خاتمة سورة المسد(3)
الحلقة (31) الجمعة 18 شعبان 1396هـ - 31 آب 1976م
العلامة محمود مشّوح
(أبو طريف)
بسم الله الرحمن الرحيم
أوصيكم عباد الله وإياي بتقوى الله.
(إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون).
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون فلولا ما جَشَّمنا الله تعالى من واجب التوجيه والدعوة إليه، والتبصرة بمحاسن الإسلام وضرورة العمل له، وحثّ الناس على الاستمساك به؛ لولا هذا لكان جديراً بالإنسان أن يقعد يجتر الحسرة الطويلة، والألم الكاسح على أمة أضاعت صوابها، وأفلت من بين أيديها قيادها، وتلاعبت بها أبالسة الجحيم وهي سادرة في غفلتها، ماضية في غيّها تتفجر النذر والأخطار من بين يديها ومن خلفها، فما تكاد تعي.
يا ويح أمتي يا ويح شعبي، يا ويح شعبي يا ويح قومي.
أيعلمون ما الذي يراد بهم؟ أيدرون ماذا يخطط لهم الأعداء التاريخيون؟
يا ويح أمتي. أتستحق شرف الانتماء إلى محمد بعد كل هذا البلاء؟
أتستحق شرف العزوة إلى الإسلام بعد كل هذا التمرد على الله؟
بعد كل هذه الجفوة لهذا الإسلام العظيم.
يا ويح أمتي. لقد كنتُ حريصاً اليوم على أن أواجه معكم سورة التكوير، وكنت فيما بيني وبين نفسي قد قررت أن أضرب صفحاً عن إلحاح الكثيرين من الإخوة الذين أرادوا أن أعيد لهم أخريات الأفكار التي عرضتها في الجمعة الماضية، ولكن الذي حدث ودهم الأمة، بما يجري من تقتيل المسلمين وذبحهم بأيدي المسلمين وعلى أرض المسلمين- وما يصوره الأشرار معركة بين يمين ويسار - وهي في الحقيقة معركة بين الإسلام وبين أعداء الإسلام؛ من كل صنف ولون من فاسقين ومنحلين ومتآمرين وخونة وجواسيس وعملاء للمخابرات الأجنبية يتسنمون ذرى السلطة في أمة فقدت صوابها وأضاعت طريقها وعتت عن أمر ربها، فأصابها ما توعّدها به الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، لئن فعلت ذلك ليتيحنّ لها فتنة تدع الحليم حيران؛ لولا هذا لكنت اليوم معكم على هيئة من الأمر أستعرض سورة التكوير ولكن الذي حدث جعل الأحداث تتوالى في ذهني وجعل الوقوف مرة أخرى عند ما عرضناه في الجمعة الماضية في أخريات الخطبة واجباً كي لا يطيش الصواب أمام هول الفجيعة، ومع ذلك فمن الخير، من الواجب أن يعلم المسلمون؛ ما الذي يراد بهم لقد تداعى إلى ذهني أمس فقط ما قرأته في شتاء العام الماضي من بيان أصدرته الرهبانيات في لبنان، الرهبانيات وما أدراك ما الرهبانيات، تدعو إلى اعتبار لبنان وطناً للمسيحيين، وتزعم أن العرب في لبنان غزاة، وأن المسلمين في لبنان لا مكان لهم، وأن عليهم كما خرجوا من الصحراء أن يعودوا إلى الصحراء؛ وهذا بيان صدر في شتاء العام الماضي، قرأه الساسة العرب الذين يزعمون أن المعركة بين يمين ويسار وطووه وطووه؛ لأنهم طرف في المؤامرة الواسعة التي تدبر على هذه الأمة لِيُغْتَال تاريخها ولتدمر حقيقتها، ولتكون ساحة مكشوفة مفتوحة للتدمير والانحلال الذي يراد لهذه الأمة.. تذكرت ذلك وتذكرت قبله.. تذكرت قبله ما صدر في مصر بلد العروبة بلد الإسلام بلد الأزهر، من قرارات اتخذها الأقباط يدعون فيها إلى خطة خبيثة تروج بين المسلمين بدعة تحديد النسل كي يقل نسلهم؛ وتروج بين النصارى التشجيع على الزواج والنسل، كي يزدادوا عدداً حتى إذا وصلوا في مرحلة، حددوها في مقرراتهم إلى عدد محدود، قاموا فأخرجوا المسلمين من مصر، لتعود مصر قبطية مسيحية؛ ويطرد العرب إلى جزيرة العرب إلى الصحراء من حيث خرجوا. أَذْكُرُ كل هذه الأشياء التي تداعت إلى ذهني كالبرق، وأذكر المآسي.. ما كان في الأربعينات من خلق هذه الدولة الغريبة -إسرائيل- وما يكون اليوم من فصول شبيهة بها حذوك النعل بالنعل، فما يحدث على لبنان يراد أن يكون في لبنان وطن قومي للمسيحيين؛ كما أن في فلسطين وطناً قومياً لليهود. هل انتهينا..! ما زالت المآسي تتسلسل فصولاً - لا تريد أن تنتهي لا تريد أن تغيب عنا.. هذه مشكلة- تفجر في العراق وسوريا بداعي القومية، السلاح الذي رفعناه من أجل التوحيد يرفع اليوم ليكون عامل تفريق وتبديد، يقال لا بد لهم من دولة وهذه أسلحة تنصب على إيران بدأ من قطعة البارودة وانتهاء بالقنبلة الذرية، لمن يا إخوة؟ لمن يُحَضَّر هذا السلاح؟ لصالح من تحشد المنطقة هكذا لكي يحال بين هذه الأمة وبين أن تعي حقيقتها، لكي يحال بين هذه الأمة وبين أية لحظة من الاستقرار والهدوء تتيح لها أن تفكر بطمأنينة، وأن ترى طريقها بوضوح وبهدوء أعصاب، ما أقول هذا لكي أستشير عواطفكم فما أريدها الآن فأنا أعرف خطر العواطف المهتاجة التي تنطلق عمياء غير مبصرة؛ ما أريد ذلك ولكني أريد فقط أن تعرفوا الحقيقة وأن لا تغيب عن أذهانكم لأنكم في الحقيقة تعيشون بين شياطين تعيشون بين أبالسة؛ يصورون لكم الحق باطلاً والباطل حقاً ويختانونكم عن أنفسكم، بل يسرقونكم من أنفسكم سرقة، أريد لكم أن تعرفوا وتدركوا هذه الحقيقة التي أصبحت كالشمس وضوحاً وجلاء؛ إن كل من على الأرض يحارب المسلمين ويعادي المسلمين ولا يريد للمسلمين أن يلتفتوا إلى أنفسهم ولو لحظة من زمان لذلك كان واجباً أن أعود مرة أخرى إلى بعض الأفكار التي طرحتها في الجمعة الماضية أريد أن أعود إليها في هذا الجو الذي يستجيش العواطف، ويبتعث الشجون ويفجر الآلام، لأقول لكم منذ البداية إن الإسلام فوق العواطف وفوق الشجون وفوق الآلام هناك طريق مهما تكن المثيرات ومهما تكن المزعجات فعلى المسلمين أن يلتزموه عليهم أن يظلوا سائرين فيه نحن نعيش ضمن واقع بشري لا مجال للتغاضي عن حقائقه ولا عن تأثيره ومقتضياته كل ما في العالم من مشكلات ومشكلاتنا جزء من مشكلات العالم فإنما تسبب عن انشطار العالم إلى كتلتين بعد الحرب العالمية الثانية الكتلة الغربية بقيادة أمريكا والكتلة الشرقية بقيادة روسيا وكلتا الكتلتين تدعيان الحفاظ على السلام وتدعيان عون المجتمعات المتخلفة على أن تلحق بركب المجتمعات المتقدمة وتدعيان وجود حل المشكلات العالمية بالوسائل السلمية وعن طريق الحوار؛ ونقول نعم إن المشكلات العالمية تحل بين الكتلتين الكبيرتين عن طريق الخط الأحمر بين موسكو ونيويورك بالطرق السلمية وعن طريق الحوار ولكن الرصاص يلعلع دائماً في بقية أجزاء العالم لأن طريق السياسة عند الكتلتين الكبيرتين الطريق الذي فرضتاه على مجموعات العالم كلها يقضي بذلك ويراد أن يظل هذا الصراع مشتعلاً ومستمراً حتى تصفى نهائياً كل دول العالم لصالح كتلة واحدة تفرض عليها سلاماً إما بالرضى وإما بالكره وبقوة السلاح.
هل يتساءلون عن معاني الشرف والاستقامة؟
هل يتساءلون عن مصير الجنس البشري؟
هل يتساءلون عن مصير السلام الذي يدعون إليه؟
نقول: لا.. إن السياسة العالمية وسياستنا نحن دول العالم الثالث الدول التي تدعي أنها غير منحازة، الدول التي سيجتمع زعماؤها عما قريب ليقرروا عدم الانحياز نحن منحازون ونحن نسير ضمن المخطط الذي يرسم لنا.. لا شرف ولا استقامة ولا عدالة ولا رعاية للمعنى الإنساني ولا تفكير بالمصير البشري ذلك هو نهج السياسة العالمية وأين الذي يرد على هؤلاء نهجهم كله؟
هل هي دول عدم الانحياز؟
هل هي كتلة الحياد الإيجابي؟
هل هي الصين التي تتهم روسيا بأنها أصبحت دولة إمبريالية؟
هل هي هل هي؟
لا.. ثقوا أنه لا يوجد على ظهر هذا الكوكب من هم مؤهلون لكي يقولوا لهذا الركب الشارد مكانك إلا المسلمون. المسلمون فقط هم الذين يملكون تعديل اتجاه السفينة.. بأي شيء؟ بما يملكون من عقائد بما يملكون من قيم بما يملكون من شرائع بما يملكون من نظرة إنسانية جامعة عامة بما يملكون من حس نادر بالعدالة. إنه لو أتيح لكم أن تطلعوا على فلسفة الإسلام وعلى مبادئ الإسلام وعلى وقائع تاريخ الإسلام وعلى طرائق المسلمين في معاملة الخصوم وعلى طرائق المسلمين في معالجة المشاكل والقضايا الصعبة لآمنتم مع الكاتب الإنكليزي الذي مات منذ زمن قريب برنارد شو الذي كان يقول:
لو كان محمد حياً لاستطاع أن يحل مشكلات العالم وهو يشرب فنجاناً من الشاي.
إن مشكلات العالم مشكلات مصنوعة صنعتها الأطماع وصنعتها الأغراض وصنعتها نفوس خربة خلت من القيم وخلت من معاني الشرف، وخلت من حسن الاستقامة والعدالة فهي من أجل ذلك تتفاقم وتتراكم وتتفجر هنا وهناك ولو أن الذين يملكون قياد الإنسانية اليوم يرعون هذه الأمور لتغير وجه العالم.
إن العالم اليوم ينفق على التسلح فقط في كل عام ما يغني سكان الكوكب الأرضي لعشرة أعوام، كل عام يُنْفَقُ على السلاح في العالم ما يشبع الناس على ظهر هذا الكوكب عشرة أعوام، ومع ذلك لا يجد هؤلاء نقطة من الحياء تردهم عن أن يقولوا إنهم يعملون للسلام ويعملون لخير الجنس البشري.
نعود إلى ما سبق أن عرضنا أطرافاً منه في الجُمَعِ الماضية - وأحتفظ لنفسي بحق القول سلفاً إنه لولا الضرورة ولولا إلحاح الكثيرين من الإخوة ما فعلت ذلك- فأنا أحب أن يأتي كل شيء في أوانه وكل فكرة مفصلة في مكانها المناسب والذي هو لها، وأن بحثنا مثل هذه الأمور يتطلب عودة إلى شوط وافر يجب أن نقف عليه أن نبحث هذه الأمور كما أقدر في ذهني وكما خططت وقدرت سوف يأتي كله حين نغربل جميع القضايا التي عرضت في السور المكية إن شاء الله تعالى؛ مع ذلك فالحاجة تدعو ولو لتطمين هذا الهيجان الذي يحس به كل منا إزاء الذبح والتقتيل وإزاء المظاهر اللاإنسانية وإزاء المواقف الخالية من الشرف والقيم، يجب علينا أن نعود إلى حقائق ديننا هذا الإسلام منذ تنزل أول الأمر، تنزل للناس كافة (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً) وهذه حقيقة يجب أن لا تغيب عن البال ومعنى كونه جاء كافة للناس أن الناس يتساوون أمام هذا الإسلام فلا محاباة ولا مجاملة ولا امتياز، ولا ألمانيا فوق الجميع ولا العرب فوق الجميع، ولا كذا فوق الجميع وننظر فلا نجد أحداً تحت لأن الكل أصبحوا فوق.
هذا الإسلام جاء ليعلن أن الله خلق الناس من ذكر وأنثى وأنه إذ خلقهم كذلك فإنما خلقهم ليتعارفوا وأن تعارفهم فيما بينهم يكون وفقاً للميزان الذي حدده الله (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) فمنذ البداية أزيلت حواجز الجنس وفوارق القوميات وفوارق الطبقات ووجب أن يكون الناس جميعاً إخوة متعارفين، ولكن هل التعارف الذي يكون في أروقة الأمم المتحدة ويطبخ هناك على حساب الضعفاء والمغلوبين على أمرهم حيث تستعلن القاعدة الشهيرة:
(الحق هو حق الأقوى) لا.. إنما يتعارف الناس على مبادئ الكرامة الإنسانية ومبادئ العدالة الإسلامية ولو كان الأمر غير ذلك لكان حقاً أن يؤخذ بالرعاية جانب أبي لهب، إنه عم النبي وأولى الناس أن يُغَارَ عليه وأن يعمل على إبعاد النقمة عنه، ولكن محمداً عليه السلام وهو النبي المكرم لم يملك لعمه من الله شيئاً فاستحق بمواقفه المشنوءة البغيضة، أن تنصبّ عليه نقمة الله جل وعلا وأن ينزل في حقه قرآن يتلى ويتعبد الناس بتلاوته ما بقي على ظهر هذا الكوكب إنسان فالعبرة الكبيرة التي يخرج منها قارئ سورة المسد أن العلائق التي تعارف الناس عليها من علائق القرابات والمودات وسائر اللُحَمِ التي تصل بين الناس أمور لا قيمة لها لأن الناس ارتبطوا بعد نزول هذا القرآن بالمعنى الذي حدده الإسلام وهو الرابطة بالله تبارك وتعالى ورفض الناس بعد ذلك أية رابطة أخرى هذا مع عدم إغفال أن نقول كما عرضنا للمسألة من قبل إن مسألة التعارف بين الأمم والشعوب، تقتضي إيجاد الوسائل العملية التي لا تحول بين الناس وبين هذا التعارف.. من جملة هذه الحواجز التي تمنع التعارف بل من أهمها على الإطلاق فارق اللسان خط الإسلام في نهجه أن يتعلم المسلمون اللغة التي نزل بها القرآن لكي يقرؤوا القرآن بنصه العربي ولكي يقرؤوا توجيهات رسول الله صلى الله عليه سلم بل لقد ذهب الإمام الشافعي رحمة الله عليه إلى أن خطبة الجمعة لا تصح إلا باللسان العربي، وبعد الخطبة إذا كان القوم ليسوا عرباً فلا بأس من أن يترجم لهم الخطيب ما قاله بالعربية إلى لسانهم فموضوع تقرير وجوب تعلم اللغة العربية أهم وسيلة قدمها الإسلام وأحاطها بهالة من القداسة لكي تنتهي هذه الفرقة القائمة بين شعوب هذه الكرة الأرضية حتى يتعارف الناس على المبدأ.. طبعاً نحن نقول إن اللغة وسيلة ولكن المبدأ والأساس هو العقيدة وهو قضية الإسلام فالناس أيضاً مع اختلاف المناهج ومع اختلاف السبل ومع اختلاف المشارب لا يمكن أن يتعارفوا ليس صحيحاً أن نقول إن من الممكن أن يتعارف الذي يأكل البقرة؛ مع الذي يتعبد بزبل البقرة هذا غير صحيح في الباكستان مثلاً في الهند حينما أثيرت المشكلة كان القائد المرحوم محمد علي جناح مصراً على وجوب الفصل بين الجنسين بين الأمتين الأمة المسلمة والأمة الهندوسية وكان يقدم للناس هذه القضية يقول لهم: كيف يمكن أن نكون دولة واحدة من فئتين من الناس فئة تأكل لحم البقر وفئة تتعبد بأن تطلي أجسادها بزبل البقر، هذا غير معقول فإذاً لابد قبل كل شيء من أن يكون ثمة مبدأ يتعارف الناس تحت ظلاله يتعارف الناس على أساسه فإذا سمحنا للناس أن يأخذوا مبادئ شتى وأن يسلكوا سبلاً كثيرة متفرقة فنحن نبقي على العوامل التي تفرق ولا تجمع نبقي على برميل البارود جاهزاً للاشتعال وللانفجار في كل وقت ومع ذلك فهل يكفي أن نقول إن المبدأ يكفي؟ نقول: لا.. المبدأ يجب أن تكون له مواصفات ونحن نسمع اليوم أمريكا تدعي أنها زعيمة العالم الحر، ولعمري إن هذا ادعاء عريض؛ فالمبادئ التي أعلنها الرئيس ولسون أثناء الحرب العالمية الأولى والتي كان يراد لها أن تحفظ السلام على العالم والتي قامت على أساسها عصبة الأمم غير المأسوف عليها؛ لا قيمة لها عند الأمم التي يراد أن تكون خولاً وعبيداً للأقوياء في الوقت الذي أعلن فيه ولسن مبادئه الأربعة عشر - كان في القاهرة يحاضر في ذلك التاريخ قبل ما يزيد على ستين سنة - ويمتدح اليهود ويعدهم بأن سيكون لهم وطن في قلب الوطن العربي، ويعلن غبطته ويعلن سروره لأن اليهود بدأوا يعرفون وطنهم وسوف يتجمعون فيه في يوم من الأيام وهذه الفتن التي تشتعل في كل جزء من أجزاء العالم أين أمريكا عنها إن إصبعها يتراءى وراء كل مشكلة في العالم؛ فالسلام الذي تنادي به سلام لصالحها، سلام يحفظ أغراضها ويحفظ أطماعها في بقية أجزاء العالم؛ وما يقال عن سلام الولايات المتحد وحليفاتها يقال أيضاً عن سلام روسيا وحليفاتها فسلام روسيا سلام مجزوء، لأنه سلام المسحوقين كما يقولون - سلام البروليتاريا - كما يقولون وأما بقية الناس فلا حرية لهم لأنهم أعداء، الشعوب هكذا يقولون ومع ذلك فحوادث المجر وتشيكوسلوفاكيا وكل جزء من أجزاء العالم تدلك على أن هذه الأمة كذلك تريد سلاماً لصالحها أما العدالة فهي غير موجودة لا هنا ولا هناك نتساءل ما السبب في ذلك؛ نقول ببساطة إن السبب في ذلك فقدان الحس الإنسان لدى هذه الأمم، إن الحس الإنساني ضرورة لأنه هو الذي يقضي على الأنانية القومية وما لم تكن الأمة قادرة على أن تعترف بغيرها من الأمم وما لم يكن الإنسان قادراً على أن يعترف بغيره من بني البشر فلا فائدة من التعامل معه لأنه لن يكون أكثر من حيوان شرس وحش كاسر ينتظر الفرصة لكي يطبق على فريسته فيجهز عليها.
إن المبدأ وحده لا يكفي فالمبدأ له مواصفات وهذه المواصفات المؤسسة على المعدلة الكاملة على الحس الإنسان السليم مفقودة إلا في هذا الإٍسلام هنا نصل إلى قضيتنا وهي القضية الهامة والقضية التي تفتح أمام الإسلام في هذا العصر الذي يموج بالفتن إمكانات للنمو والتوسع لا حد لها بشرط أن يعي رجال الإسلام وأن يعي شباب الإسلام حقائق الإسلام وأن يعرفوا جيداً طرائق الإسلام في السلوك وفي العمل وفي النظر إلى الأمور.
الإسلام أقام مبدأه مؤسساً على عقيدته ومشتقاً من عقيدته فكما أن الله واحد فالإنسانية أيضاً واحدة والإنسان بما هو إنسان أوجده الله تعالى لأي شيء؟ افتحوا القرآن واقرؤوا من أول البقرة أول سورة في القرآن تجدون الله جل وعلا يخاطب ملائكته:
(وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون).
الغاية إذاً هي الخلافة عن الله تبارك وتعالى بإقامة شرعه وتحقيق ميزانه الذي أنزل على أنبيائه ورسله ولكن هل هذه الخلافة أمر سهل؟ ما أظن أن أحداً يعرف ما يقول يدعي سهولة هذا الشيء إن الإنسان فعلاً كما قالت الملائكة يفسد في الأرض ويسفك الدماء ويقطع الأرحام ويقطع ما أمر الله به أن يوصل ويعصي ويزل ويضل؛ ومع ذلك ففي وسط هذه الأهواء المشتبكة والرغبات المضطربة المتضاربة يكون موقف الإنسان المسلم مؤسساً على قواعد العدالة عن قناعة بفشل كل ما تجر إليه الرغبات العارضة والشهوات الهابطة والعواطف المهتاجة إن الخلافة عن الله غرض عظيم ولكن الخلافة عن الله أيضاً لها مقتضيات ومقتضياتها مؤسسة على حس العدالة المطلوبة اقرؤوا إن شئتم ماذا يقول الله جل وعلا لنبيه داود عليه السلام يقول الله تعالى:
(يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب).
فإذاً نحن الآن نضع أيدينا على أول القضايا الضخمة التي عرضها الإسلام وحملها لهذه الأمة المباركة المختارة خلافة الله الخلافة عن الله رب العالمين تتمثل في إقامة أوامر الله تبارك وتعالى وفي مكافحة جميع القوى والتيارات التي تصد عن سبيل الله ولكن هذا يجب أن يكون منظوراً إليه تحت مصباح العدالة التي لا تزيغ شعرة إلى يمين أو شعرة إلى شمال:
(فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله).
فإن سبيل الله جل وعلا هو الصراط المستقيم الذي من أخذ به نجا، ومن خالف عنه هلك وخاب وبار، هذه واحدة يجب أن تحفظوها ولكن هل يكفي بالنسبة لهذه الإنسانية المنكودة الحظ، أن نطلق لها شعارات تخدرها وتنوّمها وتصوّر لها إمكانيات حلول تبشر بمستقبل زاهر سعيد آمن مطمئن؛ أبداً إن الشعارات التي من هذا القبيل لها كل هذه الضخامة، لا بد لها من معاناة ولا بد لتحقيقها من صبر طويل، ولا بد لحملها من أناس تتحقق فيهم مواصفات الخلافة في الأرض والخلافة في الأرض؛ كما قلنا عدالة مطلقة، ووقوف حازم مع حقائق الشرع الذي أنزله الله على خاتم أنبيائه محمد صلى الله تبارك تعالى عليه وسلم، فهذا يحتاج إلى نضال ويحتاج إلى مجاهدة ويحتاج إلى صبر ويحتاج إلى مصابرة.
- اسألوا أنفسكم هل كان هيناً على محمد صلى الله عليه وسلم أن يقرأ هذا الهجاء المر لعمه أخي أبيه - ما أظن ذلك - محمد بشر تثور في نفسه كل العواطف التي تثور في نفس البشر، ومع ذلك فإن محمداً عليه السلام قرأ على الناس ما أنزله الله تبارك وتعالى في حق عدو الله أبي لهب - مع أنه عم النبي محمد صلى الله عليه وسلام - أرأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضرت الوفاة عمه أبا طالب وهو حاميه وهو كافله، وكان يريده على أن يقول كلمة الإسلام يقول له:
"يا عم قل كلمة أشفع لك بها عند الله يوم القيامة، قل لا إله إلا الله".
فيقول: يا ابن أخي لولا أن يقال جزع من الموت لأقررت بها عينك، ولكن على ملة الأشياخ.
على مبدأ آبائه عبد المطلب وآباء عبد المطلب الذين ماتوا على الشرك؛ ويأخذ الألم من محمد صلوات الله عليه مأخذه، وينوي فيما بينه وبين نفسه أن يستغفر لعمه، وينزل قول الله تبارك وتعالى:
(ما كان للنبي والذين آمنوا معه أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم).
أية عواطف تثور في هذه النفس الكبيرة نفس محمد صلى الله عليه وسلم وهو يرى العم الذي حماه، العم الذي كفله ورباه، العم الذي تحمَّلَ كل مساءات قريش من أجل أن يبقى محمد عليه الصلاة والسلام موفور الكرامة، يموت على الشرك ولا يملك له من أمر الله شيئاً فالأمر ليس أمر شعارات، لكنه أمر معاناة صَبَرَ عليها المسلمون الصبر الطويل، كيف كنت تجد الساحة معروضة أمام عينيك، هذه المجموعة التي تلتف حول محمد صلى الله عليه وسلم أبو بكر عمر عثمان وغيرهم من السادة إلى جانبهم العبدان والعتقاء المحررون حديثاً والذين كانوا في المجتمع الجاهلي منبوذين، كانت الجاهلية لا تعترف بهم ولا تنظر إليهم فضمّهم الإسلام تحت جناحيه وكوَّن منهم أمة لقَّنها مبادئ وعرَّفها طريقه - فسارت فيه - سارت فيه تهذب وتشذب من عواطفها ومن رغباتها ومن كل أشياء الدنيا التي كانت متعلقة بها، حتى استقامت أمة على طريق العدل وعلى قاعدة الإحساس الإنساني الكريم، تعالوا بنا.. هذه الأمة بما أنها تدعو إلى وحدة إنسانية جامعة؛ لا يجوز لها أن تضل عن الطريق طرفة عين، لا يجوز لها أن تذل الإنسان لأن رصيدها كله هو هذا الإنسان بل عليها أن تشحن الإنسان، بكل معاني العزة وبكل معاني الكرامة وبكل معاني الشعور الإنساني العالي النبيل، ولا يجوز لها أن تميل مع الهوى فتحابي من أجل القرابة أو من أجل المودة أو من أجل أي غرض أو مكسب أو أي مطمع كان وإنما تصميم على سلوك طريق العدل. إن المسلمين تعرضوا لوقائع تجلت من خلال هذه الوقائع قيمة المبادئ التي يحملونها؛ ونحن في هذا الزمان حينما ندعوكم وندعو المسلمين جميعاً إلى أن يلتفوا حول الإسلام.... وأن تتكتل جهودكم جميعاً لتكونوا الأمة الواحدة الحزب الواحد (ألا إن حزب الله هم المفلحون) فإنما نريد أن يتجلى من خلال مواقفكم سماحة الإسلام وعدالة الإسلام وصلاحية الإسلام لحل مشكلات الحياة وحل مشكلات الأحياء.
- المسلمون في ذلك الزمن البعيد تعرضوا لمواقف تجلت فيها مبادئ الإسلام على عظمتها نبدأ من البداية ومن خلال الأمثال سوف تكتشفون أشياء عجيبة:
حينما أراد الرسول عليه الصلاة والسلام في السنة السادسة أن يزور البيت في السنة التي تعرف - بسنة الحديبية - صدَّه المشركون عن البيت ولم يسمحوا له بزيارة البيت أبداً، وكادت تقع الواقعة بين المسلمين والمشركين ما لكم في النهاية جاء آخر موفد سهيل ابن عمرو يتفاوض مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتم الاتفاق شفهياً مبدئياً ولم يوقع بالأحرف الأولى، ثم على أساس أن يرجع النبي صلى الله عليه وسلم ولا يدخل مكة هذا العام فإذا كان العام، القادم جاء فدخل مكة لا يحملون من السلاح إلا السيوف في القُرَب، وَتُخْلِي لهم قريش مكة حتى يعتمروا ثم يرجعوا؛ اتفاق شفهي.. في هذه الأثناء جاء أبو بصير ابن سهيل بن عمرو جاء منفلتاً وهو يرسف في القيود، الحديد في يديه ورجليه، جاء هارباً لاجئاً إلى محمد لاجئاً إلى المسلمين:
- يا عباد الله أُردُّ إلى المشركين يفتنوني عن ديني.
وثارت عواطف المسلمين ماذا كان موقف محمد عليه الصلاة والسلام بكل هدوء بكل رزانة بكل كبرياء بكل عظمة؛ قال يا أبا بصير اصبر احتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك فرجاً ومخرجاً، إنا قد أعطينا القوم وأعطونا أي جرى بيننا اتفاق وإنه يا أبا بصير لا يصلح في ديننا الغدر. اسمعوا الكلام العالي: لا يصلح في ديننا الغدر لو رأيناك تقطع تمزق تتخطفك الكلاب، لا يمكن لنا أن نتراجع بعد أن أعطينا العهد و أعطينا المواثيق لا يمكن، وعاد أبو بصير إلى مكة يسحبه أبوه سحباً ليعذبه كي يفتنه عن دينه ويرده إلى الشرك بعد الإسلام.
- هذا الموقف ليس ثمرة شعار تلوكه الألسنة الفارغة وتردده ترديداً ولكنه نتيجة تربية طويلة مؤسسة على عقيدة راسخة بصلاحية المبدأ وباستقامة الطريق.
أيضاً تمضي الأيام وينساح المسلمون ويخرجون إلى الدنيا يفتحون المدن ويقوضون الدول وفي جملة ما فتح فتحت مدينة حمص، هذه التي تعرفونها، وجرى الاتفاق على أن يمنع المسلمون أهالي حمص من عدوان أعدائهم، وأن يدفع أهالي حمص الجزية إلى المسلمين. يسمع أبو عبيدة رضي الله تعالى عنه وهو قائد جيوش المسلمين في الشام أن الروم قد جمعوا لهم جموعاً عظيمة ويجلس مع قادته وأركانه فيقدرون الموقف ويتضح أن المسلمين لا يستطيعون أن يفوا بوعودهم وعهودهم لأهالي حمص ما المخرج يرجع المسلمون الجزية التي أخذوها إلى أهل حمص ويقولون لهم نحن عاجزون حالياً عن حمايتكم، ولهذا فنحن نرد إليكم ما أخذناه منكم فإذا أظفرنا الله على عدونا ونصرنا عدنا إليكم فأخذنا منكم ما اتفقنا عليه - أية دولة تفعل؟ هذا أكثر.. تمضي الأيام وفي زمن عمر رضي الله عنه تفتح العراق وتفتح أطراف فارس وتقام أمام القضاء الإسلامي أغرب دعوى عرفتها الإنسانية: مدينة نهاوند في فارس يفتحها المسلمون، فإذا فتحت يتقدم أهلها بشكوى إلى الخليفة ما مضمون الشكوى؟ مضمون الشكوى أن فتح البلد كان على غير الطريقة الإسلامية، ولذلك فهم يعتبرون هذا الفتح باطلاً ويطالبون المسلمين بالخروج من المدينة لماذا لأن القاعدة الإسلامية تقول إنه لا يجوز لنا أن نفتح مدينة أو نشن حرباً، حتى نخير الناس بين ثلاث.
إما الإسلام فإن أجابوا لذلك كان لهم ما لنا وكان عليهم ما علينا.
وإما الجزية فيعيشون تحت رعاية المسلمين وبحماية المسلمين.
وإما القتال.
وهذه المدينة يدعي أهلها أنه لم يخيرها أحد بين هذه الأمور الثلاثة وفتحت عنوة ولذلك فهي تعتبر الفتح باطلاً. وفعلاً يأمر الخليفةُ قاضيَ المسلمين بأن ينظر في الدعوى وتقدم البينة أمام القاضي أن المسلمين خالفوا الشرط.. شروط الفتح، ويحكم بإخلاء المدينة من الجيش المسلم: وفعلاً يخرج الجيش المسلم أية دولة تفعل هذا؟ إن دول اليوم إذا دخلت قرية أذلت كبارها وهتكت نساءها وقتلت رجالها ونهبت خيراتها وفعلت الأفاعيل؛ ولكن المسلمين أصحاب قضية أصحاب مبدأ أصحاب طريق لا يرتبط بالمصالح القومية العابرة ولكن بالمصلحة البعيدة بالمصلحة الإنسانية العليا النهائية ولذلك لا يقفون عند هذه الصغائر ولا يقيمون لها وزناً دينهم علمهم ذلك على الحب وعلى البغض وعلى الكره وعلى الرضى وعلى الغضب. لا بد من العدل والنبي عليه الصلاة والسلام حين كان يدعو ربه كان يرفع يديه إلى السماء ويقول: وأسألك كلمة العدل في الرضا والغضب.
لأن الإنسان قد يميل مع الهوى قد يميل مع المحبة قد يجنف مع البغضاء ومع العداوة، والمسلم مطالب بأن يكون قد وفر لنفسه الحماية الكافية تجاه كل هذه العواطف الضارة.
تعالوا انظروا إلى سورة المائدة، سورة المائدة تفتحونها فتقرؤون بها بعد بسم الله.
(يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) العقود هي المعاهدات والمواثيق والمحالفات مع الله ومع عباد الله مع الأصدقاء ومع الأعداء فإذا قفزتم قليلاً إلى الأمام شيئاً وجدتم الله جل وعلا يقول في أوائل هذه السورة:
(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون).
فالمسلم مطالب بأن يقف هذا الموقف الكريم هذا الموقف الكبير.
بعد هذه كلها نرجع إلى الآيات التي تلوناها عليكم في الجمعة الماضية من سورة النحل وهي كما لابد أن أعترف تحتاج إلى وقفة طويلة ولكن لا بأس من استعراضها استعراضاً خفيفاً لأنها تشكل منهجاً؛ الإنسانية اليوم أحوج ما تكون إليه على الإطلاق. يقول الله تعالى وافتحوا آذانكم وقلوبكم:
(إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون).
يعظكم بماذا بالتمسك بهذه الأشياء العدل الإحسان إيتاء ذي القربى البعد عن الفحشاء والمنكر والبغي وهو الظلم وتجاوز الحدود، ويقول الله جل وعلا بعد ذلك:
(ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً).
هذه الكلمة تعني تنفير المسلمين أن يكون مثلهم كمثل الغازلة التي تغزل الصوف فكلما غزلت الخيط عادت فنقضته:
(ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً).
- يعني غشاً وخديعة - دخلاً لماذا؟
(أن تكون أمة هي أربى من أمة) أن تكون أمة طرف من الطرفين المتعاقدين أقوى وأكثر عدداً من الطرف الآخر؛ فهي لذلك تنتقض العهد وتخرب الميثاق وتدوس على جميع العهود والمواثيق إنما يبلوكم الله به أي أن الله يختبركم بهذا التوجيه، ويختبر صلابتكم ووقوفكم عند حدود هذا التوجيه، إنما يبلوكم الله به وليبين لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم وهنا بيت القصيد:
(فتزلَّ قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم).
هذا الخطاب لمن؟ للأمة، لأمة محمد، لأمة الإسلام، طلب الله جل وعلا منها أن تكون واقفة عند حدود العدل وأن لا تنقض العهد وأن لا تنقض الميثاق وألا تتخذ من قوتها ومن كثرة عددها ومن وفرة عُدَدها؛ ذريعة إلى نقض العهود والمواثيق لماذا؟ إذا كانت الأمة الإسلامية تضرب هذا المثل السيئ بخيانة العهود وبنقض المواثيق والعدوان على الناس فأي أمل يبقى للناس - لا شيء على الإطلاق - ولهذا حددت الآية الأخطار المتمثلة على الانحياز عن هذا الموقف (ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم فتزلَّ قدمٌ بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله).
ماذا ينتج عن نقض العهود؟ خروج الأمة عن الطريق المستقيم؛ زلة القدم بعد ثبوتها ثم ماذا؟ تذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله، المستقيم زلة القدم بعد ثبوتها ثم ماذا؟ تذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله، إنه يجب على كل ظالم وعلى كل باغ وعلى كل معتد أن يعلم حقيقة بسيطة إن حلاوة النصر بطريق الخدعة بطريق الخيانة قليلة وزهيدة، ولا بد أن يذوق الإنسان نفس الكأس التي سقاها للآخرين.
إن الأمة التي تخون والتي تخدع والتي تظلم والتي تبغي قد تتمتع شيئاً ما بثمار ما تفعل، ولكنها بكل تأكيد سوف يقع عليها كل البلاء الذي أوقعته على رؤوس الناس.
هذا واحد، والشيء الثاني بما صددتم عن سبيل الله. هذه الأمة أقامها الله تعالى لتكون شهيدة على الناس وقيمة على هذا الدين، فإذا خانت وإذا خدعت وإذا ختلت وإذا غشت، تكون صادة عن سبيل الله تبارك وتعالى.
إن سلوك الأمة خير دعاية لها.
إن سلوك الأمة أفضل دعاية.
لها إن سلوك الأمة هو الطريق الذي يتمهد تماماً لدخول الناس في دين الله أفواجاً.
قد دخلت العرب في دين محمد لما عرفت ورأت وشاهدت من سماحة محمد ومن عدالة محمد.
وهذه الأمة مع شديد الأسف تورطت عبر القرون في الأدوار التي أصابت الأمم السابقة تورطت بالغش وتورطت بالخداع، وخرجت عن المحاور التي أقامها الله عليها، فذاقت السوء فهي اليوم مستذلة وهي اليوم مستضعفة وهي اليوم مقهورة ومسحوقة، وصدت عن سبيل الله.
- كل مبدأ في الدنيا حتى مبادئ الشياطين لها دعاتها وينظر إلى دعاتها باحترام إلا الإسلام لا يستمع أحد له ولا يحترم أحدٌ دعاته لماذا، لأن الأمة بسلوكها المنحرف بطريقتها المعوجة بأخلاقها الفاسدة بمعتقداتها الضالة بتفرقها المزعج أصبحت أسوأ دعاية لنفسها، وأسوأ دعاية لهذا الدين الذي تعتقده وتعتنقه.
إننا يا إخواننا نسمع ونرى كيف يذبح إخواننا من المسلمين اليوم في لبنان ذبح النعاج. ونسمع ونرى كيف يُشرَّد أبناؤنا وإخواننا من بيوتهم، ونسمع ونرى كيف يُعتدى على الحرمات، ونسمع ونرى كيف تنتهك الأعراض على الأرض العربية وعلى الأرض المسلمة بأيدي العرب وبأيدي المسلمين، أفذلك جزاء حق وعدل أم هو ظلم من الله تبارك وتعالى؟ قيسوا المسافة بينكم وبين سماحة الإسلام وعدالة الإسلام تجدوا أن ما أنتم فيه حق وعدل؛ حق على الله أن يذيقكم الكأس التي أذقتم الناس إياها لقد ظلمتم ولقد بغيتم ولقد خستم بعهودكم ومواثيقكم مع الله، ولقد عاهدتم فغدرتم فكان حقاً أن ينزل الذي نزل - لا بأس مضى الذي مضى وحدث الذي حدث نحن لا نريد إلا شيئاً واحداً نريد أن تعوا وتدركوا حقيقة بسيطة العواطف الهائجة لا تنفع الذي ينفع في هذه الأوقات العصيبة التي تُرى نساؤنا فيها بين أيدي النصارى وبين أيدي اليهود، ويا أهل الشرف يا أهل الإيمان يا أبناء محمد، العواطف لا تنفع الذي ينفع هو أن تفكروا، جربتم كل شيء ففشلتم في كل شيء وما زلتم منذ أوائل هذا القرن تتقلبون كالمومس في أحضان الدول وفي أحضان المبادئ فماذا كانت النتيجة كانت النتيجة، مزيداً من التمزيق ومزيداً من البعد عن الله تبارك وتعالى فأدعوكم بسم الله وعلى سنة رسول الله أن تلتزموا بهذا الإسلام، وأن تعرفوا أن الله قد أخذ عليكم موثقاً فخان من فرط في موثقه مع الله، فسيمسّه العذاب الأليم.
أدعوكم إلى الله أدعوكم إلى الإسلام اتركوا كل شيء اتركوا شهواتكم اتركوا أغراضكم اتركوا مطامعكم اتركوا هذه اللامبالاة واعلموا أن الكلمة التي أنهضت محمداً قادرة على أن تنهضكم واعلموا أن القرآن الذي أخرج البداة الحفاة العراة من الصحراء فجعلهم سادة الدنيا وقادة الناس، قادر على أن يأخذ بأيديكم حتى تتسنموا مكانكم الذي أراده الله لكم كي تكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً.
وأكرر إن العصر الحاضر يفتح أمام الإسلام إمكانيات لا حد لها فلتبدأ البداية من هنا من أنفسكم اتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه ولتنظر نفس ما قدمت لغد وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.