صخب الموانئ2-4
صخب الموانئ
(2)
م. زياد صيدم
خرج إبراهيم ملوحا بيده إلى ابنته، التي راقبت خروجه وكأنها تذكره بقائمة اللوازم التي كتبتها له، لإحضارها عند عودته من عمله.. وصل الميناء في موعده المنتظم .. – صباح الخير باش مهندس، كان صوت المراسل على بوابة مكتبه .. دقائق وكانت قهوة الصباح يُحضرها له مع سندوتشات الفطور اليومي .. دقائق ودخلت روان سكرتيرة مكتبه، تحمل إليه ملفات جلها مقترحات لمشروعات تطوير حوض الصيانة للسفن، وتوسيع لسان الميناء المتقادم، قدمتها عدة شركات مختصة .. ما لبث أن أوعز لها بعمل اجتماع طارئ لطاقم الإدارة، وقد وقع أمر ضرورة الحضور للأهمية .. غادرت روان مكتبه لتنفيذ المهمة قبل انصراف المهندسين والفنيين والإداريين إلى أعمالهم، لاسيما وكثير من المهندسين يخرجون في عمليات خارجية وكشف عيني خارج مكاتبهم...
دقت الساعة الرابعة عصرا وما يزال الاجتماع منعقدا.. كانت تسمع من مكتب روان المتاخمة لصالة الاجتماعات التابعة لمكتب المدير العام للمشاريع ، أصوات تعلو بنقاشات مخالفة لبعض المشاريع المقدمة للنقاش، كانت تحاول بالحجة والبرهان إقناع المدير بعدم جدواها على حالها الذي قُدمت عليه ؟ تطالب بإجراء تعديلات على كثير من المواصفات الفنية، لتسهيل التنفيذ وتحجيم التكلفة الباهظة... وهناك أصوات كانت تمدح وتشيد ببعضها، على أهميتها وفوائدها المرجوة فيما بعد، وعن نسبة المربح والفروق في مستويات الكسب فيما لو أعطيت الأولوية للتنفيذ.. كان إبراهيم وسط هذه الأصوات يسجل ملاحظاته باهتمام ودقة متناهية، ويشارك بخبراته الواسعة بالجدل الدائر بين طاقمه، الذي اخذ الوقت الكافي لاستخلاص نتائج النقاش .. صمت فجأة ليقول: تفضلوا لاستراحة قهوة على أن يلتئم الاجتماع بعد ربع ساعة من الآن.. خرج الجميع وبقى إبراهيم حيث دخلت روان بفنجان قهوته السادة المعتادة، وبدأ بنباهته وفطنته وذكائه المشهود، يدون سطورا قليلة ويمهرها باللون الأحمر، ثم يطوى ملفه ويتراجع قليلا إلى الخلف، محاولا فرد ظهره على كرسييه المريح، يُشعل سيجارته، ويرشف ثانية من قهوته.. ينظر إلى الساعة ويشير إلى روان بأن تعيد ترتيب المكان، قبل التئام فريق العمل ثانية لإصدار القرارات النهائية، واعتماد الموافقة عليها ...
عاد الطاقم للاجتماع بالوقت المحدد، وقد بدأ الجلسة إبراهيم بصفته مديرا عاما لإدارة المشاريع، وقرأ عليهم قراراته مستندا إلى ملاحظاته التي دونها خلال النقاشات التي دارت رحاها ، حيث أيد البدء في مشروع تطوير الحوض المعد لصيانة السفن، وأعطى أوامره لتنفيذ ذلك وأوصى الجميع بان يكونوا كالمعتاد كفريق عامل موحد ومتكامل، لضمان نجاح المشروع الضخم .. كما أوعز إلى نائبه، بان يقدم له خطة العمل، ودارسة بعض الأمور الهامة لتكون جاهزة في غضون ثلاثة أيام، ليوقعها إيذانا ببدء احد اكبر المشاريع التجارية التي ستنفذها سلطة الموانئ ...
عاد إبراهيم إلى البيت مرهقا .. أخذ حمامه المعتاد، يخرج بعدها إلى طاولة السفرة، حيث كانت أسرته تجتمع من حولها.. والكل في انتظار رب الأسرة، جاء بابتسامته المعهودة والسؤال عن صغيرته، وهل تناولت طعامها أم لا، سؤال تقليدي يقوم بسؤاله متجها برأسه إلى الخادمة والى ابنته الكبرى، فتطمئنه أم سعد بأنها نامت فور تناولها الطعام، فيحمد الله ويبدأ الجميع بتناول الغذاء.. يسترخى بعدها قليلا فيغفو ساعة من الزمن .. ثم يخرج في المساء لتناول القهوة مع بعض الأصدقاء على شاطئ البحر، الذي أصبح جزء من حياته العملية وما بعدها!..
يعود بعد العشاء.. ليدخل الشبكة العنكبوتيه حيث عالمه الآخر، وأناس آخرون مختلفين عن حياته العملية، تعرف إليهم عبر الفضاء الرحب الممتد بلا نهايات من خلال تلك الشاشة الصغيرة ... اقتربت الساعة من العاشرة ليلا .. حيث اخذ ميعاده معها أمس، حيث تواعدا على استمرار حديثهما اليوم.. لحظات مرت عليه كأنها ساعات، ليدخل الاثنان في حديثهما الثاني، حيث اعترفت في لقائهما الأول بحبها له، فأصابه الذهول والارتباك آنذاك .. فبدأت قولها: أتعلم إبراهيم بأنك كاتب ناجح؟.. وأتابع كل ما تكتبه، حتى كأني أعرفك من شهور طويلة، منذ بدأت في قراءة ما تخطه أفكارك من قصص حالمة، تغور في سبر القلوب وتداعب الخيال، وتمتطى صهوة البهجة في الأعماق الخاوية، التواقة إلى قوارب الحب و شطآن السلامة والأمان.. حيث أصبت قلبي بسهام الإعجاب بداية.. إلى إحساس فريد من نوعه جعلني أبوح به إليك أمس، فهل كنت متسرعة يا إبراهيم؟ سألته ..- أحقا يعجبك ما اكتبه يا... ابتسم إبراهيم هنا لأنه حتى الآن يجهل اسمها .. - لاحظت جملته بعناية فقالت: اسمي حنان ...عندها أحس براحة وهدوء يخيم على نفسه.. وبخفقان بين ضلوعه، يعلن ثورة قادمة في قلبه وكيانه وحياته كلها.. شعر بسعادة تغمر وجدانه، إلا انه كتمها في أعماقه ..لا يريد لها الانطلاق خوفا وحيطة، وصمام أمان.! فيتبادلان همس الحب بحروف وكلمات يفوح منها عبق العطور، وتنبعث من ثناياها ألحان من شدو البلابل، في ربيع بدأت ملامحه في القلوب تلوح قريبة .!!
(4)
تناول إبراهيم فطوره الصباحي، وارتشف قليلا من فنجان قهوته التي أعدتها له أم سعد، حيث وصل سائقه على السابعة والنصف ليقله إلى عمله.. في الطريق يفتح حقيبته، يسترجع بعض الأوراق في ملف هام يتابعه شخصيا، والذي سيكون قفزة نوعية للمؤسسة، فهو من اكبر المشاريع التي ستنفذها دائرة المشروعات بصفته المسؤول الأول عنها مباشرة.. دخل المبنى بخطواته السريعة متجها إلى مكتبه.. – صباح الخير باش مهندس كانت روان تلقى عليه تحيتها الصباحية المعتادة، بابتسامة مهذبه رقيقة، كانت تحمل بيدها ملف أوراق ومستندات جاهزة للتوقيع.. تركته على مكتبه قبل أن تطلب له قهوته المفضلة .. يشعل سيجارته ويبدأ في تفحص الملف المعد.. بدأ يعطى توجهاته الشفوية لها، وهى تدون ما يقوله بعناية تامة، كما ويكتب ملاحظاته الهامة بقلم أحمر، على صفحات بعض الأوراق أمامه ..- يسأل روان عن موعد الاجتماع مع إداراته لهذا اليوم .. - عند العاشرة والنصف أجابته .. ما أن انتهى وأغلق الملف حتى تناولته وهمت بالانصراف.. وإذا به يقول: لماذا تغير مذاق القهوة هذا الصباح ؟.. – لك ذوقا مميزا باش مهندس بالقهوة حقا، ردت روان و أردفت قائلة: انه صهيب ابن المراسل الذي حضر اليوم بدلا عن والده، الذي يعانى وعكة صحية مفاجئة كما أخبر هذا الصباح .. هز برأسه وأشار لها بالانصراف...
تنفس عميقا بشهيق ملأ صدره، ثم نفذ هواءه بهدوء وبطء أشعره براحة، بينما كان يطل من شباك مكتبه المشرف على البحر مباشرة، وهو ينفث دخان سيجارته .. ثم طلب رقم الطبيب المختص في المصحة التخصصية التي تقبع فيها زوجته.. - صباح الخير دكتور نصري ،- أهلا باش مهندس إبراهيم، سبقتني فعلا، فقد كنت سأتصل بك لتذكيرك بموعدنا اليوم، أجابه .. – كيف لا أتذكر يا دكتور ؟، سأكون في مكتبك حال انتهائي من الاجتماع، سأصلك قرابة الواحدة، - بانتظارك إذا ، _ إلى اللقاء ...
بينما كان اجتماعه منعقدا مع طاقمه الفني، لمناقشه مشروع تطوير حوض السفن.. وإذ بضجيج وضوضاء تُسمع أصواتها من داخل غرفة الاجتماعات ؟.. تشتد الأصوات وتقترب !.. تدخل روان غرفة الاجتماعات مرتبكة مذعورة، تهمس إلى إبراهيم بصوت مرتجف : مسكين صهيب .. – من صهيب ؟ سألها إبراهيم ممتعضا .. – انه ابن المراسل، ضربته رافعة تحميل قبل لحظات، وبيده صينية الشاي، كان متجها إلى هنا على عجالة، وتضرج بالدماء وفقد وعيه كليا، انهارت روان بالبكاء.. يهرع إبراهيم على وجه السرعة مع مساعده، ليتفقد ويطمئن على أحوال الصبي.. بينما كانت سيارة الإسعاف لتوها تصل المكان، وتحمله على وجه السرعة إلى المستشفى.. سمع بعض العمال يتهامسون بأنه فارق الحياة .. وآخر كان ينفى قائلا: رأيته يرمش بعينيه، كان لازال يتنفس عندما نقلوه إلى داخل سيارة الإسعاف...
أشار إبراهيم إلى مساعده بان يخبر سائقه بالتحرك، ليقلهما إلى المستشفى للحاق بالصبي والاطمئنان عليه فورا.. إنها مسؤوليته الأولى، كما انه واجبه الأخلاقي تجاه الصبي ووالده، الذي يعمل على خدمتهم منذ أكثر من عشر سنوات، حتى أحبه الجميع لإخلاصه وأمانته ...
وصلا قسم الطوارئ.. قابلا الطبيب الذي عاين حالة الصبي .. كان إبراهيم متجهم الوجه، شاحب الملامح، اعتقادا بما سمعه من حديث العمال.. فطمأنه الطبيب: بان حالته الأولية جيده وقد أغمى عليه نتيجة ارتطامه بالأرض.. وهو يستعيد وعيه الآن، وقد عرف على اسمه صهيب وهذا مبشر على عدم حصول ارتجاج في المخ أو فقدان للذاكرة، كما أفاد: هناك بعض كسور في ساقه وذراعه سيتعافى منها في اقرب وقت ... تنفس إبراهيم الصعداء وحمد الله كثيرا .. طالب معاونه بالبقاء لمتابعة الإجراءات كلها، وعمل وتقديم ما يلزم .. واستأذن الطبيب، وخرج مع سائقه وهو يتمتم بكلمات شكر ودعوات لصهيب بالشفاء العاجل...
نظر إلى ساعته التي كانت تقترب من الثانية عشرة والنصف.. فأشار إلى سائقه بالتوجه إلى المصحة التخصصية .. حيث موعده مع دكتور نصري.. الذي قرر اليوم بان يلتقيا ثلاثتهم مع زوجته، بعد فترة علاجية مركزة، حيث مُنع الزوج من لقائها لفترة أسبوعين متتاليين بناء على تعليمات خاصة، تدخل في وسائل علاجها !.. فور وصوله مكتب الطبيب، كان دكتور نصري بانتظاره و توجها على الفور إلى غرفة رقم: 22 حيث تقيم زوجته .. شق إبراهيم طريقه في الممر الطويل الموصل إلى الغرفة.. وقد أحس بان قدميه تخوران.. وقد بدأ جسده في الارتعاش، فتوقف لحظات مستندا إلى الجدار.. لم ينتبه الطبيب إليه، واستمر في خطواته.. بينما تحامل إبراهيم على نفسه، واستعاد توازنه وبدأ في اللحاق بالدكتور نصري، الذي توقف على باب الغرفة.. واستدار جهة إبراهيم، ليجده ما يزال يمشى متثاقلا نوعا ما .. فابتسم له محاولا تلطيف الأمر عليه.. كأنه شعر بصعوبة الموقف !!.. فبادله إبراهيم ابتسامة قصيرة، لم تدم طويلا على وجهه.. دق باب الغرفة، حتى سمع صوتها يأذن بالدخول...
(5)
قرع الطبيب المعالج باب غرفتها رقم 22.. كان ينظر إلى إبراهيم وفى عينيه رجاء بان يتفهم الوضع، ويتماسك أعصابه..قبل أن يسمعا صوتها يأذن لهما بالدخول.. تقدم إبراهيم الطبيب بخطواته حتى أصبح بمواجهة زوجته.. كان يبتسم لها، مهيئا ذراعيه ليضمها ويحتضنها بكل الحنان والحب والرحمة.. فقد شعر بهما أكثر من أي وقت مضى.. كانت شفتاه ترتجفان قبل أن ينادى باسمها : نجوى.. نجوى.. اشتقنا إليك كثيرا حبيبتي، الأولاد يشتاقون إليك، يسألونني عنك ..نريدك معنا في البيت.. نجوى نحن نحبك كثيرا، نفتقد إلى دفء البيت بغيابك عنا .. – إبراهيم أهلا !، نطقتها وهى تحتفظ بمسافة بينهما.. ثم أدارت وجهها إلى جهة طاولتها الصغيرة.. والتي تناثرت عليها أوراق مهلهلة .. التقطت بعضها بيدها المرتعشة، لوحت بها في وجهه ، استمرت في حديثها : ينقصني أن اكتب نهاية روايتي ؟.. لكنى أريدها بان تكون محل إعجاب الجمهور!، وتنال تصفيقا مدويا في قاعات السينما.. - تصور يا إبراهيم بان المنتج يلاحقني ويريد مساومتي على ثمن الرواية !! – نعم.. نعم نجوى سيكون هذا بلا شك، التفت إلى دكتور نصري وقد فاضت عيناه بدموع لم يستطع حبسها.. انهمرت وهو يستذكر أطفاله المنتظرين خبرا مفرحا.. يستذكر نجوى كيف كانت، وكيف أصبح حالها... لم يحتمل برودة أعصابها، وعدم لامبالاتها بلقائه بعد غياب ثلاثة أسابيع بناء على إرشادات الطبيب المتابع لحالتها.. لم تسال عن أطفالها وكأنها ليست بأم !، خاطب نفسه مجيبا أيعقل هذا ؟.. يغرق في بحر دموعه وما يزال واقفا أمامها.. يلوذ بالصمت .. يبدأ صدره بالخفقان.. لا بل انه نحيب لم يستطع أن يحجبه..كان شيئا يضغط على صدره بثقل الجبال.. أراد أن يتخلص منه لكن كيف السبيل؟.. فوجد طريقه الأقرب إلى أن ينفجر بالبكاء من جديد.. – أتبكى يا إبراهيم كيف هذا ! ولماذا ؟ سألته بصوتها الغريب، والذي حمل كل عذابات حاضره ومستقبله المجهول.. – لا حبيبتي أنا لا أبكى، إنما هي فرحتي بلقائك، إنها دموع الفرح غاليتي.. أحس حينها بنيران تجتاحه، وقهرا يضغط على صدره يحاول خنقه.. في هذه اللحظات كان لابد من الطبيب أن يتدخل : باش مهندس هل أترككما وحدكما؟ فقد أكون في غير مكاني واعتذر لكما عن تطفلي .. كان يخاطبه متجها برأسه نحو نجوى.. لكن المفاجأة التي لم يتوقعها كانت تكمن في إجابتها: لا، لا داعي من بقائك هنا إبراهيم ! فقد خطرت لي فكرة كنت ابحث عنها طوال الأيام الماضية لنهاية روايتي.. أريد أن أسجلها يا دكتور بعد إذنكما .. انتهت المقابلة !.
اتكأ إبراهيم على كتف الطبيب وهو يحاول سحب قدميه .. يجرهما جرا .. يسير ببطيء إلى حيث مكتب الطبيب.. رمى بنفسه على أول كرسي عثرت عليه عينيه.. انه في وضع لا يحسد عليه.. لقد أيقن بان زوجته في وضع اشد صعوبة من ذي قبل ، ميئوس من شفائها قريبا.. – هون عليك باش مهندس سنتابع الحالة إلى آخر مداها .. لن نقصر أبدا، وسنعمل و نضع كل إمكانيات المؤسسة وخبراتها في خدمتها أجابه وهو يفتح ملفها.. بدأ يقرأ على مسامعه خطوات متابعة حالتها في الأسابيع الأخيرة ..ثم أردف قائلا: لم استغرب تصرفها أبدا معك !، فهذه البرودة العاطفية أمر عادى لمثل حالات الانفصام الحاد في الشخصية .. وهذه الهلوسة والعالم الغير واقعي التي تعيشه زوجتك في صميم أعراض المرض .. لكنها لم تنتقل بعد إلى حالة ميئوس منها حتى الآن .. – حالة ميئوس منها يا دكتور كيف؟ هل شرحت لي بأكثر وضوحا أرجوك قالها إبراهيم بعد أن خرج من صمته وذهوله .. – هي حالات متأخرة نعم قد يلجأ فيها المريض إلى إيذاء نفسه بشكل خطير !! – انتفض واقفا وأشعل سيجارته بنهم غير مسبوق ثم تمالك نفسه: كيف يا دكتور ؟ هل فسرت لي أرجوك، أوضح .. كانت كلماته غير مسموعة ، تكاد أن تتوه بين ضعفها وتلعثمها وبين فقدانه للأمل والرجاء بشفاء زوجته.. – بصراحة تامة نخشى من محاولات انتحار لها .. ولهذا رأيت بأم عينيك بعض الاحتياطات التي اتخذناها في الغرفة ...
ذُهل إبراهيم وغط في صمت ووجوم افقده القدرة على الحركة أو الكلام.. لم يعد يرى سوى هيكلا يتحدث أمامه، فاقد لملامحه، فقد اغرورق بدموع كثيفة، أفقدته حاسة الرؤيا لديه.. نهض متجها صوب الطبيب، مد يديه المرتعشة كمن يريد الاستنجاد .. أراد الخروج من المكان بأقسى سرعة.. ليستجمع قواه، ويعيد اتزانه وحساباته بمنطق أكثر وعيا وإدراكا للوضع القائم.. وقف الطبيب وقد اقبل عليه مودعا إلى باب مكتبه واصطحبه خرجا إلى حيث الفناء الرحب.. والحديقة التابعة للمؤسسة .. وهنا توقف الطبيب مصافحا إبراهيم .. شد على يده واعدا عمل كل ما باستطاعته والطاقم المتخصص لأجل شفائها.. كما همس له بان يكون على اتصال دائم به ...
كان سائق إبراهيم قد أشعل موتور السيارة عندما رآه خارجا.. فقد كان يجلس على كرسي نُحت من الصخر، ومنقوش بالخزف والأشكال الجميلة.. كان موضوعا مع مجموعة مقاعد مشابه بشكل نصف دائري، أسفل شجرة وارفة الظلال .. صعد السيارة إلى جانب سائقه، مشيرا له بالتوجه إلى البيت فورا، حيث أحس بشوق كاسح كي يحتضن أطفاله .. لكنه عرج إلى محل للألعاب، فاشترى لهما لعبتين جميلتين حسب ذوقيهما الذي يعرفه .. أوصله البيت ثم عاد السائق أدراجه.. فتح إبراهيم بوابة البيت حيث استقبلته أم سعد، وقبل أن يسال سؤاله المعتاد ..كانت تجيبه أم سعد: الأولاد يلعبون في غرفتهم وقد أكلوا جيدا بعد أن أخبرتنا بتأخرك اليوم .. – حسنا يا أم سعد فعلتي خيرا أشكرك من أعماق قلبي، أجابها.. - هل أجهز لك طعام الغذاء ؟ .. – نعم لكن بعد أن آخذ حمامي المعتاد ، لكنه اتجه إلى غرفة الأطفال، فوجد ابنته في غرفة أخيها.. لوح لهما من باب الغرفة بالهدية .. تهلل وجههما.. قفزا فوق السرير بابا..بابا.. احتضنهما بشوق وحنان ولهفة لم يسبق لهما مثيلا من قبل.. أطال في ضمهما إليه، كان يقبلهما بلهفة .. قبل أن يفتحا هديتهما من الألعاب التي يحبونها كل حسب رغباته، طارا فرحا وبهجة، تعلقا في رقبته وهو جالس على ركبتيه، حتى كاد أن يوقعاه أرضا .. فضحك معهما .. ثم استأذنهما في الذهاب ليأخذ حمامه اليومي.. وقبل أن يغلق الباب عليهما، القي بنظره صوبهما، كانا يلعبان غير منتبهان إليه.. كانت نظرة فرح امتزجت بحزن دفين.. فانسحب بهدوء مغلقا الباب ورائه، بينما كان يخفى ألمه وحسراته عن عيون أطفاله.. اتجه لأخذ حمامه عله يجد مع الماء سكينته وراحة، فيغسل وجع الحاضر وقسوة الزمن الصعب عليه ..لكن الأمل يبقى سيد الموقف، والأمنيات وحدها ستصاحبه من الآن فصاعدا... توجه لاحقا إلى غرفة السفرة.. تناول طعامه على عجالة، فقد أحس بنوع من الإرهاق فاتجه إلى غرفة نومه ليكسب ساعة نوم اعتاد عليها...
ما أن دخل الغرفة حتى وقعت عيناه على جهاز الحاسوب.. تنهد بارتياح.. أحس بشوق يكتسحه.. تذكر معاده الليلة مع حنان حيث أحس باشتياق لها أكثر.. تنهد، استرخى على سريره، كان يحلم بلقاء عذب، لقاء يحتاجه أكثر من أي وقت مضى.. فجأة اختلطت عليه هواجس متعددة؟.. فز من سريره إلى ركن اعتاد عليه في أوقات متقاربة منذ أن غادرت زوجته البيت، وقف أمامها: - أيعقل أن تكون أنت إبراهيم ؟ سأله صديقه وهو يطل عليه بكامل هيئته قبالته مباشرة – نعم وهل ترى شخصا آخرا ماثل أمامك الآن ؟ فمن أكون إذا ؟ أجابه.. – لا، لم تعد إبراهيم الذي اعرفه ؟.. – كيف؟ هل أوضحت لي هذه الاسطوانة المشروخة؟ التي تكررها على مسامعي مؤخرا.. – أنت تبكى بكثرة هذه الأيام!، كما انك تصرخ أحيانا: بأنك تريد الحياة؟..ماذا يعنى هذا ؟ لم تعد تفكر إلا بنفسك !، نسيت الثورة والوطن والواجب المقدس..؟ - لا ، كيف تتهمني بهذا، اللعنة ساترك صياغة بيانات الثورة لغيري.. إلى من هم يمتلكون مفاهيم جديدة، وكلمات لم تعد مهترئة.. فالوطن في القلب، لم يخرج منه ولن يفارقه.. - والبارودة يا إبراهيم ؟.. – موجودة لن يمسها احد، إنها عرضي وشرفي وأحد فلذات كبدي عليك اللعنة، إنها في الحفظ والصون ،إنها أمانة للأجيال حتى النصر والتحرير، هي في أحسن حالها وجاهزة ليوم موعود !.. - يسخر منه بابتسامة تُخفى عذابات الحاضر والواقع ؟!..- اللعنة عليك ما أغلظك اليوم من صديق، ألا يكفيني ما مر بى اليوم؟.. – يبدو انك لا تحتمل نقدا اليوم، اذهب الآن فأنت بحاجة إلى نوم لتريح عقلك وأعصابك، وبعدها لنا حديث آخر...
يتجه إبراهيم إلى سريره من جديد.. يحس بإرهاق ونعاس.. فانكب على وجهه، وأغمض عينيه وذهب في نومه المعتاد.. مرت أكثر من ساعة.. وإذ بأم سعد تهرع إليه، تحاول أن توقظه مستعيذة بالله من الشيطان الرجيم !.. يحاول أن يفتح عينيه بصعوبة، بينما كانت شفاهه تردد حنان.. حنان .. احتاجك يا حناني.. عندما اطمأنت عليه أم سعد بأنه قد استيقظ كانت لا تزال تضرب كفيها : لا حول ولا قوة إلا بالله.. الله يجبر خاطرك يا ولدى ويصبرك، ويفرج عليك كربتك ووحدتك، ويحقق لك كل ما تتمناه .. لكنها قبل أن تغادره سألته : يا ولدى من تكون حنان هذه التي كنت تهذى باسمها بصوت عال، أخافني وأرعبني عليك ؟..- لا، لا شيء كان كابوسا لا أكثر.. حاول إخفاء الأمر عليها لكنه لم يستطع، فإحساسه وشعوره بالسعادة الداخلية التي غمرته..كانت تسبق إجابته التي كتمها في صدره.. فارتسمت على وجهه ابتسامة أمل وتفاؤل، كادت أن تفضح سره .. نظرت إليه أم سعد غير مقتنعة بما قاله.. وهمت بالانصراف وهى تتمتم : ربنا يسعدك، ويهدأ من روعك يا ولدى.. فأنت بحاجة إلى رعاية وحنان !!...
يتبع..
إلى اللقاء.