12 / 11 / 1976
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
فلقد فرغنا بفضل الله تعالى وتوفيقه من الكلام عن السورة الثامنة في سياق تنزيل الكتاب الكريم ، وهي سورة ( الأعلى ) ، ونقف اليوم مستمدين العون والتوفيق من الله جل وعلا مع السورة التاسعة في سياق التنزيل وهي سورة ( الليل ) . ولقد كان لنا فيما مضى منهج واضح في دراسة هذه السور الثمانية ، نحن راضون عنه كل الرضى من حيث الجوهر ، ولكني أشعر أن متابعة الكلام على جانب من السور المكية على ذات النهج الذي مضى سيكون شوطاً طويلاً جداً ، قد تفنى فيه الأعمار وتستهلك القوى ، وأنا أريد أن يتوفر للإخوة ضوء يكفي للتعرّف على حقائق الحركة الإسلامية في عهدها المبكر ، وأريد لهذا الضوء أن يتوفر للإخوة بأسرع ما يمكن ، ولعلي لو استطعت لصببت للناس ذلك كله مرة واحدة ، وما ذلك بممكن ، من أجل هذا أرى لزاماً علي لا أن أغير في حقائق المنهج ولكن في أسلوبه ، فبدلاً من التوقف الطويل عند الدقائق والتفاصيل سنمر على هذه التفاصيل مراً سريعاً ، وسنولي الأشياء الهامة مزيداً من العناية .
أنا أعرف تماماً أن هذه الطريقة ستجني على أمور كثيرة ، بل لعلها سوف تنعكس على ذات القضايا التي نحرص على دراستها وإبرازها ، إن القرآن ليس فيه شيء مهم وشيء غير مهم ، كل ما في القرآن مهم ، وما أشار الله إليه في الكتاب من تفصيلات صغيرة فهذه الإشارة لا تعني عدم الأهمية بالنسبة إلى هذه التفاصيل ، إن هذه التفاصيل الصغيرة فيما يبدو للناس أشبه ما تكون في الملاط ( الإسمنت ) الذي يمسك الحجارة حين البناء ، بغيرها لا يكون البناء بناءً ، بل هو رصف للحجارة بعضها فوق بعض .
ولكني لا أملك إلا أن أضرب صفحاً عن كل هذه التفاصيل ، فكما قلت وأؤكد وأكرر وأريد أن ينغرس هذا عميقاً في قلوب الإخوة وفي عقولهم ، إن الأيام القادمة تحمل من النذر بالنسبة إلى الإسلام والمسلمين ما لا يعلمه إلا الله تعالى ، وإن من الأكبر الجناية على هذا الإسلام ومن أعظم الإساءة إلى هذه الأمة أن تواجه الأمة أخطاراً جساماً برؤية غير مبصرة ، أو تواجه الأمة هذه الأخطار الجسام وهي مشتتة الرأي موزعة الفكر ، وفي ظني والله أعلم أننا طالما نفتقر إلى رؤية صحيحة وكاملة لصورة الحركة الإسلامية كما قادها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن نستطيع أن نفلح ولن نستطيع أن ننجح ، قد يؤتى أحدنا لساناً ، وقد يكون أحدنا قادراً على اعتلاء المنابر ليحرك عواطف الناس ويستثير فيهم الشجن والأحزان ، ولكن ما فائدة هذا ؟ إذا كنا نقتنع تماماً بأننا في مواجهة صعوبات ، وأننا بحاجة إلى أن نعمل ثم لا ندري ماذا نعمل ، فأية قيمة لهذه المشاعر ؟ لا شيء لا شيء بتاتاً ، بل ربما دفع هذا الجهل بحقيقة الصورة التي قادها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوفر لها النجاح والفلاح قد يدفعنا الجهل بها إلى مغامرات طائشة أشبه ما تكون بالعمليات الانتحارية ، من أجل ذلك ومن أجل أنني قانع تماماً وواثق جداً من أننا مقبلون على أيام شداد وأوقات عصيبة رأيت أن أُعرض عن النهج السابق في تفصيلاته ودقائقه ، لأمسك بالخيوط الأساسية فقط ، عسى أن ننتهي في أقرب وقت ممكن من استجلاء الصورة الحقيقية لدعائم وقواعد وقوانين الحركة الإسلامية .
نحن يا إخوة لا نخدع أحداً ، بنفس القدر الذي لا نرضى فيه أن يخدعنا أحد ، نحن قلنا ونقول إن هذا الربع الأخير من القرن العشرين هو عصر التحرك الإسلامي ، ولعل كثيرين سيغيظهم هذا الكلام فلينشقوا غيظاً ، ولكن هذه البشارة يجب ألا تطمئن العاملين . إن معنى أن يكون الإنسان في غمرة العمل مزيد من الصعوبات ومزيد من المشكلات ومزيد من المتاعب ، قد ترون السجون تضيق بالنزلاء من المسلمين ، وقد ترون الساحات العامة تتدلى عليها جثث الشهداء ، ذلك لا يضر ولا يهم ، تلك هي الطبيعة الأساسية ، وتلك هي السمة البارزة لدعوة الله جلّ وعلا ، إن ساعة النجاح دائماً تسبقها لحظات كارثة ، إن غزوة أُحد التي مُني المسلمون فيها بخسارة فادحة وأصابتهم فيها ضربة موجعة كانت من بعدها الأحزاب ، وعندها قال الرسول عليه الصلاة والسلام : اليوم نغزوهم ولا يغزوننا . ومن بعدها كانت الحديبية ، وظن بعض المسلمين أن تنازلات الرسول صلى الله عليه وآله للمشركين مجحفة وتكشف عن ضعف موقف ، فكان أن أنزل الله على نبيه صلوات الله عليه وهو قافل من الحديبية ( إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ) وانطلق بعد ذلك تيار الإسلام كالإعصار لا يرده شيء ولا يقف في وجهه شيء .
أكرر نحن لا نخدع أحداً فتلك ليست من قيمنا ، كما أننا لا نرضى أبداً أن يخدعنا أي مخلوق ، نحن مقبلون على أيام شداد وعلى أوقات سوداء ، وعدتنا في ذلك اليقين والصبر ، عدتنا في ذلك الاستمساك المطلق بحبل الله المتين ، لكن على هدى وبينة وبصيرة ، وخضوع لهذه العوامل رأيت أن أكتفي بالأمور الهامة في عرض القرآن المكي ، أو عرض جانب منه .
ونواجه الآن تاسعة السور ، وانظروا إلى الخلف ترون أننا في ثمانية من السور القصيرة سلخنا وقتاً طويلاً ، فما بالكم حين تكون سورة كالأعراف من جملة السور المكية التي يجب أن تواجه وأن تدرس . هذه السورة التاسعة هي سورة ( الليل ) سورة تعد من قصار السور تقرأها بسهولة ويسر ( بسم الله الرحمن الرحيم ، والليل إذا يغشى ، والنهار إذا تجلى ، وما خلق الذكر والأنثى ، إن سعيكم لشتى ، فأما من أعطى واتقى ، وصدق بالحسنى ، فسنيسره لليسرى ، وأما من بخل واستغنى ، وكذب بالحسنى ، فسنيسره للعسرى ، وما يغني عنه ماله إذا تردى ، إن علينا للهدى ، وإن لنا للآخرة والأولى ، فأنذرتكم ناراً تلظى ، لا يصلاها إلا الأشقى .. ) هذه السورة ، لو سألتم أنفسكم : كم من المرات قرأتموها ؟ لأعياكم العد والإحصاء ، ومع ذلك تعالوا ندقق النظر لتروا أنكم تظلمون قرآنكم حينما تدعون أنكم تقرأون هذا القرآن ، لقد فرق الله جل وعلا بين صنفين من القارئين ، الذين يتدبرون آيات الله ، والذين لا يتدبرونه ، فقال جلّ من قائل ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) بعض القلوب كالمقفلة ، عليها رتاج غليظ سميك ، وبعض القلوب تعي وتفقه وتدرك وتفهم ، والله نسأل أن يفتح قلوبنا وإياكم لفهم كتابه الكريم وتدبر آياته البينات .
ارجعوا بأذهانكم إلى ما سبق أن عرضناه في الأسبوع الماضي من أواخر سورة ( الأعلى ) ترون أن الله سبحانه وتعالى امتدح صنفاً من الناس ، ذلك الصنف الذي يزكي نفسه ، يبذل مجهوداً صادقاً ومخلصاً من أجل أن ينفتح قلبه للفهم والتدبر ، ومن أجل أن تُشحذ عزيمته للعمل والإنتاج والإنجاز ، وعرض الله تعالى في آخر السورة لأهم الأسباب أو للسبب الرئيسي الذي يصد الناس عن الهدى وهو انغماسهم في الدنيا وانكبابهم على الشهوات فقال جل وعلا ( بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى ) بعد أن سبق أن قال لهم ( قد أفلح من تزكى ، وذكر اسم ربه فصلى ) بعد هذه الخاتمة التي عرضت لهذا المجهود الذي يطلب من الإنسان المسلم أن يبذله في صميمه وفي داخله كي يغيّر من بنائه النفسي والعقلي والشعوري تأتي هذه السورة لتضرب على ذات الوتر ولكن من زوايا أخرى ، اسمع ، فُتحت السورة بالقسم ( والليل إذا يغشى ، والنهار إذا تجلى ، وما خلق الذكر والأنثى ، إن سعيكم لشتى ) ويقتضي أن نقول كلاماً بسيطاً لنعرف حكمة القسم ، لماذا يقسم الإنسان ؟ معلوم هنا أن الله جل وعلا يقسم بالليل وبتغشيته وبتغطيته بظلامه على الأكوان ، ويقسم بالنور حين يشع وحين يشرق نور النهار ( والنهار إذا تجلى ) ويقسم بخلقة الإنسان وقسمته إلى ذكر وأنثى ، يقسم على أن سعي الناس شتى ، وشتى جمع شتيت وهو المتفرق والمختلف ، حينما تقول : والله العظيم سوف أفعل كذا ، أو لن أفعل كذا ، فماذا تريد ؟ ماذا تقصد بالقسم ؟ دع عنك الكف أو الفعل ، لكن لماذا جئتَ بهذه الصيغة صيغة القسم ، إنك طبعاً تعظم الله وترى أنه أعظم من كل عظيم وأكبر من كل كبير ، ولأن الله تعالى بهذه المثابة من العظمة والكبرياء ومن المهابة في قلوب عباده ، فجعله جل وعلا حاجزاً وحائلاً وقاسماً بين الإنسان وبين الفعل أو الترك مشعر بأن الإقدام على الأمر الذي حلفتَ عليه يتضمن انتهاك حرمة هذا العظيم الذي حلفتَ به .........
انقطع الشريط قليلاً ..............................................................
من الفعل ( قَسَمَ ) وهي تدل على الفصل والتمييز ، فالقسم مأخوذ من تمييزه بين الفعل والترك ، بين الإقدام والإحجام ، بين المراد وغير المراد ، ومن هنا كان لا يمكن أن يقسم إلا بما هو معظّم وبما هو مقدس ، لأن ما هو معظم ومقدس أدعى إلى أن لا تُنتهك له حرمة ولا يتجاوز الإنسان ما يقتضي له من إجلال .
فأول ما يجب أن تعرفوه عن القسم بقطع النظر عن بقية تفصيلات القسم في فقه اللغة العربية هو أنه لا يُقسم إلا بشيء ذي أهمية ، ما لم يكن الشيء ذا أهمية فالقسم عبث . إذا نظرنا تحت هذا الضوء ومن هذا المنظار إلى القسم الوارد هنا وجدنا الله تعالى يقسم بالليل والنهار ويقسم بعجائب الخلق في الذكر والأنثى ، ويقسم على أمر عظيم ، فهل الليل والنهار وخلقة الإنسان على النحو الذي خُلق عليه شيء له كل هذه العظمة وهذه الجلالة ؟ نقول : نعم . ونقول نعم مع تحفظنا بأن عظمة هذه الأشياء ليست عظمة ذاتية ، وإنما هي عظيمة من حيث أنها تؤدي وتقود إلى معرفة العظيم جل وعلا ، فحينما نلحظ تعاقب الليل والنهار يتعاوران على الدنيا مذ كانت الدنيا على هذا النحو من الانتظام والتناسق ، وحينما ننظر في خلق الإنسان ونجد أن النطفة تستقر في رحم الأنثى قابلة لأن تكون ذكراً أو تكون أنثى ، ثم ننظر في الدنيا فنرى منذ وُجدت إلى الآن ميزان الذكورة والأنوثة يتعادل أو يقرب من التعادل دون أن يكون ثمة طغيان للذكران على الإناث ولا للإناث على الذكران ، وإذا نظرنا إلى الليل والنهار ونغلق بابة والنهار من بابة أخرى ، وإذا نظر إلى الإنسان ذكراً وأنثى ، والذكر من بابة ، والأنثى من بابة أخرى ، قد نشعر بشيء من الفوضى في هذا الكون ، ولكن الله تعالى يلفتك إلى هذا التناسق المنبثق من قلب هذه الفوضى أو هذا الاختلاف ، لا نسميه فوضى ولكن اختلاف ، اختلاف الليل والنهار هو الذي يسهل للناس المعايش ، ولولا الليل وما جعل الله منه سباتاً ومثابة للراحة والاستجمام واستعادة النشاط ما قدر الإنسان على مباشرة الأعمال في النهار . ولولا النهار وما جعله الله تعالى ظرفاً للحركة والسعي والكسب والمعاش لكان الإنسان على شرف الهلاك من الجوع لعدم التكسب والاحتراف . ولولا الذكور ما كانت الإناث ، ولولا ما كانت الذكور .
فالاختلاف في ظواهر الكون ، والاختلاف في حقائق الإنسان لا يعني الفوضى ولا يعني التصادم ، وإنما يعني التعاون المثمر المؤدي إلى النتائج التي رسمها الله جلّ وعلا باعتبارها غايات يسعى إليها الناس ويكدحون من أجل الوصول إليها . كذلك بذات الوصف وبنفس المنظور إن الله جلّ وعلا يكشف لنا عن جانب يبدو للناظر السطحي أنه جانب مأساوي مزعج ( إن سعيكم لشتى ) الناس في اضطرابهم في هذه الحياة وكدحهم من أجل المعاش لا تكاد تجدهم يتفقون على طريقة واحدة ، هذا أمين وهذا خائن ، وهذا صادق وهذا كذاب ، وهذا مستقيم وهذا معوج شديد العوج ، وهذا مهتدٍ وهذا ضال ، فمع أن الله جلّ وعلا زوّد الإنسان كل إنسان بطاقات متماثلة مع إخوانه من بني البشر ، مع ذلك فالآثار والنتائج المادية المترتبة على سعي الإنسان في هذه الحياة تبدو متفاوتة ومختلفة . ولا شك أن الإنسان المستقيم يؤذيه أن يرى الانحراف ، وأن الإنسان المتقي يؤذيه أن يرى الشقاوة والفسوق ، وكذلك فالإنسان الفاسق يهينه جداً منظر الإنسان المتقي ، والإنسان الخائن والغشاش يهينه جداً جداً أن يرى الإنسان المستقيم والأمين .
هذا واقع بشري مشهود ، ولكنه واقع سطحي ، انظر أبعد ، انظر أبعد ، لولا السواد ما عرفتَ البياض ، ولولا الليل ما عرفت معنى النهار ، ولولا الهدى ما عرفتَ الضلال ، وتصور حياةً يعيشها الناس نسخاً مكرورة لا تختلف نسخة عن أخرى ، كيف يكون شأنها ؟ إنها ثقيلة ثقيلة مملة شديد الإملال ، ثم هي حياة تسقط فيها المحنة ويُحذف منها الابتلاء والاختبار ، الإنسان وُجد في هذه الدنيا لكي يمر في نار التجربة ، لكي يُمتحن ويُبتلى ، لو كان الناس جميعاً أتقياء فما ثمة داعٍ إلى المحنة بل لا مكان للمحنة ولا مكان للابتلاء . فالإنسان المؤمن الذي يفقه عن الله جلّ وعلا معنى ما يقول لا يؤذيه أن يرى استشراء البغي والظلم ، ولا يؤذيه أن يرى سيادة الفسوق والعصيان ، وإنما الذي يؤذيه حقاً هو أن يشعر داخل نفسه بالانهزام أمام هذه الظواهر المؤذية التي تخدش في ضمير الإنسان .
( إن سعيكم لشتى ) الله جلّ وعلا حينما يعرض هذا فكأنما يحفر لك في الأرض تحت قدميك حفرة عميقة تثبت قدميك على الصراط كي لا تزل ولا تزيغ ، كم من الناس مروا علينا وعليكم .. كانوا أول الأمر أتقياء وكانوا متدينين وكانوا مستقيمين ، ثم رأيتموهم بعد ذلك كأنما خُلقوا خلقاً آخر ، من التدين إلى التفلت ، وأجارك الله من فسوق الإنسان الذي كان متديناً ، إنه يكون أستاذاً في الفسوق ، كم من الناس رأيناهم على هذه الشاكلة ؟ لو ذهبت تتعرف على الأسباب ، لماذا انحرف هذا الإنسان ؟ إن هذا الإنسان لم ينحرف أبداً لأن طبعه منحرف ، فالناس خُلقوا على فطرة واحدة ، والله جلّ وعلا يخبر عن دينه بأنه فطرة الله التي فطر الناس عليها ، ويخبر على لسان نبيه صلوات الله عليه : إني خلقت عبادي كلهم حنفاء . يعني على الفطرة السليمة وعلى الاستعداد الكامل لمعرفة الطريق الحق ، ثم جاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم يعني زحزحتهم عن القواعد التي خلقهم الله جلّ وعلا عليها . حينما تأخذ حالة أو شريحة من المجتمع فاسدة شاذة تتسائل ؟ لماذا فسق هذا الأخ ؟ لماذا فسدت هذه الطائفة من الناس ؟ ستجد أنهم تعبوا من الطريق ، إن الاستقامة تكاليف ، يتوهم كثيراً من يظن التقوى تمرة يأكلها أو جرعة ماء يشربها ، صعب ، الاستقامة تكاليف ومشقة ، ومع ذلك فواجب الإنسان أن يظل في غمرة هذا الصراع حتى النهاية ، إلا أن الناس في كثير من الأحيان يرون أن الشر مستطير وأن الناس يأخذون طرائق الفساد ولا يصيبهم شيء ، وأن فلاناً من الناس سرق ونهب وقتل وغش وفعل السبع الموبقات ، ثم هو في أعين الناس مبجل ومعظم ومحترم ، ثم مضى دون أن يصيبه شيء ، أذلك نظر مؤمنين ؟ لا أيها الإخوة ، إنكم لو رجعتم إلى القرآن لوجدتم في القرآن نصاً من أثمن ما تكون النصوص ، إن الله جلّ وعلا يقول ( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة ) يعني سبيلاً واحداً مطبقين على الكفر ( لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون ) إلى آخر ما وعد الله جل وعلا ، ما للكافر عند الله ؟ لا شيء .
إن عمر رضي الله عنه دخل ذات يوم على بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان عليه الصلاة والسلام يضطجع على رمال حصير ، رمال حصير أيها الإخوة هي العقد ، عقد النسج التي تبرز حينما يهترئ الحصير ، ليس حصيراً جديداً مسوى ، ولكنه حصير عتيق ظهرت فيه العجر ، فلما جلس الرسول عليه الصلاة والسلام نظر إليه عمر فرأى في جلده أثر الحصير فبكى ، بكى وبكى بكاء مراً ، قال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك يا ابن الخطاب ؟ قال : يا رسول الله إني نظرت فإذا كسرى وقيصر بالحرير والديباج والأسرة والصولجانات وأنت رسول الله أنظر فلا أرى ما يرد البصر . فطمأنه النبي صلى الله عليه وسلم ، تصوروا الفارق بين النفسيتين ، عمر بالرغم من أنه عملاق ، لو بقيت الدنيا يأخذها المخاض إلى قيام الساعة ما ولدت مثل عمر ، ومع ذلك فالفارق بين عمر وبين محمد كالفارق بين الأرض والسماء ، قال له : يا عمر أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم ، يا عمر ألا يرضيك أن تكون لهم الدنيا وتكون لنا الآخرة ؟ ما شأن المؤمن ؟ لا أسخف ولا أقل ولا أضل عقلاً من ذلك المؤمن الذي يتصور أن معركة الإسلام معركة قوة ؟ ما أسخف الناس ؟ يا حسرة على العباد ، ذلك قصارى المؤمن أن يدخل في صراع يعرف أوله ولا يعرف نهايته ، من أجل القوت ؟ هذا شيء سخيف ، إن كلبين على المزبلة يصطرعان يمثلان هذا الصراع أحسن مما يمثله الإنسان ، كلبان على مزبلة يتهارشان على عظم يمثلان ظاهرة الصراع على القوت بأفضل مما يمثلها الإنسان ، إن المؤمن حينما يتصور أن وظيفته في هذا الوجود أن يسعى نحو مآرب آنية من هذا القبيل يكون قد تخلى عن إيمانه ، هذا الكفر الذي يطبق الأرض ، هذا الفسوق ، هذا العصيان ، هذا التمرد على الله ، أين أنت عنه أيها المؤمن ؟ حينما تفرغ من الصراع في هذه الميادين التي هي ميادينك وبيئتك الوحيدة التي تستطيع أن تتنفس فيها بحرية وبملاءة فتش بعد ذلك عن القوت .
إن محمد عليه الصلاة والسلام حينما هاجر إلى المدينة ما فكر أن يبني لنفسه بيتاً وهو الغريب عن المدينة ، أمر بأن يُبنى المسجد أولاً ، وبني المسجد ، وليست المسألة هنا ، ولكنهم أي أصحاب حين بدأوا يبنون لرسول الله صلى الله عليه وسلم بيتاً قال لهم : لا ترفعوه أكثر من هكذا ، قامة الرجل ومد ذراعه فقط ، وساقفوه بجريد النخل ، وأرادوا على عادة ذلك الزمان أن يطلوا الحيطان بالقفصة يعني بالجص ، فقال لهم : لا ، الشأن أعجل من ذلك . وذات يوم طلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن ينعم نفسه بعض الشيء ، فقال لهم : مالي ولدنيا ، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب في الفلاة استظل بظل شجرة ثم راح وتركها . كذلك شأن المؤمن ، بل المسألة تبلغ في بعض الأحيان حد الأزمة وحد الإحراج ، في يوم من الأيام عملت نساء نبي الله صلى الله عليه وسلم على رسول الله ما يشبه الاعتصاب ، والنساء مذ كن ناقصات عقل ودين ، جئن إليه يطالبنه بالقوت : نحن يا رسول الله لا نأكل كما يأكل الناس ولا نلبس كما يلبس الناس ولا نتوسع كما يتوسع الناس . وأين كان يعيش محمد وأين كانت تعيش أمهات المؤمنين ، أوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اعتزل عنهن شهراً كاملاً ، لم يطرق واحدة منهن أبداً ، ثم نزل من السماء أمر الله لنساء نبيه بالتخيير ( إن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً ، وإن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً ) إن هذه الظاهرة هي التي يجب ألا تغيب عن بال المؤمن ، وأنا ألح عليها وأركز ، ألح عليها لكي أطرد من نفوس الإخوة تصورات انطبعت في أذهانهم من جراء معايشتهم لأفكار اليوم وأعراف اليوم ، إنكم أبناء عالم مغاير لهذا العالم ، اعرفوا هذه الحقيقة ، حينما تنطلقون من النقط الحضارية القائمة الآن فثقوا أنكم فاشلون ولا يمكنكم أن تنجحوا بتاتاً ، ولكنكم حينا تنطلقون من النقاط الإيمانية البحتة فأنتم واصلون بإذن الله ، ولن تقوى قوة في الأرض أبداً على أن توهنكم أو تحطمكم .
هذا الذي تراه أيها المؤمن لشتيت السعي بين الناس ومن اختلاف أمزجة الناس ومن إعراض البعض وإقبال البعض ، ينبغي ألا يزعجك ، وهي ظاهرة كما ترون عظيمة تستحق القسم الذي بدأه جلّ وعلا في هذه السورة ( والليل إذا يغشى ، والنهار إذا تجلى ، وما خلق الذكر والأنثى ، إن سعيكم لشتى ) مع أن السعي مختلف والاختلاف لا يمكن حصره ، لكنا نستطيع في ضوء القرآن الكريم أن نصنف الناس عموماً تحت ضنفين فقط ( فأما من أعطى واتقى ، وصدق بالحسنى ، فسنيسره لليسرى ) هذا هو الصنف الأول ( وأما من بخل واستغنى ، وكذب بالحسنى ، فسنيسره للعسرى ، وما يغني عنه ماله إذا تردى ) حينما ندقق في الآية في صياغتها نجد أن هذه الآية تلامس نفس الأوتار التي لمستها السورة الماضية ، العلة في اختلاف الناس إلى هذين الصنفين الرئيسين الأساسيين ، حب الدنيا والانغماس فيها ، أو عدم حبها والتخفف منها ، فالصنف الأول ذلك الصنف الذي أعطى واتقى وصدق بالحسنى ، والحسنى هي وصف هذه الرسالة هذه الشريعة هذا الإسلام ، فهذا بما أفاء الله من نعمة اليقين والطمأنينة القلبية سيأخذ الله بناصيته إلى طريق الخير فيكون من المهتدين . وأما الصنف الآخر وهو الذي بخل ، كزّت يده ، ثم واستغنى ، ونحن لو رجعنا إلى السور التي سبق لنا أن عرضناها لوجدنا الله جلّ وعلا في عدد من المواطن أبرز ظاهرة الاستغناء ، فالاستغناء ليس فقط من كثرة المال ، قد يكون من المال وقد يكون من غير المال ، الإنسان في سلطانه يشعر أنه غني عن الناس ، وغني عن كل شيء ، والإنسان في عنفوان ثروته يشعر أنه أن يستطيع أن يشتري بماله السعادة لنفسه ، فهو مستغنٍ عن الناس وعن رب الناس ، والإنسان حينما يكون ذا حشم وخدم وأتباع وعشيرة وما أشبه ذلك يشعر بأنه عزيز ، فالاستغناء من الخطأ أن نفهم أنه متولد عن المال فقط ، ولكن المال عنصر أساسي بل هو العنصر الأول في بروز ظاهرة الاستغناء ، لاحظ إنك تجد إنساناً لا عشيرة له ولا حمولة وليس له جاه ولا سلطان ، فجأة يغتني ويكون ذا ثروة وذا مال ، إنك برغم ما تراه عليه من تواضع وطيبة لا تخطئ عينك هذه الصلافة الغليظة التي تكون فيه ، إن هذه الصلافة وهذه الجلافة مظهر أولي من مظاهر الاستغناء ، فإذا أضيف إلى المال عوامل أخرى كان الاستغناء خطراً مدمراً ، لأنه يصرف الإنسان عن الله جلّ وعلا .
ما الذي يقربك إلى الله ؟ شعورك أنك فقير إلى الله ( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد ) ما لم تكن شاعراً شعوراً صادقاً لفقرك المطلق إلى الله تعالى فسوف تظل بعيداً عن حضرة الله جلّ وعلا ، فهذا الذي بخل فلم ينفق في الحقوق ، واستغنى وشعر أنه بغير حاجة إلى هذه الدعوة ، لديه من أسباب الحياة والطمأنينة والرفاه ما يكفي ويزيد ، هذا فقد طريق الهداية ( وأما من بخل واستغنى ، وكذب بالحسنى ، فسنيسره للعسرى ) ولو أنكم ذهبتم تستعرضون دعوة محمد صلى الله عليه وسلم ودعوات الأنبياء من قبله لوجدتم أن الرؤوس التي تنطحت للدعوات وخاصمت النبيين هم المترفون والأغنياء وأصحاب الأموال ، مفروض في أصحاب الأموال أنهم يخشون على أنفسهم ، جبناء ، لا تصدق أن هناك غنياً يتمتع بالشجاعة إلا من عصم الله ، الغني الحريص على ماله جبان ، والدعوات تكاليف ، والتكاليف تقتضي شجاعة ، وأول مظاهر الشجاعة الانخلاع من المال ، وهذا يتصور أن ينخلع من حياته كلها ولا ينخلع من ماله ، ولهذا نص الله عليه في هذه الآية ( وأما من بخل واستغنى ، وكذب بالحسنى ) الذين ناصبوا محمد عليه السلام العداء كانوا سادة قريش وكانوا أغنياء قريش الذين يمسكون بزمام الثروة ويحركون قوافل التجارة .
( فسنيسره للعسرى ) والعسرى هنا هي العذاب المؤلم الذي أعده الله للكافرين ( وما يغني عنه ماله إذا تردى ) في الواقع هذا الإنسان عجيب ، إن الله نصب لهذا الإنسان من الآيات والدلائل ما يلفت نظر الحمار ، حتى الحمار يلفت نظره ، ويحك ، قبلك ألم يكن أغنياء ؟ بلى ، مئات وآلاف وملايين ومليارات ، كانوا أغنياء ماذا أخذوا معهم ؟ حينما دلوا في الحفرة كل ما أخذوه من الدنيا بضعة أشبار من القماش الرخيص التافه ، ثم مضى وانتهى كل شيء ، وأصبح المال للوارث قد ينفق منه وهو يلعنك ، فلماذا إذاً هذا الحرص ؟ مالك لا يغني عنك إذا ترديت في نار جهنم ، أنت تتركه هنا وتقابل مصيرك المؤلم ، ولكن الإنسان قلّما يرعوي ، قلّما يفيد من التجربة ، والأمر كذلك .
( وما يغني عنه ماله إذا تردى ) إلى هنا يكون الشرح الذي عرضه الله جلّ كاملاً ، ولكن هل انتهى الأمر عند هذا الحد ؟ نحن أمام واقع تاريخي ، ونحن حين أخذنا أنفسنا بدراسة المرحلة المكية أخذناها بهدف اكتشاف المعالم البارزة في هذا الواقع التاريخي ، إن المسلمين الذين آمنوا برسول الله بشر آدميون مثلنا ، فيهم كما فينا نوازع ، وفيهم كما فينا عواطف ، يتألمون وينزعجون ، ولكن الله جلّ ما ربط دعوته بعواطف الناس ، ولو أن دعوات الله جلّ وعلا كانت طوع عواطف الناس لتحطمت منذ زمن آدم ومنذ زمن نوح . إن الدعوة كما يجب أن يُفهم بلا لبس وبلا إبهام وبلا غمغمة ومداورة شيء مفصول عن الناس ، قد يكون الناس فاسدين أو صالحين هذا شيء لا يؤثر على الدعوة في كثير ولا قليل . قاعدة الدعوة هي قاعدتهم من شاء أن يتأقلم معها فليصف قدميه على الطريق ، ومن أراد أن يأخذ ذات اليمين أو ذات الشمال فليكن أي شيء يريد ولكنه لن يكون مسلماً بحال من الأحوال ، إن الله جلّ وعلا بعد أن عرض هذا التشتت في مساع الناس ومواقف الناس وربطه بالظاهرة الكونية وجعله دليلاً على وجوده وقدرته جلّ وعلا أبان للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين إلى آخر الزمان بأسلوب لا نظير له أبداً ، نحن سمع الله جلّ وعلا في مواطن عديدة من القرآن يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم يقول له ( إن عليك إلا البلاغ ) ( فذكر إنما أنت مذكر ) ( وما أنت عليهم بمسيطر ) ( وما أنت عليهم بجبار ) فيسند الخطاب إلى من ؟ إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ، لكن الإعجاز هنا والغرابة أن الخطاب أُسند إلى الذات العلية إلى الله جلاّ وعلا ( إن علينا للهدى ) الله جلّ وعلا قادر على أن يجعل الناس يؤمنون جميعاً وفي لحظة واحدة ، ومع ذلك فالله جلّ وعلا يقول ( إن علينا للهدى ) يعني على الله جلّ وعلا أن يبذل للناس أسباب الهدى ، وأما أن يهتدوا أو لا يهتدوا فذلك مردود إلى سابق علم الله جلّ وعلا ، ومردود إلى المجهود الذي يبذله الإنسان من أجل التفاعل مع هذا الهدى .
تصوروا لو أن الله قال بدل ( إن علينا للهدى ) لو قال : إن علينا للهداية ، لكان حتماً أن يتهدي الناس جميعاً ، لأن الهداية غير الهدى ، لو تكفل بهداية لأوصل كل إنسان إلى طريقه جلّ وعلا ، ولكنه قال ( إن علينا للهدى ) أي على الله جلّ وعلا فقط أن يبذل لك أيها الإنسان أسباب الهداية ، فحينما ترى أيها العبد المؤمن أن الله جلّ وعلا لا يتعهد إلا بأن يعطيك أسباب الهداية ، أفأنت أن تكون على الناس جباراً ؟ أفأنت تريد أن تكون على الناس مسيطراً ؟ أفأنت تريد أن تكون عليهم قهاراً ؟ لا يا أخي ، ما عليك إلا أن تبلغ وأن تذكر وأن تنذر وأن تبين ضمن حدود وشرائط التذكير والبلاغ ، ولكي لا يكون في الكلام أي إبهام فأنا أعني بذلك حرفياً أن الذي يدعو إلى الله جلّ وعلا عليه أن يكون بكلمة جامعة قرآناً يتحرك ، زهادة عن الدنيا وإعراضاً عن الخلق ورجاءً بالله جلّ وعلا وإخلاصاً والتصاقاً بهذا الدين وعدم التفات إلى أي شيء سواه .. حينما توفر لدينا الأنموذجات التي من هذا القبيل فإن شخصاً واحداً أستطيع أن أطرحه بين ملايين وأنا واثق أنه قادر على أن يحول اتجاه هذه الملايين . أما أن نقوم دعاةً إلى الله جلّ وعلا في هذا الزمان العضوض ونحن لا نفترق عن الناس لا سلوكاً ولا تذكيراً ولا مشاعر ولا ولا ، فذلك هو الفشل وذلك هو الخسران المبين .
الله جلّ وعلا قال ( إن علينا للهدى ) وواجب التأدب مع الله جلّ وعلا ومع هذه الشريعة ألا نكون ملكيين أكثر من الملك ، نحن نريد للإنسان المسلم أن يكون داعية إلى الله ، رسول محبة ، رسول سلام ، لا سفّاكاً ولا قاتلاً ولا إرهابياً ولا شيء من هذا القبيل ، وإنما نريده داعيةً حقاً ، حينما يكون داعية حقاً إلى الله فليعلم أن الله جلّ وعلا سيضع بين يديه أزمة القلوب جميعاً ، وأما بغير هذه الطريقة فلا فائدة ( إن علينا للهدى ) .
( فأنذرتكم ناراً تلظى ، لا يصلاها إلا الأشقى ، ويجنبها الأتقى ، الذي يؤتي ماله يتزكى ، وما لأحد عنده من نعمة تجزى ، إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ) أحسب أنني أطلت عليكم بعض الشيء ، والحقيقة مهما بلغ بكم الأذى فأنا متأذٍ أكثر منكم ، كنت أتمنى أن أواجه هذه السورة بحالة صحية أفضل ، لكن شاء الله ذلك ، أريد أن أنتهي من السورة كما قلت ، لن أطيل الوقوف عند التفصيلات .
هذه الظاهرة تصادفنا لأول مرة ، في السور الثمانية التي مرت واجهنا بعض الظواهر وبعض الإشارات التي تشير إلى التزكي والتزكية والبذل وما أشبه ذلك ، ولكن بهذا الشكل وبهذا التركيز وبهذا السياق هذه أول مرة نواجه ذلك . بعد أن أنذر الله جلّ وعلا المكذبين ناراً تلظى وبيّن أنه سيصلاها الأشقى بيّن أنه سيجنبها أي سيبعد عن هذه النار الأتقى ، من هو الأتقى ؟ ولاحظوا أن الأتقى صيغة مبالغة للتقي ، أي أنه التقي الذي بلغ في التقوى ذروتها وغايتها ، قال ( الذي يؤتي ماله ) يعطيه ( يتزكى ) وكلمة يتزكى فعل وفاعل ، جملة فعلية محلها الحال ، يعني الذي يؤتي ماله متزكياً طالباً وراغباً أن يطهّر نفسه من نوازع الشح والجشع والطمع والكزازة والبخل ( الذي يؤتي ماله يتزكى ) كفى ؟ لا ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى ) قد أعطيك وأنا أشعر بأن لك سابق فضل علي ، وقد أعطيك وأنا أرجو أن تعود علي في المستقبل بمعروف ، هذه الأنواع من العطايا أنواع رديئة ، قد تحدث آثاراً مادية ، لكن ثقوا أنها ممحوقة البركة ، العطاء المبارك هو الذي يعطيه الإنسان للناس لا يقصد بذلك إلا وجه الله ، لا يجازي الحسنة بالحسنة ، ولا يرجو من وراء المعروف معروفاً يصيبه ، وإنما يرجو وجه الله وثواب الله فقط .
وبعض المفسرين وفي بعض روايات السير أن هؤلاء الآيات نزلت في شأن أبي بكر رضي الله تعالى عنه ، فأبو بكر كان كما تعلمون في الجاهلية تاجراً ، وكان محبوباً من قومه ، رجل أوتي من اللطافة والكياسة ما يجعله قريباً من كل قلب ، فلما دخل الإيمان قلبه سخّر ماله كله لخدمة الإسلام ، كان يمر ويرى قريشاً قد وثبت بالضعفاء ويرى المشركين يعذبون عبيدهم العذاب الواصب ، ماذا يملك لهم أبو بكر ؟ لا يملك لهم إلا أن يشتريهم ، يذهب إلى صاحب العبد فيساومه على العبد ويشتريه منه بالغاً ما بلغ الثمن ، فإذا اشتراه أعتقه وحرره لوجه الله جلّ وعلا وخلصه من هذا العذاب ، أعتق أبو بكر رضي الله عنه عدداً من هؤلاء العبيد ، وكما قال عمر رضي الله عنه : أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا ، والسيد الثاني هو بلال رضي الله عنه ، يروى في بعض الروايات أن بلالاً هذا كان عبداً لأمية بن خلف وكان يطرح على صدره الصخرة العظيمة بعد أن يجرده من ثيابه ويلقيه على رمال الجزيرة العربية الحارقة ، ثم يأمر الصبية فيسحبوه على الرمال وهو على هذه الحالة ، ويقول له : ستبقى هكذا حتى تكفر بمحمد . فلا يزيد بلال على أن يقول : أحد أحد ، فيقول له : دع أحد أحد فليخلصك ، مر أبو بكر فرأى هذا المنظر فهانه ، فذهب إلى أمية وقال له : يا أمية إن هذا لا يحل لك ، حرام ، فقال له : فإن استطعت فخلصه ، يقال إن لأبي بكر عبداً بالغ النشاط اسمه نسطاس رومي فجاء فأعطاه نسطاساً وأخذ منه بلالاً ، وقال إنه اشتراه بحر ماله ، ويقال إن هؤلاء الآيات نزلت في هذا الشأن بعد أرجف الكافرون بأن أبا بكر رضي الله عنه اشترى بلالاً وأعتقه لسابق يد وفضل كان لبلال عنده ، فأبان الله جلّ وعلا أن أحداً من الناس ليست له عند أبي بكر نعمة يريد أبو بكر أن يجزيه بها ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى ، إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ، ولسوف يرضى ) .
وأبو بكر رضي الله عنه أعتق ستة أو سبعةً من هذا القبيل ، ولقد لامه أبوه ذات يوم قال له : يا بني إنك إذ فعلت ما فعلت فلو أنك أعتقت رجالاً جلداً اشترِ شباباً وأعتقهم يمنعونك ، يفكر أبوه أن المسألة مسألةً جاهلية ، وأن أبا بكر يريد جموعاً يتعزز بها وتقاتل دونه ، قال : يا أبتي إنما أفعل ما أفعل ابتغاء مرضاة الله جلّ وعلا . هذه رواية لا أدري مبلغها من الصحة ولكني أتصور أنه ربما كان لها مدخل في الواقع ، لكن الشيء الذي يمكن أن نقطع به أن هذا الإسلام حينما بدأ يأخذ طريقه واجه ظاهرة غريبة ، ماذا تظنون ؟ هل يتخلى الأب عن ابنه ؟ هل تتخلى الأم عن ولدها وفلذة كبدها ؟ في الحالة العادية لا ، لكن حينما بدأ المسلمون يدخلون في دين الله وُجدت هذه الظاهرة في المجتمع المكي ، كان الأب يتخلى عن ابنه ، وكانت الأم تتخلى عن ابنها لمجرد أن يسلم ، تكاثر هؤلاء الناس وأصبحوا عدداً هائلاً ، أين كانوا يذهبون ؟ كانوا يلوذون برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وُجد ما يشبه المجتمع المصغر ، انتبه ، إن الدعوة حينما تأخذ طريقها إلى البروز ، وتبدأ بظاهرة الانتشار تشكل مجتمعاً وليداً ، هذا المجتمع دائماً له احتياجات ، دائماً وأبداً منذ هذه اللحظة نرى أن الله جلّ وعلا يمتدح الذين يؤتون أموالهم ، الزكاة ما فرضت بعد ، الزكاة فرضت في المدينة ، ولكنا هنا نلاحظ أن الله جلّ وعلا يستغرق بالإيتاء جميع المال ( الذي يؤتي ماله ) كل ماله يتزكى ، فمرحلة الدعوة الأولى خلافاً لما يتوهم كثير من الناس من الذين ينظرون في قواعد الدعوة وقوانينها ، في المراحل الأولى الدعوة محتاجة إلى كل نشاطك ، ومحتاجة إلى كل مالك ، ومحتاجة إلى كل مجهودك ، وأما بعد الاستقرار فيا أخ الدعوة لا تكلفك إلا القليل وأقل من القليل ، أما في المراحل الأولى فاعرف أنك دخلت مع الله في صفقة بيع ، بعته نفسك .
فهذه الظاهرة ننص عليها الآن ونؤكد عليها ولا نفصل بها ، ولكنا نقرر أن الدعوة في مرحلة معينة من مراحل النشاط والانتشار تبلغ حدود المجتمع المصغر ، الذي توجد له احتياجاته ومتطلباته ومستلزماته ، وفي هذه الحالة يجب أن يجند كل شيء لخدمة هذا المجتمع الوليد الذي سيأخذ على عاتقه مسؤولية السير بالدعوة إلى النهاية .
وفي السور المقبلة سوف نواجه كثيراً من الإشارات والتوجيهات وسنزيدها تفصيلاً بإذن الله تبارك وتعالى وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين .