حـرّ .. أو عبد ؟!
زهير سالم
كانت، من المنزل الضخم، تنبعث أصوات وروائح تنم على أن من فيه قد خلعوا الربقة، ورتعوا في الحمى، وانساقوا وراء الغريزة.
تقدم
(درويش) خفيف من حيث يعلو (لهو الحديث)، وطرق الباب، فخرج خادم تدل أناقته على
مكانة سيده. يسأله الدرويش بلطف: صاحب البيت حرٌّ أو عبد ؟! يبهت الخادم لحظة ؛
ينظر إلى الدرويش مستغربـاً مستهجنـاً ،
يجيب بانفعال: بل حرٌّ طبعاً حرٌّ. يجيب الدرويش: هذا هو إذا، هذا هو إذا، ثم يختفي في طرف الزقاق الملتوي.. حين يصل صاحب البيت بأبهته وأناقته تشع من وجهه بقايا ما كان فيه.. ويلمح طرفاً من عباءة الدرويش في منحنى الزقاق، يلتفت إلى الخادم: من كان ذاك ؟ يجيب الخادم: أبله أو معتوه أخرق.. يسأل السيد بعصبية، ولكن ماذا كان يريد ؟ يجيب الخادم بسخرية ظاهرة: تصور يا سيدي يسألني صاحب هذا البيت حرٌّ أو عبد؟! فيرد عليه السؤال ملهوفاً، وماذا أجبته ؟! الخادم، ماذا أجيبه ؟! قلت له حرُّ يا سيدي.. وينطلق (بشرٌ) حافياً وراء الدرويش، وهو ينادي، مجهشاً بالبكاء، بل عبد يا سيدي، عبدٌ.. عبدٌ.. عبدٌ..
ويقضي (بشر) بقية حياته، يجاهد ليثبت عبوديته أو ليتحقق بها، وليؤدي بعض استحقاقاتها.. فالعبودية كما رآها بشر وأصحابه: (كمال الخضوع مع تمام الحب..) العبودية مقام كريم، يحرر صاحبه، يطلقه لطيفاً أثيرياً فلا تستعبده غريزة، ولا تستبد به شهوة، ولا تخرجه عما يقتضي الحب والخضوع، الحاجة ولا تتحكم به عادة.
العبودية تحرر صاحبها من الكراهية، ومن الخوف، ومن القلق لتعرج به إلى أفق الطمأنينة المطلق، وتضعه على بساط الرضا الرحب، بنقاد كل ما فيه للحبيب الأول، حتى هواه: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به).
تضع العبودية لحركة الإنسان ضوابطها، وترسي للحياة قواعدها وقوانينها، يتقرر على أساسها أمر الحق وتنماز ماهية الباطل، يعرف بها ومنها الخير والشر والجمال والقبح والفضيلة والرذيلة.
فإذا لم يكن الله موجوداً، كان كل شيء باطلاً ؟! وإذا لم يكن الله موجوداً كان كل شيء مباحاً.. والله الأول والآخر والظاهر والباطن هو صاحب الخلق والأمر.. (ألا له الخلق والأمر..) من أقر له بالخلق لابد أن يقر له بالأمر لئلا يقع الناس في الثنائية والازدواج، فالإقرار بهذا مشتق من الإقرار بذاك.
والعبودية المطلقة لصاحب الخلق والأمر، هي إطار (الحرية) وأساسها وأفقها.. وأي فهم للحرية خارج دائرة الخضوع لصاحب الخلق والأمر هو رديف للفوضى والعبثية والفساد.
وأمانة التكليف التي تركت للإنسان الخيار الإنذاري، خيار (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر..) إنما تركت له الأهلية للتحقق بالمقام الكريم الذي رشح هذا الإنسان إليه..
وفي سياق هذا الفهم لجديلة (العبودية ـ الحرية) لن يكون الإنسان حراًّ في التصرف فيما يملك.. الذي يظن أنه يملكه وهو مستخلف فيه. وهكذا تسقط العبودية ثنائية: الاستئثار والإشباع اللتين تقوم عليهما فلسفة الجشع الرأسمالي.
وفي سياق هذا الفهم لجديلة (العبودية ـ الحرية) لن يكون للقوي المسيطر أن يستبد بأمر الضعيف الأعزل، فيسومه ما شاء من رهق وعذاب، بدعوى القدرة المعزولة عن شرعيتها.. لأن صاحب الخلق والأمر نادى في عباده (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا..)
وفي سياق هذا الفهم لجديلة (العبودية ـ الحرية) لن يكون الإنسان حراً في نفسه وعقله وجسده وحياته، يفعل فيها ما يشاء، بل هو مكرم في دارة الخلق والهدى: (الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى)، فليس للإنسان المكرم أن (يشييء) نفسه أو جسده فيحولهما إلى سلعة تعرض في سوق النخاسة، أو سوق المتعة أو سوق الحاجة للاستهلاك.. ليس له أن يبتدر جسده بما يوهنه ولو بلفيفة تبغ، أو جرعة خمر، أو وجبة زائدة من دسم، وليس له أن يخرج عن سياقات (الهدى) والفطرة التي ضبطت عالم الأحياء..
وفي إطار هذا الفهم للحرية الإنسانية الفردية والجماعية تتأطر كل أشكال الحرية الفكرية والسياسية والاجتماعية.. ستظل رائعة ديستوفسكي ماثلة: (إذا كان الله غير موجود فكل شيء مباح).. ومن وجود الله الثابت المطلق تتقرر في حياة الناس المعاني الخالدة للحق والباطل، والخير والشر، والجمال والقبح.
وهي معاني تستحق من الإنسان أن يجري حافيا وراءها ينادي كما نادى بشر الحافي، أو كما مايزال ينادي..
بل عبد يارب، عبد..