الغيمة الباكية 9
الغيمة الباكية
عبد الله عيسى السلامة
الفصل العاشر
الذئاب تفقد ألوانها
لم تكن اللعبة سهلة، بالنسبة إلى كل من لوفنتال وشوفان.. كان بينهما تحالف، وكان بينهما صراع.. وكان بينهما تنسيق، وكان بينهما مكر وخداع.. المصالح التي تجمع بينهما كثيرة، والمصالح التي تفرق بينهما كثيرة كذلك.. ولكل منهما قيادة يرجع إليها ويستشيرها، وفي أعماق كل منهما غريزة ذئب، وأنياب ذئب، وتحفز ذئب.. وعلى كل منهما جلد ذئب.. وألوان الجلود هي المختلفة.. أما ما عداها من أرواح الذئاب وطباعها وعناصرها الأساسية الأخرى، فمتشابه..
الضمير الإنساني لكل منهما، بعيد عنه، بعيد جداً.. تركه هناك في بلاده.. انتزعه من مكانه.. وانطلق باتجاه بادية الشام.. وكل منهما يعرف هذا لدى صاحبه.. ويكبر ما يراه فيه من سعار الذئب.. إلا أنه يحرص على اتقاء أنيابه أبداً..
لوفنتال يناور ضد شوفان، ويرفع تقريراً عن مناوراته، إلى باراسوك موراي، ليتلقى تعليمات جديدة، عن مناورات جديدة..
وشوفان يمارس ضروباً من الخداع ضد لوفنتال، ويرفع تقريراً عن مخادعاته، إلى ساسين جولفادير، ليتلقى أوامر جديدة، تتضمن مخادعات جديدة.. والآن دخلت الحلبة ذئاب جديدة.. ذئاب ليست كالذئاب.. صوف الحملان يغطي أجسادها، وثغاء الحملان ينطلق من حناجرها.. وأظلاف الحملان تغلف نهايات قوائمها بأغلفة من البراءة والطهر والمسكنة.. أما ما عدا ذلك، ففي كل خلية منها ناب ذئب، أو مخلب ذئب، أو مقلة ذئب.. "دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر.." هذا هو سمت الحمل.. إنه خفيف رشيق.. ملون جميل.. يلبس بسرعة كبيرة.. ويخلع بسرعة مذهلة... إنهم أعضاء بعثة الاستشراق.. تسوقهم نزاهة العلماء، وتقودهم براءة القديسين.. إنهم مستشرقون من طراز سماوي مباشر..
قال لوفنتال موجهاً كلامه إلى ملا قطيط: هل وصلك الجواب يا عزيزي كوتيت من المكتب، حول اقتراح مسعود؟
قال زوكريت كوتيت بجدية ورصانة: أجل.. منذ يومين..
قال لوفنتال باسماً: وهل استجاب المكتب لعرض مسعود السخيف؟
قال كوتيت بهدوء: ليس إلى الحد الذي تمناه مسعود.. وإنما درس اقتراحه بعناية، ونظر إليه بجدية أكثر مما أوليناه نحن هنا من اهتمام..
قال لوفنتال: والمحصلة النهائية؟
كال كوتيت: المحصلة أنهم لا يوافقون على الاقتراح بعمومه، وإنما يعطوننا الحرية في أن نرفع لهم اسم أي شاب يحرص أهله على تعليمه في بلادنا، إذا توسمنا فيه خيراً، وقدرنا أنه يمكن أن يساعدنا في تمدين أهله، وتطوير مستواهم الثقافي، على ضوء حضارتنا ومثلنا وأهدافنا البعيدة.. وقد طلبوا منا التعامل مع هذا الأمر، بحذر شديد وعناية زائدة.. ورأوا أن لا حاجة إلى إرسال أحد من طرفهم، كما لا حاجة لإثارة زوبعة حول أبناء المشايخ، ما داموا قد فارقوا الساحة، وغرقوا في النعم في مزرعة صهر الشيخ طراد.. كما طلبوا منا، أن نوثق العلاقة إلى أقصى حد ممكن، بيننا وبينكم للتعاون على ما فيه الخير لمهمتنا المتواضعة ومهماتكم الجسام..
تضاحك الرجال الخمسة، وقال شوفان معلقاً: هذا أمر طبيعي.. فالأهداف واحدة والمصير واحد، سواء في مقارعة الفهرور هتلر أو الفهرور مدلول..
ضحك الباحثون الثلاثة، وابتسم لوفنتال ابتسامة صفراء باهتة.. لقد أحس بأن شوفان، يحرص على تعميق اشتراكه في شؤون البادية، وتدخله تحت مظلة الخطر المشترك، في كل صغيرة وكبيرة من قضايا البدو.. ولقد أثبتت تجربة التنسيق معه حتى الآن، أنه أخبث من الشيطان.. يضع في جيبه الفصول الأربعة باستمرار، ويستخرج لكل موقف أو علاقة، الفصل الذي يناسب مصلحته.. وأحياناً يجمع فصلين في وقت واحد، وينشرهما على سطح واحد، الصيف الحار والشتاء البارد.. أو الخريف القاحل والربيع المزهر.. وأحياناً ينثر الفصول الأربعة على سطح واحد صغير، وينتقي منها ما يراه مناسباً للموقف.. خبيث ماكر.. حية رقطاء في قميص فرنسا الداخلي..
قال جورج كاردوج، وقد نظر إلى الأشجار تهتز من لمسات النسيم العليل داخل البيت الواسع: إن أجواء حمص في الربيع جميلة جداً..
قال نوبار لوسوان: صدقت يا عزيزي كردوش، إلا أن أجواء البادية، أجمل منها، وهواءها أنقى وأصفى.
قال ملا قطيط معقباً: ولا سيما خراف مسلط يا مسيو لوصان..
ضحك الجميع، وقال كردوش معقباً:
ذكرتمونا بخراف مسلط، التي أكلناها بلا خمرة، وكدنا نغص بها، لولا أن دفعناها بالماء المالح..
قال لوصان: لو غصصت على المائدة يا كردوش يا ثخين العظام، لورثت لنا عاراً أبدياً، لا لأوروبا وحدها، بل للعالم المتمدن بأسره..
قال ملا قطيط جاداً: هذا صحيح.. فمن أشد العار عند البدو أن تغص على المائدة.. حتى أن أسرتك كلها تعير بلك، بل أحفاد أحفادك يعيرون بك، إذ ما أسهل أن يقول لهم قائل:"لعنة الله على جدكم، الذي غص على صينية فلان".. إن سقوط باريس تحت حوافر خيل النازية، أهون من غصة بدوي على مائدة..
قال شوفان: إن هذا الأمر ملاحظ عند البدو فعلاً، كما أنه من الملاحظ عندهم إطالة الجلوس على الطعام، إذ لا يكاد أحدهم يستقر قرب المائدة حتى ينهض مسرعاً، بعد أن يكون قد ألقى في جوفه مجموعة من الكرات الطائرة، لا تجاوز عدد أصابع اليدين، وبسرعة عجيبة..
قال لوفنتال: يبدو إن إطالة الجلوس على الطعام، تثير لديهم انتقاداً كذلك، وتسبب العار، إذ يقال عن الرجل في هذه الحال:"انظروا إلى هذا الدنيء.. ما أشد نهمه" أو يقال:"إن هذا النذل لم يشبع في بيته.. عينه جوعانة"، ومثل هذه العبارات اليت يخترعونها من عند أنفسهم، ويحملونها قيماً أخلاقية معينة..
قال لوصان: أما نحن فيلتمسون لنا أعذاراً، لأننا لسنا بدواً..
قال ملا قطيط باسماً: بل قل لأننا لسنا بشراً في نظرهم.
قال كردوش: إن هذه الأمور تدعو إلى التأمل فعلاً.. يبدو أن هؤلاء القوم ليس لديهم أمور هامة تشغلهم وتملأ أوقاتهم، لذا فإنهم يضيعون وقتهم في هذه السفاسف..
صفق لوصان بيديه، وقال: مرحى مستر كردوش مرحى.. يجب أن نسميك أرخميدس الثاني، لاكتشافك هذه الحقيقة العجيبة..
ضحك الجميع لهذا التعليق من لوصان وقال كردوش متظاهراً بالأسى: أرجو يا سيدي ملا قطيط، أن تأمر لوصان الزمام بجلب زجاجة وسكي، لأنه نشف حلقي، وجعلني أغص بريقي، بعد أن نجوت من خراف مسلط..
ثارت موجة من الضحك، وقال ملا قطيط للوصان: ادفع ضريبة ما جنت يداك، والحق راعي الخضرا بزجاجة ويسكي، قبل أن يفتح عليك رشاش همهماته ويرديك قتيلاً..
قال لوصان: أمر مولاي ملا قطيط..
ونهض فأحضر زجاجتي ويسكي ومجموعة من الكؤوس.. وبدأ كل منهم يصب ويشرب..
كان في أعماق كل منهم أشياء كثيرة.. الغربة.. الحرب.. البعد عن الأهل.. القلق من مصير غامض مجهول.. ثم: المهمة، وما يصاحبها من تكاليف وأعباء.. العلاقة مع الآخرين، من رؤساء وغيرهم..
وكان إحساسات الباحثين بضخامة أعبائهم، أخف من إحساسات الضابطين، اللذين يشعر كل منهما بضغط هائل على كاهله، يكاد يحطم نفسيته ويسحق عظامه..
الحياة العسكرية صعبة داخل البلاد، بين الأهل والأصدقاء، وفي حالة السلم.. فكيف يمكن أن تكون في الغربة، بلا أهل ولا أقارب.. وفي حالة حرب ضروس، تتمخض كل يوم عن حقائق مذهلة، تجعل الفرد كريشة في مهب الريح، لا يدري في أية ساعة يسقط في مهلكة من المهالك الرهيبة المنبثة في كل مكان.. هذا فضلاً عن التوتر الدائم الذي يعيشه كل من الضابطين، نتيجة المراقبة المستمرة لتصرفات صاحبه، والحذر الدائم من المناورات التي لا تهدأ، والتي تسبب الغفلة عنها أضراراً وأخطاراً لا يعلم مداها إلا الله، فضلاً عن العقوبات الصارمة، التي يمكن أن تحل على رأس الضابط، نتيجة لأي تقصير أو خطأ أو إهمال، يسبب ضرراً لمصلحة بلاده..
لوفنتال يفكر بمشروعه الضخم، ذي العناصر المتعددة: تغيير بعض الزعامات البدوية التي لا يرتاح لها، وتنصيب زعماء يستطيع تحريكهم كما يحرك الخاتم في إصبعه.. محاصرة مدلول وأتباعه واستئصال شأفتهم.. تقليم أظافر حليفه الذي فرضته عليه ظروف الحرب، فصار يعتبر نفسه شريكاً شرعياً في تصريف شؤون البادية، إلا أنه يتظاهر باحترام حقوق فرنسا في مستعمراتها، ويمارس حقه الشرعي في الشراكة سراً.. لوفنتال يفكر بهذا كله، منتظراً الجواب على تقريره المفصل، واقتراحاته الموسعة، التي رفعها إلى رئيسه الجنرال موراي، ليبدأ بتنفيذ مشروعه الذي يخدم مصلحة فرنسا من ناحية، ويرفع عن كاهله كثيراً من مشكلات البادية من ناحية أخرى..
أما شوفان، فأهم نقطة يفكر فيها الآن، هي كيفية الوصول إلى حقيقة العبد شوكان الوراد، الذي أصبح هاجساً له، لا يستطيع تجاهله أو نسيانه، ولا يستطيع أن يصل إلى قناعة واضحة بشأنه.. ولقد خطر في باله مرات عدة، أن يطرح اسمه أمام لوفنتال، بأسلوب ما، إلا أنه كان يستبعد هذا الخاطر، مخافة أن يلفت نظر لوفنتال إلى العبد، ويشعره بأهميته، فيتبناه، أو يسبغ عليه حمايته، مما يضع العراقيل أمام شوفان، فيما لو اكتشف أن العبد كان في يوم ما عدواً لبريطانيا، إذ يصعب على شوفان أن يتخذ عندها أي إجراء ضد العبد إلا عبر لوفنتال، الذي قد يتخذ من العبد ورقة مساومة، أو يستخدمه ضد بريطانيا فيما لو اكتشف أن له شأناً ما، يمكن أن يؤثر على المصالح البريطانية..
كانت أخبار الحرب، هي المحور الأساسي لتفكير كل من الضابطين بشكل عام.. فهي الآن القضية الأولى، التي تدور في فلكها كل القضايا والعلاقات والمواقف.. وعلى نتيجتها يتوقف مصير العالم الغربي أولاً، والعالم كله ثانياً.. وكانت حسابات كل من الضابطين، حول مصير البادية ومستقبلها.. ذات شقين: الشق الأول هو الواقع الراهن، بكل عناصره وجزئياته.. والشق الثاني هو مستقبل البادية وسكانها بعد نهاية الحرب.. وإذا كانت بادية الشام خاضعة الآن لفرنسا بصفتها جزءاً من مستعمرتها سورية، ويتقرر مصيرها على ضوء مصير البلاد عامة.. فإن هذه البادية نفسها يمكن أن تكون، في كثير من مناطقها، مادة خصبة للخصومة، بين الدولتين الحليفتين فرنسا وبريطانيا، ضمن ظروف معينة.. وهذه النقطة لا تغادر خيال شوفان.. إذ لو حدث نوع من الصلح مع دول المحور، على أساس الأمر الواقع، وخرجت بريطانيا من الحرب، قوية محافظة على مكانتها الدولية ومستعمراتها، وظلت فرنسا في حالة ضعف تحكمها معاهدة ذليلة مع هتلر، يخرج بمقتضاها من باريس، ويقتطع أقاليم معينة من المستعمرات الفرنسية، أو من الأراضي الفرنسية بالذات.. لو حصل هذا، وهو ممكن عامة، تزيد من إمكانيته أو تقلل منها تقلبات ظروف الحرب.. فماذا يمكن أن يكون مصير البادية، المجاورة لبعض المستعمرات البريطانية؟ وهل سيظل لوفنتال يعتبها شاربه الأيمن كما يعتبر الجزيرة شاربه الأيسر!؟ أفلا يمكن نتف هذين الشاربين، وإلصاقهما في وجه تشرشل، بعد أن يحرق لهيب الحرب لحية ديغول، التي ركبتها له بريطانيا وجعلت منه بشراً ورجلاً وزعيماً لفرنسا الحرة!؟ هه.. فرنسا الحرة! ما أسخف هتلر..! ترى لو عرف هذا الخنزير كيف يتصرف، وكيف يحسب مصالحه، أما كانت بريطانيا العظمى تستجيب لنداء العقل، وتنسق أمورها معه لتصفية حساباتها القديمة مع حليفتها "فرنسا الحرة"، التي خاضت ضدها حرب المئة عام!؟ هه..!.. فرنسا الحرة.. هه..! لوفنتال..! هذا المتوحش الدنيء يحسب نفسه الإمبراطور جستنيان بين هؤلاء البداة المتخلفين..! سأعرف كيف أتعامل معه.. سأعرف كيف أدق في البادية مسامير وأوتاداً، لا يستطيع ضبع فيشي المغرور انتزاعها، لو حشد لها أجداده الضباع جميعاً.. وبعد نهاية الحرب يستطيع أن يتفقد أوصاله، ليرى ماذا بقي له منها..
عقف شوفان شاربيه، وصب كأساً من الويسكي، وقال مبتسماً: أملؤوا كؤوسكم أيها الأصدقاء، لنشرب نخب انتصار الحلفاء..
ملأ الجميع كؤوسهم، وكرعوها..
قال ملا قطيط باسماً: أرجو أن يتكرم السادة العسكر، بإعطائنا فكرة عن آخر تطورات الحرب..
قال لوصان مستدركاً: على أن تكون من خلال الواقع لا من خلال وسائل الإعلام.
قال لوفنتال: ألا تثق بوسائل الإعلام يا عزيزي لوسوان..
قال لوصان: إذا كان يجب علي أن أثق بها، فيجب أن أثق بها كلها.. أو ألا أثق بشيء منها إطلاقاً.
قال لوفنتال: ماذا تعني؟
قال لوصان: أعني أن الأطراف المتحاربة جميعاً، تنشر أخباراً وتعليقات عبر وسائل إعلامها.. وكلها تمارس الصدق.. أو غيره.. لا أدري.. فهل يجب علينا موضوعياً، أن نقوم بعمليات انتقاء مزاجية، فنأخذ من الأخبار ما يناسب أهواءنا وطموحاتنا..؟ أم نعامل وسائل الإعلام جميعاً بموضوعية وتجرد وحياد..؟
قال لوفنتال باسماً: أخشى أن يكون انشغالك بالبحث العلمي، قد أثر في نزعتك الوطنية يا عزيزي لوسوان..
قال لوصان: وعلى أي أساس بنيت خشيتك هذه؟
قال لوفنتال: أراك تسوي بين إعلام الصديق وإعلام العدو..! وتضع إعلام بلادك الصادق النزيه، على قدم المساواة، مع إعلام أعدائك الملفق الكاذب..
قال لوصان مداعباً: إذا كان هو أساس خشيتك، فأنا أشهد أنه أساس متين، وخشيتك في محلها.. أنا افترض فعلاً، أن وسائل إعلام العدو ووسائل إعلام الصديق متساوية من حيث المبدأ، في كونها معرضة للصدق ومعرضة للكذب.. ويبقى دور العقل في انتقاء المعلومات وغربلتها، دوراً أساسياً، من أية جهة صدرت هذه المعلومات.. بكل تجرد وحياد..
قال لوفنتال: ولكن يا عزيزي ألا تعلم أنه لا حياد في الحرب..؟
قال لوصان: بل أعلم أنه لا مساواة بين الصدق والكذب.
قال لوفنتال: إن إعلام هتلر أثبت بشكل قاطع أنه مشحون بالكذب.
قال لوصان: وماذا عن إعلام حلفائه؟
قال لوفنتال: مثله.. كله كذب وافتراء.
قال لوصان: وماذا عن إعلامنا؟
قال لوفنتال: قد يخطئ أحياناً.. إلا أنه لا يتعمد الكذب، إلا بقصد خداع العدو، أو تحطيم معنوياته.. أو رفع معنويات جنودنا وجنود حلفائنا وأصدقائنا..
ضحك الباحثون الثلاثة لهذا المنطق، وقال ملا قطيط:
هذا عين الموضوعية والتجرد يا سيادة الكولونيل..
ضحك الجميع.. وقال لوفنتال: من لا يصدق فليسأل صديقنا شوفان..
تصدى شوفان للتعليق ابتداءً دون سؤال، فقال: لقد صدق الكولونيل لوفنتال.. وإن كانت الأمور نسبية على كل حال..
قال كردوش: وماذا تعني بالنسبية هنا يا كولونيل شوفان..
وكان كردوش بصفته مواطناً إنجليزياً، قد حدس بما يمكن أن يدور في رأسه مواطنه شوفان..
قال شوفان: في الحرب، كما في السلم، هناك دول قوية ودول ضعيفة.. فأيهما يحتاج للكذب أكثر من غيره عادة، ليقوي مركزه ويدعم مواقفه..؟
فهم الجميع إشارة شوفان فضحكوا لها، بينما احمر وجه لوفنتال، ومد يده إلى كأس الويسكي فأخذ جرعة، وخاطب لوصان بلهجة مزاح يشوبها بعض الجد بصفته مواطناً فرنسياً:
هل تقبل يا موضوعيتك مثل هذا التصنيف يا عزيزي لوسوان؟
قال لوصان مداعباً: هذه قضايا داخلية يتفاهم حولها الحلفاء فيما بينهم.. أما نحن فتابعون لدولة الفاتيكان، وموظفون في مكتب الاستشراق الخاضع لسيادتها وتوجيهها.. وهي كما تعلمون، دولة محايدة تغمر ببركاتها العالم كله..
قال شوفان: حتى الكفار!؟
قال لوصان: الكفار تدعو لهم بأن يهتدوا إلى الإيمان، حتى تتمكن من إسباغ بركاتها عليهم.. قال لوفنتال: وهل تسوي دولتكم المحايدة يا عزيزي لوسوان، بين النازية الكافرة، والفاشية المارقة، وديانة اليابان الوثنية.. وبين الدول المؤمنة، المتمسكة بحبل السماء؟
قال لوصان: أما في مجال الكفر والإيمان فلا تسوية بين المؤمن والكافر.. ولكن قل لي يا عزيزي لوفنتال، لم نسيت روسيا الشيوعية، ولم تذكرها بين الدول الكافرة؟
ضحك الجميع.. وقال ملا قطيط:
إن الموضوعية متعبة في السلم يا عزيزي الكولونيل لوفنتال.. فكيف بها في ظروف الحرب الصعبة القاسية!؟
كان كل من الضابطين، يحاول بأساليب لطيفة ناعمة استمالة الباحث الذي هو من دولته.. شوفان يسعى إلى استمالة كاردوج، ولوفنتال يحاول اجتذاب لوسوان.. إلا أن الباحثين المرتبطين بالفاتيكان من ناحية، وبمكتب الاستشراق العلمي من ناحية أخرى.. لهما نظرة خاصة إلى الوطن والوطنية، تختلف عن تلك النزعة التي يتغذى بها العسكر صباح مساء، ويشربونها مع الماء، ويستنشقونها مع الهواء.. فضل كل منهما محافظاً على ولائيه الفاتيكاني والعلمي، ويعتبرهما قطبي حياته وحركته.. ويعتبر الفاتيكاني والعلمي، ويعتبرهما قطبي حياته وحركته.. ويعتبر الولاءات الأخرى هامشية، برغم أنها في النهاية تتقاطع مع الدائرين الأوليين تقاطعاً قوياً..
قا كردوش مازحاً بشكل مفاجئ: أنا أخو هدبة، نسينا أن تأكل الفستق الحلبي مع الويسكي..!
ضحك الجميع، وعلق ملا قطيط قائلاً:
وهل غصصت بالويسكي حتى تدفعه بالفستق الحلبي يا مستر كردوش؟
ضحكوا مرة أخرى، وقال كردوش مخاطباً ملا قطيط: أتأذن لي بجلب الفستق يا فقيه البادية، على ذمة مسعود المنصور!؟
قال ملا قطيط باسماً: تفضل يا كردوش، يا ثخين العظام.. يا مسبوع الأب..
وحين قام كردوش لجلب الفستق، ناداه لوصان قائلاً:
أحضر مع الفستق شيئاً من الكاتو، يا راعي الحولاء، يا ملعون الوالدين..
التفت كردوش إلى لوصان وقال له: لم يمض على خراف مسلط في بطنك أكثر من خمسة أيام.. أجعت بهذه السرعة يا مبطون!؟
أحضر كردوش الفستق والكاتو، وبدأ الجميع يأكلون..
قال ملا قطيط: يبدو أن الاستطرادات الكثيرة، شغلتنا عن سماع أخبار الحرب..
قال لوفنتال بهدوء: آخر الأخبار التي وردتنا اليوم عن جبهات الحرب كانت مطمئنة نسبياً.. وإن كان الألمان يركزون هجماتهم في بعض المناطق بعنف، ويمارسون سياسة الأرض المحروقة في مناطق أخرى..
قال لوصان: وما أخبار الطليان؟
ضحك لوفنتال وقال: الطليان طليان..
قال شوفان باسماً: الواقع أن إيطاليا دولة حضارة وفن، أكثر منها دولة حرب ودمار..
قال كردوش: إذا كنت تعتبر موسوليني متحضراً، فإن ناقة مصيعان الجرباء التي يدهنها بالقطران كل يوم، أعرق في الحضارة من أوروبا بأسرها..
قال ملا قطيط: وهل يعد هتلر متحضراً أكثر من موسوليني..؟ كلاهما سواء في الهمجية والحماقة..
قال لوصان: احذر يا عزيزي قطيط من أن تطرح قناعتك هذه أمام "توينان" راعي إبل الشيخ طراد، وإلا نالك منه ما ينال البعير الشارد في ساعة نزق وانفعال..
قال ملا قطيط: وهل يتعاطف تتوينان مع هتلر..!؟
قال لوصان: الواقع أنني أنا الذي جعلته يتعاطف..
قال قطيط: كيف؟
قال لوصان: أحببت أن أداعبه قليلاً، وكان سارحاً بجماله في الفلاة.. فتحدثت معه قليلاً حتى أنس بي، وسألته عن رأيه في الحرب، فانتفض كالملسوع قوال: وأيش الحرب يا ولدي!؟ المداعيس ما يقدر أحد أن يحاربهم.. والذي يحاربهم يجعلون لحمه طعماً لوحوش الفلا..
قال كردوش ضاحكاً: لقد قصر في حقك عمك توينان يا مسيو لوصان يا لواص.. كان يجب أن يشوى جلدك بقضيب السنديان الرفيع الذي في يده، حتى تقنع بأن المداعيس هم أرجل الناس إطلاقاً، وأكرم من على وجه الأرض..
قال لوصان: أنت دائماً تتمنى لي الخير يا ثخين العظام، وتقاطعني قبل أن أتم كلامي..
قال كردوش معتذراً: لا تؤاخذني.. خطرت في بالي هذه الأمنية الطيبة لك، فما أحببت أن تضيع مني.. وبإمكانك أن تستأنف كلامك، وتبين لنا رأي توينان في هتلر..
قال لوصان متابعاً: حين بينت لتوينان أن المداعيس لا علاقة لهم بالحرب، هدأ خاطره واطمأن، وسألني عن القبائل التي تتحارب فيما بينها.. فأجبته بأن هناك قبيلتين كبيرتين، قريبتين من البادية تتحاربان، حرباً شديدة.. وسألني عن أنسابهما، فأخذتني الحيرة، وخفت من أن أرتبك، فيكتشف الرجل أني أسخر منه، فتتحقق أمنية كردوش.. فابتكرت له على الفور أسماء ظننتها قريبة من أسماء البدو.. فقلت له: هناك مجموعة قبائل متحاربة يا توينان، كل قبيلتين كبيرتين متحالفتان فيما بينهما ضد قبيلتين أخريين.. ففي أحد الطرفين قبيلة بني جرمان وقبيلة بني طليان.. وفي الطرف الآخر قبيلة بني غاليان، وقبيلة بني سكسون.. فنظر إلي مبهوتاً وهو يقول بحيرة: وأيش هذي القبائل يا ولدي؟ العرب ما تعرف الأسماء هذي.. والله إنك تضحك على لحيتي يا ملعون.. فكدت أنفجر من الضحك، إلا أني تماسكت وقلت باسماً جاداً: يا عم أنت رجل صاحب قدر وقيمة.. وكيف أضحك على لحيتك..؟ أنا أحكي معك بجد..
قال مستغرباً: وأيش يا ابن أخي الطليان؟ الطليان تحارب..!؟ أنا وحدي أذبح بساعة واحدة مئة طلي.. ثم نظر إلى راع بعيد عنه يرعى قطيعاً من الغنم، وأشار إلى أحد الخراف قائلاً: انظر يا ابن أخي إلى ذاك الطلي الأدرع الذي بجانب أمه..! تراه يقدر أن يحارب..؟ فنظرت إلى حيث أشار فإذا خروف صغير أبيض الشعر، إلا رقبته ورأسه أسودان، ثم قلت حقك علي يا عم، أنا أردت أن أذكر لك الرومان، فغلبني لساني لأن الرومان مثل الطليان.. أشكالهم أشكال الطليان.. ففتح الرجل فمه بمدة طويلة وقال: ها.. لو قلت لي الروم صفر الشوارب لفهمت عليك من البداية.. لكن أيش يا ابن أخي الأسماء الأخرى التي تشبه أسماء الجن..؟ أيش هؤلاء الكبسون؟ ضحكت وقلت: إنهم السكسون يا عم.. وهم قبيلة من قبائل الكفار.. فهز رأسه متظاهراً بالفهم، وقال: نعم يا ابن أخي نعم.. الكفار يسمون أبناءهم مثل أسماء الجن، صدقت.. الآن فهمت عليك.. ثم استأنف توينان يسألني: وايش هؤلاء الذين سميتهم بني غليان وبني جروان؟ أهم كفار مثل الكبسون؟ فقلت له: نعم يا عم كلهم كفار.. فقال بتشف ظاهر: يلعن الله أبا لحاهم.. فظننت الرجل متديناً، ولا سيما أنه في الخمسين من عمره، وقلت له: يا عم.. أنت تصلي؟
فنظر إلي مستغرباً وقال: أصلي!؟ وهل تراني ملا حتى أصلي!؟ فقلت له: أتصوم رمضان؟ فقال بنزق: وأيش هذا رمضان يا مسبوع الأب؟ وأيش يعمل عندنا رمضان؟ نحن المداعيس يا ولدي.. رمضان ما هو لنا يا ابن أخي.. رمضان للحضران أهل المدن.. قلت له: إن في قبيلة المداعيس ناساً يصومون ويصلون.. فقال: هؤلاء يا ابن أخي غلمان ضحك بعقولهم رجل حضري ملاً، يسمونه ابن مدلول.. لكن أنا يا ولدي صار عمري خمسين سنة.. ما أحد يضحك بعقلي.. أنا عمك توينان يا ابن أخي.. اسأل عني إن كنت ما تعرفني..
كان لوصان يروي قصته مع توينان والآخرون يصغون بانتباه شديد.. ليروا موقفه من هتلر.. فقال ملا قطيط: وكيف جرؤت بعد ذلك على طرح اسم هتلر أمامه؟ أما خشيت أن يعتبره من أسماء الجن؟
قال لوصان: فكرت بهذا، إلا أنني سبقته إلى ظنه، فقلت له: يا عم، هناك على طرف البادية رجل من الكفار اسمه مثل أسماء الجن، يسمونه هتلر.. وهو رجل مجرم قتل أناساً كثيرين.. فقال: أي القبائل الناس الذين قتلهم؟
قلت له من الكفار. فظهر السرور في وجهه، وقال: يستاهلون.. قلت يا عم: ولكنه قتل أناساً أبرياء، من الأطفال والنساء.. لا يحاربون ولا يقاتلون.. فقال بهدوء وتأثر: ماله حق.. النساء والأطفال ما يقتلهم رجل برأسه نخوة وناموس.. فقلت استدرجه: ولكنهم يا عم من اليهود.. فانتفض مبتهجاً وقال: أنا أخو درة.. والله إنه رجل.. لكن الأطفال والنسوان ماله حق عليهم.. الله يغفر له ويسامحه.. قلت: يا عم، ولكنه كافر.. فقال: يقتل اليهود وتقول عنه: كافر، يا مسبوع الأب!؟ قلت: يا عم، إن الناس الذين قتلهم أبرياء.. فاحمرت عيناه وأمسك بقضيب السنديان، وهزه في وجهي بغضب، وهو يقول: والله لولا أنك غريب يا ملعون الوالدين، لكنت خليت هذا القضيب يأكل من لحمك..! تقول عن اليهود أبرياء يا مثبور؟ اليهود الذين حاربوا الله والنبي، تقول عنهم أبرياء يا ابن السلوقي.. والله لولا ما لولا.. فاعتذرت منه وقلت: يا عم أنا أعرف أن اليهود مناحيس، لكن أردت أن أعرف إن كنت تحبهم أم تكرههم.. فقال بنزق: أنا أحب اليهود يا مبطون؟ قم عني قم.. وجهك ما هو وجه خير.. فانصرفت وأنا أتلفت خلفي، خشية أن يتبعني توينان بالقضيب، أو يرميني عن بعد بحجر يشج رأسي..
ضحك الحاضرون لقصة لوصان مع توينان، وعقب كردوش قائلاً: لو قتلك عمك توينان لذهبت شهيد العلم يا مسيو لوصان..
قال ملا قطيط: إن لدى هؤلاء الناس مفارقات عجيبة.. كل ما لديهم من قيم ومثل وأخلاق، إنما هو مستمد من طبيعة البادية وقوانينها.. وليس للإسلام من أثر في نفوسهم عامة، إلا الإيمان العميق الذي لا يعرفون شيئاً من أركانه الأساسية ومستلزماته.. يحقدون على الكفار لمجرد كونه كافراً، وربما كان البدوي نفسه أحياناً، أكفر من الشيطان، بالنسبة لمقاييس دينه وشريعته..
قال شوفان: إلا أن الملاحظ أنهم يتفاوتون بدرجات كبيرة في قربهم من الدين وفهمهم له.. ويبدو أن أعلى فئة بينهم، من حيث فهم الدين والتمسك به، هم جماعة مدلول..
قال لوصان: وأدنى طبقة في هذا المجال، هي طبقة عمي توينان وأمثاله..
قال كردوش: ومن الملاحظ لديهم كذلك، سرعة الانفعال والنزق، إذ ما يكاد أحدهم يسمع كلمة لا توافق مزاجه، حتى يثور ويهز العصا، أو يمتشق السيف، أو يلقم البندقية..
قال قطيط: هذا أثر واضح من آثار النزعة الفردية، التي توارثوها عبر الأجيال، لكن بالمقابل، يكفي أن يسمع أحدهم كلمة إطراء، حتى تثور أريحيته ويبذل نفسه رخيصة في ساحات الموت، أو يعطي ماله كله للغرباء..
قال كردوش: هكذا ربوا.. إن حكم البادية وآدابها وأمثالها.. كلها تحض على ذلك.. فالغلام منذ حداثة سنه، تمارس عليه عمليات غسل دماغ، تلقائية وتدريجية، ليصقل عقله، وتتطبع نفسه حسب قيم البادية، وحسب مفهوماتها وأخلاقها..
قال قطيط: ليس أدب البادية وحده وحكمها وأمثالها، هي التي تصنع نفسية البدوي وعقليته وحسب.. بل إن آداب العرب كلها تفيض بهذه المعاني.. خذ عنترة بن شداد مثلاً، الذي لا يفتأ يتحدث عن بطولاته بشعره، واقتحامه المعارك، ليقول عنه الناس أنه شجاع.. وخذ في مجال الكرم حاتماً الطائي، الذي يبذل كل شيء عنده ويترك أهله جياعاً، ليخلد ذكره في القبائل على أنه رمز من رموز الجود والكرم.. بل يكفي استعراض مجموعة من نماذج آداب العرب، منذ الجاهلية حتى الآن، لنرى أن العناصر الأساسية لفخرهم، هي ثلاثة: الكرم والشجاعة وعراقة النسب..
أما عناصر الهجاء، فهي نقائض العناصر الأولى، أي البخل والجبن وضعة النسب..
قال لوصان: أما دور الإسلام في صياغة عقولهم ونفوسهم فضامر جداً فيما يبدو..
قال قطيط: دور الإسلام في مجال صناعة النفس والعقل، من خلال الأدب والمثل والحكمة، محصور في فترة زمنية معينة.. ومع ذلك، لم تكن قيم الإسلام في هذه الفترة، لتلغي القيم الأخرى وتقضي عليها.. وقد ظلت قيم القبيلة في أغلب الأحوال والأزمنة هي المسيطرة على ساحة الأدب، مع وجود شذرات هنا وهناك من قيم الإسلام ومثله.. حتى ضعفت هذه الشذرات جداً في آداب المدن، وتلاشت، أو كادت في آداب البوادي.. فالفرد البدوي الآن، ابن القبيلة، لا ابن الإسلام..
قال لوفنتال متضاحكاً: إن غفلنا عن مدلول وأتباعه، فانتظر انقلاباً كاملاً في شخصية البدوي خلال فترة لا تتجاوز جيلين من الزمن.. يا عزيزي كوتيت..
قال قطيط باسماً: وما الذي يدعوكم إلى الغفلة، وأنتم على هذا المستوى العالي من الوعي والحكمة والذكاء..!؟
قال كردوش معقباً: وتعرفون ما تريدون..
قال لوصان معقباً على كردوش: والساحة خالية لكم..
قال شوفان وهو يعبث بطرف شاربه: الحقيقة، أنه لا بد من تعاون القوى في العالم المتمدن، لمكافحة ظاهرة مدلول، إذ لا يمكن أن تقوم دولة وحدها بهذا العبء..
قال لوفنتال: لو قامت كل دولة بواجبها في مستعمراتها التي تدين بالإسلام، لما بقي هناك مشكلة.. أما إذا أهملت كل دولة واجبها في مستعمراتها، وتدخلت في شؤون الآخرين، فإن ذلك سوف يعطي العناصر المتدينة هوامش واسعة للحركة والمناورة..
فهم شوفان إشارة لوفنتال، فمصمص شفتيه وقال بفتور: على كل حال، لا بد من التعاون لتحقيق المصالح المشتركة، ومواجهة الأخطار المشتركة..
قال ملا قطيط معقباً على كلام شوفان: هذا صحيح.. التعاون ضروري على كل مستوى، علمياً كان أم سياسياً أم عسكرياً.. نحن نرجو أن نقدم مساعدات مجدية في مجال البحوث والدراسات على كل صعيد، سواء في مجال التعرف على نفسيات البدو وأخلاقهم واستعداداتهم الفكرية والنفسية، أو في مجال علاقتهم بالدين، أو في مجال دراسة الظواهر الشاذة كظاهرة المدلول وكيفية مكافحتها.. فالخطر يهددنا جميعاً، والأحاديث التي يحفظها المتدينون عن نبيهم، تبشرهم بفتح روما.. وما داموا يؤمنون بمثل هذه الأحاديث ويتداولونها، فإن خطرهم يظل قائماً، يهددنا في أية لحظة قوة من طرفهم، ولحظة ضعف من طرفنا..
قال كردوش معقباً: صدقت يا عزيزي كوتيت.. علينا أن نسبر أغوار القوم أولاً، حتى نعرف كيف نتعامل معهم.. فالعرب لديهم حكمة تقول: "قتل أرضاً عالمها، وقتلت أرض جاهلها".
قال لوصان مازحاً: إذا كانت كل عقليات البدو مثل عقلية عمي توينان، فأنا أكفيكم إياهم وحدي..
قال ملا قطيط: بشرط ألا يكون في يد أحدهم قضيب من السنديان
ضحك الجميع، وقال لوصان متابعاً بجدية: الواقع أني لا أستطيع أن أزعم أني خبرت نفسيات البدو تماماً، إلا أن بإمكاني أن أذكر بشيء من الثقة، أني عرفت أكثر المكونات الأساسية لنفسية البدوي، ونقاط القوة ونقاط الضعف في هذه النفسية.. ويمكنني القول ببساطة: إن نفسية البدوي هي جزء من الصحراء التي تحيط به من كل جهة، وفي كل ساعة.. بل أقول: إن نفسيته هي مزيج متناسق بشكل عام من عناصر الصحراء، بكل ما فيها من شمس وريح وإبل ونجوم ومطر ورمال ومعارك تعيش في الذاكرة، وأسماء بداة مشهورين صاروا بمثابة رموز للبدوي يسعى جاهداً لتقليدها.. إلى غير ذلك.. ومما يسر خاطرك يا عزيزي لوفنتال، أن المدلول، لم يصبح رمزاً بعد من رموز البادية.. ومن الآن إلى أن يصبح رمزاً، لدينا وقت مناسب للحركة.. ونحن أسرع منه ومن أتباعه في التحرك، وإمكاناتنا أكبر، ونفترض أن عقولنا أكبر كذلك..
قال لوفنتال مداعباً: لو سمعك عريفج ابن دلوان، لقطعك إرباً إرباً على هذا الافتراض الأخير، كما نوى أن يقطع فهرور ألمانيا ذات يوم، لو وقع بين يديه..
قال لوصان: الذي أنجاني من توينان ينجيني من عريفج.. إلا أني أود أن أختم ملاحظتي هذه حول نفسيات البدو، ببشارة لشيخنا فقيه البادية الأستاذ ملا قطيط: فأقول: إن هناك صعوبة بالغة في تقبل نفسيات البدو للديانة النصرانية، بطقوسها وأقانيمها وتعاليمها الراهنة عامة، وذلك لتناقضها مع نفسياتهم الواضحة، التي تنفر من الأفكار الغامضة الملتوية المبهمة.. كما يصعب أن تتقبل نفسياتهم بصورتها الراهنة، أية ديانة أخرى وسى ديانة محمد، لوضوحها وقربها من أفهامهم.. هذا في مجال العقيدة.. أما في مجال التطبيق العملي لأحكام الدين، فالديانة الأولى لدى أكثرهم هي عادات القبيلة وتقاليدها وقيمها ومثلها التي عرفتموها جميعاً..
قال كردوش: أحسنت يا عزيزي لوصان، واسمح لي أن أعقب على كلامك البديع فأقول، بصفتي "أبو طباع" كما يدعونني: إن لديهم ميلاً عجيباً للتسلط على الآخرين، وكان الله في عونهم، لو أخذوا يوماً ما حريتهم، وحكمهم رجل من أبناء جلدتهم.. فسوف يعانون من قهره وتسلطه أمر مما يعانيه الألمان من هتلر والطليان من موسوليني.. ويضاف إلى حبهم للتسلط، حبهم للمديح والشهرة، وحب الظهور بمظاهر معينة من أخلاقيات جماعية أو قبلية ابتدعوها لأنفسهم، وصاروا يقدسونها.. كما أن لديهم نزعة جماعية غريبة في قضايا القيم، فإذا عابت امرأة عند أحدهم، فالقبيلة كلها تعير بها إن كان الفاعل من قبيلة أخرى.. إما إذا كان الفاعل من القبيلة ذاتها، فعشيرة المرأة هي التي تعير وحدها.. وكذلك إذا فعل رجل من القبيلة أمراً عظيماً مشرفاً، فإن القبيلة كلها تفخر به أمام الآخرين.. ومن عاداتهم الطريفة كذلك، أن الرجل إذا سرق من بعيد، يغرم بمثل ما سرقه، وذلك لحرمة الجوار عندهم، وللثقة المتبادلة بين الجيران وواضح على كل حال، أن العار المشترك والفخر المشترك يعكسان عمق الروح الجماعية لديهم..
قال ملا قطيط معقباً: ومن طرائف العار عندهم، أن الولد يعير بأخواله إذا كانوا أنذالاً، وكأنه هو الذي صنعهم بهذا الشكل.. كما أن أهل الرجل يعيرون به إذا هرب من معركة، ولو كانت ظلماً وعدواناً.. وأطرف ما في الأمر، من قضايا العار عندهم، أن الرجل إذا كان في مجلس وخدرت رجله، فعليه أن يخبر من حوله بذلك، مخافة أن يرتفع صوت مناد ينذر بغارة معادية، فيضطرب قيامه لخدر رجله، فيظنونه قد انهارت عزائمه وراتخت مفاصله جبناً وهلعاً.. فيعير هو وعشيرته بذلك..
قال قطيط: إن مفارقات البدو عجيبة لا تنتهي.. ولعل هذه من الأسباب التي منعت الفاتيكان من إرسال مبشرين إلى هذه البوادي.. فالبدوي الذي يحقد على الكفار لأنهم أعداء دينه، ولا يعرف شيئاً من دينه، والذي يحفظ أسماء مشاهير القبائل، أكثر مما يحفظ من أسماء الأنبياء وصحابة نبيه، يصعب على أي مبشر التعامل معه بثقة واطمئنان، ولو كان هذا المبشر من حواريي المسيح..
قال لوفنتال: لذا، يبدو أن من الأجدى لنا، أن نتركهم يمضغون أوثان القبيلة، ويلوكونها ويتلمظون بها صباح مساء..
قال شوفان: هذا على المستوى الاجتماعي القبلي.. فكيف يكون الأمر على المستوى السياسي الوطني؟
قال لوفنتال: ذاك أمر آخر يخرج عن نطاق اختصاصنا.. وإن كانت المؤشرات العامة تدل على أنه لا بد من صناعة أوثان أكثر بريقاً ولمعاناً، وأجدر بعبادة أكبر قدر من الجماهير..
قال شوفان: يبدو أنه لا بد من ذلك.. وإلا.. فالبديل مدلول..
الفصل الحادي عشر
نار بلا موقد
مر اليوم الرابع على ظبية، بعد رحيل حمود المسلط، وهي تمانع في الزواج، وتتوسل إلى أبيها ألا يكرها عليه.. ولم يكن أبوها حريصاً على إكراهها أصلاً، لما يرى من وضعها النفسي، إلا أنه كان يرغبها، ويحدثها عن مزايا الزواج بالنسبة للفتاة، وأنه ستر وصون لها ولأهلها، ولا سيما عند رجل كريم فاضل ذي خلق ودين.. وكانت الأم تحاول أحياناً مساعدة زوجها في إقناع ظبية، بأسلوب لا يجرح شعور الفتاة، إلا أنها تقف أحياناً إلى جانب ابنتها، حين ترى إلحاح الأب، قد أثر سلباً على نفسية الفتاة..
كانت البنت تعاني من مجموعة صغيرة من العقد النفسية، تجمعت في أعماقها فشكلت مزيجاً غامضاً من النفور، والخوف من المجهول، وضعف الثقة بالنفس، والتهيب من مواجهة الآخرين، ولا سيما الغرباء.. ولم تكن هذه الإحساسات الغامضة، لتظهر على السطح ليراها أبوها وأمها، بل كانت تعمل عملها في أعماق النفس، فلا يرى منها إلا نتيجتها العملية، المتمثلة برفض الزواج، والإصرار على هذا الرفض.. وكان أبوها يتوقع أن في نفسها أوهاماً تمنعها من الزواج، أو تخيفها منه، إلا أنه لا يستطيع تقدير عمق هذه الأوهام في نفسها، لذا يوجه خطابه أولاً إلى عقلها الذي عرفه ناضجاً نيراً، ليس فيه خلل أو اضطراب.. مع مراعاة المشاعر النفسية إلى حد معقول في نظره.. إلا أن مزيج العقد النفسية، التي تكبحها عن الزواج، كان أقوى بكثير من صوت العقل الذي يحضها على الزواج ويزينه لها.. كان إحساسها العنيف بالذئب، لعجزها عن التوفيق بين مثلها ومظاهر سلوكها، يشكل داءً دفيناً، في أعماقها، كفحمة اشتعل طرف من أطرافها، وبدأ يتوهج ببطء، ويثير دخاناً خانقاً، يتسرب إلى كل خلية من خلايا نفسها الشفافة السامية، متفاعلاً بسرية وغموض مع عناصر النفس الأخرى، مولداً فيها أنواعاً من الخلل والاضطراب، تتجلى في أعماق نفسها في مظاهر شتى، أهمها الإحباط، واليأس المبهم من قدرتها على التفاعل مع الحياة الطبيعية، والخوف من الغربة، والرغبة المرضية في ملازمة العش الدافئ الذي ولدت فيه واستمدت منه مكونات شخصيتها.. فضلاً عن الذعر الذي ينتابها، كلما تصورت نفسها، أمام رجل غير أبيها، أو في مواجهة امرأة ليست أمها، بل أم زوجها الغريب الذي لا تعرفه.. وهل يمكن أن يحتمل هؤلاء الغرباء تعلقها المزاجي العنيف بالغيوم في الشتاء القادم، أو يمكن أن يرقوا لحالها ويرحموها ويقدروا حاجتها الهائلة إلى البكاء، الذي يشفي نفسها بين الفينة والأخرى، ويبث في أعماقها بصيصاً من أمل مشرق غامض مجهول لا تعرف له مصدراً ولا كيفية، ولا ماذا تريد منه على وجه التحديد؟
إن إحساسها العنيف بالذنب، هذا الإحساس الذي لا تستطيع مقاومته، أو نسيانه.. يتأجج في أعماقها بشكل قوي، كلما أصغت قليلاً إلى صوت عقلها يزين لها الزواج ويرغبها فيه.. فتحس بصوت هائل في داخلها، يزجرها بعنف قائلاً: إذا كنت تدركين مزايا الزواج، وتقدرين أهميته وضرورته، فلم رفضت الزواج من العبد يا مجرمة؟ ألأنه عبد؟! وإذا كان ابن عمك عقاب مجرماً دموياً فاتكاً، لا يصلي ولا يصوم.. فهل العبد مثله؟ ألا تعلمين جيداً أنه مواظب على عبادته، هادئ لين لا يجرؤ على قتل هرة؟ فما الفرق بين العبد بارع، وبين الحر حامد ما داما كلاهما متدينين؟ أهو كون الأول عبداً، والثاني حراً؟ وأين مفهومك للحرية الحقيقية التي سمعتها من الشيخ المدلول، وظللت تلوكينها وتثرثرين بها شهوراً طوالاً: إن الحرية الحقيقية هي تحرر الإنسان من قيود الأرض، وتمسكه بحبل السماء..؟ أتستطيعين الآن أن تفخري أمام نفسك، بأنك حطمت صنم القبيلة المتمثل في عاداتها وتقاليدها البالية، حين رفضت الزواج من ابن عمك الدموي الفاتك؟ وأي فخر يبقى لك إذا تزوجت ابن مسلط العليان لأنه ابن شيخ، بعد أن رفضت بارع بن زناد لأنه عبد..؟ آه منك يا كاذبة يا مخادعة..! وعلى من تكذبين؟ على نفسك، أم على شيخك التقي الصالح، أم على بك الذي يعلم كل خلجة من خلجات نفسك المتلونة الكاذبة..!؟
كان هذا الصوت أعمق الأصوات وأقواها في نفس ظبية، وهو الذي ولد لها وما يزال، إحساسات وأوهاماً وتصورات متنوعة، تتصايح في أعماق نفسها اللينة من هنا وهناك، فتخدش كل نقطة قوة فيها، وتغذي كل نقطة ضعف، حتى تجد نفسها أحياناً مضطرة إلى الخضوع والاستسلام لأنواع مختلفة من الإنهيار.. بيد أنه لا يظهر للناس شيء مما تعانيه، إلا ما يبدو من صمتها الدائم، وحزنها العميق المتلامح في عينيها السوداوين الواسعتين، ووجهها البريء الذي تعلوه صفرة وشحوب. وكان أخوها منادي يقف إلى جانبها في رفضها للزواج، برغم قناعته التامة، بأن هذا الزواج من ابن الشيخ مسلط مناسب لها.. إلا أنه يشعر أنه أقرب إلى معرفة نفسيتها من أبويها، بحكم الرابطة التي تربطهما معاً بالشيخ المدلول.
كان آخر ما قالته لأبيها، بعد أن ألح عليها بضرورة الزواج: يا أبي.. لا أريد منك سوى مأوى ورغيف خبز وثوب.. فهل تبخل علي بهذا؟ فانتفض الأب انتفاضة السبع الجريح، وقام من مكانه، وهو يحس أن عينيه تكادان تتشققان من شدة حاجتهما إلى البكاء وندرة الدموع.. وقال لها بصوت أجش مخنوق: أنت ملكة هذا البيت يا ابنتي، وكلنا خدم لك.. فأمرينا بما تشائين، ونحن ننفذ أوامرك بنفوس راضية يا ظبية.. وثقي أنك لن تخرجي من هذا البيت، إلا وأنت في أشد حالات الرضى والسرور.. لكن أرجوك أن تخففي من همومك وأحزانك يا ظبية.. لأن همك هم لنا جميعاً.. وحزنك يحزننا جميعاً..
كان هذا الحديث أمام نجدية ومنادي.. وحين خرج الأب نادى ابنه: منادي.. تعال معي.. ثم قال له، وهما يسيران باتجاه الديوان: إن الصواهيد يا ابني لا نصيب لهم عندنا.. وقد وعدناهم أن نرد لهم خيراً في بحر أسبوع، إذ ا كان الجواب بالإيجاب.. أما إذا كان الجواب سلباً، فلا داعي لإرسال خبر، لأنهم يقدرون ذلك من تلقاء أنفسهم بمضي المدة.. لكن المشكلة الآن هي مشكلة شوكان.. وأنت تعرفها جيداً.. وقد صار الرجل خلال هذه المدة القصيرة صاحباً لك وصديقاً.. فما رأيك..؟
صمت منادي قليلاً، وقال لأبيه: دعنا نفكر في الأمر قليلاً يا أبي، لعل الله يلهمنا حلاً مناسباً لمشكةل هذا الرجل الكريم..
قال الأب: لا بأس.. فكر على مهلك.. وأخبرني بالحل الذي تراه مناسباً.
كان شوكان قد أحس بشيء من الارتياح من ساعة خروجه من مضارب الصواهيد، وازداد إحساسه بالراحة، منذ وطئت قدماه منازل المداعيس.. وقرر بينه وبين نفسه أن يلتمس عذراً ما، يعفيه من العودة مع حمود بن مسلط.. فلما اتفق حمود وهواش على بقائه بضعة أيام عند هواش، وسفر حمود منفرداً، وجد في هذا الاتفاق نعمة كبيرة مؤقتاً، تعفيه من اختلاق عذر غير صحيح، وتريحه من إحساسه بالإثم، إذا اضطر أن يكذب على أناس أحبوه وأكرموه.. وإن كان لا بد من الكذب والتمويه، لحفظ حياته من بطش الإنجليز في كل حال.. غير أن هذا يجب أن يقتصر على حالات معينة، تفرضها ظروف قاهرة، وضرورات قصوى..
وقد وجد شوكان عند هواش وابنه خير إكرام، وأفضل رعاية، لأسباب عدة، من أهمها أنه ضيف عندهم، وأنه ذو نفس أبية عفيفة وأدب جم، وروح خفيفة مرحة.. فضلاً عما يخلفه شكله ومظاهر سلوكه في النفس من انطباعات وإيحاءات تدل على أن للرجل سراً ما يخفيه عن الناس، تحت اسم العبد، وأن رداء العبودية الذي يرتديه، يخفي تحته ليثاً هصوراً وصقراً جارحاً، ونفساً لا يعرف الذل إليها سبيلاً.. ومما زاد تعلق منادي به، أن الرجل كان حسن العبادة، ينتهز شتى الفرص ليخلو إلى نفسه يقرأ القرآن، ويذكر الله.. وأشد ما لفت نظر الشاب الصلب الرقيق رؤيته للعبد وهو يقوم الليل قانتاً وذاكراً، مما لم يألفه أحد في البادية بشكل عام، ولدى جنس العبيد بشكل خاص.. إلا ما كان من بعض العناصر ذات المستوى الرفيع من جماعة الشيخ المدلول.. ولبست كلها على هذا المستوى.
ولقد لاحظ شوكان، أن الشاب الهادئ الخجول، ذو خلق ودين، ككا يندر وجوده بين فتيان البادية عادة.. فقدّر على ضوء الخلفية التي في ذهنه عن جماعة المدلول، أن هذا الشاب ربما كان أحد عناصر هذه الجماعة، فقد كان شوكان يتوقع وهو في طريقه إلى المداعيس أن يلتقي بعناصر من هذه الجماعة، وأن يسعى إلى التعرف على أحوالها، ويقدم لها بعضاً من آرائه ونصائحه التي استفادها من تجربته في بلاده، خلال صراعه مع الإنجليز.. ولا سيما أنه جامعي مثقف، وهؤلاء ليس فيهم من يحمل أية شهادة دراسية..
اضطر شوكان إلى الكذب مرة أخرى، حين سأله منادي عن أصله وأحواله، فأجابه بما أجاب به الشيخ مسلط، بأن آباءه وأجداده عاشوا في نجد، وأن أصولهم من أفريقية، وأنه خدم عند عدد من المشايخ والوجهاء.. إلا أنه اضطر إلى تلفيق كذبة أخرى زائدة عما سبق، وذلك لإعفاء نفسه من العودة إلى مسلط، وهي أنه مطلوب للحكومة، بسبب قتيا قتله في حوران، لأن القتيل كان رجلاً نذلاً حاول أن يذله ويهينه.. وقد خشي أن يكون أحد الضباط الذين حضروا مجلس اللتحكيم عند مسلط، قد اشتبه به، وبالتالي فإن السلطة ستحاول محاصرته عند الصواهيد والقبض عليه.. لذا فإنه لا يرغب في العودة إلى مسلط، وسيرتب أموره للسفر إلى مكان آخر، إذا لم يجد عند هواش مكاناً يؤويه ويؤمنه من عيون السلطة، ومن ملاحقتها له..
كان هذا الحديث في عشية اليوم الثالث من وجود شوكان في بيت هواش، وذلك بعد أن وجد شوكان لدى هواش وابنه من الخلال والسجايا، ما يطمئنه إلى مفاتحتهما بهذا الأمر.. وعلى ضوء هذا الواقع بدأ الرجلان يفكران بوسيلة توفر لشوكان الأمن عندهما، وبوسيلة أخرى تقنع الشيخ "مسلط" بسبب ترك شوكان لخدمته، دون أن تثير لديه شكاً أو ريبة، حول شخصية العبد الذي هرب دون سبب معروف، بعد أن نال كل عطف ورعاية وإكرام.
ولقد دارت خلال هذه الفترة القصيرة، من إقامة شوكان في بيت هواش، جملة من الأحاديث، كان هواش يحاول في أثنائها، سير شخصية العبد، واستكناه حقيقته، وكان مما سألأه عنه، خدمته لدى الشيخ بشير السحّاح.. ولقد فوجئ شوكان في البداية بهذا السؤال.. لم يكن السؤال بحد ذاته غريباً، فالعراق مجاورة لسوريا متاخمة لها.. وكثير من القبائل موزعة بين الدولتين في المناطق الحدودية، بل وفي عمق كل من الدولتين أحياناً.. والناس ينتقلون بين الدولتين باستمرار، ويرى بعضهم بعضاً هنا أو هناك.. فالسؤال ليس غريباً، بل كان شوكان يتوقع أن يُسأل عن خدمته عند أي شيخ من الشيوخ الذين خدمهم.. إلا أنه في اللحظة التي تلقى فيها السؤال، لم يكن مستحضراً جوابه، فصمت قليلاً ليتذكر الجواب الذي كان قد رتبه في ذهنه من قبل.. وأدرك هواش أن في الأمر سراً ما، وأدرك شوكان أن مضيفه داخله بعض الشك، فتظاهر بشيء من الأسى، وقال: هذه الدنيا ما تساوي شيئاً.. فسأله هواش: خير إن شاء الله يا شوكان..! أراك تأثرت! فقال شوكان: كان لي أخ من أمي يشبهني كثيراً، وقد عمل عند الشيخ بشير السحّاح، ثم تركه وعاد إلى نجد.. وقد علمت منذ فترة قريبة أنه فارق هذه الدنيا.
وحين أنهى شوكان حديثه هذا، ظهر التأثر في وجه هوّاش وابنه، وباشرا بتطبيب خاطره، وتخفيف حدة الأسى واللوعة في صدره.
ولقد أمسى كل من هواش وابنه مهتماً بأمر شوكان، وإيجاد حل لمشكلته، بعد أن رفضت ظبية الزواج من حامد بن مسلط.. وقد بدأ الشاب يعمل فكره، بعدما طلب منه أبوه إبداء الرأي في قضية شوكان، الذي أصبح صاحباً له وصديقاً.. كان لابد من العمل على اتجاهين، اتجاه يبعد الحرج عن شوكان لمفارقة "عمه" مسلط، ويبعد الحرج عن هواش نفسه، الذي لا يرى من المناسب أن يواجه شيخ الصواهيد بلطمتين معاً: رفض تزويج الفتاة لابنه، ومصادرة عبده الذي يحبه ويثق به.. واتجاه آخر، هو تأمين الرعاية والأمن للعبد المطلوب للعدالة بسبب جريمته في مقتل الرجل الحوراني.
وكان ذهن الشاب، أكثر صفاء من ذهن أبيه المشحون بمشكلات شتى، وأقدر على إيجاد الحلول لمثل هذه المشكلات الصغيرة.. فخطر في ذهنه، إرسال رجل إلى مسلط يخبره بأن الفتاة الآن غير مهيأة للزواج صحياً، وإن قدّر الله أن تكون من نصيب حامد، بعد تماثلها للشفاء، فإن هذا سيكون مبعث سرور لأهلها.. وذلك حتى لا يفاجأوا بحدة الرفض وحدة خسارة العبد معاً.. ثم يخبرهم بعد ذلك، بأن لشوكان أخاً من أمه توفي في نجد، وأنه عازم على السفر إلى هناك، وقد يعود سريعاً، كما قد تطول غيبته، وهو يسلّم على عمه الشيخ مسلط، وعلى أعمامه جميعاً، ويذكر بالخير الأيام الطيبة التي قضاها في مرابعهم العامرة، ويتمنى لهم كل خير وسعادة وهناء.. وهكذا يبقى الأمل قائماً في صدور القوم، دون أن يكون هواش قد غشّهم، أو التزم إزاءهم بشيء.. وفي هذا منجى من الحرج لهواش وللعبد معاً..
وحدّث منادي أباه بما خطر له بشأن شوكان، وبشأن قضية الزواج، فرأى الوالد هذا الحل مقبولاً، فأرسل عبده "عطاس" وحمّله رسالة تتضمن المعاني التي أشار إليها منادي.
وظلت مشكلة الأمن، فرأى هواش أن القضية لا تحتاج إلى عناء كبير في حلّها.. فالقضية حتى الآن قضية شك من قبل السلطة، في أن شوكان هو الشخص المطلوب للعدالة، بسبب جريمة القتل.. وريثما تنتقل القضية من الشك إلى اليقين، وترسل السلطة قوة لتقبض على شوكان، يحتاج الأمر إلى زمن طويل، هذا في حال حصوله.. ومن الآن حتى ذلك التاريخ، لا أحد يعلم كيف تتقلب الأحوال وتتطور الأمور.. وفي أسوأ الأحوال، بالإمكان إخفاء شوكان عند الضرورة، وإبلاغ السلطات بأنه غادر المنازل إلى جهة مجهولة.. وحين سأل شوكان مضيفه عن أسلوب إخفائه الذي يفكر به هواش، قال هواش: إذا اقتضت الضرورة نخبئك عند النساء.. وهؤلاء المناحيس على كفرهم لا يتعرضون للنساء، ولم يسبق أن تجرؤوا على اقتحام بيت فيه نساء.. وذلك لما يعلمون من أهمية العرض عند العرب، ولما يتوقعونه من مشلات وأخطار في هذا المجال.
كان شوكان يريد أن يطمئن إلى جدية اهتمام هواش بأمته.. فما يعرفه هو عن نفسه وخطورة موقفه، لا يعرفه هواش، لذا لابد من الاطمئنان، ولو نسبياً، إلأى أن أمنه غير مهدد بخطر أكيد.. وما يأتي من عند الله، لا رادّ له.. وجرت الأمور على هذا الأساس.. وتظاهر شوكان بأنه يعد نفسه للسفر، ثم تظاهر بتأجيل السفر لأسباب ضرورية طارئة، وما يزال عازماً عليه,, وذلك من قبيل التمويه على "عمه" مسلط، فيما لو سافر بعض الركبان من قبل المداعيس إلى ديار الصواهيد، وسأله مسلط عن العبد شوكان الوارد.. وعن أخباره وأحواله.
واستقر أمر شوكان عند هواش المنصور.. وفكر هواش في أن يستخدمه في طبخ القهوة بدلاً من عطّاس، الذي لا يتقن طبخها بشكل جيد.. إلا أنه فكر كذلك، بأن ملازمة شوكان للديوان بشكل دائم، سوف تعرضه كثيراً لأنظار الغرباء، من رجال حكومة وغيرهم، وهذا يسيرع في عملية كشفه.. لذا عدل عن الفكرة، وقرر أن يستعمله أجيراً، إلا أن مهمته الأساسية، هي الاهتمام بشؤون الخيل.. يعلفها، بنظفها، يأخذها إلى موارد الماء، يخرجها إلى الفلاة لتأكل من عشب الربيع.. إضافة إلى الاستفادة من براعته في صنع القهوة، في الحالات التي لا يتوقع فيها مجيء ضيوف إلى الديوان، أما عند وجود الضيوف، أو توقع مجيئهم، فعطاس يتولى مهمة القهوة.. أو يصنعها شوكان في البيت ويجلبها إلى الديوان.. وهكذا استلم شوكان مهمته الجديدة، وهي سياسة خيل هواش المنصور.. وقد وجد في هذه المهمة نوعاً من المتعة والتسلية والأمن، ولو نسبياً.. زتوطدت العلاقة بينه وبين منادي إلى حد كبير.. وأحسّ منادي بأنه أمام رجل لا يقل عن أبيه اهتماماً به ورعاية له وحرصاً على مصلحته.. كما أحس شوكان وبشكل فعلي، بأن منادي يضمر له حباً خاصاً ومكانة خاصة، هي مزيج من الإعجاب به والتقدير له، والحاجة إلى نصحه وتسديده وإرشاده.. وكان إحساس كل منهما حقيقياً لا يعتمد على مجرد الظن أو التوهم.. واكتسب شوكان معرفة واسعة ومفصلة بشؤون قبيلة المداعيس وأحوالها وانقساماتها.. عرف نوعيات رجالها، وعلاقاتهم بالسلطات الفرنسية.. وعلاقات بعضهم السرية بالإنجليز.. كما عرف بالتدريج"، كثيراً من أحوال جماعة الشيخ المدلول، وعناصرها الذين تركوها نتيجة لضغط آبائهم، أو ضغط "أعمامهم" إن كانوا من العبيد.. والشباب الذين سافروا إلى مزرعة صهر طراد البعيدة، وشُغلوا بتأمين معيشتهم وغرقوا في النغم نتيجة لخصوبة المزرعة وغناها.. واطلع بالدرجة الأولى على نفسيات مشايخ العشاير وطباعهم، بدءاً بالشيخ طراد، ومروراً بمسعود ومرهج وغزوان وهواش.. وعرف موازين القوى البشرية والمالية داخل كل عشيرة.. وغير ذلك من الأمور، التي كان يطلعه عليها منادي من ناحية، أو يجمعها من هنا وهناك، من خلال ملاحظاته الشخصية، من ناحية أخرى.. كانت فكرة الثورة ما تزال تتأجج في رأسه كجمرة متوهجة، برغم إخفاق ثورة الكيلاني في العراق، وتمزق عناصرها بين قتيل وسجين وشريد.. وكان كلما أمعن النظر في بعض الزوايا، انبعث الأمل في صدره، وتفتّح وا.هر.. ينظر إلى آلاف الرجال الأشداء من حوله، وألاف الخيل والبنادق والمسدسات.. وإلى الأموال الطائلة، من آلاف الجمال، ومئات الآلاف من رؤوس الغنم، وأكياس الذهب التي لا تحصى.. ثم ينظر إلى أرض البادية الواسعة المترامية الأطراف، المفتوحة على ثلاث دول، وما تتيحه من قدرة على المناورة والمصاولة، والكر والفرّ.. ثم ينظر إلى الاستعداد الهائل للموت، المتحفز في صدر كل بدوي، في كل ساعة، ومن أجل أتفه الأسباب.. ينظر إلى هذا كله، فتتفتح في أعماقه من جديد، براعم الطموح الوثاب، التي سحقتها حوافر الإنجليز، وحوافر خيلهم في العراق.
ثم ينظر من زاوية أخرى، إلى الخلائط المشوّهة، من كتل عقلية ونفسية وخلقية، ويضيف إليها ما تختزنه ذاكرته من نماذج بشرية غريبة في تفكيرها ومنطقها وأساليبها في الحياة وفي فهم الحياة، فتعود آماله وطموحاته إلى انلاكماش والذبول.. ثم الاصفرار والاحتراق..
لماذا كل هذا؟ ومن السبب في تعطيل كل هذه الطاقات المذهلة؟ ولم يسرح الفرنسي ويمرح، ويمرغ أعز الأنوف وأكثرها حميو وشمماً وإباء بالتراب، وأصحابها يخضعون ويتذللون ويتوسلون.. في حين أ، إسقاط عقال أحدهم عن رأسه، كفيل بأن يفني قبيلة بأسرها.. بل قبيلتين تعدّان آلاف الرجال؟!.. ما هذا التناقض العجيب؟! ما هذا المسخ والتشويه للعقلية الإنسانية!! ومن فعل هذا؟ ولماذا؟ ومن المستفيد؟ وكيف الحل؟ وكيف الخلاص؟ أسئلة شتى تتصايح في صدره ودماغه صباح مساء.. فلا يجد لها جواباً.. أتباع الشيخ المدلول، لم يعودوا سراً غامضاً بالنسبة إليه.. لقد عرف عنهم كل ما يمكن أن يعرفه الغريب عنهم، من أمور علنية.. تاريخ تأسيس الجماعة، علاقاتها العلنية القديمة.. قادتها القدماء.. أنماط تفكير عناصرها.. أساليب العناصر في التعامل مع الآخرين، من عناصر قبلية وحكومية.. كل ذلك عرفه.. فهو في دائرة الضوء بالنسبة له ولغيره.. لكنه هو يختلف عن الآخرين، الذين يعرفون ما يرون فقط، من أسماء وعلاقات.. إنه يستطيع معرفة مالا يراه، من خلال ما يرى ويسمع.. نمط التفكير الذي كان سائداً في المرحلة العلنية، هل تغير، أو يمكن أن يتغير بشكل جذري في المرحلة السرية؟ وهل تعدل نسبة التغيير، نسبة الفرق بين السري والعلني؟ والفرق بين الأمن والخطر؟ والفرق بين اللعب بالكلام واللعب بالنار؟.. لقد أدرك بحكم تجربته الطويلة الواسعة، أن الجماعة ما تزال قائمة، وأنها انتقلت من مرحلة علنية إلى مرحلة سرية، نتيجة للضغط الذي مورس عليها.. واستنتج ماذا يمكن أن تفعله للضغط التي سمع عنها ورأى نماذج منها.. ماذا يمكن أن تفعل تحت الأرض، في مرحلة السرية والملاحقة والحصار!..
كان منادي، قد ذكر له كل شيء علني عن جماعة مدلول، مما تعرفه السلطة، ويعرفه أبناء القبيلة.. إلا أنه توقف عند هذا الحد.. فما يحق له لأن يذكر أمراً سرياً من أمور جماعته لإنسان غريب.. مهما كانت منزلة هذا الإنسان لديه، أو قربه منه، أو ثقته به، أو اطمئنانه إليه.. وإلا عدّ ذلك تفريطاً، بل خيانة يحاسب عليها أمام الله، وأمام جماعته، الني عرّض وجودها للخطر.
ولم يكن شوكان يطمع أو يرغب في أن يحدثهع منادي، عن الأوضاع الخاصة لجماعته في مرحلتها السرية الراهنة.. فهو يعرف الفرق جيداً بين ما يجب ومالا يجب، وبين ما يجوز ومالا يجوز. القضية قضية مصير، ومن حق القوم ألا يعرّضوا وجودهم ومصيرهم للدمار.
ولكن ما الذي يجب عليه أن يقدمه إليهم في هذا المجال؟ وما الذي يستطيع تقديمه، من نصح أو مشورة أو مساعدة؟ إن الشاب الصلب الكتوم "منادي" مرسال جيد لجماعته، إذا أرادت أن تكلفه بطلب نصح أو مشورة.. وهو مرسال جيد لشوكان، إذا أراد أن يحمله رأياً أو اقتراحاً، إلى جماعته، بشكل مباشر أو غير مباشر.. فليجرب هذا الأسلوب، دون أن يشعر الشاب بأنه يتعمد تحميله رسالة إلى جماعته، ودون أن يظهر بمظهر المتعالم عليه، أو على جماعته.. فهو يدرك جيداً أن الشاب لن يترك نصيحة يسمعها منه دون أن يوصلها إلى جماعته.. وذلك لما يقدره من حرص الإنسان الملتزم مع مجموعة ما، على إفادتها بكل الطرق والأساليب.. وهذا ما حصل فعلاً.. فقد بدأ شوكان يقدم النصائح والخبرات بأسلوب غير مباشر، من خلال أمثلة يخترعها أو يتصورها، عن تجمعات دينية أو سياسية، في هذه المنطقة من العالم أو تلك، مما رآه، أو قرأ عنه، أو سمع به.. في العصور القديمة حصل كذا وكذا، وفي المرحلة النبوية الأولى في مكة جرى كذا وكذا.. وفي عهد بني أمية وبني عباس تم كذا، وفعل الشيعة كذا، والخوارج كذا.. وفي العصر الحديث، جرى في أوروبا كيت وكيت، وفي آسيا، وفي أفريقيا..
كان شوكان مثقفاً ممتازاً، ومطالعاً نهماً، لا سيما في مجال الدراسات التاريخية، وأخبار العالم.. وكان اشتراكه في ثورة رشيد عالي الكيلاني، قد أعطاه حوافز قوية لمعرفة ما جرى في هذا العالم وما يجري فيه، للإفادة من تجارب الآخرين، وتحديد موقع الكيلاني وثورته على الخارطة السياسية، والجغرافية، التي تتصارع فوقها القوى الدولية والمحلية بكل أشكالها وأنواعها وأنماط تحركها.. ولقد حرص، مخلصاً، على أن يقدم خلاصة مطالعاته وتجاربه، إلى هؤلاء الفتية، علهم يستطيعون أن يفعلوا شيئاً مجدياً، في هذا التيه القاتل، تيه الحيرة والتشوه والمسخ والتقزم والضياع.. فالعراق أخ لسورية، بل أخ لبلاد الشام بأسرها، وأخ لمصر والحجاز، ولكل بلد ترتفع فيه أصوات المآذن، بالنداء الأبدي الخالد: الله أكبر.. ومن حق أي بلد مسلم، أن يفيد من تجربة أي بلد مسلم، بل أي فرد مسلم، ما دام ذلك ممكناً.
ولقد بدأ مع منادي بالعموميات، منتقلاً بالتدريج وبوعي وحكمة، من الأعم إلى الأخص، ثم إلى الأشد خصوصية.. حتى صار حديثه مجموعة من النصائح المباشرة المركزة للجماعة، من خلال ما يعرف من ظروفها الراهنة، وتحركاتها الآنية اليومية المباشرة.. وكان هناك مجموعة من النقاط تشغل باله، وتستأثر باهتمامه، من أبرزها قضية الأمن، وكيفية تكوين حس أمني راقٍ، يشعر بالخطر من مسافات بعيدة.. ومن أهمها كذلك، خوفه من ضحالة التفكير، وضعف القدرة على حساب القوى المتصارعة على الساحة، والتفاعلات الهائلة بين عناصره، المتحركة أبداً، والمتجددة باستمرار، وبسرعة عجيبة، إلا أنها تبدو لذي الأبصار الكليلة أقرب ما تكون إلى السكونية والاستقرار.. وربما كان بعضهم يراها ثابتة مسطحة، كما كان الناس يتصورون الأرض قبل مئات السنين..
وكان منادي ينقل إلى مجموعته التي تشترك معه في القيادة أولاً بأول، كل ما يسمعه من نصائح شوكان واقتراحاته وآرائه.. فيقول لهم: سمعت اليوم من شوكان كذا.. وحدثني بكذا وكذا.. ورأيه في فرنسا كذا، وفي العلاقة بين فرنسا وبريطانيا كذا وكذا.. وكانت مجموعته في البداية تسمع هذه الأقوال، على أنها أحاديث عابرة وآراء شخصية، لا يقصد صاحبها إرسالها إلى جماعة المدلول، لأنه لا يعرف شيئاً عن هذه الجماعة.. إلا أن هذه الرسائل، بدأت تتكرر، وبدأت إيحاءاتها وظلالها، تتجمع ضمن دوائر محددة مركزه في أذهان العناصر الذين يسمعونها.. وقد أدى ذلك لاحقاً، إلى انعكاسات وردود أفعال، مختلفة باختلاف أمزجة العناصر وأنماط تفكيرها..
كان شوكان في البداية يخاطب منادي بكلمة "يا عمي"، إلا أن الشاب نهاه عنها بلطف، مرات متعددة، وطلب منه أن يخاطبه بنداء "يا أخي" حسب آداب الإسلام وتوجيهاته، أو "يا ابن أخي" حسب ما جرت به العادة من مخاطبة الكبير للصغير.. فصار شوكان يستخدم الأسلوبين الأخيرين في مخاطبة منادي، حسبما يسبقه لسانه، وحسب ما يلائم سياق الحديث بشكل عام.. قال له مرة، وهما في الفلاة، بعيداً عن مضارب القبيلة، يجلسان على العشب، والخيل تمرح وترعى الأعشاب قريباً منهما:
يا ابن أخي، لا بد للنار من موقد تشتعل فيه.. فإذا أشعلت بلا موقد، فإما أن تنطفيء نتيجة لتأثير الطبيعة، وإما أن تنتشر في الفضاء، إذا اشتعلت، فتحرق الأخضر واليابس، بدءاً بمشعلها، وإنتهاء بكل ما يطاله لهيبها.. ولقد حاول كثيرون، إشعال نار بلا موقد، فكانت النتيجة أحد الأمرين اللذين ذكرتهما لك.. وإذا كان الموقد غير صالح، فكأنها اشعلت بلا موقد..
كان منادي، يقدر أن للحديث صلة بحركة جماعته، إلا أنه لم يستطع الربط تماماً بين تحركهم وإشعال النار من جهة، وبين تجمعهم وموقد النار من جهة أخرى.. وأطرق يفكر، حتى أدرك العلاقة الطريفة بين كل عنصرين من هذه العناصر، فابتسم ابتسامة لطيفة هادئة.. ثم تنهد من أعماقه، وابتسم ابتسامة مرة صفراء، أدرك شوكان ما وراءها من آلام.. ورانت فترة صمت، تشاغل كل منهما خلالها بالنظر إلى مرأى الخيل المتناسقة البديعة، ومناظر الطبيعية الخلابة، المحيطة بهما من كل اتجاه..
كان منادي يفكر في نارين: إحداهما خفيفة هادئة أشعلت في موقد غير صالح، وهي نار مجموعتهم المعتدلة، التي آثرت الدعوة السلمية، وإصلاح القبيلة من داخلها، بالحكمة والموعظة الحسنة.. هذه النار، هي نار العواطف الطيبة المتحمسة، والكلام المؤثر البليغ.. التي أثارت فرنسا والمتعاملين معها، دون أن يكون لها لسان واحد من ألسنة اللهب المحرقة.. بل إن وقودها مجرد الكلام.. مجرد الإشارة إلى آيات قرآنية وأحاديث نبوية، تحض على عداوة الكافرين، وتبين أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.. هذه النار الخفيفة الهادئة، أثارت عداوة الكافرين وعداوة العناصر المتعاملة معهم في سبيل المال أو الزعامة أو غير ذلك.
أما النار الثانية، فهي نار حامية شديدة الحرارة متأججة لاهبة.. وهي النار التي يتصدى لإشعالها كل من الشابين المندفعين: صقر بن سواط المدافر، وعزام بن ليث الهزاع، والتي بدأ سناها يلفح الوجوه من خلال صفقة السلاح التي هربها جدوع الدحام للعناصر الثورية، ووصلت أخبارها إلى الكولونيل لوفنتال.. وهذه النار الحامية، لا موقد لها البتة، ليس لها سياج يمنعها من الإنتشار، ولا أثافي تحيط بها، ولا حفرة تحتضنها.. ولا يعلم إلا الله ماذا ستفعل بمشعليها وبمن حولهم من ذوي النار الهادئة، وممن لا يشعلون ناراً، ولا يفكرون بإشعالها..
لقد نبه منادي، الشابين المندفعين، إلى أن أخبار صفقة السلاح قد وصلت إلى مسامع السلطة بتفصيلاتها.. فتظاهر كل منهما بتجاهل الأمر، وبعدم معرفته للموضوع أصلاً.. فلا أحد منهما يحدري بصفقة سلاح، من أي نوع كان.. وقد ارتاح منادي لما أداه من واجب، تجاه الشابين المسلمين والعناصر التي يقودانها، بإخبارهم بالأخطار المحدقة بهم.. إلا أنه من ناحية أخرى، أحس بالإنكماش والضيق، إزاء ما رآه من عدم اكتراث بالخطر، وعدم حساب للعواقب.. لقد لمح نذر الكارثة تتكاثف كالغيوم الداكنة في سماء البادية.. فما الذي يستطيع أن يفعله لهؤلاء الفتية؟ لاشيء.. وما الذي يمكن أن يفعله تجاه النار التي بدأ النفخ في جدوتها، في العراء بلا موقد..؟ لا شيء.. سوى النصح الذي يعتبر جبناً، أو دليل جبن.. ويقابل بقهقهة ساخرة..
إن الساحة للجميع.. ولا يملك أحد قرار أحد.. ولقد سئل الشيخ عباس ذات مرة، عن منهج بعض العلماء الآخرين، فابتسم وقال:"لكل شيخ طريقته".. وهنا، في البادية لكل جماعة طريقتها، بل ربما لكل فرد طريقته..
أي النارين أجدى يا ترى..؟ النار الهادئة التي تنذر العدو وتستثيره للبطش والتنكيل.. وهو في أوج قوته.. أم النار اللاهبة المستعرة، التي تفاجئ العدو، لكنها ما تكاد تحرق بعض ثيابه وتلفح وجهه، حتى تكون قد التهمت مشعليها جميعاً، فأصبحوا كتلاً من الرماد، تقابل بنظرات شتى، من الرثاء والتعجب، والسخرية واللوم والإكبار..
ولقد طرح منادي هذا السؤال على نفسه: أليس في قواميس اللغة والسياسة والحرب، سوى هذين النوعين من النيران؟ البدو يسمون النار بأسماء شتى، ويسمون الحرب بأسماء شتى، ويصفونها بأوصاف متنوعة.. فلم يكون الخيار محصوراً بين هاتين النارين وحسب..!؟ نار البلاغة التي تأكل أصحابها وحدهم، على مهل وبالتدريج، ونار الرصاص، التي تأكل أصحابها بسرعة، وقد تحرق ثياب الأعداء، أو تلفح وجوههم فتصيبها ببعض الحروق والندوب والتشوهات التي تزيلها، وبسرعة، عمليات التجميل الاصطناعي، على أيدي مختصين مهرة.. خطر في باله أن يسأل شوكان، عن تصوره لأفضل أنواع النيران في هذا المجال، فقال: أريد أن أسألك سؤالاً ذا شقين يا عمي شوكان، حول ما ذكرته لي عن النار والموقد..
فقال شوكان باسماً: تفضل يا ابن أخي..
فقال منادي: الشق الأول هو: هل كل نار تشعل في موقد صالح، تعتبر ناراً صالحة، غير معرضة للإنطفاء أو الانتشار الفوضوي؟
والشق الثاني هو: ما تصورك لأفضل نار يمكن أن تشعلها يد مسلمة، ضد قوى الكفر ومن يتعامل معها..؟
أعجب شوكان بهذا السؤال الوجيه، إذ رآه يعبر عن حكمة وجدية، ورغبة صادقة في معرفة السبيل المفضل لمحاربة الكفار.. فتنحنح قليلاً، وقال جاداً: أما الشق الأول يا أخي الكريم، فأحسبك تستطيع الإجابة عليه بنفسك، فالموقد، كما تعلم، عنصر لازم لإشعال النار، لكنه غير كاف، وإن كان صالحاً.. فلا بد للنار، على سبيل المثال، من وقود جيد صالح للاشتعال، إذ أن الوقود نفسه، يخنق الوقود الصالح، فتنطفئ النار، ولا يبقى منها إلا الدخان الذي يخنق أصحابها.. كما أن النار تحتاج إلى تغذية مستمرة بالوقود، كي تتمكن من إنجاز المهمة التي أشعلت من أجلها.. وإلا، فتصور ماذا يحصل، لو أنك وضعت فوق الصاج رغيفاً من العجين، وأشعلت تحته مجموعة صغيرة من عيدان الحطب، دون أن تتابع تزويد النار بالوقود.. إن النار ستنطفئ قبل أن ينضج الرغيف، فلا يكون خبزاً ناضجاً صالحاً للأكل، ولا يظل عجيناً يستفاد منه في أمور أخرى.. فتخسر رغيفك، وحطبك، وجهدك ووقتك.. وتظل مع ذلك جائعاً..
تضاحك الرجلان لهذا المثال اللطيف المعبر.. واستأنف شوكان حديثه قائلاً: وفضلاًً عن تزويد النار بالوقود الصالح، بشكل مستمر، لا بد من مراقبتها بشكل مستمر كذلك، لمعرفة متى تحتاج إلى المزيد من الوقود ومتى لا تحتاج.. ومن ناحية أخرى، كيلا تتسرب أية شرارة أو جمرة خارج الموقد، فتحرق ثياب صاحبها أو وجهه أو بيته، أو تحرق ممتلكات أناس آخرين.. وفيما عدا ذلك يا ابن أخي، كل نار تحمل نية صاحبها وهويته.. فنار الكافر كافرة، ونار المؤمن مؤمنة.. كما أن نار الخباز تنضج له خبزاً، ونار المحارب تحقق له نصراً.. أو عزة.. أو موتاً مشرفاً..
قال منادي باسماً: أراك نسيت أن تذكر أن نار العاقل عاقلة، ونار الأحمق حمقاء.. فضحك الرجلان، وقال شوكان: لا.. لم أنسها، بل أحسب أن أشرت إليها في حديثي السابق، عن نار الموقد، والنار بلا موقد، والوقود الجيد والوقود الفاسد.. ولولا خوفي من غضب النساء، لقلت: إن نار الرجل رجل، ونار المرأة امرأة..
تضاحك الرجلان مرة أخرى وتذكر منادي أخته بشكل مفاجئ.. ومثاليتها السامية، وترددها القاتل، وعجزها عن اتخاذ قرار جريء حاسم يتعلق بمصيرها.. ثم تعلقها الغريب بالغيوم لتسعفها على البكاء.. وذبولها كالشمعة بلا سقم مضنٍ ولا مصيبة موجعة.. وابتسم بمرارة وصمت.. ترى أكل النساء هكذا؟ لا يدري، لأنه لم يقرأ التاريخ، ولا يعرف إلا ظلالاً باهتة، عن نساء قدن أمماًً وأشعلن نيران الحروب.. وليس متأكداً مما إذا كانت كل نيرانهن نساءً، أم بعضها رجال..
قال منادي: لم تجبني يا عم، عن الشق الثاني من سؤالي..
قال شوكان: ما نسيته يا منادي.. لكن أحب التأكد مما إذا كان جوابي عن الشق الأول كافياً ومقنعاً..
قال منادي: إنه كاف ومقنع.. وجزاك الله خيراً..
قال شوكان: أما أفضل نار يمكن أن تشعلها يد مسلمة ضد الكفرة وعملائهم، فهي النار التي يتوفر فيها عنصران هما: طهارة الغاية، وعمق الحساب.. أما طهارة الغاية، فتعرفها جيداً.. فالمسلم الذي يلوث غايته السامية، بغايات خسيسة أو دنيئة، يخسر دينه ودنياه.. وراية الحرب، هي رمز لغايتها، فمن كانت غايته مشوبة بمصالح دنيوية قريبة، كطلب المال أو المنصب أو الشهرة.. أو غير ذلك من من سفاسف الحياة.. ظهر هذا التلوث على رايته؛ إذ سيدفعه فساد الغاية، أو ترقيعها برقع دنيوية، إلى ترقيع الراية برقع غير ربانية ولا إسلامية.. فيخسر بذلك قوة السماء وقوة الأرض معاً..
قال منادي: وكيف ذلك يا عم؟
قال شوكان: يخسر قوة السماء، لأن الله يتخلى عنه بسبب فساد غايته، فالله جل جلاله، طيب لا يقبل إلا طيباً.. وهو أغنى الأغنياء عن الشرك، ولا ينصر رجلاً اطلع على قبله فرآه يقاتل لنيل إعجاب الناس.. أو لنيل المال والمنصب وهو يتظاهر بالجهاد في سبيل الله.. وعلى هذا، فإن النية المغشوشة المدخولة، تخسر مدد الله وتأييده..
وأما خسارة قوة الأرض، فأمرها واضح بسيط كذلك، فمن يرفع راية إسلامية، فلن تمده أية قوة من قوى الأرض، وهي، كما تعلم، غارقة في الكفر والضلال.. وحتى لو كانت نية المقاتل المسلم ملوثة مغشوشة، فإن رفع راية الإسلام بحد ذاته، مثير لسخط الآخرين ولعداوتهم.. وعلى هذا فسيقفون ضده، أو، لن يمدوه بشيء في أحسن الأحوال.. وبهذا كله، يسقط سقوطاً مخزياً، فلا هو مؤمن يحظى بمدد السماء، ولا هو بكافر يحظى بمدد الكفرة المتجبرين في الأرض.. أما التلويث المتعمد للراية الإسلامية، بقصد خداع الكفرة ونيل مؤازرتهم أو حيادهم، فإنما هو لعبة صبيانية سخيفة.. يخدع بها السذج أنفسهم، ويستثيرون سخرية الآخرين، برغم تظاهر هؤلاء الآخرين بتشجيعهم على هذا العبث السمج البليد، وإمدادهم بشيء من المال أو السلاح، عربوناً على صدق مودتهم، وجدية مؤازرتهم والوقوف إلى جانبهم.. إنها لعبة حمقاء خطيرة يا بني، أرى نذرها تلوح في دنيا المسلمين.. وأجارنا الله من عواقبها..
كان منادي يصغي إلى شوكان، كما يصغي الطالب المبتدئ، إلى عالم جليل ومرب قدير.. دون أن يفكر الشاب الصلب الوديع، بأنه ابن شيخ عشيرة السواعير، وبأن شوكان عبد شريد طريد، سائس لخيله وخيل أبيه.. ولعل هذا من أهم الأسباب التي أقنعت شوكان بجدية الشاب في خدمة قضيته، وجعلته يقدم إليه عصارة فكره وتجاربه.. ولو أحس بشيء يسير من الزهو في حركات الشاب أو ملامح وجهه أو أحاديثه، لانكمش ودفن خبراته وآماله معاً في قبر مظلم عميق..
قال منادي: ولكن يا عم، ألم يرد في الحديث أن "الحرب خدعة"؟
قال شوكان باسماً: خدعة بماذا يا بني؟ خدعة بالعقائد والرايات والمبادئ الأساسية، أو خدعة بالمواقف اليومية العابرة، سياسية أو عسكرية؟ إن الخدعة يا منادي تكون بطرائق الحرب وفنونها وأساليبها، كأن توهم العدو بفعل أمر وتفعل نقيضه، أو توهمه بأنك عاجز عن مهاجمته من نقطة معينة فيقلل من دفاعاتها، فتشدد ضرباتك عليها.. أو توهمه بنفاد ذخيرتك حيناً، وبكثرتها حيناً آخر.. إلى آخر هذه الطرق والأساليب.. وهي كثيرة جداً ومتنوعة جداً.. أما أن يتخلى المؤمن عن رايته الإسلامية بقصد خداع العدو، وإيهامه بأنه صار كافراً، أو أنه صار نصف مؤمن ونصف كافر، أو ربع كافر وثلاثة أرباع مؤمن، أو أن دين الله يقر الكفر ويتعايش معه بصفاء ووئام.. فهذا نوع من الخداع المركب، الذي تمارسه شياطين الجن وشياطين الإنس، على عقلية المسلم، وتوهمه بأنه إذا تخلى عن طهارة رايته سيخدع الآخرين، وسيقبلون وجوده على الأرض، وسيمدونه بما يحتاج، وسيسبغون عليه حمايتهم ورعايتهم.. وغير ذلك من وسوسات، ما عرفها نبي من أنبياء الله، ولا تابع من تابعيهم الصالحين، من لدن آدم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام..
قال منادي باسماً: حسن يا عم.. هذه طهارة الغاية، قد انتهينا منها، فهل تذكر لنا ما الذي تقصده بعمق الحساب؟
قال شوكان: وهذا الأمر بسيط جداً يا منادي.. ولن أكثر لك من ذكر ما يجب عليك فعله، من حساب إمكاناتك وإمكانات عدوك وماذا تريد، وماذا يراد منك، وأهدافك البعيدة والقريبة، ووسائلك لتحقيق الأهداف، وعامل الزمن.. وغير ذلك مما يطول شرحه، وأظنك تعرفه كله.. وحسبي أن أشير إلى نقطة جوهرية هي معرفة ساحة المعركة وعناصرها، وأولوياتك فيها.. ولأضرب لك مثلاً من واقع قبيلتك، على صيغة سؤال أطرحه عليك، فأقول: هل تعتبر عمك "مسعود" عدواً للإسلام؟
قال منادي: نعم.
قال شوكان: وهل لوفنتال عدو للإسلام؟
قال منادي باسماً: وهل في ذلك شك؟
قال شوكان: فأيهما يحرك الآخر ويوجهه؟
قال منادي: لوفنتال طبعاً.
قال شوكان: ألا ترى العلاقة بينهما تشبه علاقة السيد بالأجير؟
قال منادي: بلى.. إلا أن الأجير هنا يسمى شيخ عشيرة، يحظى بمال كثير..
قال شوكان: وهل قبيلة المداعيس حين تحارب قبيلة أخرى، تركز اهتمامها على قتل السادة أم قتل الأجراء؟
قال منادي: بل على قتل السادة، فالأجراء كثيرون، إذا قتل أحدهم، فما أسهل ما يستأجر غيره..
قال شوكان: هذه هي القضية يا منادي بالضبط، بالنسبة لعمك مسعود والكولونيل لوفنتال..
قال منادي: وهل ترى أن أترك سادة القبيلة الأجراء يعيثون فيها فساداً، وأتصدى لمحاربة فرنسا، التي لا أستطيع الوقوف في وجهها؟
قال شوكان: هنا بالضبط تكمن المعادلة الصعبة.. لكن إذا ظللت متذكراً عدوك الأساسي، وأعداءك الأجراء يهون الأمر.. إذ تستطيع بما تملك من إمكانات توظفها بشكل جيد، أن تصاول عدوك الأساسي في جبهات كثيرة، منها الجبهة المباشرة التي أمامك.. ألا تسمع بحرب الحلفاء ودول المحور؟ إنهم يتصاولون في كل أنحاء العالم، في الأرض والبحر والجو، ولا يكتفي أحدهم بضرب عاصمة خصمه، لأن القوى موزعة ومتكاملة، ويدعم بعضها بعضاً، في أي موقع كانت.. وإضعاف العدو في أية نقطة، هو إضعاف لقوته بشكل عام.. فإذا أدركت هذه الحقيقة، وجب عليك، أن تعرف مقاتل خصمك ونقاط قوته، وتعرف كيف تضربه في الأولى، وتتقي الثانية، أو تركز هجوماً صاعقاً عنيفاً على نقاط قوته فتشله وتجبره على الاستسلام، أو الاعتراف بالحق الذي تطلبه منه..
فتح منادي فمه دهشة، وقال: ومن أين لي يا عم بالحلفاء الذين يصاولون فرنسا وحلفاءها؟
قال شوكان باسماً متسائلاً: فرنسا وحلفاءها!؟ ألا تعلم من أخلص حلفاء فرنسا الآن؟ إنها بريطانيا.. فهل تعلم كم تآمرت بريطانيا ضد الفرنسيين، وما تزال تتآمر حتى الآن؟ هنا في سورية، وفي أفريقيا، حيث لفرنسا عدد من المستعمرات.. بل وفي أوروبا بالذات.. إن تحالفات هؤلاء الكفرة فيما بينهم، إنما هي تحالفات مرحلية وهشة ومرتكزة أساساً إلى الغدر والخيانة، وتآمر كل منهم ضد الآخر.. ويمكن استثمار هذا الواقع التعيس القائم فيما بينهم، إنما يحتاج إلى فطنة وذكاء وحذر وحسن استغلال للظروف.. كما أنه لا يستطيع القيام بذلك كل رجل، فلهؤلاء الخبثاء باع طويل في مجال العلاقات السياسية وحساباتها المعقدة.. إلا أنهم ليسوا من النوع الذي لا يمكن خداعه، أو استثمار ما لديه من تناقضات وسلبيات.. وبرغم أن تعاونم ضد الإسلام والمسلمين قائم لا شك فيه، فإن التناقض بين مصالحهم هائل جداً، مما يتيح للمسلمين فرصاً ممتازة للتحرك، ويمنحهم هوامش واسعة للمناورة والمصاولة.. ثم ما المانع من أن يجد المسلم لنفسه حلفاء من المسلمين، داخل بلاده وخارجها؟ أليس المسلمون أولى بالتحالف من غيرهم، إن لم نقل بتوحيد صفوفهم وجعلها صفاً واحداً..!
قد تقول لي: إن هذا صعب، وأقول: إنه صعب جداً، لكنه ليس مستحيلاً.. يكفي أن يتفق المسلمون على الخطوط العريضة العامة، التي يؤمنون بها جميعاً.. ثم ينسقون بعد ذلك قواهم ضمن هذه الخطوط العريضة.. دون الدخول في التفصيلات التي تكثر فيها الاجتهادات والخلافات، ويكثر فيها احتكار الصواب، الذي يفرق أكثر مما يجمع..
تنهد منادي وقال: وأين نحن يا عم من هذه الطموحات الرائعة والأحلام الجميلة... إن كل ما لدينا هو مجموعة من البذور، نبذرها هنا وهناك.. وقد نضطر أحياناً لبذرها في أرض سبخة لا تنبت، كما قد نضطر إلى إلقائها في الهواء في ليلة مظلمة، دون أن ندري أين تقع، وقد يتبين لنا بعد بذل الجهد ومضي الزمن.. أن بعض هذه البذور، غير صالح للزراعة، وبعضها نخره السوس، فلا يرجى منه خير. على أن إحساسنا بواجبنا الشرعي، يدفعنا دائماً إلى الاستمرار في إلقاء البذور.. وعلى الله الاتكال.. ولا يملك أحدنا أكثر من إخلاص النية وبذل المستطاع..
تحسر شوكان حسرة مرة وقال: إلى الله المشتكى.. هذا حال المسلمين جميعاً يا بني، في كل مكان من هذ العالم التعيس.. ونرجو ألا يدفعنا الإحساس بالضعف والخيبة، إلى الاستسلام لأعداء الله.. ولا بد من العمل في أحسن الظروف وأسوئها حتى يفتح الله بيننا وبين القوم الكافرين..
يتبع..