ميج وميراج – 9
د . خالد الأحمد
- سأقوم بجولة تفتيشية على المطارات يا سيادة الجنرال. قال (آرام).
- أتأخذُني معك؟ سأل (لطفي ).
- بل أنا أذهبُ معك، لكن أُوَفِّر عليك المشقة.
- ما هي خطَّتُك ؟
- زيارة القواعد الجَوِّية كلِّها للتأكُّد من سلامة التمويه ضدَّ العدوّ، وَسَأَحُثُّ الطيارين وسائرَ الضباط الجَوِّيين على العمل للحصول على مكافأة.
- أي مكافأة ؟!
- الحفلة الشهرية، ألم أُحَدِّثْك عنها، إنها تقليد عسكري في الجيوش الراقية، لأن فلسفة القتال الحديثة ترى أن نُرَفّهَ المقاتلين إلى أقصى درجة من الترفيه، وذلك لعدة أسباب: أولاً: نجلب العناصر المتفوِّقة إلى الجيش عندما يَرَون حياتَه السعيدةَ ورفاهيته. ثانياً: يبتعدُ عنه الرَّجعيون الذين يُسَمُّون التَّرَفَ فِسقاً، والسعادةَ إسرافاً، ويَفِرُّون من الخمر والنساء، وهذه وسيلة ممتازة لإبعاد الرجعيين عن الجيش وكشفهم بسهولة. ثالثاً: عندما يُحِبُّ العسكريُّ الحياةَ ويعشَقُها حتى العبادة، وتصبح غايتَهُ الوحيدة، لذلك يدافع عنها إذا هَدَّدَها الخطر.
- أنت تقصد أن الحياة عندما تكون رخيصةً لا يدافع عنها أحد؟
- هذا هو بالضبط.
- لكنَّ هذه الفلسفة تُخالِفُ فلسفةَ الرجعيين وخاصة رجال الدِّين، إنهم يَرَونَ عكس رُؤيتِك تماماً.
ضحك (آرام)، وقال:
- هل نُقارِنُ ما قاله (فرويد) و(سارتر) بما يقوله هؤلاء السُّذَّج؟!
- لا ، أبداً ، هؤلاء الرجعيون هم سبب البلاء.
- من عبقرية الثورة المصرية إبعاد هؤلاء الرجعيين عن الجيش والسياسة والتربية والإعلام، بل مطاردتهم للقضاء عليهم تماماً.
- علينا التأكدُ تماماً من نظافة الجيش منهم، لأنهم يَسحَرُون الجنودَ بسرعة باسم الدِّين.
- لذلك الحفلة الشهرية تكشف لنا الرجعيين، فكلُّ مَن لا يشرب الخمر ويُعاشر النساء فهو رجعي.
- لكن قد لا يشرب البعضُ الخمرَ لأسباب صحية؟
- احتياطاً نعتبرُهُ رجعياً، ويُبعَدُ عن القوات المسلَّحة.
- نعم ، إنها فكرة عظيمة يا (آرام).
تنقَّل (آرام) المفتشُ العام لِسلاح الجَوِّ المصري بالطائرة العمودية على قواعد مصر الجوية، وكان يُصدر الأوامرَ المُشَدّدَة إلى قادة القواعد بإلحاح لإكمال عمليات التمويه، حتى كان مصريّاً أكثرَ من المصريين، كما كان يَتَوَدَّدُ إلى الطيارين عندما يلتقي بهم في حفلات العشاء التي يُقِيمُها قائدُ القاعدة أو نادي الضُّباط على شَرَفه، وَيَعِدُهم بحفلة ساهرة إن أكملُوا ما وَصَّاهم به قبل شهر.
وَذَاعَ صِيتُ المفتش العام، وتفانيه لسلاح الجَوِّ المصري وأخلاقه التقدمية العالية، وخاصة طريقة مَسْكِهِ لكأس الشراب في حفلات العشاء بطريقة أرستقراطية مُحَبَّبة إلى ناظريه.
كما عرف (آرام) أن قاعدةَ أنشاص هي الأفضل لإقامة الحفلة الشهرية لِقُربها من القاهرة، ولأن عناصرَها من المقرَّبين لقيادة الثورة والمدافعين عنها، وهم حُماةُ الثورة والنظام ونُسُورُهُ، يدافعون عنها ضِدَّ الرجعية والإقطاع والبرجوازية.
* * *
تسابقتِ القواعدُ الجوية في إكمال جاهِزِيَّتِها، كما تسابقتِ الرَّاقصاتُ في التَّوَدُّدِ إلى (الفريق لطفي حبيب)، وما إن اكتملتْ جاهزيةُ القواعد الجوية حتى ظفرت (سهير زكي) بلقبٍ من المفتش العام كانتْ تَعتَزُّ به وتشمخ رأسَها عالياً أمام الراقصات، وهو لقب (راقصة السلاح الجوي المصري)، وَأُلصِقَتْ عشراتُ الصور لها على جدران نادي الضباط في قاعدة أنشاص الجوية، حتى بادر بعضُ الطيارين فأطلق اسمَها على طائرته تَبَرُّكاً بها!.
- بَقِيَ ثلاثة أيام للحفلة. قال أحدُ الطيارين الصغار وهو يقفز فرحاً كطفل.
- هل عرفتَ نُجومَها ؟ قال آخر.
- (سهير زكي) وفرقتها، و(شريفة فاضل) وفرقتها، و(حلومة) طبعاً.
- لكن نحن الصغار مالنا دور.
- لا ، لقد سمعتُ أنهم سَيُحضِرون عدداً كافياً من الفنانات والراقصات، لا تنسَ أن مبدأ تكافؤ الفرص من أهم مبادئ الثورة.
- وضباط الصَّفّ ؟
- سَيَصرِفُونَهم إلى الحراسة والمناوَبة، لأنه لا يجوز أبداً أن يَلهُوَ الضابط أمام مَرؤُوسيه.
- وَمَن يَقُوم بالخدمة ؟
- سَيَأتون بعُمَّال مدنيين من الفنادق.
* * *
بدأ وصولُ الضيوف ظُهر الخميس، بعضهم يَصِلُ جَوّاً من القواعد البعيدة، والبعض برّاً، والتقى الزملاءُ ليُعيدُوا أيامَ الكلية الجوية وحكاية المستجدّ والمتقدم، وكانت طائرةُ المفتش العام بصحبة الفريق (لطفي حبيب) آخرَ ما وصل، حيث استقبلهما قائدُ قاعدة أنشاص الجوية، مع حرس الشرف وجوقة الموسيقى.
ونزل ( الفريق لطفي حبيب) يَمُدُّ قامته الطويلة عندما يَرُدُّ على تحيات كبار الضباط الذين اصطَفُّوا لاستقباله، بينما وقف (آرام) ينظر إلى جمال الترتيب والحركة عند حرس الشرف.
دخل المدعوون قاعةَ الطعام حيث مُدَّتْ أصنافُ الأطعمة وباقات الزهور تحت إشراف مهندسي الديكور، وتنافستْ كؤوس الشراب بسيقانها الممشوقة كتنافُسِ المَدعُوَّاتِ في الخضوع بالقول وَتَكَسُّر الصوت في جرس الكلمات الفرنسية وتمايل الأجساد كالأفاعي الماسونية.
- لا أرى الطعميةَ بين هذه الأصناف. قال أحدُهم ضاحكاً.
- الطعمية مُنعَتْ من دُخول نادي الضُّباط لأنها قُوتُ الشعب، ولا يجوز أن نأكلَ قُوتَ الشعب. أجابه آخر، وساد الضحكُ.
- أمَّا هذه الأطعمة فإنها أجنبية، لذلك سَنَفتِكُ بها، ونَنقَضُّ عليها بلا رحمة.
- هل تَرَى اللحمَ المحمر؟ إنه يهودي، لذلك سأمزِّقُه بأسناني.
ثم رَفَعَ ( لطفي حبيب ) الكأسَ بيده، فرفع الحاضرون كؤوسَهم وأصغوا له وهو يقترب من مكبِّر الصوت:
- بِصِحَّة رائد القومية العربية.
وَدَوَّى تصفيقٌ حادٌّ ثم رُفِعَتِ الكؤوس، وقال ثانيةً:
- كأس الأمة العربية.
ثم تلاه (آرام) فقال:
- بصحة نسورِنا أبطالِ الميج.
وتتالَتْ الكؤوس، و(سهير زكي) تتمايل، ويمسح ثوبها ثياب الجنرال.
الرقص والغناء على الأنغام، وتصفيق الحاضرين، بعد أن تفرَّقَتِ المدعُوَّاتُ بين الحاضرين حسبَ توجيهات مهندسي الديكور، واختلطت الأصواتُ بالضحكات على مختلف الموجات، وراقصة هَزِّ البطون تهتزُّ على المسرح، فَتَهتزُّ أدمغةٌ كبيرةُ الحجم يَحسبُها الناظرُ رؤوساً رُكِّبَتْ فوق أكتاف تناثرتْ عليها الطيورُ والسيوفُ والنجوم، وتنطلق ألسنةُ الطيارين تَصِفُ المشهدَ الذي بدأ يَزِيغُ أمامَها وسط تراقُصِ السرابِ، فيقول أحدُهم :
- تشكيلٌ من طائرات الميراج، تقودها فانتوم.
فيجيب آخر:
- بل تشكيل من طائرات الميج تقودها ميج 21.
ثم ترتفع الأَكُفُّ تُصَفِّقُ مع النَّغم والإيقاع.
في صباح اليوم التالي استيقظ (آرام) يُراجِعُ نجاحَهُ ليلةَ أمس، ويضع المُسَوِّغاتِ لِتَكرارها حتَّى تُصبِحَ عادَةً شهريةً لمصرَ كُلِّها، أو لقوَّاتها المسلَّحة، وإن لم يكن فَلِسلاح الجوِّ المصري على الأقل.
وكان ذلك، إذ أصبح صغارُ الطيارين ينتظرون موعدَ الحفلة بفارغ الصبر، ليلتقوا بالكبار وينافسوهم فيما هم فيه من الضلال والفسق، وتسابقتِ الفناناتُ والراقصات إلى صالات القوات المسلحة، يُرِدْنَ رِضا (آرام نوير) المفتشِ العام لسلاح الجو المصري، فتنهالُ عليهنَّ مزاريب المالِ والشهرة، وارتفعتْ مكانةُ (آرام نوير) في قلوب كبار الضباط والمسئولين الذين أصبح يحضر لهم نصيبَهم الخاصَّ من أوربا على متن طائرات السلاح الجويِّ خاصة، ولو أدَّى الأمرُ إلى إرسال طائرة لتنقل (سوزي) أو إحدى وصيفاتها من باريز إلى (لطفي حبيب) وأترابه.
وزاد عددُ الفنانات في مصر، لأن أموالَ (آرام) لا تنضبُ، بل تنهمر غزيرةً وتزداد غزارةً، وتربَّع الفنانون والفناناتُ على قِمَّةِ هرم المجتمع المصري، بعد أن أخلاها الباشواتُ الذين دمَّرتهم الثورة المصرية، وأصبح حَيُّ الزمالك ملكاً للفنانات والفنانين الذين احتلَّتْ أسماؤهم وصورُهم الصفحاتِ الأولى من المجلاَّت والصحف، تنقُلُ أخبار طلاقهم وزواجهم، وأخبار كلابهم وقططهم، وكم تستهلك في اليوم من اللحم الأحمر.
* * *
كانت تلك الحفلاتُ في عام 1965م، واستمرَّت حتى ليلة الخامس من حزيران 1967م، وفي هذه الفترة ازدهرت حياةُ الفنانات والفنانين وكلابهم وقططهم في مصر، وكذلك كبار الضباط والفراعنة الجدد، ووصلت حياةُ معظم الشعب المصري إلى أدنى مستويات الحياة البائسة، بل كان الألوف منهم يتمنون الموتَ الذي بَخِلَ به قادةُ الثورة عليهم، دعونا نستمع إلى أحد نُزَلاء السجن الحربي عام 1965م، في قضية الإخوان المسلمين في تلك السنة، وهو يُنقَلُ من سجن أبي زعبل إلى الحربي، بعد أن قضى فترةً في سجن القلعة، الذي جاء إليه من سجن المباحث العامة، ثم استقرَّ أخيراً في ليمان طرة، يقول: "... وَدَّعني كلُّ مَن في العنبر في أبي زعبل، وداعَ شخصٍ يُساقُ إلى الموت، عندما عرفوا أنني ذاهب إلى السجن الحربي، والأمر الذي أفزعني هو أنني رأيتُ الجلاَّدين يرقُّون لي، وينظرون إلى الذَّاهبين للسجن الحربي نظرةَ شفقة، على الرغم من قساوة قلوبهم، أي أن ما يدور في الحربي أثارَ الشفقةَ في قلوبٍ متحجِّرة، وُضِعنا في قيد من حديد كل اثنين معاً، ثم ربطوا القيدَ في جنزير طويل، وعصبوا أعيُننا، في جَوٍّ من الرَّكلِ والرَّفسِ والسَّبِّ القبيح، وبعد أن مشتِ الشاحنةُ، قال أحدُ حُرَّاسنا: سيكون حظُّكم من السماء لو نزلت الشاحنةُ في الترعة ومتُّمْ كلُّكم. ودعونا الله أن يستجيب... ولما وصلنا رفعوا العصابات عن أعيننا، وكانت حفلة الاستقبال، وهي تقليد من تقاليد الحربي، حيث ضربونا ضرباً مبرحاً كاد يودي بحياتنا، ثم وَجَّهونا للحائط عُراةً بلا ثياب، وجاءوا بالكلاب المفترسة التي تلعق دماءنا التي تسيل من الجروح، كنا عشرين نزيلاً جديداً ذلك اليوم، أتينا من أبي زعبل، فأحضروا لنا خمسين جندياً يتناوبون علينا الضربَ والصفع المبرح المميت، وكان يقفُ بجواري شيخٌ عجوز مُحَطَّم لم يحتمل الصفعَ فسقط على الأرض، ووجدتُ نفسي أنحني إليه وأواسيه وقلبي يتمزَّق، والرجل العجوز يرسل أنيناً ويتوسل ثم.. سكت إلى الأبد، رحمه الله.
لذلك أخرجوني من الصَّفِّ وضربوني حتى فقدتُ الوعي، ولَمَّا أَفَقتُ وجدتُ نفسي ضمنَ كومةٍ من لحم زملائي، والكلابُ تَلِغُ في دمائنا بشراهة ووحشية، وكم نالت الكلابُ من لحومنا ذلك اليوم.
وفي المخزن رقم (6) حُشِرَ خمسةٌ وأربعون منَّا في حجرة أبعادها اثنين في ثلاثة، كانت تفوح منها رائحةُ البول والبراز والصديد، وتنطلقُ منها الأنَّاتُ الخافتةُ المكتومة، فالتعليمات تَقضِي بعدم صدور أي صوت، وإلاَّ فسوف تدخل الكلاب الجائعة التي تثيرها رائحة الجروح، ولقد دخلنا المخزنَ وليس فينا واحد إلاَّ وبه جروح تسيل منها الدماءُ بلا توقُّف.
فُتحَ البابُ وصاح جنديٌّ: مَن يريد الذَّهابَ إلى دورة المياه؟ وتشجَّع أحدُنا وكان لواءً في الجيش وطلب الذَّهابَ إلى المرحاض، فأخرجه الجنديُّ بعد أن مَرَّ على جُثثِ زملائه المُكَوَّمةِ دون ترتيب، وأمام باب المخزن ضربَ هذا اللواء ضرباً موجعاً، ثم أتت الكلابُ ونهشت من لحمه أمامنا، ثم أَلقوهُ في بئر، وقبل أن يغرق أخرجوه وأدخلوه إلينا يقطر ماءً ودماً، وتركوه يرتجف حتى جفَّتْ ملابسُه، وما كان من الرجل إلاَّ أن تَبَرَّزَ وبالَ على نفسه وهو بيننا، وصارت رائحةُ اللواء تزكم الأنوف... وفي هذه الليلة المباركة شربتُ البول لأول مرة في حياتي بعد أن كدتُ أموت من العطش... ثم فُتحَ البابُ وَنُودِيَ على اللواء مع مطلع النهار، وأعادوه يحمله أربعةٌ من الجنود، وقد تمزَّق جسدُه من السياط، وأكلت الكلابُ من لحمه، وكانت ملابسُه غارقةً في الدماء، كان جسده كلُّه جرحاً غائراً ينزف دماً من كل مكان، ومع أناته الخافتة أرسل اللواءُ صرخةً عظيمة خُيِّلَ إلَيَّ معها أن جنبات السجن قد ارتَّجَتْ، ثم سكن إلى الأبد رحمه الله.
وكانت خسائرُنا في هذه الليلة وحدَها اثنين من القتلى، وأكثر من أربعين جريحاً من أساس خمس وأربعين في المخزن (6).
ثم رأيت مجموعةً من الجنود تنهال ضرباً على شيخ وهو يصرخ ويستغيث، ثم سكت الشيخُ بعد أن بحَّ صوتُه، وظلت يداه مرفوعتين إلى السماء الصافية، وعلى الجدار المواجه صورتان بالزيت لعبد الناصر وعبد الحكيم عامر.
جاء (الروبي) بسيل من الشتائم يحمل وعاءً قذراً أعطانا منه قرصاً من الطعمية لكلِّ واحد، وخمسة أرغفة للخمسة والأربعين معتقلاً، وكوباً واحداً من الشاي للجميع.
فُتِحَ البابُ وقَذَفوا لنا معتقلاً جديداً عائداً من التحقيق بعد علقة تُركَ بعدَها في العراء يومين، فجفَّتْ جروحُه وتقَيَّحَت، وهبَّتْ منه رائحةٌ كريهة كأنها صادرة من قبر، وتكوَّم الرجلُ بيننا وهو يصرخ: رجلي يا ناس.. الحقوني يا ناس.. النار.. النار.. حاموت.. ألا يوجد فيكم مسلم؟ والله ما أعرف حاجة عن الإخوان.. الله يلعن السياسة.. يا ناس أنا عربجي.. واحد يطفي النار اللي في رجلي.
كانت قدمُه اليُسرَى ملتهبةً وممتلئةً بالصديد، ولم نكن نملك إلاَّ الدعاء له، ثم فعل شيئاً عجيباً، رأيناه يتبرَّزُ ويدهن رجلَهُ ببرازه، عَلَّهُ يُطفئُ نارَها المستعرة، ولَمَّا لم ينفعه ذلك، جُنَّ وأكل بُرازَه، وصرخ صُراخاً عالياً، ثم صار يُنادي زوجتَهُ وأولاده بأسمائهم ويطلب أن يُسامحوه ويغفروا له، ثم اختَلَجَ جَسَدُهُ وأسلم الرُّوح، كان ذلك في الليل، وفي الصباح وَجَدْنا على وجهه ابتسامةً تهزأ بعبد الناصر وزبانيته، وتدلُّ على رضاه بعد الموت.
وفي هذه الليلة كان جوفي يحترق من العطش، واضطررت لشرب كمية كبيرة من البول الذي كنا نجمعه في أوعية المطاط الموجودة في المخزن.
قَضَيتُ عاماً في السجن الحربي لم يتركني الموتُ لحظةً واحدة، بل كنتُ أُواجِههُ كلَّ لحظة، وكانت أكثر اللحظات أمناً تلك التي يُقفل علينا بابُ المخزن رغم الرائحة الكريهة المنبعثة من البراز والبول والصديد".