في ظلال العبودية
خطبة الجمعة 20 / 5 / 2016
13 شعبان/ 1437هـ
الخطبة الثانية "المدد من الله"
بين يدي رمضان، واستعداد المسلمين لاستقباله قياماً بحقه، نؤكد على ضرورة الفهم الأعمق لقضية العبادة والعبودية في الإسلام في ظل قوله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]
وقوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162- 163]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5]، فالعبادة في الإسلام لها مفهوم عام ومفهوم خاص.
العبادة والعبودية لله:
فأما المفهوم العام للعبودية فهو خضوعك لله وانقيادك له والطاعة في كل أمر وحين حباً وتعظيماً ورضاً وامتثالاً؛ فلذلك يستطيع المسلم أن يكون في كل لحظة في عبادة، فعندما يتاجر وفق أمر الله بالتزام الحلال واستحضار النية الصحيحة، فيأخذ المال من حقه ويضعه في حقه، ويعلم أن لله فيه حقاً فلا يتأخر فيه، فهو في عبادة، وعندما يتعلم علماً ينفع الأمة وينوي في ذلك نية صالحة فهو في عبادة، وعندما يخرج من الصلاة فيعقد صفقة تجارية فيعرض عليه الربا أو الغش فيقول لا، هذا حرمه الله فهو في عبادة، وعندما يكون مسؤولاً فيقوم بحق العباد ومصالحهم بإخلاص ورعايا ورحمة ، فهو في عبادة، وعندما يكون محامياً فينتصر للحق بصدق وإخلاص، فهو في عبادة، وعندما يكون طبيباً فيخفف الآم النام ويرحمهم ويرعى فقيرهم، ، فهعوم في عبادة، وعندما يتزوج فينوي الإعفاف لنفسه وزوجه وطلب الذرية الصالحة وتربيتها على ما يرضي الله وإنشاء المجتمع المؤمن القوي فهو في عبادة،. وعندما يصلح بين إثنين احتساباً لوجه الله فهو في عبادة، عندما يكون صانعاً أو عاملاً فيخلص ويتقن ويعمل لنصرة الأمة وإعزازها فهو في عبادة، وعندما يطلب العلم في أي نوع مخلصاً ولنصرة الأمة وإعزازها فهو في عبادة طالما يستحضر نية صحيحة، قال تعالى: (فمكن كانم يرجوا لقاء ربه ...أحد)))
ويؤكد هذا المعنى ما جاء عَنْ أَبِي ذَرٍّ، أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ، يَا رَسُولَ اللهِ، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ، قَالَ: " أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ، وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ") صحيح مسلم، 1006
ويؤكد هذا المعنى عندما نستحضر قصة سليمان ولقد كان سليمان نبياً ملكاً، ولكنه هو عبد لله، وكان في عظمة الملك يجسد مظهر من مظاهر العبودية لله، قال تعالى: (إذا عرض عليه ... الأعنقا)) فإنه استعرض الخيل لنصرة الحق وللجهاد أثراً عن حب الله وذكر الله، فكان في عبادة، وانظروا إلى هذا الحديث: (عَنْ سَعِيدٍ الطَّائِيِّ أَبِي البَخْتَرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو كَبْشَةَ الأَنَّمَارِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ، عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لاَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلاَ يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلاَ عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ) سنن الترمذي،حسن صحيح، 2325.
فانظروا ذاك بالنية الصالحة كان عابداً لله ، وذاك بالعمل الصالح في المال كان عابداً لله ، أما الصنف الآخر فكان خارجاً عن العبودية لله عملاً ونيةً.
هنا السؤال ما هو دور العبادات الخاصة من صلاة وصوم وزكاة وحج وذكر وتلاوة قرآن؟
إنها تؤهلك للارتقاء للتحقق بحقاء العبودية لله لتكون كلك لله، على سبيل المثال لا الحصر كيف نواجه الظلم والاستبداد والفساد إذا لم تكن أرواحنا ونفوسنا وقلوبنا قد استمدت قوتها من الله (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ ") صحيح البخاري، 6502.
فعندما نقوم بالعبادات الخاصة نستمد القوة والروح والنور فنجعل كل حياتنا لله في التجارة والمال والقانون والصناعة والعلم،
ومثل آخر حتى ننتصر في صراعنا مع العدو فنحرر مقدساتنا فلابد أن نكون عباداً لله ﴿ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً ﴾ [الإسراء: 5]
ولا ينتهي هنا الحديث عن العبودية لله وأثر العبادات في معناها الخاص لتؤهلنا للعبودية الكاملة، فنسأل الله أن يوفقنا لإتمام ذلك.
وسوم: العدد 669