تفسير سورة الأعلى الحلقة الثانية
الجمعـة 8 / 10 / 1976
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
إن الله مـع الذين اتقوا والذين هـم محسـنون .. أما بعـد أيها الإخوة المؤمنون :
ففي الجمعة الماضية افتتحنا الحديث عن السورة الثامنة ، وفاقاً لترتيب المصحف بحسب سياق النزول على الأرجح ، ولَكم كنت حريصاً على أن أكون في التتبع والسرد أسرع من تطلعاتكم ورغباتكم ، ولكنا جميعاً وبغير استثناء نعاني من مرض قديم ونلمس آثاره وعقابيله تقهقراً وتخلفاً وانحطاطاً ، إن هذه الأمة ومنذ مئات السنين مع الأسف الشديد تنفر من معالم الأمور وتفر مما يكلف مشقة ، وآية ذلك أن هذا الخلط الوبيل يتجلى حتى في صغائر الأمور فنحن نحب السرعة ونحب الخفة ونحب أن نعيش أكثر أوقاتنا مع الأماني والأحلام ، أن تكون الأمة التي أراد الله لها أن تعلّم الناس الجد في الأمر كله ، وأن تعلّم الناس قيمة الوقت ، وأن تعلّم الناس أن الحياة تكاليف ومشقات ، هذه الأمة بالذات أصبحت من رسالتها على النقيض . وصدقوني حين أقول لكم والألم يحز في نفسي أنني منذ سنوات ومنذ بدأت أتحدث إليكم وإلى الناس على النحو الذي أتحدث به أعيش ما يشبه الغربة وأتقلب في الألم . إن كل شيء من حولنا يريد منا الجد ، وبالمقابل كل خلية من كياننا تريد السهولة والهزل ، وما من غرابة بعد ذلك أن تكون أحوال الأمة في مشارق الأرض ومغاربها على النحو الذي ترون هزائم متلاحقة وفشل المستمر .
وحسبنا أننا أضحوكة الناس في هذه الأيام ، إن الإسلام حين بدأ من أول الطريق في بواكيره الأولى ، اعتمد على الرصيد الذي لا رصيد سواه بعد الله تعالى وهو هذا الإنسان ، فهو بحكم استخلافه في الأرض مكلّف ومطالب ، وحين يميل إلى الرخاوة والطراوة فقد نبه الإسلام إلى أن ذلك علامة الدمار ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها فدمرناها تدميراً ) . وحين شحن هذا الإنسان بالطاقة وبعثه عنصر فعالاً في هذا الوجود أحدث المعجزة التي ما تزال آية في التاريخ لا تسبق ولا تلحق .
ونحن منذ بداية الطريق ومنذ سنوات ـ كما قلت لكم ـ ما غابت عنا هذه الحقيقة وكنا بين أمرين ، إما أن نعض بالنواجز على البداية التي بدأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكابد المشقة ونريح أنفسنا ونتملق عواطف الجماهير ونسد كثيراً من الأبواب التي تزعج وتؤذي وتسيء ، وإما أن نجد وندخل من الباب الضيق ونعمل للأمد الطويل ، ولعل منكم من يذكر أنني في هذا المكان قلت منذ سنوات : إنني قررت أن أتحدث إلى الأجيال المقبلة ، ما أقول هذا ـ يشهد الله ـ لأبعث اليأس فـي النفوس ولا لأحطم الهمم التي تريد أن تتوثب ، ولكني أريد أن أجسّم خطراً ماثلاً ، ربما يختدع بعض الناس فيه ، ولكنه يَضل ويُضل ، ومن الخير لنا قولاً واحداً أن نعرف ما نريد وبالحجم الذي نريد ، وأن نوفر من الطاقة كفاء هذا الذي نريد .
هذا كلام أقوله وأن أستذكر بعض ما قلت في الأسبوع الماضي ، لعلي ذكرت لكم أني سأمرّ على السورة ، ومن صنع الله تبارك وتعالى أنني ما استطعت على مدى ساعة كاملة أن أتجاوز كلمة واحدة ، مضت الساعة كلها ونحن نتحدث إليكم عن معنى ( سبح ) معنى التسبيح ، وحين كنت أتحدث يشهد الله أنني كنت أتمزق ، أعرف أن كثيراً من هذا الذي أقول غير مفهوم ، ولكن لا بأس ، ورجوت أن يكون هذا الأسبوع خيراً من الذي مضى ، وأن أُدخل على نفوسكم بعض السهولة والليونة ولكني مضطر إلى أن آخذ نفسي وإلى أن آخذكم أيضاً بألوان من مشقات ، لا بد من الصبر عليها .
إن هذا القرآن قائد هذه الأمة ودليلها والضوء الذي تعشو إليه والحداء الذي تسير من خلفه ، وهذا القرآن معجزة الله الباقية على الدهر ، لا يبليها كر الليالي ولا مر الأيام ، ثم هو صياغة الحكيم الخبير ، ثم هو عهد الله وميثاقه إلى الناس عامة ، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . فهو بهذه المثابة نمط فريد ومعجز وعجيب من القول ، بل لعلنا نظلم القرآن إذا سميناه قولاً ، لولا أن الله جلّ وعلا سماه كذلك في بعض الأحيان ، لعل من الخير أن نركز على التسمية الأخرى التي وردت في القرآن وهي أنه روح ، فالكلام الذي يتلى له من الإعجاز والفاعلية ما للروح في جسم الإنسان . وكلام من هذا النوع خليق أن لا يتنطح للقول فيه إلا من أخذ له أهبته وأعد عدته ، ولكننا في زمان عضوض ، ولولا أن هذا الزمان منتكس ما كنت بينكم خطيباً ولا معلماً ولا مرشداً ، ومن أنا وأضرابي حتى نقف المواقف التي وقفها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يتلو على الناس آيات الله ، وينثر عليهم حكمه الشريفة ، ويكون صدى ضخماً جداً لهذا الوصف الباهت الذي قاله فيه شوقي :
وإذا خطبتَ فللمنابر هزة تعرو النبي وللقلوب بكاء
هذا القرآن يجب أن نعطيه ما يستحق ، ومن الظلم البين له أن ننزل على حكم الضرورات ، فنستخف به ، بصياغته بمعانيه بإيحاءاته ، إن على الناس جميعاً أن يبذلوا من ذات أنفسهم كي يتعرفوا على كلام الله ، وإذا قصرت بالإنسان وسائله في بعض الأحيان فليس من المنطق ـ كلا ولا من الوفاء لهذا لدين ـ أن نتنازل لنتساوق مع إمكانيات الناس ، ولكن نحن نستنهض الهمم كي يستدرك بعض الناس ما ينبغي لهم أن يُعدّوه من أنفسهم من أجل أن يفقهوا كتاب الله تعالى .
وآلم شيء إلى نفسي أن أضطر في بعض الأحيان إلى خوض بعض الدقائق اللغوية وأسرار البيان ، فأنا وأنتم نعرف المؤامرة الرهيبة التي صُنعت لاغتيال هذه اللغة ، من المؤسف أن الجامعات في الدنيا تدرس اللغات الميتة ، لغات لا يتحدث بها اليوم ، تحي من آدابها وتنشر من روائعها وتحاول الإفادة منها . ولكن لغة العرب تعيش في وسط هذه المؤامرة القاتلة ، لا لشيء إلا لأنها لغة القرآن ، وإلا لأن هؤلاء الأعداء والخصوم أدركوا ما آثر الإخوة المتقدميون أن ينسوه ، أدركوا أن الوفاء للعروبة عضّ بالنواجز على الإسلام ، وأن الحرص على اللغة فقه في دين الله تبارك وتعالى ، وأن الإنسان الذي يتنكر للإسلام فآخر إنسان يستحق شرف الانتماء للأمة العربية ، وأن الإنسان الذي يستعجم لسانه بلغة القرآن آخر من يتصدّ لتعليم الناس المبادئ القومية ، هذا المعنى الذي نسيه وأسقطه إخواننا التقدميون مع الأسف ، أدركه خصوم الأمة وأعداؤها ، وعلموا أن أي إنهاض للسان العربي فهو إنهاض بالضرورة لهذا الإسلام ، لأن الرابطة بين القرآن وبين لغة العرب رابطة لا تنفصل ، والوشيجة التي تربط العرب إلى الإسلام وشيجة لا تضعف ولا تنحل ، لأن العرب يحتل الإسلام منها محل القلب من الجسد ، محل الروح من الكيان الحي . مع ذلك فلا بد لنا من أن نقف في الآن بعد الآن ولو على سبيل لفت النظر عند بعض الدقائق اللغوية وأسرار البيان ، لكي ننادي إخواننا الذي يرغبون في فهم كلام الله تعالى ، أن يستحضروا العدة لذلك ، من التعرف على أساليب العرب في الخطاب ، وأنه لا وفاء للإسلام أبداً إذا قصّر المسلمون في فهم كلام الله تعالى .
نعود الآن إلى ما مضى أن قلناه من قبل ، مع أن منادح القول في هذا واسع ، ولكن نمضي مع السورة .
يقول الله تعالى ( سبح اسم ربك الأعلى ) وأول ما يلفت النظر في هذه الآية لفظان ، لفظ الرب ولفظ الأعلى ، ومعلوم لكل من قرأ القرآن ولو قراءة سطحية أن الرب جل وعلا وصف نفسه بأوصاف متعددة في القرآن الكريم ، ووصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأوصاف ، وأحصاه عليه الصلاة والسلام في حديث الذي قال فيه : إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحدة . وترد هذه الأوصاف في القرآن متغايرة ومتباينة ، القارئ العادي يقرأها دون أن يحس ما يعنيه الفرق بين استعمال الوصف هنا واستعماله هناك . في الحقيقة الأوصاف الإلهية والأسماء الحسنى تعبر عن حقائق ، وحينما تنزّل صفة من الصفات الإلهية ، أو يُنزّل اسم من أسماء الله في مكان ما من سورة ما من آية ما ، فعلى قارئ القرآن أن يعرف مجمل الجو لكي يدرك لماذا اختير الوصف ولم يُختر وصف آخر ؟ فكلمة الرب هنا لو أنك قرأتَ فواتح السـورة لأدركتَ أنها الوصف الذي لا يصلح غيره فـي هذا المكان ، اسـمع ( سبح اسم ربك الأعلى ، الذي خلق فسوى ، والذي قدّر فهدى ، والذي أخرج المرعى ، فجعله غثاءً أحوى ) سأترك لكم إعطاء الحكم النهائي قليلاً كي نتعرف على على المسألة شيئاً فشيئاً .
معلوم أن القرآن نزل بلغة العرب ، والعرب حين نطقت بهذه اللغة الشريفة عبرت بها عن حقائق قائمة في النفس منطبعة عن وقائع في الوجود ، مفهوم فيما أعتقد ؟ فكلمة الرب فـي اللغة مأخذوة من مادة لها معناها الخاص ، مادة ( ربّ وربا ) هاتان المادتان أو هما مادة واحدة وأقول مادتان تسهيلاً تعنيان التنمية والحفاظ شيئاً بعد شيء ، وتعنيان مع ذلك عدم ترك الشيء المربوب من قبل الذي يرب أو من قبل الرب ، أعيد ؟ نعم سأعيد ، هذه الكلمة تعني التنمية والمحافظة والزيادة ، وتعني أيضاً المواصلة والمواظبة على ذلك ، وعدم ترك الشيء المربوب ولا لحظة واحدة ، فالرب هو الذي يشرف على ما يصنع حالاً بعد حال ، وزمان بعد زمان ، ولا يتركه حتى يصل تمامه وكماله ، وهو الذي أيضاً يحوطه ويحفظه من سائر الجهات ، وفي الأثر : ألك نعمة عند فلان تردها . يعنون بذلك أنك بربك للنعمة تحافظ عليها وتحرسها وتحوطها ممن يفسدها . ومن هذه المادة جاء معنى الربا ، والربا هو الزيادة ، والزيادة المستمرة ، ولولا الاستمرار المتلاحق ، ولولا سهر المربي كان من العبث أن يسمى الربا ربا ، ونحن لو أخذنا مقطعاً من القرآن الكريم يبين فيه لونين من الزيادة لاتضح لنا المعنى المراد . قال الله تعالى في موطن آخر من الكتاب ( وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله ، وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ) والمضعفون هم الذين تضاعف لهم الأجور ، فحين نقابل بين الإضعاف وبين الربا يتضح لنا الفارق بين معنى الرب الذي ينمي ويزيد شيئاً بعد شيء وعلى وتيرة متصاعدة والذي يحافظ ، وبين الزيادة التي تطرأ في إبانها وفي مناسباتها ولضروراتها ودواعيها .
فالربا زيادة في المال يأخذها المربي تزيد عاماً بعد عام ، أو تزيد شهراً بعد شهر . هذا من جهة المال . ومن جهة صاحب المال فهو حريص عليه محافظ على إنمائه وعلى زيادته ، فالزيادة شـيء نابع من طبيعة الربا ، وحين نأتي إلـى معنى ( فأولئك هم المضعفون ) فالإضعاف هو الزيادة تقول : أعطيت فلاناً مثل أجره ، أي مثله بالضبط ، وأعطيته ضعفه أي مثله مرتين ، والمضعفون هم الذين يضاعف لهم الأجر مرة أو مرتين أو سبعة مائة ضعف . لكن هنالك فرق في ما يتعلق بالأجور المستحقة على الأعمال ، فالأجر عليها لا يتبع قاعدة النماء شيئاً بعد شيء ، ولا يتبع الاستمرار ولا يستلزم الحياطة . أنت تعمل العمل اليوم تستحق عليه أجرك اليوم ، وتعمل مثله أو غيره بعد سـنة أو بعد عشرات السنين تستحق عليه أجره الذي يستحقه ، فظاهرة التسلسل والنماء المستمر غير موجودة في الإضعاف ، بينما هي موجودة في الإرباء .
هذا المعنى بالضبط ملحوظ في كلمة الرب ، حين يستعمل في القرآن في هذا الموطن اسم الرب جلّ وعلا ، وصْف الرب جلّ وعلا فإنما ذلك لفت نظر ابن آدم بقوة إلى حقيقة يذهل عنها كثير من الناس ، وهو أنك أيها الإنسان لو تصورت ما أنت ؟ لوجدت أنك كنت شيئاً في علم الله جلّ وعلا ، ثم أصبحت نطفة قطرة من ماء في رحم أمك وعناية الله معك تحوطك وتربيك وتنميك ، لو أن أي خلل جزئي بسيط وقع في تركيب هذه المادة التي نزلت من الرجل في رحم الأم ما كنت شيئاً مذكوراً ، الله جلّ وعلا بعلمه وبرحمته وبمقتضى ربوبيته قدر أن تكون نطفة أبيك على النحو الذي هي عليه كي تنتجك أنت ، ثم وأنت في ظلمات الرحم تحوطك عناية الله يأتي الغذاء من حيث لا يقوم غذاء في العادة للأحياء ، ولكن قدرة الله التي لا تغفل عنك ورحمته التي تحيط به صحبتك أيضاً وأنت تتخلق أطواراً في رحم أمك ، حتى إذا ضرب المخاض أمك نزلت طفلاً سوياً ، لك كل معالم الإنسـان وكل قسيمات الإنسان ، ومع هذا فأنت بعد أن كمل تكوينك واستقامت خلقتك قادر على أن تستقل بنفسك ؟ لا ، أنت محتاج إلى ماذا ؟ محتاج إلى الله طبعاً ، ولكن أي وصف هذا الذي ينبغي أن يستصحبك وأنت تمر في أطواره ؟ وصف الرب ، الرب الذي لا تغفل عين عنايته عنك لحظة واحدة ، معك وأنت جنين ، ومعك وأنت طفل تمص ثدي أمك وتغتذي بلبنها ، ومعك وأنت تتمرن على إساغة بعض ألوان الطعام ، ومعك وأنت تحاول أن تقعد ، ومعك وأنت تكبو وتتعثر لكي تمشي ، ثم هو معك حينما تشب أطواراً ، وهو معك حين الكهولة وفي الشيخوخة وإلى أن تفارقك أنفاسك .
هذا الوصف الذي يعني مداووة العناية ، والذي يعني الحياطة ورد الآفات والأسواء عنك ، هذا المعنى لا يليق به إلا الرب ، إلا وصف الرب جلّ وعلا ، فمن هنا ترون أنه لو اختير في هذا الكلام أي وصف من أوصاف الباري تبارك اسمه لكان غير مؤدٍ للمعنى نظراً إلى السـياق الذي مرت به الآيات ( سبح اسم ربك الأعلى ، الذي خلق فسوى ) فأشار لك إلى هذه الخلقة التي خلقك عليها ( والذي قدر فهدى ) فلفت نظرك هنا إلى دوام عنايته بك وبالكون كله ( والذي أخرج المرعى ، فجعله غثاءً أحوى ) هذا الرب أيضاً لا تظنن بتاتاً أن عنايته تحيطك وحدك ، فعنايته ودوام رحمته محيطة بالكون كله معك ، وحين يضرب لك هذا المثل البسيط والقريب جداً يريد أن يلفت نظرك إلى معنى الرب ، كما يريد أن يفلت نظرك إلى أنك ثمرة من ثمرات القوة التي أنشأت هذا الوجود ، أنت لست بدعاً في الكون طبعاً ، ألا ترى إلى النبات تنشق عنه البذور ويبسق في الجواء ثم ينمو ، أنت كذلك ، العناية التي صحبت النبات منذ كان بذرة وإلى أن صُوّح وانتهى هي هي العناية التي صحبتك منذ كنت نطفة في رحم الأم وإلى أن يضمك القبر .
وكلمة ( الأعلى ) كما يعرف كل من شدا شـيئاً من علوم العربية صيغة تفضيل ، تقول : فلان أعلم من فلان ، وفلان أكرم من فلان ، وفلان أعلـى من فلان . هذه الصيغة هي ما يُطلق عليها في اللغة اسم التفضيل ، والتفضيل كما هو معروف في قواعد اللغة وأساليبها يتقتضي وجود فاضل ومفضول ، ويتقتضي اشتراك الطرفين في الصفة التي هي مجال التفضيل . فحين نقول ( سبح اسم ربك الأعلى ) فقد يتبادر إلى أذهاننا ، ويقيناً الإنسان العامي الذي لا يُكلف نفسه مشقة معرفة قوانين اللغة يتصور أن الأعلى يشكل طبقة لما هو أدنى منه ، وأن الأدنى والأعلى يشتركان في الصفة العلو ، فهل يعني هذا أن الله حين يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم ( سبح اسم ربك الأعلى ) يريد أن يقرّ في ذهنه أن الله إله أعلى من كل الآلهة ، هذا خطأ في في التصور ، ولو أننا حكّمنا ما يتبادر إلى الأذهان للوهلة الأولى لقلنا إن هذا مقتضى اللغة ، ولكنا نلفت النظر إلى قاعدة في التفضيل .
إن التفضيل الذي يدل على اشتراك طرفين في صفة واحدة ينبغي أن يكون مضافاً لا مقطوعاً ، فهنا التفضيل مقطوع ، نقول : الله أعلى وأجل . ولكنا إذا قلنا : الله أعلى من اللات وأعلى من هبل وأعلى من العزى ، فمعنى ذلك أننا أضفنا التفضيل ، وإضافة التفضيل تقتضي الاشتراك في صفة الفضل . نقول : فلان أكرم من فلان . ذلك يعني أن فلاناً وفلاناً يشترك في هذه الصفة ، وأن الكرم خصيصة تنتظم الجانبين . فهل الأمر كذلك حينما نقول ( سبح اسم ربك الأعلى ) لو قلنا ذلك لسقطنا في حضيض الكفر ، لأننا سنثبت لآلهة العرب المدعاة الزائفة شيئاً من صفة العلو وهي في الحضيض . فالتفضيل حينما يكون مقطوعاً على هذا النحو يخرج عن بابه ، ويكون المراد منه أن يُرفع الرب إلى أقصى مقامات الإجلال والكمال .
فالله جل وعلا حين يقول لنبيه عليه عليه الصلاة والسلام ( سبح اسم ربك الأعلى ) يريد أن يقول له : إن ربك هو الأعلى ولا علو مستحق لغيره بوجه من الوجوه . الله هو الأعلى ، والكون كله بما فيه من مخلوقات مقامهم مقام العبودية .
ثم بعد أن فرغنا من هذا الكلام العسير ومن هذا الكلام الذي قد يتصور البعض أنه يجب أن لا يقال مع أنه يجب أن يقال ، مع أنه يجب على كل إنسان من المسلمين ومن العرب أن يتعرف على حقائق اللغة ليعرف مدلولاتها وليدرك مرادات الله تتبارك وتعالى ، وأنه يجب أن يعرف أن العرب في سلائقها وفي فطرها المستقيمة كانت تنفر من طول الكلام ومن تشقيق اللسان وتعد ذلك عجزاً وتعده عياً وتعده من معايب الخطاب ومن معايب الكلام ، لأن القرآن نزل لكي يخاطب ما استقرّ في الطبيعة العربية من قابلية للتفاعل مع أبعد نأمات الإيحاءات التي توحيها الكلمة .
العربي الذي يسمع هذا الكلام ( سبح اسم ربك الأعلى ) يتصور مباشرة وبدون أن يمرّ بكل هذه التحاليل التي مررنا بها ، وبكل هذا الكلام الذي قلناه ، يتصور ربه هو الأعلى وأنه لا عليّ إلا الله تبارك وتعالى .
( سبح اسم ربك الأعلى ) من ؟ ( الذي خلق فسوى ) وأية بادرة من الذهن تشعر بأن ترتيب الكلام على هذا النحو ( سبح اسم ربك الأعلى ، الذي خلق فسوى ) نزول من الأعلى إلى الأدنى مباشرة ليستقرّ في الذهن أن ما سوى الله فمخلوق ، وأن ما سوى الله فمربوب ، وأن ما سوى الله فمحتاج إلى الله تبارك وتعالى . ( الذي خلق فسوى ، والذي قدّر فهدى ) خلق فسـوى ، كلمتان تأتيان وراء بعضهما ، ماذا تعنيان ؟ أنت يا أنت قارئ القرآن ماذا تفهم من ذلك ؟ الخلق هو الصنع ، وكل عامل في الحدادة أو في النجارة أو في أي عمل من الأعمال يعلم أن ليس كل عملٍ عملٌ وليست كل صنعةٍ صنعةٌُ ، وأن العمال والصانعين يتفاوتون من حيث الإتقان تبعاً لدرجة المران وبقدر ما أنتجوا من المادة التي صنعوها ، فحين تصنع شيئاً قد يخرج معك على نحو بدائي غير منسق وغير مرتب ناقص الأداء ، ولكن الله تعالى أراد أن لا يلحق بخلقه هذا التصور ، وأراد أن يستقر في عقل الإنسان إن خِلقة الله على أتم وأكمل ما يكون ، فالخلق هو الإيجاد ، ولكن التسـوية هي التهذيب والتشذيب والتعديل ، أنت تقتطع قطعة من الجبل حجارة فأنت صنعتها بهـذا الشكل باقتطاعك لها ، بمجرد هـذا الاقتطاع صنعتَ حجر ، ولكن لا يقول قائل : إنك نحتَ منها تمثالاً ، ولا يقول قائل : إنك جعلتَ منها لبنة تصلح في مكان مستوٍ ، ولكنك حين تُعمل الإزميل والفأس فتسوي من هذه الكتلة تمثالاً جميلاً ، أو حينما تُعمل الإزميل والفأس فتشّب أطرافها حتى تكون حجارة تأخذ مكانها في الجدار على استقامة فأنت في هذه الحالة لم تخلقها وحسب وإنما خلقتها وسويتها . وهذا هو معنى التقويم الذي ورد في مواطن أخرة من القرآن الكريم ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) فأنت لم يخلقك الله تعالى كما يُخلَ أي شيء بلا قيمة ، لا ، أنت خُلقتَ لغاية وخُلقتَ لهدف ، أنت رُشّحتَ لكي تكون خليفة الله في الأرض فاهماً عنه قيّماً على شئون الدنيا ، قيّماً على حراسة دين الله ، حارساً على كلمات الله تبارك وتعالى .
فمن أجل ذلك أنت لا بد أن يكون قد سواك الله تعالى تسوية لكي تؤدي هذه المعمة ، فأنت أيها الإنسان مخلوق على أحسن صورة وأكمل خلق يساعدك على أداء هذه الغاية .
( والذي قدّر فهدى ) والذي يُفهم من التقدير طبعاً هو قضاء الله تعالى أن يكون الأمر الفلاني على الشكل الفلاني ، ولكن للعلماء في هذا المجال كلاماً وإن كان غالبهم لا يأخذ به إلا أنني أجدني أميل إلى اعتناقه وتبنّيه ، فكلمة ( قدّر ) بهذا البناء في اللغة تعني : جعل الشيء وفقاً لمقدار ، وجعله مؤدياً لغاية . وتعني من جانب آخر كلمة ( قدّر ) بهذا البناء إعطاء القدرة ، تقول : قدّرتُ فلاناً على أن يفعل كذا ، أي منحته القدرة والقوة على أن يؤدي الشيء الفلاني . وفي تقديري ولا أدري فقد أكون مصيباً أو لا ، أن هذا لمعنى الثاني أولى بأن يؤخذ به في تأويل الآية ، فالله تعالى أوجد هذا الإنسان وأوجد هذه المخلوقات جميعاً ، منها الناطق ومنها الصامت ، ومنها الحي ومنها الجامد ، لكن كل ما أوجد الله تعالى تضمن سنناً وتضمن قوانين لها فعلها ولها أثرها في الكون ولها وظيفتها في هذا الوجود ، من الذي أعطاها القدرة على أن تؤدي ما يراد لها أن تؤديه ؟ الله . فالله تعالى قدّر هذا الإنسان ، أي أقدر هذا الإنسان على أن يتحرك في المسار الذي أراده الله تعالى له ، ويزيدني قناعة وميلاً إلى هذه التأويل كلمة ( هدى ) فالله تعالى يقول ( والذي قدّر فهدى ) أي أعطاك القوة على الحركة ، والحركة لا يُشترط فيها أن تكون مستقيمة ، فدوران الإنسان حول نفسه حركة ، وأخذه يميناً وشمالاً حركة ، وضربه في التيه حركة ، واستواؤه على جادة مستقيمة حركة ، لكن هذا الإقدار حكمه الله تعالى بأنه مقصود منه الهداية ، عند هذه النقطة أريد أن أقول كلمتين لأقف .
حينما نسمع الله تعالى وممتناً على ابن آدم ( والذي قدّر فهدى ) بعد أن أبان له أنه خلقه فسوى ، يريد أن يقول له : يا ابن آدم أنا الذي خلقتك ، ولم أخلقك خلقاً ناقصاً وكنت على ذلك قديراً ، فسويتك وجعلتك في أحسن تقويم ، ثن أعطيتك القوة لتتحرك وتعمل وأقدرتك على ذلك ، ولو شئتُ ما أعطيتكها أبداً ، ثم هديتك ( وهدايناه النجدين ) فأنت يا ابن آدم حينما تستخدم نعم الله عليك من الإيجاد والخلق ، والتسوية والإقدار في غير ما أراد الله تبارك وتعالى فأنت عندي كافر جاحد ، وأنت في أعراف بني آدم ناكر للجميل . تصوّر أن رجلاً أعطاك مبلغاً من المال لكي تستعين بها على قضاء حوائجك وإرضاء ضروراتك ومصالحك ، فذهبتَ واشتريت بها مسدساً وجئتَ تصوبه إلى صدر هذا الذي أعطاك هذا المال ، ما أنت ؟ أأنت إنسان ؟ أم أنت مخلوق نكد ناكر للجميل ؟ في أعراف بني آدم في فطرهم وفي سلائقهم وفي أخلاق الناس استعمال النعم ضد الذي أنعم بها سقوط في الخلق وانتكاس في الطبع ، فالله تعالى إذ يعدّ عليك نعمه بهذا الشكل لا الشكل الغيبي وإنما بالشكل المحسوس ، الذي تحسه في نفسك وفيما حولك ومن حولك ، يريد منك بكلمة هدى أن تلتزم الطريق الذي أراده لك .
أما أن تستخدم نعم الله لكي تعصي بها الله فذلك خلاف مقتضى الإنسانية ، ولو أننا حاكمنا أنفسنا وحاكمنا الدنيا إلى هذا المعنى الذي فهمه الإنسان العربي يوم تلاه محمد صلى الله عليه وسلم فاستقام عليه طبيعته كلها ، لو أننا حاكمنا أنفسنا وحاكمنا الإنسانية إلى هذا وتساءلنا : كم من النعم التي يتكلم فيها أيها الإخوة ؟ هل نحن الذين أوجدنا هذه النعم ؟ لا ، هل نحن الذين أوصلناها إلى أنفسنا ؟ لا ، لا يتوهمن متوهم أن عمله وسعيه وكدحه هو الذي يجلب عليه الرزق ويردّ عنه السيئات ، أبداً ، لا بد من عون الله ، ولا بد من إرادة الله ومن مشيئة الله ، وقديماً قال قائلهم :
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجنى عليه اجتهاده
وكم من لقمة وصلت إلى الفم ثم اختطفت ، وعملك وكدحك وجدّك ونشاطك ليس هو الذي يقرب إليك الخير ويدفع عنك الضير ، أبداً ، الله هو الذي يعطيك ، والله هو الذي يحرمك إن شاء ، والله هو الذب يمتحنك ويبتليك ، والله هو الذي يسامحك ويعافيك .
فالله تعالى يريد لك أن تعلم أن استخدام هذه النعم على النحو الذي تستخدمه أنت أيها الإنسان ، هذه النعم التي تتقلب بين أعطافها وتتمتع بها وتتملاها عينك ، وتسعدك بها حواسك ، من أين لك ؟ من الله ، أفجائز لك في قضية العقل .. أيسوغ لك في قانون الخلق أن تستخدم ما أعطاك الله فيما يغضب الله تعالى ؟ سل نفسك .. أنت تعطي الدنيا من ذاتك الشيء الكثير والكثير الكثير .. كم من الوقت تذكر الله فيه ولا تنساه ؟ إن الله فرض عليك فرائض فهل أنت مؤدٍ لما افترض الله عليك ؟ إن الله منعك أشياء أفانت مع هذا المنع ؟ إن الله أراد لك أن تسلك طريقاً أفأنت سالك هذا الطريق ؟ بل أفأنت معين على سلوك هذا الطريق ؟ كل هذه الأسئلة لو أردنا أن نجيب عليها بحرية واطمئنان لوجدنا أنفسنا نقف في الصف الخاسر ، نحن مع الله لسنا أوفياء ولسنا أخلاقيين ولسنا راغبين في خفض العيش ورغده ولسنا راغبين في سعادة مرموقة عند الله تبارك وتعالى ( أم يأنِ للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ) ألم يأنِ لك أيها الإنسان أن تذكر الله الذي خلقك وحاطك ورباك وسخر لك ما في السماوات والأرض جميعاً منه .. ألم يأنِ لك أن تفيء لله ربك ؟ آن لك أيها الإنسان ؟ آن لك أن تصيخ للنداء فإنه النداء الذي يتغلغل في أعماق الذي صغت قلوبهم لذكر الله تبارك وتعالى .
( يا أيها الإنسان ما غرّك بربك الكريم ، الذي خلقك فسواك فعدلك ، في أي صورة ما شاء ركبك ) إن لك غاية فاكدح نحوها ، وإن لك هدف لم تصنعه يداك ، ولكن رحمة الله أنزلته قرآناً يتلى وشريعة تُتبع وتسلك ، فاعمل على أن تكون مع الله ومع شريعة الله واجتهد في أن تسـير في طريق الله ، ذلك خير للذين يريدون وجه الله ، وذلك علامة على كمال الإنسانية لا سقوطها ، ولعلي لا أقول عجيباً إذا قلت إن إنسانية اليوم كلها محتاجة إلى أن تعيد النظر فـي أمور تعتبر ألف باء الوجود الإنساني ، محتاجة أن تعيد النظر في قواعد الأخلاق ، إن الأخلاق تقتضي أن تستخدم نعمة الله فيما يرضي الله ، وأكبر نعمة عليك أن الله أوجدك .
فسخّرْ وجودك كله بكل ما فيه من طاقات وما شُحنت فيه من إمكانات ومواهب لكي ترضي الله تبارك وتعالى . فلا ربّ إلا سواه ، ولا منقلب لك إلى غيره ، فأعد الجواب ليوم تشخص فيه الأبصار ، أجارنا الله وإياكم من سوء المنقلب وسوء العاقبة وكتب لنا ولكم وللمسلمين سلوك سبل الهداية والتوفيق وما يريضي الله وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .