البلاد العجيبة
رواية لليافعين
منشورات مكتبة كل شيء-حيفا
2015
الاهداء
إلى اللواتي ملأن قلبي حبّا
إلى هناء وريام ابنتي شقيقي داود
إلى أمينة ابنة شقيقي راتب
وإلى حفيدتي لينا ابنة قيس
يكاد محمود أن يلتهمَ القدس بمساجدها، وكنائسها، وسورها، وأسواقها، وأزقّتها، وحواريها، فما أن يصل باب العامود حتى يبدأ ينظر إلى كلّ شيء، ما عدا الطّريق التي يسير فيها، حتّى أنّه اصطدم بالمارّة أكثر من مرّة، يتذكّر المرّة الأولى التي دخل فيها المدينة المقدّسة، كان ذلك قبل دخوله المدرسة بأسبوع، عندما اصطحبه والده؛ ليشتري له بنطالا وقميصا من "الكاكي" المتين، وهو الزّيّ الموحّد لطلبة المدارس من الصفّ الابتدائيّ الأوّل، وحتى نهاية المرحلة الاعداديّة، سَحره جمال المدينة ورهبة دور عبادتها منذ ذلك الوقت، أمسك والده بيده اليمنى وأخذ يقوده خوفا عليه من الضّياع في المدينة المزدحمة أسواقها بالمتسوّقين والسّيّاح، والمؤمنين الذين يؤمّون المسجد الأقصى وكنيسة القيامة للصّلاة، لفت انتباهه المحلّات الملأى بالملابس، الأحذية، الخضار، الفواكه، الّلحوم، المواد الغذائيّة، الحبوب، وألعاب الأطفال، فلكلّ صنف محلّاته التّجاريّة المتخصّصة بتجارة معيّنة، وعندما مرّا بمطعم يقلي الفلافل، ويشوي الّلحوم سال لعابه، فاشترى والده له سيخا من الّلحم المشويّ، وضعه في رغيف خبز، وخمس حبّات فلافل في رغيف آخر، أمسك كلّ رغيف بيد، وأخذ ينهش من كلّ واحد منهما لقمة بالتّناوب.
محمود الآن في الصّف الاعداديّ الأوّل، لم يتغيّر عليه شيء، سوى أنّه يأتي المدينة المقدّسة مشيا على الأقدام بصحبة زميله طارق؛ لأنّهما لا يملكان أجرة "الباص"، يتجوّلان في أسواق المدينة، وكأنّهما يبحثان عن كلّ شيء فيها، ينظران حجارة المدينة وأسواقها ومحلّاتها التجاريّة، يشتهيان أطعمة كثيرة ولا يقويان على شرائها؛ لأنّهما لا يملكان ثمنها. يقفان أمام محلّات "النوفيتيه" وينظران التّماثيل البلاستيكية "المانيكان" التي تعرض الملابس النّسائيّة والرّجّالية في واجهاتها. محمود وطارق يزوران المسجد الأقصى ويتجوّلان في باحاته وساحاته، يحاولان قراءة بعض الآيات القرآنية المخطوطة على جدران المسجد القبليّ، وعلى جدران قبّة الصّخرة المشرّفة. يصعدان سور القدس، ينظران إلى خارج المدينة من طلّاقات السّور...عندما ينادي المؤذّن لصلاة الجمعة يتوضأان ويصليّان الصّلاة جماعة في المسجد القبليّ. بعدها يذهبان إلى كنيسة القيامة، يتجوّلان فيها، يتوقّفان أمام زخرفتها. يخرجان إلى أسواق المدينة، وهما يمنّيان نفسيهما بوجبة شواء، وقليل من الحلوى. ثمّ يعودان إلى بيتيهما خائبين، لكنّهما فرحان بما رأياه في مدينتهما.
ما أن يعود محمود إلى بيت والديه بعد يوم حافل في القدس، حتى يقصّ على شقيقته زينب بعضا ممّا رأى، حدّثها عن سور القدس العظيم، وما يحمله من جماليات عجيبة، وعن بوّابات السّور التي يدخل ويخرج منها زائرو المدينة، وعندما تحدّث عن مساجد، وكنائس، وأسواق، وحارات المدينة؛ سألته بدهشة:
لماذا لا تأخذني معك لزيارة القدس، حتى أرى ما تحدّثني عنه؟
أجابها: اذهبي مع والدتنا أو جدّتنا عند ذهابهما للصّلاة في المسجد الأقصى أيّام الجمعة.؟
بقي محمود يُحدّث زينب عن مشاهداته في القدس، وزينب تسأل مستفسرة إلى أن ناما.
****
جاء شيخ ثيابه بيضاء نظيفة، شعره أشيب، وسيم...لا تغادر الابتسامة وجهه، أمسك يد محمود وخرج به من البيت، جلسا داخل مركبة زجاجيّة واسعة على قطعة قماش حريريّة مهدّبة، فطارت بهما إلى أن حطّت في ساحة المسجد الأقصى، بين قبّة الصّخرة المشرّفة والكأس حيث يتوضّأ المصلّون. يكاد المسجد يخلو من البشر، فالّليل في منتصفه، هناك مجموعة رجال يعتكفون في المسجد القديم تحت المسجد القبليّ، لم يشاهدهم محمود.
التفت الشّيخ الطّيّب إلى محمود وقال:
هنا منبع الخيرات يا ولدي، فهذه المنطقة هي بوّابة الدّنيا، وأقرب بقاع الأرض إلى السّماء، من سيطر عليها فاز فوزًا عظيما؛ لأنّها مباركة. أصغى محمود إلى الشّيخ الطّيب باهتمام زائد، وإذا الأرض تميد، فترتسم دائرة عريضة ترسل أشعّة إلى الفضاء الخارجيّ، طمأن الشّيخ محمودا وهو يقول له:
اجلس في هذه المركبة على بساط الرّيح، سيوصلك يا بنيّ إلى عالم آخر ستجد فيه ما يسرّك، خذ منه ما شئت، وعندما تريد الخروج ستجدني بانتظارك.
جلس محمود على البساط الحريريّ، بعد دقائق وجد نفسه في مدينة عجيبة غريبة، شوارعها عريضة نظيفة، سيّاراتها عجيبة أيضا، أبنيتها مهندسة بطريقة لافتة لم يشاهد مثلها من قبل، محلّاتها عظيمة مفتوحة الأبواب، رأى أطفالا من كلا الجنسين يرتدون ملابس أنيقة مزركشة، ونساءً يقطرن جمالا، شعورهنّ سوداء فاحمة، عيونهنّ حوراء، ملابسهنّ توحي بأنّهن يعشن في دلال. لم يشاهد رجالا كثيرين في المدينة...المطاعم تديرها نساء يخدمن الزبائن، ويقدّمن لهم ما يحتاجونه مجّانا...وهذا ما عرفه محمود عندما اقترب من أحد محلّات الحلويّات، سال لعابه طمعا بقطعة حلوى يلتهمها...اقتربت منه امرأة شابّة وقالت له باسمة:
تفضّل يا ولدي واملأ صحنك بالأصناف التي تريدها، اجلس على كرسيّ أمام إحدى الطاولات وَكُلْ.
لكنّني لا أملك ثمنها يا خالة قال محمود.
ردّت عليه باسمة: هذه مدينة المحبّة يا ولدي، كُلْ فيها ما تشاء، فالطّعام في هذه البلاد مجّانيّ، وخذ ما تشاء من أيّ محلّ على حسابي أنا.
سأل محمود غير مصدّق:
هل ما تقولينه حقّا يا خالة؟
ردّت عليه ضاحكة:
نعم يا ولدي، ما قلته لك هو الحقّ، فساكنو هذا الكوكب لا يكذبون.
أمسكت يده وقادته إلى داخل المحلّ، سلّمته صحنا وقالت له:
خذ ما تشاء يا ولدي.
ملأ محمود صحنه بأنواع مختلفة من الحلوى...أكل حتى امتلأت معدته... شكر المرأة الحسناء وخرج... مرّ بمطعم يشوي الّلحوم... وجد فيه امرأة حسناء أخرى، تناول قليلا من الشّواء وأكله... شعر بالنّدم؛ لأنّه تناول الحلويّات قبل الطّعام... شكر المرأة وخرج... تجوّل في الأسواق.
مرّ محمود بحديقة جميلة تزيّنها الورود، فيها مختلف المراجيح والألعاب، الأطفال من كلا الجنسين يلعبون ويضحكون...هناك نساء يراقبنهم خوفا من سقوط أحدهم من أرجوحة ما، مع أنّ كلّ وسائل السّلامة متوفّرة في الحديقة، دخل محمود إلى أرجوحة على شكل سفينة، فيها مقاعد يجلس عليها الأطفال، أمام المقعد عارضة حديديّة يمسكها الأطفال عندما تبدأ الأرجوحة العمل، بعد أن امتلأت السّفينة بالأطفال، أغلقت امرأة حسناء بابها، ضغطت على زرّ كهربائيّ ارتفعت السفينة عن الأرض حوالي خمسة أمتار، ثم بدأت الحركة بشكل طولي...كأنّها تطير في السّماء، تتحرّك إلى الأمام وتعود إلى الخلف بسرعة خاطفة، الأطفال يضحكون قهقهة وهم يتخوّفون أن تنقلب بهم السّفينة التي توقّفت بعد عشر دقائق، نزل الأطفال من السّفينة ضاحكين فرحين، والمرأة المسؤولة سعيدة بفرحة الأطفال.
أراد محمود أن ينتقل إلى مراجيح أخرى، وإذا بالشّيخ الطّيب أمامه، ابتسم له الشّيخ وسأله:
هل أنت سعيد يا محمود؟
نعم أنا في منتهى السّعادة.
قال الشّيخ: سآتي بك هنا مرّات كثيرة، لكن الآن علينا العودة قبل أن يبزغ الفجر، ويفتقدك أبواك... خذ ما تريد من هذه المدينة لأسرتك.
انتقى محمود ملابس فاخرة له ولوالديه ولشقيقاته وأشقائه، وانتقى عقدي جواهر تسلب الألباب، واحدا لوالدته والثّاني لشقيقته زينب، حمل لهم الكثير من أطايب الطّعام...لحوم وأسماك مشويّة...حلويّات وفواكه.
عاد محمود بصحبة الشّيخ من نفس المكان الّذي صعدا منه، في ساحة الصّخرة المشرّفة التفت محمود إلى الدّائرة الّتي طارا منها إلى المدينة العجيبة، فلم يشاهد شيئا.
صلّيا الفجر في المسجد الأقصى، وأعاد الشّيخ الطّيب محمودا إلى بيته على بساط الرّيح.
عندما استيقظت أمّ محمود مع بزوغ الشّمس، لم تصدّق ما رأته عيناها، فمن أتى لهم بهذه الملابس وهذه الأطعمة؟ رفعت صوتها تنادي زوجها وتقول:
يا عبد المعطي...تعال وانظر ما في بيتنا!
قفز الزّوج عبد المعطي من فراشه مذعورا وسأل:
ماذا يوجد في البيت يا امرأة؟
أشارت إلى الملابس والأطعمة وقالت:
من أتانا بهذه؟
اقترب أبو محمود من الأكياس يتفحّصها، وقعت يداه على الشّواء...التقط قطعة...وضعها في فمه... صاحت به زوجته تقول:
ابصقها يا رجل...ما يدرينا أنّها مسمومة؟
ابتسم محمود وقال:
أنا من أحضرت لكم هذه الأغراض، الطّعام لذيذ وشهيّ...وأكلت منه قبلكم، ولا ضرر منه.
امتقع وجها الأبوين...نظر كلّ منهما للآخر...اقترب الأب من محمود وصاح به:
هل ما تقوله حقّا يا محمود؟
أجاب محمود بهدوء:
نعم يا أبي...ما قلته لكما هي الحقيقة.
ظهرت علامات الغضب على وجه الأب...رفع صوته سائلا محمود
من أين أتيت بها يا محمود؟
من المدينة العجيبة يا أبي.
عن أيّ مدينة تتحدث يا ولد؟ صاح به الأب.
قلت لك المدينة العجيبة يا أبتِ.
ازداد الأب غضبا وصرخ مرّة أخرى:
هل أنت مجنون يا ولد؟ وهل هناك مدن عجيبة وأخرى غير عجيبة؟
اقتربت الأمّ من محمود يعتريها الخوف على ابنها...وضعت يدها على جبينه؛ لترى إن كان يهذي من حمّى أصابته...الأب غاضب تراوده شكوك كبيرة حول مصدر هذه الأغراض الثّمينة.
تفحّصت زينب الأغراض...فرحت بالملابس المخصّصة لها...نصبت من الطّعام مائدة على الأرض، وقالت لوالديها وأشقّائها الصّغار:
تفضّلوا فالطّعام لذيذ...انتبهت إلى علبتين جميلتين، أمسكت إحداهما وفتحتها، فرأت عقد جواهر يتلألأ...أمسكت به والدّهشة تعلو وجهها...رأت اسمها منقوشا على العقد؛ فصرخت فرحة وهي تسأل:
ما هذا؟ وضعته على صدرها وطارت فرحة.
اصطفّ الصّغار حول المائدة يأكلون فرحين... بينما قال محمود بأنّه شبعان؛ فقد أكل حتى شبع، وشرب حتى ارتوى في مطاعم المدينة العجيبة.
هاج الأب وماج عندما سمع اسم المدينة العجيبة، فسأل محمودا ساخرا:
متى ذهبت إلى المدينة العجيبة التي تقول عنها؟
في الّليلة الماضية أجاب محمود.
وأين تقع مدينتك العجيبة يا ولد؟
من فضاء المسجد الأقصى ما بين قبّة الصّخرة المشرّفة والمسجد القبليّ، تستطيع الوصول إليها.
وكيف ذهبت إلى المسجد الأقصى وأنت لم تخرج من غرفتك؟
حملني الشّيخ الطّيب ذو الّلحية والملابس البيضاء، والشّعر الأشيب على بساط الرّيح.
التفت الأب إلى بناته وأبنائه الآخرين وسألهم:
من منكم رأى محمودا يخرج من غرفة النّوم في الّليلة الماضية؟
لم يجبه أحد...فازداد الأب غضبا وسأل:
هل رأى أحد منكم من جلب هذه الأغراض وأدخلها إلى الغرفة؟
فأجابوا جميعهم بالنّفي.
عاد الأب يسأل محمودا:
ما اسم شيخك الطّيب يا ولد؟ وهل هناك طيّبون في هذا الزّمن؟
ردّ محمود: لم أسأله عن اسمه، لأنّني لم أره إلّا هذه المرّة، لكنّني سأسأله في المرّة القادمة.
صاح الأب غاضبا:
كيف تخرج ليلا مع رجل لا تعرفه يا ولد؟
ردّ محمود بانكسار:
لم يكن أمامي خيار الرّفض يا أبي...ولا أعرف كيف سرت معه راضيا مرضيّا.
اصفرّ وجه الأمّ...أمسكت يد زوجها وقالت له:
هيّا بنا إلى غرفتنا...وهناك قالت لزوجها:
يبدو أنّ الولد مسيطر عليه من قِبَل أشخاص لهم أهداف لا يعلمها إلّا الله، لكنّها بالتأكيد ليست بريئة...والولد لا يقول الحقيقة؛ لأنّه خائف منهم...وهذا يتطلّب منّا مراقبة الولد وحمايته؛ لنكتشف من يقف خلف هذه المصيبة.
ضرب الأب كفّا على كفّ وقال:
لا عداوة لنا مع أحد حتى يوقعوا بابننا، ولا شيء عندنا يطمع به الآخرون.
ابتسمت أمّ محمود وقالت بدلع:
بل لدينا ما يطمع به الآخرون.
سألها زوجها حائرا:
ماذا تقصدين يا امرأة؟
فأجابت بدلع: إنّها زينب...لا بدّ أنّ أحدا ما ثريّا قد وضع عينه عليها يريد الزّواج منها.
فقال الأب هازئا:
زينب لا تزال طفلة يا امرأة.؟
ردّت أمّ محمود:
زينب ليست صغيرة...فهي في الرّابعة عشرة من عمرها. ومحمود يصغرها بعام.
أبو محمود: من هم في الرابعة عشرة أطفال...وليسوا في سنّ الزّواج.
أمّ محمود: قلت لك أنّ زينب ليست صغيرة...فهي بالغة منذ أكثر من ثلاث سنوات.
أبو محمود: هل جُننتِ يا امرأة...قلت لك أنّ زينب لا تزال طفلة، وليست في سنّ الزّواج...أخشى من كلامك هذا أنّك تتحدّثين مع بعض النّساء؛ لتزويج زينب لواحد من أبنائهنّ، ولو كان كلامك صحيحا، فما الذي يمنعهم من دخول البيوت من أبوابها؟
أمّ محمود: معاذ الله أن أفعل ذلك... لكنّ هذا ما أعتقده.
أبو محمود: اعتقادك خاطئ 100 %.
أمّ محمود: إذا كان اعتقادي خاطئا! فكيف تفسّر وجود عقد الجواهر المكتوب عليه اسم زينب؟
أبو محمود: إذا كانت الأمور هكذا كما تقولين، فكيف تفسّرين وجود اسمك على العقد الآخر؟ فهل أنا زوج مخدوع، ولديك عشيق أنتِ أيضا.
امتقع وجه الزّوجة سعاد غضبا وقالت حزينة:
ليتني لم أسمع هذا الكلام منك، أبعدَ كلّ هذه العشرة بيننا تقول ما قلتَ يا عبد المعطي؟
أبو محمود: أخاف أن أفقد عقلي...فلم أعد قادرا على التّفكير...من أين أتتنا هذه المصيبة؟ ما علاقة محمود بهذا؟ لماذا لا يقول لنا الحقيقة ويريحنا؟ لو أنّه يصدق معنا لاستطعنا معرفة الحقيقة، ولوجدنا الحلول لها مهما كانت معقّدة أو سهلة.
أمّ محمود: أكثر ما أخشاه أنّ محمودا واقع تحت تأثير أناس خطيرين، أو أنّ الولد مصاب بالجنون.
أبو محمود: أناس خطيرون أو غير خطيرين...ماذا يريدون منّا؟ اسمعي يا سعاد، يجب أن أتأكّد من عدّة أمور، سآخذ الآن عقدي الجواهر لأعرضهما على صائغ في المدينة؛ لأرى إن كانا جواهر حقيقيّة أم مزيّفة، ومعرفتنا هذه ربّما ستساعدنا على معرفة الحقيقة.
أمّ محمود: فكرتك رائعة، وما رأيك أن نعرض محمودا على طبيب نفسيّ؛ لنرى هل هو سليم معافى أم مصاب بمسّ من جنون، أو لعلّ الطّبيب يستخرج من محمود ما يخبّئه عنّا؟
أبو محمود: سأذهب أنا الآن إلى المدينة لأتأكّد من عقدي الجواهر إن كانا مزيّفن أم حقيقيّين وبعدها سنتصرّف، انتبهي للبيت وللأبناء جيّدا، راقبي الأولاد دون أن يشعروا بذلك، وإيّاك أن تخيفيهم.
أمّ محمود: ما رأيك يا عبد المعطي أن ترتدي الملابس الجديدة التي جاءتنا مع الأغراض؛ ليشعر الصائغ أنّك رجل ثريّ؟
أبو محمود: هل جُننت يا فاطمة؟ هل أنا ذاهب لأفحص العقدين أم لأستعرض نفسي؟
دخل أبو محمود محل صائغ ذهب في المدينة على استحياء، طرح السّلام على الصّائغ وقال له:
هذا العقد جاء هديّة لابنتي من أخي المغترب في أمريكا، وأريد أن أستفسر عن سعره؟
أمسك الصّائغ العقد بيديه، تفحّصه بعينيه، وضعه على طاولة تحت مجهر، نظر إليه من خلال المجهر، ثمّ وضع عدسة على عينيه...حمل العقد بين يديه...رفعه قريبا من عينه...تنهّد الصّائغ وسأل أبا محمود:
ما اسمك يا أخي؟
عبد المعطي.
ماذا يعمل أخوك في أمريكا؟
رجل أعمال.
الصّائغ: يبدو أنّ أخاك ثريّ جدا، ويحبّك وابنتك كثيرا...هذا العقد من الذّهب الأبيض، ومرصّع بأجود أنواع الماس، وحبات اللؤلؤ الطّبيعي، والأحجار الكريمة كالياقوت والزّمرّد. وإذا كنت راغبا ببيعه سأشتريه منك بمئة ألف دولار.
ابتسم أبو محمود وقال:
الهديّة لا تهدى ولا تباع...أردت معرفة سعره فقط.
الصّائغ: وأزيدك عشرين ألف دولار أخرى...مائة وعشرون ألفا هل ترضيك؟
أبو محمود: قلت لك بأنّه ليس للبيع.
الصّائغ: يا رجل...اترك لي شيئا أربحه...سأعطيك عقدا ذهبيّا شبيها له، وفيه بعض الألماس...وأعطيك أيضا مئة ألف دولار.
أبو محمود: قلت لك...ليس للبيع...اعطني العقد وشكرا لك.
حمل أبو محمود العقد، بعد أن قرّر أن لا يعرض العقد الثّاني على الصّائغ...قفل عائدا إلى بيته...وسط وساوس كبيرة كثيرة.... وضع عقد ابنته زينب في البيت...أوصى زوجته بأن تبقى يقظة تراقب كلّ شيء، لأنّه سيحمل عقدها؛ ليستفسر عن قيمته من صائغ في مدينة المصايف...القلق يسيطر عليه ... لم يعد قادرا على التّفكير... بقيت يده في جيبه تحرس العقد، في مدينة المصايف عرض العقد على الصّائغ حاتم مستفسرا عن ثمنه... فحص الصّائغ العقد كما فعل الصّائغ السّابق... سأل الصّائغ أبا محمود عن المصدر الذي اشترى العقد منه؟
أجاب أبو محمود:
إنّه هديّة لزوجتي من أخيها المغترب في أمريكا.
طلب الصّائغ من ابنه أن يحضر فنجاني قهوة، واحد له والآخر لأبي محمود، بعد أن سمح له بالدّخول... أجلسه على كنبة فاخرة وقال له:
اسمع يا أخي... هذا عقد ثمين جدّا... لا يوجد مثله... لقد تجوّلت في العديد من أسواق الذّهب والجواهر في العديد من عواصم العالم، ولم أشاهد مثله، وأخشى أن يكون مسروقا من احدى العائلات المالكة أو الثّريّة... ومع ذلك إذا أردت بيعه فسأشتريه منك بمئة وخمسين ألف دولار، لأنك رجل طيّب، ولا يمكن أن تكون سارقا!
قال أبو محمود بلهجة غاضبة:
هل تشكّ بأمانتي يا رجل؟ أقدّمتَ لي فنجان قهوة لتخدعني وتخلق مشكلة معي؛ كي تستولي على العقد؟ أعطني عقدي، وخذ ثمن فنجان القهوة.
الصّائغ: ما قصدت شيئا ممّا تقوله يا أخي...فالعقد نادر وثمين، ولا يقوى على شرائه مثلي ومثلك، وهكذا عقود ذهبيّة لا توجد في بلداننا، بل إنّني لم أشاهد شبيها له حتى في صور الاعلانات...ربما صُنع خصّيصا لإحدى الملكات، وقام أحد أفراد حاشيتها بسرقته وبيعه لشقيق زوجتك الذي بدوره أرسله لها... وإذا ما صدقت ظنوني، واكتشف أمر ذلك، فالعواقب ستكون وخيمة.
أبو محمود ساخرا:
شكرا لك على شكوكك، العقد هديّة والهديّة لا تهدى ولا تباع.
الصّائغ: يا أبا محمود...لا تفهم الكلام بطريقة خاطئة، سأقترح عليك عرضا آخر...ما رأيك أن تأخذ مئة وخمسين ألف دولار، وتبقي العقد عندي لأحاول بيعه في لندن التي سأسافر إليها أنا وزوجتي بعد يومين؟ وأعطيك عهد الله بأن أتقاسم وإيّاك أيّ مبلغ يزيد عن ذلك إذا ما بعته، وسأكتب لك اقرارا عند محام بأنّ العقد في حوزتي أمانة لك عندي؛ لتكون مطمئنّا. وسنبقي صورة للعقد عند المحامي، وصورة عندك وثالثة عندي.
فكّر أبو محمود قليلا وقال:
أنا موافق.
ابتسم الصّائغ؛ لأنّه تفاجأ بموافقة عبد المعطي... تناول عبد المعطي العقد... وضعه في علبته... خبّأه في جيبه.
سأل الصّائغ عبد المعطي:
هل تعرف محاميا ثقة كي نذهب إليه؟
عبد المعطي: أنا لا أعرف أحدا في هذه المدينة.
الصّائغ: أنا أعرف عددا من المحامين...وسنذهب إلى الأستاذ طارق الذّهبي، فهو محام خبير وصاحب أمانة.
عبد المعطي: لا مانع لديّ.
وضع الصّائغ مئة وخمسين ألف دولار في حقيبة يدويّة، وقال لعبد المعطي:
هذه لك ستقبضها بعد أن نوقّع اتفاقنا أمام المحامي.
أنهيا المعاملة عند المحامي..سلّم عبد المعطي العقد للصّائغ، واستلم مئة وخمسين ألف دولار... طلب الصّائغ من ابنه أن يوصل عبد المعطي إلى بيته زيادة في الحذر... رأس عبد المعطي يكاد ينفجر من الصّداع النّاتج عن كثرة التّفكير والوساوس التي تراوده.
بينما كان الصائغ فرحا بخطّته، فهو لن يخون العهد الذي قطعه على نفسه، لكنّه سعيد بتأمين نفسه بالاتفاقيّة التي وقّعها مع عبد المعطي عند المحامي، فإذا ما تبيّن أنّ العقد مسروق، فلديه ما يثبت بأنّه ليس سارقا.
في بيت عبد المعطي كانت زوجته سعاد تغلي كما الزّيت في المقلاة... منعت زينب من استعمال عقدها... منعت الأبناء من الخروج حتى لمدارسهم... نظرت لمحمود مشفقة عليه...احتضنته وأبقته بجانبها خوفا عليه ...أغلقت باب البيت، قرّرت أن لا تستقبل أحدا... بقيت تنتظر زوجها عبد المعطي، لم يفهم أطفالها سبب تصرّفات والدتهم المفاجئة.
*****
ترجّل عبد المعطي من سيّارة ابن الصّائغ مرهقا، بدا كمن يحمل هموم الدّنيا على كاهله، أمضى طريقه من مدينة المصايف إلى بيته يفكّر بكيفية استثمار ثمن العقد، يقول تارة بأنّه سيشتري بيتا يطلّ على القدس القديمة ... هو لا يريد السّكن داخل الأسوار، فتزاحم البيوت والأسواق والطّرقات والمارّة أمر لم يعتد عليه، ولا يطيقه، يؤمن بأنّ بيت الانسان مملكته، من حقّه أن يجلس في بيته كيفما يشاء... يفتح نوافذه كيفما يريد، وأن تكون للبيت حديقة ملأى بالورود والأشجار المثمرة، دون أن يزعجه أحد، ودون أن يزعج هو الآخر أحدا.
ويفكّر تارة أخرى بأن يشتري محلّا تجاريّا في المدينة يدرّ عليه دخلا وفيرا؛ لينعم بحياة هادئة، وليعلّم بناته وأبناءه في أفضل الجامعات؛ ليسعدوا في حياتهم، كي لا يشقوا في الأعمال السّوداء التي يعمل بها.
يحتدّ عبد المعطي غضبا عندما يتذكّر ما قاله له الصّائغ في مدينة المصايف، بأن العقد ملكيّ وقد يكون مسروقا... لكنّهما عقدان وليس عقدا واحدا...فمن أين أتى بهما محمود؟ وقصّته عن الشّيخ الطّيّب ذي الشعر الأشيب والملابس والّلحية البيضاء غير مقنعة، لكنّه يعزّي نفسه بأنّ محمودا لا يزال طفلا، وهو طفل حييّ مؤدّب، لا يعرف ملوكا ولا غيرهم، ويستحيل أن يلجأ إلى السّرقة... ولو سرقه حقيقة فمِمَّنْ سرقه؟ وهل عندنا أناس يشترون عقودا لزوجاتهم بهكذا مبالغ؟ أم أنّ محمودا وجدها في الطّريق وحملها؟ وهل يعقل أنّ هناك من يترك أشياء ثمينة كهذه في الطّرقات؟
دخل بيته تعبا... قال لزوجته:
أنا تعب اتركيني يا سعاد في غرفة النّوم وحدي كي أغفو قليلا.
وبينما هو مستلق على فراشه راوده تساؤل:
إن كان هذان العقدان مسروقين حقيقة، فمن من الملوك والأثرياء له زوجة باسم سعاد، وابنة باسم زينب؟ أو من له ابنتان أو شقيقتان تحملان هذين الاسمين، كي يحفر اسميهما على العقدين؟ هذا أمر غير معقول!
فجأة وجد أمامه في الغرفة ثلاثة رجال وامرأة هيفاء ممشوقة القامة، عيناها حوراوان واسعة، شعرها أسود فاحم يتدلى على ظهرها إلى ما تحت الخاصرة، رموشها سوداء طويلة تضفي جمالا على عينيها الكحيلتين، أنفها مستقيم عند أرنبته يشبه منقار الصّقر، أسنانها بيضاء كالثّلج... ابتسامتها تسرق الألباب... ساقاها مستقيمتان كعامودي رخام...لا ترهّل فيهما... فرك عبد المعطي عينيه؛ ليتأكد هل هو يقظ أم في حلم؟
اقتربت المرأة منه...وضعت يدها اليمنى على جبينه وقالت له:
لا تخف يا عبد المعطي، فلن ترى منّي إلّا كلّ خير، أنا سعاد الثّانية، جئتك من المدينة العجيبة، وأنا من زوّدت طفلك محمودا بالأغراض التي جلبها لكم في الّليلة الماضية، بما في ذلك عقدا الجواهر، أرسلتهما هديّة لزوجتك سعاد ولابنتك زينب، بعدما رأيت محمودا مهتما باحضار هديّة ثمينة لكلّ منهما، سعاد ستكون ضرّتي التي لن تراني، ولن تعيش معي أو أعيش معها، وزينب مثل ابنتي التي لم أنجبها بعد، بل هي أختها!
عقدت الدّهشة والخوف لسان عبد المعطي...اقتربت المرأة منه أكثر وقالت له:
لا تخف يا عبد المعطي...فأنا سأكون زوجتك وحبيبتك، وهؤلاء شيخ ليعقد قراننا وشاهدان ليشهدا بذلك، لن أمكث عندك أكثر من ساعة في كلّ زيارة، ولن يراني أو يشعر بي أحد، كلّ ما أريده هو أن أنجب منك طفلا وسيما ذكيّا مثل محمود، أو طفلة حسناء نابغة مثل زينب، فهل تقبلني زوجة لك؟
لم يصدّق عبد المعطي ما تسمعه أذناه فخاطبها خائفا:
ما هذه المدينة العجيبة؟ وأين تقع؟
سعاد الثّانية: المدينة العجيبة هي مدينة في البلاد العجيبة، التي تقع خارج الكرة الأرضيّة التي تعرفونها، وسآخذك إليها هذه الّليلة إن وافقت على الزّواج منّي، ستعرف عنها الكثير لاحقا، ومن يعرف البلاد العجيبة سيعيش حياته هانئا سعيدا في دنياكم الأكثر عجبا، لكن عليك أن لا تفشي سرّنا، وإن أفشيته فلن تراني ثانية.
عبد المعطي: هل أنت جنّيّة أم عفريتة؟
أنا إنسانة مثلك...ألا تراني؟
عبد المعطي: إن كنت حقّا إنسانة مثلي فكيف دخلتِ ومن معك البيت دون أن يشعر بكم أحد؟
بالعلم يستطيع المرء عمل كلّ شيء.
عقد الشّيخ قرانهما وانصرف مع شاهدي العقد، أمضت سعاد الثّانية ساعة في فراش عبد المعطي، وغادرته كما دخلت دون أن يشعر أحد بذلك.
شعر عبد المعطي براحة تامّة، خرج من غرفته سعيدا، قال لزوجته وأطفاله:
ارتدوا الملابس الجديدة ولا تخافوا شيئا، عقدك يا زينب ثمين، بامكانك أن تتزيّني به، لكن كوني حريصة عليه، لا تعيريه لأحد، أمّا أنت يا سعاد فقد بعت عقدك، وسآتيك بشبيه له أو ما هو أفضل منه. ابتسم لابنه محمود وقال له:
لا تخف شيئا يا بنيّ فأنت محظوظ.
لم يفهموا سبب هذا التّحوّل عند ربّ البيت، لكنّهم فرحوا بما سمعوه منه.
عاد عبدالمعطي لغرفته... استحمّ وارتدى ملابسه الجديدة وقال لزوجته:
اسمعيني جيّدا يا سعاد...لقد فتحها الله علينا...سنشتري بيتا جديدا، سنؤثّثه بأفخر الأثاث... سنتعلّم أنا وأنت السّياقة ... سنشتري سيّارتين واحدة لي وأخرى لك، بامكانك أن تقولي وداعا للفقر، لكن إيّاك أن تنبسي ببنت شفة عمّا وصلنا إليه، فقضاء الحاجات بالكتمان أمر محبوب ومطلوب.
تصنّعت سعاد ابتسامة وسألت ساخرة:
كيف سنحقّق ما تقوله؟ هل وجدت كنزا؟
عبد المعطي: باب الأرزاق واسع.
راودت سعاد مخاوف وأسئلة كثيرة...لكنّها سكتت على مضض... فكّرت بما قاله زوجها... فهل يعقل أنّهم سيسكنون القصور، وسيقتنون السّيّارات الفاخرة... يرتدون الملابس الجميلة... يأكلون أطايب الطّعام... أم أنّ عبد المعطي قد جنّ هو الآخر؟ هي لا تطمع بشيء، ولا يهمّها سوى توفير الضّروريّ من المأكل والملبس لها ولأطفالها.
*****
عند منتصف الّليل والنّاس نيام، اصطحب الشّيخ الطيّب ذو الّلحية والملابس البيضاء والشّعر الأشيب محمودا ووالده عبد المعطي إلى البلاد العجيبة... كان محمود على يمينه، ووالده على يساره ... حطّ بهما في مدينة الفرح، وهي مدينة أخرى غير المدينة العجيبة التي رآها محمود في جولته الأولى... نزل بهما في قصر منيف...أبوابه ونوافذه من حجر أبيض لامع... داخله مغطّى بورق مقوّى أخضر الّلون؛ ليغطّي بريق الجدران، حديقته واسعة فيها العديد من أنواع الورود المعروفة في الكرة الأرضيّة، وأخرى تسلب الألباب لم يشاهد محمود ووالده مثلها من قبل، وكذلك الأشجار المثمرة ... في الحديقة الخلفيّة هناك أطفال ذكور وإناث يرتدون ملابس فاخرة ويلعبون... رافق الشّيخ الطّيب محمودا... ذهب به إليهم، عرّفهم عليه وقال لهم:
هذا أخوكم! دعوه يلعب ويلهو معكم.
عاد الشّيخ الطّيب إلى عبد المعطي وقال له:
اسمع يا أبا محمود. هذه البلاد غير ما تعرفون في الأرض التي تعيشون عليها...لقد اخترت ابنك محمودا ليزورنا هنا؛ لأنّني رأيت فيه صبيّا ذا خلق حسن، ولديه شغف بالعلم، وأردت أن أوفّر له حياة كريمة... وعلما يفوق العلوم التي يعرفها ساكنو أرضكم...وهذا ما سأفعله مع شقيقته زينب وبقيّة شقيقاته وأشقائه... ولمّا رأته ابنتي "سعاد الثانية" فرحت بلقائه...أحبّت أن يكون لها ولد مثله أو بنت مثل شقيقته زينب، لذا جاءت إليك وتزوّجتك لتحمل منك... فقد أشفقت عليك وعلى أسرتك عندما رأتكم متخوّفين من الهدايا التي جاءكم بها ابنكم محمود... وهذا القصر الذي تراه هو لابنتي سعاد الثّانية... بامكانك أن تعتبره بيتك ما دامت سعاد زوجتك، تأتي إليه كلّما رغبت صاحبة البيت بزيارتك ... فالسّيادة هنا للنّساء وللأطفال، لذا فبلادنا العجيبة تعيش بسلام ومحبّة... وبلادنا بلاد خيرات... فيها كلّ ما تشتهيه النّفوس... لكنّنا لا نسمح لرجال الكرة الأرضيّة أن يقيموا فيها إقامة دائمة، خوفا من المشاكل التي يفتعلونها... مع أنّنا على علاقة مع بعض الخيّرين من البشر الذين يولدون ويعيشون في كرتكم الأرضيّة، سأشرح لك ذلك بالتّفصيل في الزّيارة القادمة... والآن بامكانك أن تدخل إلى القصر فسعاد الثّانية بانتظارك.
استمع عبد المعطي واجما...دارت في رأسه أفكار كثيرة... صحيح أنّه لم يشعر بالخوف... فالشّيخ الطّيب يبدو أنّه يملك قدرات عجيبة تنزع الخوف من قلوب البشر... وتبعث الطمأنينة في قلوبهم.
تنحنح الرّجل الطّيب ونادى:
يا سعاد.
أطلّت سعاد من شرفة الطّابق الثّاني ترتدي أفخر الملابس، وتتحلّى بمجوهرات نفيسة وقالت:
نعم يا أبي.
• - هذا هو عبد المعطي الذي اخترتيه زوجا لك يا ابنتي... هل أعددت له الطّعام؟
سعاد: نعم يا أبي...وهل يعقل أن أترك زوجي حبيبي بدون طعام؟
الشّيخ الطّيّب: إذن تعالي خذيه.
دخل عبد المعطي القصر صحبة سعاد الثّانية... ذهب الشّيخ الطّيّب إلى الحديقة... لعب مع الأطفال كأنّه واحد منهم... كان سعيدا بسعادتهم...ومحمود مذهول من نشاط الشّيخ وخفّة حركته.
دخل عبد المعطي البيت غير مصدّق ما يحصل معه...أغلقت سعاد الباب...احتضنت عبد المعطي، طوّقت رقبته بيديها، ضمّته إلى صدرها...قبّلته بحرارة... سألته:
ألا تجيد تقبيل زوجتك حبيبتك؟ أعرف أنّك حييّ ومتردّد...هل أنت خائف؟ أَلَمْ نكن سويّة على سريرك عصر أمس؟
لم يجبها عبد المعطي بالكلمات... احتضنها وقبّلها مثلما فعلت معه... أمسكت يده...قادته إلى المائدة، حيث أشهى المأكولات الشهيّة متعدّدة الأصناف وقالت له:
دعنا نأكل وجبتنا أوّلا.
لم يكن عبد المعطي جائعا، فقد تناول طعام العشاء المكوّن من المفتول مع ديك بلديّ أعدّته له سعاد الأولى، بالاضافة إلى حيرته ممّا هو فيه...التفت إلى سعاد الثّانية وسأل:
هل يمكننا إحضار محمود ليتناول طعامه معنا؟
ابتسمت وأجابت: لا تخف على محمود، فهو سيتناول الطّعام الذي يريده مع أقرانه الأطفال ومع أبي.
قال عبد المعطي: لا شهيّة عندي للطّعام.
قالت له: أنتم تقولون أن بامكان الشّبعان أن يأكل أربعين لقمة، وبعضكم يقول "الطّعام يبحث عن مكان له"... فتناول أربعين لقمة على الأقل، وستجد لها مكانا في معدتك.
حملت بيدها قطعة لحم صغيرة على رأس شوكة ذهبيّة... وضعتها في فمه...التقطها بين أسنانه على استحياء، فهو لم يتعوّد أن يطعمه أحد بهذه الطّريقة...أمّا القطعة الثّانية فقد أكلتها هي بعد أن وضعت في يده شوكة أخرى...انتظرت أن يطعمها لقمة كما أطعمته، لكنّه لم يفعل... ابتسمت دون أن يدري سبب ابتسامتها... بل إنّه اعتبرها نوعا من المجاملة والتّرحيب، فأكبر فيها ذلك.
قالت "سعاد الثّانية" لعبد المعطي:
أنا استحممت وأنت جالس مع أبي في حديقة البيت، فهل تريد الاستحمام قبل أن ندخل سريرنا؟
أجاب عبد المعطي: لا بأس سأستحمّ.
أشارت إلى حمّام في طرف غرفة النّوم الواسعة، له واجهتان زجاجيّتان من جهة غرفة النّوم، عندما وقف عبد المعطي على باب الحمّام، لم يشاهد فيه شيئا سوى حائطين عاديّين، وآخرين من الزّجاج مواجهين لسرير النّوم، لا صنابير مياه ولا حوض استحمام"بانيو" ولا كرسيّ مرحاض...التفت إلى "سعاد الثّانية" وسألها:
ما هذا؟ أين الحمّام؟
لحقت به باسمة... وقفت بجانبه... ضغطت على كبسة كهربائيّة بجانب الباب، فخرج من الجدار حوض الحمّام مع صنابير المياه، ومكان فيه صابون وعطور، ومن الجدار الثّاني خرجت مغسلة وصنبور مياه ومرآة، وعلى يسارهما ظهر مشجب لتعليق الملابس...كلّها من الذّهب. عقدت المفاجأة لسان عبد المعطي...دخل الحمّام على استحياء.
وقفت "سعاد الثّانية" أمام المرآة... مفاتنها تسلب العقول...شعرها يتدلّى على صدرها النّاهد...تمدّدت على السّرير وانتظرت...رآها عبد المعطي من واجهتي الزّجاج... هاجت مشاعره ... اعتقد أنّها تراه كما يراها هو، لأنّه لا يعلم أنّ الذي في داخل الحمّام يرى ما في خارجه، والعكس ليس صحيحا، خرج عبد المعطي من الحمّام... قفز على السّرير... وغاب مع "سعاد الثّانية".
أشارت سعاد إلى صندوق بجانب الخزانة وقالت:
هذا الصّندوق مليء بالذّهب الخالص عيار 24، هو لك، قم ببيعه واشترِ قطعة أرض تطلّ على القدس القديمة، وابن قصرا لك ولأسرتك هناك، فمن يعيش في القدس القديمة أو يطلّ عليها سيعيش في سعادة غامرة دائمة.
ستجد الصّندوق في بيتك يا عبد المعطي، فهناك من سيوصله إليه قبل أن تصله أنت وابنك محمود، والآن سيأتي أبي ليصطحبكما إلى بيتك، عليك أن تخبر زوجتك سعاد الأولى بأنّك ستسافر أنت وولداك زينب ومحمود لمدّة أسبوع، ستكونون خلالها في ضيافتنا؛ لنعرّفكم على بعض ملامح عالمنا العجيب.
خرجت سعاد الثّانية وعبد المعطي إلى حديقة القصر، وهناك وجدا والدها ومحمودا في انتظارهما...على مقربة من محمود كانت صناديق معبّأة بالملابس والهدايا التي اختارها محمود لوالدته وشقيقاته وأشقّائه.
****
سافر الصّائغ حاتم وزوجته إلى لندن، طوّقت زوجته رقبتها بعقد "سعاد" تدلّى على صدرها بطريقة لافتة...في لندن قرأ حاتم في صحيفة التّايمز الّلندنية بأن" دار كريسترز" ذات الشّهرة العالميّة في عالم المزادات الفخمة، ستقيم مزادا للمجوهرات الفاخرة بعد أسبوع، ذهب إلى الدّار، عرض عليهم العقد كي يشركوه في المزاد الذي يرتاده أثرياء العالم...كان العقد مفاجأة كبرى لدار المزاد، أعطوه إيصالا باستلام العقد؛ كي يعرضوه على خبراء الجواهر الذين يتعاملون معهم؛ ليقرّروا مدى جودته وسعره الأدنى، على أن يراجعهم بعد يومين.
أجمع خبراء دار "كريستيرز" أنّ العقد يعود في أصله إلى إحدى ملكات الفراعنة، وفي الغالب فإنّه يعود إلى الملكة نفرتيتي، وأنّ هناك من اقتنى هذا العقد ونقش عليه اسم حبيبته"سعاد"، وهذا لا بدّ أن يكون ثريّا عربيّا معاصرا؛ لأنّ النّقش بالعربيّة. أخبرت دار المزاد الصّائغ حاتما بأنّ هذا العقد ثمين جدّا، وسيزيد ثمنه على العشرة ملايين جنيه استرليني، وأنّهم سينشرون عنه في الصّحف ووسائل الاعلام البريطانيّة منذ الغد، وأنّ نسبتهم ستكون 10% من ثمنه.
عاد حاتم الصّائغ إلى الفندق فرحا تكاد الأرض لا تتّسع له بعد أن وقّع اتفاقا مع دار المزاد، لكنّه تساءل عن الملكة نفرتيتي هذه، فهو لم يسمع بها من قبل، ذهب إلى إحدى المكتبات، وسأل عن كتب تتعلّق بالفراعنة، فوجد كتابا عن "ملكات الفراعنة" وقرأ فيه:
""الملكة نفرتيتي هي زوجة الملك أمنحوتپ الرّابع (الّذي أصبح لاحقا أخناتون) فرعون الأسرة الثّامنة عشرة الشّهير، وحماة توت عنخ أمون. واسمها يعني: "الجميلة أتت"وهي من أشهر ملكات الفراعنة."
تذكّر حاتمٌ الصّائغُ عبدَ المعطي الذي أتاه بالعقد، تساءل عن مدى إمكانيّة أن يكون هذا الرّجل ثريّا إلى درجة شراء عقد لزوجته بهذا الثّمن؟ وهل يمكن أن يكون الرّجل لصّا سرقه من بيوت أحد الأثرياء...لكنّه أقنع نفسه بأنّ عبد المعطي مجرّد فلّاح بسيط، ربّما عثر على كنز فرعونيّ أثناء عمله في أرضه، وأنّه لا بدّ من وجود مجوهرات أخرى شبيهة بحوزته، لكنّ حاتم في النّهاية كان شاكرا لعبد المعطي الذي سيكون سببا في ثرائه.
في اليوم الثّاني نشرت الصّحف البريطانيّة صورة للعقد مع شرح مفصّل عن مكنوناته، وأنواع المجوهرات والأحجار الكريمة الموجودة فيه، شارحة بأنّه عقد من زمن الفراعنة يعود للملكة نفرتيتي، وأرفقت صورة ملوّنة للعقد...كما ظهر العقد في لقطة اعلانيّة على شاشة فضائيّة البي. بي.سي.
عندما نُشر الاعلان تلقفته الصّحافة العالميّة، خصوصا المصريّة، وأجرت مقابلات مع علماء آثار مصريّين، حول الحقبة الفرعونيّة، كما أجرت مقابلة مع خبير في القانون الدّوليّ حول امكانيّة استعادة مصر لهذا العقد الذي لا يقدّر بثمن.
تابع الصّائغ حاتم ما تتناقله وسائل الاعلام عن العقد باهتمام بالغ، تارة كان يشعر بسعادة بالغة؛ لأنّه سيحصل على أرباح بملايين الدولارات، وتارة أخرى يخاف أن يخسر العقد بلا مقابل، فمن يستطيع منع الحكومة البريطانيّة من إعادة العقد إلى مصر ما دام فرعونيّا؟
جاء موعد المزاد...جلس حاتم وزوجته في زاوية صالة المزاد، بعد أن تعرّضا لتفتيش المرور عبر بوّابة الكترونيّة- يراقبان ما يجري-...دخل القاعة نساء ورجال أنيقون...على مسرح العرض خرج رجل من جهة اليمين يحمل "عقد حاتم"، رفعه على لوحة جميلة، سلّطوا الأضواء عليه، فبدا يتلألأ بطريقة تخطف الأبصار...شرح الرّجل عن وزن الذّهب والأحجار الكريمة الموجودة فيه، كما تعرّض قليلا لتاريخ ملكات الفراعنة، وبعدها قال:
الآن سترون العقد على صدر شابّة حسناء...وهنا دخلت خشبة مسرح العرض فتاة باسمة ممشوقة القامة، ترتدي ملابس فضفاضة طويلة، ربط الرّجل العقد على رقبتها، تدلّى على صدرها، سلّطوا الأضواء عليها، فازدادت جمالا على جمال...مشت في الممرّات بين صفوف الحاضرين، ليروا العقد عن قرب...ارتبكوا حائرين وهم يقلّبون أبصارهم على العقد، وعلى الحسناء الّتي يطوّق العقد عنقها ويتدلّى على صدرها.
عندما عادت إلى خشبة مسرح العرض، سلّمت العقد للرّجل ...وضعه على لوحة أنيقة وقال:
سنبدأ المزاد على هذا العقد بثمانية ملايين جنيه استرليني! من يشتري؟
رفعت سيّدة يدها وقالت: أنا
ارتفع صوت سيّدة أخرى تقول:
أنا أشتريه بعشرة ملايين!
وقف رجل ذو ملامح شرقيّة وقال:
هو لي باثني عشر مليونا.
تكلّم رجل بالفرنسيّة وقال:
نأخذه لمتحف الّلوفر بخمسة عشر مليونا.
ارتفع صوت امرأة سويسريّة وقالت:
أنا أدفع ثمانية عشر مليونا.
ساد الصّمت قليلا ورجل المزاد يردّد:
ثمانية عشر مليون استرليني من يزيد؟
لم يتكلّم أحد...التفت إلى المرأة السويسريّة وقال لها:
مبارك...العقد لك سيّدتي.
ضجت القاعة بالتّصفيق...وقفت المرأة والأعناق مشرئبّة إليها..ضمّت زوجها الجالس بجانبها...قبّلته وهو يقول لها:
مبارك يا حبيبتي.
التفتت زوجة الصّائغ حاتم إليه وسألت - فهي لا تتكلم الانجليزيّة:
لماذا كلّ هذا التّصفيق وهذه الابتسامات؟
فردّ عليها:
اسكتي لقد أصبحنا من أصحاب الملايين.
استلم الصّائغ حاتم ثمن العقد شيكا بقيمة ستّة عشر مليونا ومائتي ألف جنيه استرليني، والباقي كان حصّة دار المزاد، وضعه في البنك في حساب مشترك باسمه وباسم زوجته...عادا إلى الفندق والقلق يسيطر عليهما، هي تحسب وتفكّر بالحال الذي ستؤول حياتهما وحياة أبنائهما إليه، وهو تراوده الوساوس بكيفيّة الاحتيال على عبد المعطي، وسلبه نصيبه من ثمن العقد، قال في قرارة نفسه بأنّه لو أعطاه مليون دولار لقبل ذلك عن طيب خاطر، وشكره على ذلك...في النّهاية حسم الأمر بأنّه سيعطيه نصيبه غير منقوص، ويكفيه بأنّه كان سببا في غناه الفاحش.
*****
وجد عبد المعطي في الصّندوق الذي أتته به "سعاد الثّانية" مئة كيلوغرام من الذّهب الخالص عيار 24، كلّ كيلو غرام قطعة واحدة، حمل واحدة منها وعرضها على صائغ، وقال له:
كم سعر كيلو غرام الذّهب هذا؟
الصّائغ: هذا ذهب قديم... من أين حصلت عليه؟
عبد المعطي: ورثته عن أبي الذي اشتراه في سنوات الخير.
• وأين أبوك الآن؟
توفيّ قبل خمسة وعشرين عاما.
الصّائغ: أشتريه منك بثلاثين ألف دولار.
عبد المعطي: هل تشتري غيره؟
الصّائغ: أشتري كلّ ما لديك.
عبد المعطي: عندي تسع قطع مثل هذه.
الصائغ: أنا على استعداد لشرائها.
نقده الصّائغ ثلاثين ألف دولار وسأله:
متى ستحضر التّسعة الأخرى؟
عبد المعطي: غدا إن شاء الله.
في اليوم التّالي باع عبد المعطي تسع كيلووات أخرى لنفس الصّائغ، قبض ثمنها، وقرّر أن يبيع كلّ يوم عشرة كيلوات في مدينة أخرى..وهذا ما حصل...تجمّع لديه ثلاثة ملايين ومئة وخمسين ألف دولار، وضع الملايين الثّلاثة في حساب بنكيّ، واحتفظ بالباقي في بيته.
عند المساء ذهب عبد المعطي لزيارة أخيه عثمان الأستاذ الجامعيّ، جلس معه على انفراد وقال له:
هل للسّرّ مكان عندك؟
- بالتأكيد.
عبد المعطي: إذن دعنا نبحث عن قطعة أرض تطلّ على القدس القديمة، لنشتريها ونبني بيوتا لنا عليها.
عثمان: ومن أين لنا مال لنشتري الأرض؟
عبد المعطي: المال موجود...بامكانك أن تترك عملك في الجامعة لتدير أموالنا، ولنستثمرها في مجالات تفيدنا.
عثمان: عن أيّة أموال تتحدّث يا عبد المعطي؟ هل جرى لعقلك شيء؟
عبد المعطي: أنا بكامل قواي العقليّة يا أخي، ولديّ أموال أكثر ممّا تتصوّر.
عثمان: من أين أتتك الأموال يا رجل؟ هل أنت مجنون؟
عبد المعطي: سأحضر لك الآن مئة وخمسين ألف دولار، هي لك، تصرّف بها كما تشاء، وابحث لنا عن أرض للبناء كما قلت لك، فثمنها موجود مهما بلغ.
لم يصدّق عثمان ما يسمع، اعتقد بأنّ شقيقه قد أصيب بمسّ من جنون، لكنّ عبد المعطي ذهب إلى بيته وعاد بمئة وخمسين ألف دولار، سلّمها له.
ذهل عثمان من المفاجأة وسأل:
من أين لك هذه الأموال يا عبد المعطي؟ هل ترك لنا الوالد كنزا لا يعلمه إلّا أنت؟
عبد المعطي: لقد عاش الوالد- رحمه الله- ومات وهو فقير الحال يا عثمان، وهذا أمر تعرفه أنت وجميع أقاربنا ومن يعرفوننا جيّدا.
عثمان: إذن من أين أتيت بهذه الأموال؟ هل وجدت كنزا؟
عبد المعطي: يا أخي لنقضي أمورنا بالكتمان، وهذه الأموال حصلت عليها بالحلال، لم أسرق ولم أحتل على أحد. فهل تريدنا أن نعيش برخاء، أم أنّك لا تريد أن تودّع حياة الفقر؟
عثمان: توكّل على الله.
في هذه الأثناء رأى عبد المعطي وشقيقه عثمان سيّارة فارهة، تتوقف أمام بيت عبد المعطي، ترجّل منها شخصان...طرقا باب البيت، ركض عبد المعطي باتّجاه بيته، لحق به شقيقه عثمان...رحّب عبد المعطي بضيفيه الصّائغ حاتم وابنه، عندما وصل عثمان صافح الرّجلين بحرارة، فهو يعرفهما فاسماعيل بن الصّراف حاتم كان زميله في الجامعة، وسبق أن زارهما في بيتهما.
انتحى حاتم بعبد المعطي، سلّمه شيكّا بنكيّا بثمانية ملايين وماية ألف جنيه استرليني، وقال له:
هذا نصيبك من ثمن العقد الذي بعته في لندن.
كانت مفاجأة سارّة لعبد المعطي، لكنّها ليست صادمة، فالرّجل على قناعة تامّة بأنّ باب الثّراء قد فتح له على مصراعيه...استلم الشّيك... ثناه ووضعه في جيبه دون نقاش.
بعد أن احتسى الضّيفان القهوة غادرا منزل عبد المعطي، فخرج مع شقيقه عثمان، وقبل أن يسأل عثمان عن سبب الزّيارة قال له شقيقه عبد المعطي:
انظر يا عثمان هذا شيك بملايين الجنيهات الاسترلينيّة، بامكاننا أن نشتري أرضا وأن نبني قصورا، وأن نفتح مشاريع ضخمة، أريدك أن تتفرّغ لأعمالنا فأنت رجل متعلّم، تعي الأمور جيّدا.
كاد عثمان أن يسقط مغشيّا عليه من هول المفاجأة عندما رأى الشيك...جلس على الأرض لاهثا يلتقط أنفاسه، وشقيقه عبد المعطي يطمئنه...ارتاح قليلا لكنّه لم يستوعب الأمر جيّدا...لم يعد قادرا على تفسير ما يحدث....هزّه عبد المعطي من كتفيه وقال له:
إيّاك إيّاك أن تخبر أحدا عمّا نحن فيه من خير!
لم يتذوّق عثمان طعم النّوم تلك الّليلة، فقد بقي في صراع دائم، لم يستطع تفسير مصدر الأموال التي سقطت على شقيقه عبد المعطي من السّماء كحبّات المطر، صباح اليوم التّالي قام من فراشه مرهقا...احتسى فنجان قهوة وخرج... توجّه إلى الجامعة...قدّم استقالته منها دون ابداء الأسباب...حاولت ادارة الجامعة ثنيه عن الاستقالة إلّا أنّه بقي مصرّا عليها، ولم يعطهم فترة لايجاد بديل له، ممّا حدا بهم أن يخبروه بأنّه سيفقد حقوقه في هذه الحالة، فقال لهم:
لا أريد منكم شيئا...أريد أن أرتاح فأنا تعبان...عاد إلى بيته...وجد شقيقه عبد المعطي في انتظاره...ذهبا إلى أحد البنوك...افتتحا حسابا مشتركا...أودعا فيه الشيك...عادا وعثمان يتصبّب عرقا من شدّة الاعياء.
قال عبد المعطي لعثمان:
ابدأ من الآن البحث عن قطعة أرض تطلّ على القدس القديمة، وعن أراضٍ أخرى في المدينة ومحيطها، فمن يمتلك الأرض يمتلك الحياة.
عثمان: ولماذا الاصرار على أن نشتري أرضا ونبني بيتا في مكان يطلّ على القدس القديمة؟
عبد المعطي: القدس القديمة لها فضائل كثيرة يصعب تعدادها، يكفيها أنّها جنّة السماوات والأرض، وبوّابة الأرض إلى السّماء...واذا ما كانت بيوتنا تطلّ عليها، فهذا يعني أنّنا سنكون في جنّة الدنيا والآخرة.
عثمان: وإذا لم نجد أرضا تطلّ على القدس القديمة للبيع؟
عبد المعطي: نُغري أصحاب الأراضي بمبالغ مالية كبيرة.
عثمان: وإذا رفضوا بيعها...ما العمل؟
عبد المعطي: سنغري أحدهم أن يبيعنا بناء قائما...ومع ذلك ابحث عن أراضي أخرى في بقيّة أرجاء القدس ومحيطها.
في اليوم الثّاني اشترى عثمان سيّارة جديدة بخمسين ألف دولار... منح سيّارته القديمة لمراسل في الجامعة، وظيفته تنظيف المكاتب وتقديم المشروبات الخفيفة...السّيّارة ليست ثمينة...ثمنها لا يتجاوز ثلاثة آلاف دولار. ولمّا قال له المراسل بأنّه لا يملك ثمن بوليصة التّأمين، نقده عثمان ألفي دولار وقال له:
أمِّن السّيّارة ودبّر أمورك بالمبلغ المتبقّي.
*****
أخبر عبد المعطي زوجته وشقيقه عثمان بأنّه سيسافر إلى مصر صحبة ولديه زينب ومحمود لمدّة أسبوع، ليزوروا الأهرامات وليطّلعوا على شيء من حضارة الفراعنة، فمصر أمّ الدّنيا، ومهد حضارات سادت ثمّ بادت.
اعترضت زوجته أمّ محمود وتساءلت:
كيف ستصطحب زينب ومحمودا معك وعندهم دوام مدرسيّ؟
سأطلب لهما إذنا من إدارة المدرسة، وهذه الزّيارة ستفتح لهما أفاقا جديدة؛ ستحفّزهم على الجدّ والاجتهاد في دروسهم.
سأله شقيقه عثمان:
هل أستطيع مرافقتكم في هذه الرحلة؟
ردّ عبد المعطي بلا مبالاة:
هذه المرّة لن يرافقنا أحد، في المرّات القادمة سنسافر في رحلات عائليّة نجوب فيها العالم جميعه.
راودت عثمان شكوك كثيرة حول هذه الزّيارة، لكنّه أخفى مشاعره...سكت مغلوبا على أمره.
عند العصر غادر عبد المعطي وولداه زينب ومحمود البيت...استقلّا سيّارة عموميّة...لم يحملوا معهم شيئا سوى ملابسهم التي يرتدونها، أنزلتهم السّيّارة في القدس عند باب الأسباط - حسب طلب عبد المعطي- دخلا المسجد الأقصى...سارا باتّجاه الكأس، توضّأ عبد المعطي وولده محمود عند الكأس بعد أن أوصلا زينب إلى "مطاهر" النّساء، بين باب السّلسلة وباب المجلس الاسلاميّ الأعلى؛ لتتوضّأ هناك، ولتصلّي مع النّساء في مسجد الصّخرة المشرّفة، على أن تنتظرهما عند البائكة الجنوبيّة المطلّة على المسجد القبليّ.
بعد صلاة المغرب اتّجها إلى البائكة الجنوبيّة، حيث زينب تنتظرهما، الشّيخ الطّيّب ذو الملابس والّلحية البيضاء ينتظرهم جالسا على أعلى درجة تحت قوس البائكة، على مقربة من زينب...ابتسم لهم وأخذهم بالأحضان، وقال لزينب:
أهلا بك يا ابنتي.
دهشت زينب من الشّيخ الذي يبتسم لها ويرحّب بها، ردّت عليه التّحيّة بأحسن منها وسألته:
هل تعرفني يا عمّاه؟
نعم أعرفك منذ ولدتك أمّك!
زينب باستغراب: لكنّني لم أشاهدك من قبل.
ضحك عبد المعطي وقال لها:
هذا جدّك يا زينب، سنكون في ضيافته برحلتنا هذه.
لم تفهم زينب شيئا، بل ازدادت دهشة، فهي تعرف جدّها لأمّها الذي لا يزال حيّا يرزق، بينما جدّها لأبيها توفّي قبل أن تولد بسنوات، فهل عاد الأموات من قبورهم؟
مشى الشّيخ الطّيّب أمامهم إلى بوّابة الفضاء الخارجيّ التي لا يعرفها أحد غيره قرب الصّخرة المشرّفة، حطّت أمامه مركبة زجاجيّة شبيهة بالغرفة الصّغيرة، مفروشة بسجّادة حرير خضراء مهدّبة، دخلوها...جلسوا على السّجادة، وبدقائق معدودة وجدوا أنفسهم في حديقة قصر"سعاد الثّانية" في المدينة السّعيدة، استقبلتهم بحفاوة بالغة... قدّمت لهم القهوة...طلبت من والدها أن يصطحب محمودا وزينب إلى حديقة الملوك؛ ليتناولا عشاءهما في مطاعمها، وليلعبا مع الصّبايا والصّبيان...اصطحبت عبد المعطي إلى داخل القصر، حيث قضيا ليلة اعتبرها عبد المعطي علامة فارقة في حياته.
عاد محمود وزينب مع الشّيخ الطّيّب عند العاشرة مساء...وجدوا عبد المعطي و"سعاد الثّانية" ينتظرانهم في حديقة القصر...احتضنت سعاد الثّانية الطّفلين، قبّلتهما وسألت:
كيف كانت ليلتكما هذه يا أبنائي؟
ردّ محمود: كنّا في غاية السّعادة...شكرا لكم.
جلست زينب على أريكة بجانب والدها...ركّزت نظراتها على المرأة التي كانت ترتدي ملابس فاتنة...همست في أذن أبيها تسأل:
من هذه المرأة يا أبي؟
ابتسم لها ولم يجبها.
سألت مرّة أخرى:
هل أنت متزوّج من امرأة أخرى يا أبي؟ وهل تعلم أمّي ذلك؟
أجابت سعاد الثّانية باسمة:
أنا صديقتكم يا زينب، وأنا بمثابة والدتكم...أرسلت لك ولوالدتك مع شقيقك محمود عقدي جواهر غالية الثّمن، وملابس فاخرة هديّة منّي، لأنّني أحبّكم...وسأزوّدكم بكلّ ما تطلبون، فهل ستقبلين صداقتي أم أنّك ترفضينني؟
قالت زينب بصوت حييّ:
أهلا بك، أردت التّعارف فقط، فأنتم لم تعرّفونا عليكم.
ابتسمت المرأة وقالت:
معك حقّ...أنا اسمي سعاد...ووالدي اسمه الطّيّب.
زينب: تشرّفت بمعرفتكما...هل تعلمين أنّ اسمك مثل اسم أمّي؟
سعاد الثّانية: نعم أعرف ذلك.
زينب: هل تعرفين أمّي؟
أنا أعرفها وهي لا تعرفني...وأنا عرفتك أنت ومحمود قبل أن تعرفاني، وأريد أن أنجب طفلين يشبهانكما أنت وشقيقك محمود.
زينب: أين زوجك؟
سعاد الثّانية: ستتعرّفان عليه في الوقت المناسب... والآن تعالي أنت ومحمود لأريكما غرفتي النّوم حيث ستنامان هذه الّليلة... ملأتُ لكلّ واحد منكما خزانة غرفته بأفخر الملابس...واخترت لك عددا من الجواهر التي ستحبّينها يا زينب.
زينب: أنا لست ناعسة ولا أريد النّوم الآن.
سعاد الثّانية: تعرّفا على غرفتيكما...وبعدها أنتما حُرّان فيما ستفعلان...بامكانكما أن تلعبا في حديقة القصر، أو في داخله، لكن كونا جاهزين غدا لجولة ستسعدان بها.
عندما رأت زينب غرفة نومها... اطّلعت على محتويات الخزانة...شهقت عجبا من هول المفاجأة... لمّا رأت الحمّام الذي تخرج المغسلة وحوض الاستحمام وصنابير المياه الذّهبيّة من جدرانه بكبسة زرّ، فتحت فمها مذهولة، لم تتفوّه بكلمة واحدة...تذكّرت مرحاض بيتهم الخارجيّ، وكيف كانت تستحمّ في "لجن" من الحديد الصدئ، يصدر صريرا مزعجا، لم تستوعب هذه النّقلة النّوعيّة في حياتها...شكرت المرأة وقالت لها:
لن أخرج من هنا...سأمضي ليلتي في هذه الغرفة.
قالت سعاد: حسنا...كما تريدين...لكن تعالي معي قليلا لِنُري محمودا غرفته، فهي بنفس المواصفات...تعرّفي عليها إذا ما احتجت شيئا منه.
أمضى محمود وزينب ليلتهما، كلّ منهما يرتدي طاقما من الملابس، ولا يلبث أن يخلعه ليجرّب غيره... زينب ترتدي طاقما ذهبيّا مع كلّ طاقم ملابس...تقف أمام المرآة... تنظر نفسها... تبتسم لجمالها...استعملت عطورا تنعش القلب...استحمّت أكثر من مرّة...قرصت خدّها وسألت نفسها:
هل أنت في حلم أم في واقع يا زينب؟
أمّا محمود فقد كانت دهشته أقلّ من دهشة زينب، فزيارته السّابقة رغم قِصَرها أسبغت عليه نوعا من الهدوء والطمأنينة، لكنّ غرابة الحمّام الذّهبي أذهلته.
في الصّباح استحمّ محمود وزينب، استبدلا ملابسهما بأخرى جديدة، طوّقت زينب عنقها بعقد جواهر يتلألأ...وضعت اسورة في كلّ واحدة من يديها، وخاتمين واحدا في اصبع يدها اليمنى الأوسط، والثّاني في خنصرها...ربطت شعرها خلف ظهرها...ضمّته بدبّوس ذهبيّ. نزلا من غرفتيهما عندما رأيا والدهما وسعاد الثّانية والشّيخ الطّيب يجلسون في حديقة القصر الأماميّة.
أحضرت سعاد لزينب ومحمود كأسي عصير من شجرة الحياة، بعدها أحضرت لكلّ واحد من الحضور كأس شاي محلّى بعسل ملكات النّحل...التفتت إلى الطّفلين وسألت:
كيف أمضيتما ليلتكما يا أبنائي؟
أجابت زينب ضاحكة:
أنا لم أنم...أمضيت ليلتي أقيس الملابس والجواهر... أستحمّ وأنظر نفسي بالمرآة.
ابتسم لها الجميع وقال محمود:
أنا ارتديت الملابس لأتأكّد أنّها على مقاسي، ونمت قليلا.
التفت إلى سعاد وسألها:
كيف عرفت قياسنا؟
فردّت عليه ضاحكة:
وهل الأمّ لا تعرف مقاس أبنائها؟
لم يعجب تساؤلها زينب؛ فرمقتها محتارة، لكنّها لم تتكلّم.
بعد أن تناولوا افطارهم سأل الشّيخ الطّيّب:
ما برنامج هذا اليوم يا سعاد؟
سعاد: سأشرح لضيوفنا قليلا عن بلادنا...بلاد المحبّة، سنزور بعدها الملكة في قصرها، ثمّ ننطلق إلى مكان آخر...التفتت إلى عبد المعطي وولديه وسألت:
هل تحبّون معرفة القليل عن بلادنا؟
ردّت زينب: بل الكثير.
قالت سعاد الثّانية:
هذه البلاد كوكب واسع جدّا لا يعرفه ساكنو الكرة الأرضيّة ...فيها خيرات تفوق خيرات الأرض التي تعرفونها وتعيشون عليها، يسكنها مئات الملايين، سكّانها مخلوقات بشريّة مثلكم، لكنّهم أكثر قناعة وحكمة وثراء وعلما من البشر الذين يسكنون الكرة الأرضيّة، رجالها أكثر وسامة من رجالكم ، ونساؤها أكثر جمالا من نسائكم...والسّبب بسيط جدّا، وهو أنّنا تربّينا جيلا من بعد جيل على المحبّة، لا أحد يعتدي على غيره... كلّ شخص يستطيع تحقيق ما يحلم به، فلدينا علوم كثيرة نعرفها ونعلّمها لأبنائنا، وقد سخّرنا علومنا لخدمتنا...لا نصنع الأسلحة القاتلة...لا نقاتل بعضنا بعضا كما تفعلون...لا ندمّر كوكبنا...نراقب الكرة الأرضيّة بشكل دائم، نصلها متى نشاء...نرى من وما فيها، وهم لا يروننا إلّا إذا كشفنا نحن لهم عن أنفسنا...نحزن لحالكم عندما تقتلون بعضكم بعضا...نتمنّى أن تعملوا على سعادتكم بدل انشغالكم على استغلال وقتل بعضكم بعضا.
وهناك سبب آخر لسعادتنا وهو أن السّيادة على هذا الكوكب للنّساء وللأطفال...رجالنا مسخّرون لخدمة النّساء والأطفال، من يخالف أو يحاول سواء كان رجلا أو امرأة أن يرتكب حماقة أو جناية، ننفيه إلى جزيرة في البحر فيها وسائل الرّاحة كلّها... نتركهم هناك يأكلون ويشربون ويلبسون كيفما يشاؤون، إلى أن يموتوا ويدفنوا فيها، ومن يستقيم من مرتكبي الجنايات ويعلن توبة نقتنع أنّها صادقة نعيده ليعيش بيننا. وعندما ينجبون نأخذ أطفالهم ونربّيهم نحن عندنا، ورغم اختلاف ألواننا وأعراقنا وأدياننا فإنّنا كوكب واحد، تحكمه ملكة واحدة، لم نقسّم كوكبنا إلى دول كما تفعلون في الكرة الأرضيّة... لو فعلنا مثلكم لاختلفنا ولتحاربنا. ملكة هذه البلاد هي شقيقتي، وهذا الشّيخ الطيّب هو والدنا... نساء هذا الكوكب هنّ من يخترن أزواجهنّ، من تريد الزّواج تختار الرّجل الذي يناسبها، ويعيشان مع بعضهما البعض في ثبات ونبات، ويخلّفان الصّبيان والبنات.
وهنا سألت زينب:
وإذا لم يوافق الرّجل على الزّواج منها؟
تحترم خياره وتتزوّج من غيره، ونساء كوكبنا لهنّ القدرة على الوصول إلى كوكبكم، يستطعن الزّاوج من الرّجل الذي يخترنه من رجالكم... بشرط حصولهن على تصريح بذلك من المجلس النّسويّ في منطقتهنّ، ولا يستطيع أحد من كرتكم الأرضيّة رؤيتهنّ إلّا إذا هنّ أردن ذلك.
زينب: وهل يتزوّج رجالكم مع نسائنا، كما تفعل نساؤكم مع رجالنا؟
سعاد: نعم...لكنّهم بنسب قليلة قياسا بالنّساء، لأنّ نساءكم عندما يحملن من رجالنا تعتبرونهنّ مجنونات، ولا تصدّقوهنّ وقد تقتلونهنّ، وهناك نقطة هامّة تبعد رجالنا عن نسائكم، وهي أنّهنّ عندما يحملن منهم يحتفظن بالأطفال، ممّا يجعلهم يتربّون على أخلاق غريبة علينا، ولا تتناسب مع تربيتنا القائمة على المحبّة.
زينب: لماذا لا يأخذون أطفالهم معهم؟
سعاد: هل يُعقل أن نأخذ طفلا من حضن أمّه ونحرمها رؤيته؟
سأل عبد المعطي: ماذا تعبدون؟ هل لديكم ديانة وآلهة؟
ابتسمت سعاد وقالت:
لدينا حرّيّة العبادة بكلّ ما تعنيه الحرّيّة، وهناك كثيرون منّا لا يؤمنون بشيء، لكنّهم يحترمون خيارات الآخرين.
عبد المعطي: أقصد هل تعرفون الدّيانات السّماوية مثل الاسلام، المسيحيّة واليهوديّة؟
سعاد: نعم هذه الدّيانات نقلتها نساؤنا الّلواتي يزرن الكرة الأرضيّة، عندنا مساجد وكنائس وكنس...لكن لا صراع عندنا بين أتباع الدّيانات، "فالدّين لله والوطن للجميع" وكوكبنا لا يحكم بالدّين فلسنا دولة دينيّة، وإنّما بالعلم، ومن يحاول في كوكبنا أن يلغي عقائد الآخرين بالقوّة ننفيه إلى جزيرة الأشرار...عندنا جزر وسط البحر للمتعصّبين دينيّا الّذين لا يحترمون حرّية المعتقد للآخرين، ويحاولون إيذاءهم، واحدة للمسلمين والثّانية للمسيحيّين والثّالثة لليهود، نوفّر لهم كلّ ما يحتاجونه... يبنون دور عبادتهم كما يشاؤون، يمارسون شعائرهم الدّينيّة كما يحلو لهم، ونراقبهم كي لا يؤذوا بعضهم بعضا.
عبد المعطي: كيف سيؤذون بعضهم بعضا؟
سعاد: مع الأسف هناك بعض المتديّنين المنغلقين بينهم، كلّ منهم يزعم أنّه الوحيد الّذي يعرف الله، فيكفّر الآخرين ويعاديهم.
عبد المعطي: هل لكم موقف من الدّيانات؟
سعاد: بالعكس نحن نحترم جميع الدّيانات والمعتقدات، ونوفّر لمعتنقيها حرّية العبادة، ومنهم من يشغل وظائف مهمّة في الدّولة، وللملكة مستشارات ومساعدات من مختلف الدّيانات، وأشارت بيدها إلى مئذنة مسجد وبرج كنيسة وهي تقول:
عندما يرفع الأذان في ذلك المسجد يصل صوته إلى قصر الملكة، وكذلك الحال عندما تقرع الكنيسة أجراسها.
عبد المعطي: هل لديكم شرطة وسجون؟
سعاد: لدينا عقد اجتماعيّ لحماية المحبّة في هذا الكوكب كي نعيش بسلام، ومن يخرق هذا العقد فإن الآخرين يمسكون به...يحاولون اصلاحه، واذا لم تنصلح أحواله ينفونه إلى الجزيرة المخصّصة لأمثاله.
زينب: هل لديكم جهاز حكوميّ يدير شؤونكم؟ ومن أين لكم هذه الخيرات كلّها؟
سعاد: طبعا لدينا جهاز وظيفيّ يدير شؤون البلاد ومواطنيها، وغالبيّته العظمى من النّساء.
محمود: لماذا النّساء؟ أين رجالكم؟
سعاد: رجالنا موجودون، وغالبيّة الأعمال الصّعبة تقوم على كواهلهم...نحن نحبّهم...لكن لا صلاحيّات لهم في إدارة شؤون البلاد، لأنّ الذّكور يفكّرون بعضلاتهم أكثر من عقولهم... يحبّون سيطرة القوّة، وهذا يخالف ما تربّى عليه مواطنو كوكبنا، أمّا النّساء فهنّ يتحلّين بالّلطف الزّائد ومحبّة الجميع، والتّضحية في سبيل الآخرين.
محمود: لكنّ النّساء ضعيفات وعاطفيّات، ولا يصلحن للحكم.
ضحكت سعاد وقالت:
من قال لك هذا؟ هذا التّفكير سبب من أسباب التّعاسة في كوكبكم...أمّا في بلادنا فسترون بعيونكم الخيرات والسّعادة التي لا يمكن أن تتوفّر لكم في كوكبكم، وكلّ ذلك بفضل سيادة النّساء وحكمتهنّ.
زينب: من أين لكم هذه الخيرات كلّها؟
سعاد: قلت لكم أنّنا متفوّقون علميّا، فنحن نحرث الأرض ونزرعها بآلات متطوّرة وسريعة جدّا، وما تنتجه أرضنا يفوق حاجاتنا...ألم تلاحظوا كيف وصلتمونا بأحد اختراعاتنا بسرعة فائقة دون مشقّة أو عناء؟ كوكبنا غنيّ جدّا بالمعادن على مختلف أنواعها.
محمود: هل أنتم جنّ أم عفاريت؟
ضحكت سعاد ووالدها الشّيخ الطّيب وقالت:
ألا تلاحظ يا محمود أنّنا بشر مثلكم؟
محمود: وهل تتكلّمون لغات غير العربيّة؟
سعاد: عندنا أقوام يتكلّمون مختلف الّلغات، العربيّة واحدة منها، وعندنا لغات أخرى غير معروفة في كرتكم الأرضيّة...والآن دعونا نقوم بجولة لتروا شيئا ممّا عندنا.
قادتهم سعاد إلى مركبة زجاجيّة خلف القصر، أدخلتهم إليها...
ضغطت على زرّ بداخلها...ارتفعت وحطّت بهم في دقائق أمام مدينة صناعيّة...طافت بهم سعاد على مصانع لتعليب مختلف أنواع الفواكه والخضار، بما فيها أصناف غير معروفة في الكرة الأرضيّة. نقلتهم بعدها إلى مصانع لمختلف المعادن، بما فيها مصنع للجواهر الثّمينة...تجوّلوا فيه...وقالت لهم:
يمكنكم اختيار ما تريدونه منها...فقط أشيروا إليه، وسيأتيكم إلى القصر، رافقتهم إحدى النّساء العاملات لتسجيل طلباتهم. وممّا لفت انتباههم أنّ الجهاز الاداريّ والهندسيّ في هذه المصانع غالبيّته من النّساء، وأنّ مصانعهم نظيفة والآلات المستعملة فيها تختلف عن المألوف لهم، لذا فالانتاج غزير جدّا...العمل يسير بسلاسة دون فوضى أو ضجر...العاملون كلّهم فرحون باسمون...كلّ منهم يقوم بعمله عن طيب خاطر.
بعدها استقلّوا مركبتهم...وصلوا القصر الملكيّ في دقائق...استقبلتهم الملكة بالأحضان، قبّلت يد والدها الشّيخ الطّيّب، لفّت يدها اليمنى على خاصرته ومشت بجانبه تحدّثه... الأطفال والنّساء يرحبّون بالملكة وضيوفها، ركض طفلان من بين الأطفال إلى الملكة فاحتضنتهما وقبّلتهما، وسارا بجانب الملكة...التفتت سعاد إلى عبد المعطي وطفليه وقالت لهم:
هذان الطّفلان ابنا شقيقتي الملكة.
سأل محمود: أين زوج الملكة؟
سعاد: ربما هو الآن في المطبخ يعدّ وجبة الغداء.
دهش عبد المعطي وطفلاه عندما سمعوا ذلك، لكنّهم لم يتكلّموا.
مرّت بهم في ساحة القصر الملكيّ امرأة محجّبة، طرحت عليه السّلام، ومضت في طريقها، قالت لهم سعاد:
هذه امرأة مسلمة تعمل مستشارة للملكة.
ممّا أثار دهشتهم أكثر فأكثر أن قصر الملكة يتكوّن من عشرات الأبنية اللافتة في هندستها وجمالها وحدائقها، وأنّ الملكة تسكن في بيت عاديّ وسط هذه البيوت.
سألت زينب وهي تشير إلى الأبنية الجميلة:
لمن هذه القصور الجميلة؟
سعاد: لنساء الدّولة... حاشية الملكة الّلواتي يدرن شؤون البلاد.
استغربت زينب الاجابة وتذكّرت معاناة والدتها ونساء بلادها، تمنّت لو أنّها تقضي حياتها في هذه البلاد العجيبة... ابتسمت لسعاد وسألتها:
هل تقبلينني ابنة لك، وتبقينني عندك؟
سعاد: مرحبا بك ضيفة في بلادنا، أمّا الاقامة الدّائمة في هذه البلاد، فهي لمن يولدون فيها فقط.
تناولوا طعام الغداء بصحبة الملكة... لفت انتباههم أنّ الملكة تساعد زوجها في اعداد المائدة... جلست الملكة على رأس المائدة...ابناها على جانبيها...أذنت لزوجها أن يجلس في الجهة المقابلة لها... مازحت محمودا وزينب...سألتهما إن كانا مرتاحين في بلادها...أبدت اعجابها بالطّفلين الضّيفين وقالت ضاحكة:
يحقّ لسعاد أن تفكّر بانجاب طفلين ذكيّين رائعين مثلكما.
بعد الانتهاء من تناول الطّعام طلبت الملكة من ابنيها أن يصطحبا الطّفلين الضّيفين معهما؛ ليلعبا سويّة مع بقيّة الأطفال...استأذنت من الحضور للذّهاب إلى مكتبها لقضاء بعض الأعمال...قالت لسعاد:
خذي الضّيوف معك لدار الأوبرا عند المساء لحضور حفل موسيقيّ.
بعد العصر اصطحبتهم سعاد للتّجوال في العاصمة، في حين بقي الشّيخ الطّيّب في بيت ابنته الملكة...استقلّوا سيّارة تسير بطاقة غير الوقود المعروف لأهل الأرض... مواصلات هذه البلاد كلّها تسير بطاقة لا يعرفها أهل الأرض، لا يستعملون الوقود حفاظا على البيئة... شوارعهم نظيفة واسعة...ذات اتّجاهين...كلّ اتّجاه فيه أربعة مسارب...بين الاتّجاهين حديقة ورود بعرض أربعة أمتار أو يزيد... الرّصيف بعرض أربعة أمتار... يفصله عن الشّارع متر مزروع بالورود...أبنية المدينة عجيبة غريبة جميلة تأسر الألباب... لكلّ بيت حديقته... الأبنية مقامة بخطّ مستقيم على بعد ستّة أمتار عن رصيف الشّارع...لا ترى في هذه المدينة سوى الأبنية الجميلة والحدائق الغنّاء...الشّوارع ... الأنهار والجداول...الأرض الخضراء...أسواق المدينة واسعة ومنظّمة...لا تَزاحُمَ في الشّوارع...كلّ ما يشتهي المرء في هذه المدينة موجود...المطاعم تقدّم الطّعام مجانا وتعمل فيها نساء حسناوات...وصلوا قصرا فخما واسعا...تعلوه القباب...إنّه قصر الثّقافة ذو المداخل الواسعة العريضة... هناك موقف كبير للسّيارت خارج سور القصر... في القصر معرض دائم للفنون التّشكيليّة...فيه آلاف الّلوحات الفنّية...هناك قاعات للمحاضرات...وثلاثة مسارح يتسع الواحد منها لألف شخص...عند الجهة الشّرقيّة للقصر مسرح على شكل سفينة ضخمة يتّسع لألف شخص... جدارا المسرح الشّرقيّ والغربيّ شبه دائريّين...مجهّزان ليتحركا في فضاء المسرح، ليغلقانه عند تساقط الأمطار أو هبوب رياح عاتية... فيبدو المسرح كدائرة كبيرة مغلقة...على كلّ جانب من خشبة المسرح يجلس حوالي مئة رجل وامرأة يحتضنون آلات موسيقيّة... بدأ العزف الموسيقيّ...خرج رجال ونساء من منتصف خشبة المسرح الخلفيّة... بدأوا الرّقص بطريقة جنونيّة...قدّموا عرضا مسرحيّا بلغة أعجميّة لم يفهم منها عبد المعطي شيئا... لكنّهم كانوا في منتهى السّعادة...بعد العرض قال محمود وزينب:
يبدو أنّ هذه المسرحيّة الغنائيّة قصّة حبّ بين رجل وامرأة.
سمعتهما سعاد فسألتهما:
كيف عرفتما ذلك؟
ردّت زينب: من لغة العيون والجسد.
دهشت سعاد من ذكاء الطّفلين.
أمّا عبد المعطي فقد كان سعيدا طربا من الموسيقى والرّقص، لكنّه لم يفهم شيئا من المضمون...التفتت سعاد إلى عبد المعطي وقالت:
أهنّئك على ذكاء أبنائك وفهمهم للمسرحيّة الغنائيّة، فالموسيقى والفنون لغة عالميّة يفهمها كلّ صاحب ذوق رفيع.
قالت زينب: هذه ليلة من ليالي العمر التي لن تنمحي من الذّاكرة.
سمعت سعاد ما قالته زينب فابتسمت لها واحتضنتها وهي تقول:
أنت حبيبتي.
التفتت إلى محمود وفعلت معه الشّيء نفسه، فارتسمت بسمة على وجهه.
أشارت سعاد إلى بناية من ستّة طوابق، تبعد حوالي مائتي متر عن المسرح، طولها حوالي كيلومتر...عرضها حوالي 500 متر وقالت:
تلك مكتبة عامّة فيها ملايين الكتب والمخطوطات بمختلف الّلغات.
سألت زينب: هل لديكم مكتبات غيرها؟
ضحكت سعاد وقالت:
هذه واحدة من آلاف المكتبات في بلادنا، في كلّ بيت في بلادنا توجد مكتبة...عندنا اهتمام خاص بالكتب...ولتستفيد الغالبيّة العظمى من النّاس فإنّ الدّولة تدعم الكتاب، فيصل إلى النّاس بسعر زهيد.
استقلوا السّيّارة وعادوا إلى بيت سعاد الثّانية....سأل محمود:
ألا تريدون العودة إلى القصر الملكيّ لاحضار الشّيخ الطّيّب؟
سعاد: يشعر أبي بوعكة صحّيّة، وسيبقى برعاية أختي الملكة.
زينب: كم عمر أبيك يا ستّ سعاد؟
أبي عمره مئة وعشرون عاما.
محمود: هل حقّا ما تقولينه، فالرّجل لا يزال قويّا؟
سعاد: طبعا فنحن لا نكذب.
عبد المعطي: كم متوسّط العمر عندكم؟
سعاد: 135 سنة، وعندنا من يعيشون مئة وخمسين سنة أو يزيد.
عبد المعطي: عجيب أنتم تعيشون ضعف ما نعيش...أعمارنا بين السّتين والسّبعين.
سعاد: الحياة عندنا تختلف عن حياتكم، فنحن نعيش على المحبّة، نتعلّم ونعمل بهدوء... الطّبّ عندنا متقدّم جدّا... الرّعاية الصّحيّة متوفّرة للجميع مجّانا.
عبد المعطي: الطّب متقدّم عندنا أيضا.
سعاد: لا تتوهّم كثيرا فنحن متقدّمون عليكم بكلّ شيء... بدلالة أنّنا نصلكم متى نشاء...أمّا أنتم فمحاولاتكم لاكتشاف كواكب أخرى كالأعمى الذي يسير وسط الأشواك...هل تعلمون أنّنا قادرون على التّحكم بكلّ محاولات علمائكم لغزو الفضاء؟ وأيّ سفينة تتّجه إلينا نستطيع السّيطرة عليها، وننزلها في مكان ما في بلادنا؟
عبد المعطي: هل حاولتم اكتشاف الكرة الأرضيّة الّتي نعيش عليها؟
ضحكت سعاد وقالت:
أجدادنا اكتشفوا الكرة الأرضيّة منذ أجيال...وهي في مرمى البصر لمواطنينا جميعهم... ولولا ذلك لما التقيتكم ولما التقيتموني.
عبد المعطي يستغرب ذلك ويسأل:
إذن لماذا لا تحضرون إلى أرضنا لنتفاهم وإيّاكم، ونتعاون بما يخدمنا ونخدمكم؟
سعاد: هذه قضيّة أشبعها مفكّرونا بحثا منذ أجيال... ونصحوا بالابتعاد عنكم لأنّكم في غالبيّتكم أشرار، تضّرون أنفسكم وتؤذون غيركم...فالمحبّة منزوعة من قلوبكم ومن عقولكم، لذا فإنّكم في صراع وحروب دائمة، ولانقاذكم من شرور أنفسكم فإن بعض مفكّرينا اقترحوا أن نستولي على أسلحتكم وندمّرها في مناطق بعيدة.
والآن وصلنا البيت... سنتناول عشاءنا...من يريد منكم الرّاحة بامكانه أن ينام متى يشاء.
زينب: أنا لا أريد النّوم الآن.
عبد المعطي موجّها حديثه لطفليه:
عليكما أن تناما الآن...كي تستريحا استعدادا ليوم غد.
سعاد الثّانية: دع الطّفلين على سجيّتهما يا أبا محمود.
عبد المعطي: الدّلال الزّائد للأطفال يفسدهم.
سعاد: من قال لك هذا...الضّغط عليهم يعقّدهم نفسيّا...وبناء الانسان مهم جدّا...في بلادنا نوفّر لأطفالنا كلّ احتياجاتهم... نتركهم يمارسون هواياتهم... نربّيهم... نؤدّبهم... نوفّر لهم الألعاب والملاعب... نعلّمهم... فيدخلون مجال العمل ويساهمون في بناء البلاد.
قضى عبد المعطي وسعاد ساعات وهما يتحاوران حول كيفيّة تربية الأطفال، وبنائهم بطريقة سليمة، ليدخلوا الحياة بكفاءة عالية.
تاه عبد المعطي بين القناعات التي تربّى عليها، وبين ما يسمعه من سعاد الثّانية... ثقته بصحّة ما تقوله كبيرة، لكن من الصّعب عليه أن يغيّر قناعاته بين ليلة وضحاها، فكلّ شيء يستطيع أن يقبله، أمّا أن تكون السّيادة للنّساء والأطفال فهذا غير معقول، خصوصا وأنه عاش في بيئة تعتبر الأطفال والنّساء سببا للمشاكل كلّها.
سألته سعاد: بماذا تفكّر يا عبد المعطي؟ هل هناك ما يشغلك؟
عبد المعطي: لا أفكّر بشيء معين... أستعيد بعض الذّكريات فقط.
سعاد: هل اشتقت لسعاد الأولى؟
عبد المعطي: بل اشتقت لسعاد الثّانية.
سعاد: إذن هيّا بنا إلى غرفة النّوم.
تقلّب عبد المعطي في فراشه كثيرا...شعر بضيق عندما مرّ بخلده أنّه سيقع أسيرا لامرأة تتحكّم به، وكلّ ذلك من أجل المال...تذكّر قصيدة ميسون بنت بحدل بن أنيف أمّ يزيد بن معاوية التي تقول فيها:
لَبَيْتٌ تخفِقُ الأرواحُ فيه*** أحَبُّ إليَّ من قصرٍ مُنيفِ
وأصواتُ الرّياحِ بكل فَجٍّ*** أحَبُّ إلي من نَقْر الدُّفوفِ
وبكْرٍ يتْبَعُ الأظْعانَ صَعْبٌ*** أحبُّ إلى من بَغْلِ زَفُوفِ
وكلبٌ ينبح الطُرَّاق عنّي*** أحَبُّ إليَّ من قِطٍّ ألوفِ
ولُبْسُ عباءةٍ وتقَرُّ عيْني*** أحبُّ إليَّ من لِبْسِ الشُّفوفِ
وأكْلُ كُسَيْرَة في كِسْرِ بَيْتي*** أحَبُّ إليَّ من أَكْلِ الرَّغيفِ
وخِرْقٍ مِن بني عمي نحيفِ*** أحبُّ إليَّ من عِلْجٍ عليفِ
خشونَةُ عِيشتي في البدْو أشهى*** إلى نفسي من العيشِ الظَّريفِ
فما أبْغي سوى وطني بديلا*** فحسبي ذاكَ من وطن شريِف
وقال في نفسه: هذه المرأة أشرف منّي، فقد رفضت حياة الخلفاء والقصور والرّفاهيّة في سبيل أن تكون حرّة طليقة، تعيش حياتها على سجيّتها، لكنّه برّر لنفسه بأنّه ليس مقيدا من أحد، فهو يعيش حياته كما يريدها... وسيودّع حياة الفقر والشّقاء هو وذرّيته ما دامت على هذه الأرض حياة.
أمّا زينب ومحمود فخشيتهما على مصير والدتهما وأشّقائهما الصّغار هو ما يقلقهما، وتساءلت زينب عمّا تهدف إليه سعاد الثّانية التي تزعم أنّها مثل والدتهما؟
في الصّباح تناولوا افطارهم...سألتهم سعاد الثّانية:
ما رأيكم؟ هل تريدون زيارة المتحف أم المحميّة الطبيعيّة؟
قالت زينب: المتحف.
فقال محمود: بل نذهب إلى المحميّة الطّبيعيّة لنتفرّج على الحيوانات.
ابتسمت سعاد وقالت:
بناء على ما قلتما، سنمضي نصف يوم في المتحف، والنّصف الثّاني في المحميّة الطّبيعيّة.
وصلوا موقفا كبيرا للسّيارات أمام بناية لافتة من طابق واحد، واجهتها الأماميّة من أعمدة رخاميّة...أشارت سعاد إليها وقالت:
هذا هو المتحف...وهو يتوزّع في أنفاق مجهزّة كما الأسواق ليحمي موجوداته من تقلّبات الجوّ، هذا المتحف إذا ما توقفتم أمام كلّ قطعة فيه لثانية واحدة ممّا تعدّون، لاحتجتم إلى مئة يوم بلياليها، وهو يحوي تراث بلادنا الثّمين، فيه أجنحة لموجودات من تراث أرضكم، كتراث الفراعنة، بلاد ما بين النّهرين، الاغريق، الصّين والهند. دعونا نمرّ في واجهات بعض ممرّات أنفاق هذا المتحف العظيم...لتأخذوا فكرة عن بعض موجوداته...وإذا ما أردتم الدّخول إلى أعماقه فيمكننا ذلك، وهناك مخارج يمكننا الخروج منه متى أردنا.
أخذ محمود يحسب 100 يوم×24 ساعة×60 دقيقة ×60 ثانية ليعرف عدد محتويات هذا المتحف...قطعت أفكاره زينب عندما قالت:
دعينا ننظر جزءا من موجودات الجناح الفرعونيّ، وجزءا آخر من الجناح البابليّ.
في الجناح الفرعونيّ رأوا مومياءات فرعونية محنّطة، مغلّفة بالشّموع والذّهب... في زاوية معيّنة هناك أدوات ورسومات لطبيب أسنان...وبجانبة موادّ تصنع منها الأسنان الصّناعيّة، شرحت لهم عنها سعاد وقالت:
أوّل من اكتشف طبّ الأسنان وصناعتها هم الفراعنة، والسّبب هو أن القانون الفرعونيّ كان يقضي بخلع أسنان المجرمين، ومن يرتكبون جنايات معيّنة، فاقتضت الحاجة أن يفكّروا ببديل للأسنان المخلوعة.
ضحكت زينب ومحمود عندما سمعا هذه المعلومة، فقالت لهم سعاد وهي تبتسم:
نحن طبعا لا نؤيّد هكذا عقوبة، لكنّ هذا ما حصل في أرضكم زمن الفراعنة، أي قبل ستّة آلاف عام أو يزيد...انتقلوا بعدها إلى زاوية فيها مائدة فرعونيّة، حيث الأواني الفضّيّة والذهبيّة والفخّارية وعليها نقوش هيروغلوفيّة...أمضوا أكثر من ساعتين في القسم الفرعونيّ من المتحف، انتقلوا إلى قسم حضارة ما بين النّهرين...هناك رأوا موجودات أشوريّة، سومريّة وبابليّة...رأوا عدا عن مجوهرات الملكات وصحائف من جلد الغزال مكتوب عليها نصوص شريعة حمورابي...رأوا خريطة لمدينة القدس كما كانت في عهد نبوخذ نصّر. الأضواء تشعّ من المدينة... أشارت سعاد إلى الخريطة وقالت لهم:
هذه عروس المدائن عبر التّاريخ.
سألت زينب: هل تعرفون تاريخ القدس في بلادكم؟
سعاد: نعم نحن نعرف تاريخ المدينة منذ بداياتها.
زينب: من بني القدس حسب تاريخكم؟
سعاد: بناها الملك اليبوسيّ العربيّ ملكي صادق قبل ستّة آلاف عام، وسمّاها يبوس لتكون عاصمة لمملكته.
صاحت زينب: الله أكبر...إذا كان ساكنو الكواكب الأخرى يعلمون أن بناة القدس عرب، فلماذا لا يقتنع لصوص الأرض بذلك؟
خرجوا من المتحف، ليتناولوا طعام الغداء، وليواصلوا بعدها رحلتهم إلى المحميّة الطبيعيّة.
في المحميّة الطبيعيّة استقلّوا سيّارة مخصّصة لذلك، تقودها امرأة حسناء تعمل دليلا لزوّار المحميّة، عرّفت على نفسها بأنّ اسمها مكامانتو قالت لهم:
المحميّة كبيرة جدّا، مساحتها تزيد على نصف مليون كيلومتر مربّع، والتّجول فيها يحتاج أيّاما، لدينا مراكز استراحة تتوفّر فيها كلّ سبل الرّاحة، فكم يوما ستبقون في ضيافتنا؟
زينب: رحلتنا أسبوع مضى منه يومان...سنبقى عندكم بضع ساعات... حتى مساء هذا اليوم.
هذا وقت غير كاف...هل ترغبون برؤية أشياء معيّنة؟
التفتت زينب إلى سعاد وسألت:
هل لديكم حيوانات غير موجودة على الكرة الأرضيّة؟
سعاد: نعم...ولدينا أشجار ونباتات غير موجودة على الأرض.
زينب: هل يمكننا رؤيتها؟
مكامانتو: هيّا بنا
في دقائق معدودة وصلوا مكانا فيه أشجار عجيبة، أوراقها تتحلّى بألوان متعدّدة، فهناك الّلون الأزرق،البنّي، البنفسجي والأصفر... الأشجار الصفراء يظهر من بين أوراقها ما يشبه تيجان الملوك...تتدلّى منه حبيبات صغيرة ذات رائحة عطريّة فوّاحة...في الّليل تشعّ ضوءا، فمن يطلّ على هذه الأشجار ليلا يحسب أنّ أمامه شجرة أعياد الميلاد التي يزيّنونها على الأرض في عيد ميلاد السّيّد المسيح، لكنّ أشجار البلاد العجيبة أكثر جمالا وبهاءً لأنّها طبيعيّة.
قالت مكامانتو: هذه أشجار دائمة الخضرة غير مثمرة... تتواجد بكثرة في غابات بلادنا...البعض يزرعونها للزّينة في حدائق بيوتهم...والآن سننتقل لنريكم أشجارا مثمرة لم يعد منها في أرضكم؛ بسبب وحشيّة البشر الذين يعيشون على الكرة الأرضيّة، فقد قضوا بوحشيّتهم على أنواع مختلفة من النباتات والحيوانات...أشجارنا هذه ليست حكرا على المحميّات الطّبيعيّة، بل تتواجد في كلّ مكان في بلادنا.
قالت سعاد: سأريهم إيّاها خارج المحميّة في يوم آخر، ودعونا نستغل الفرصة لنريهم حيوانات لا توجد في كوكبهم.
مكامانتو: هيّا بنا إلى السّيّارة.
مرّوا بمرج سهليّ واسع جدا، فيه تقاطعات طرق لتسهيل مرور زوّار الحديقة... رأوا قطيعا من الفيلة يجفل هاربا ونهيمه يصمّ الآذان، انتبهوا إلى الأشجار التي جفلت من جانبها الفيلة...رأوا حيوانا ضخما يلتهم فيلا دفعة واحدة، حيوان طوله يزيد على المئة متر، له أكثر من عشرين قائمة ترتفع عن الأرض حوالي المتر، بينما جسم الحيوان كعربات القطار، عندما يفتح فمه يستطيع انسان طويل القامة أن يقف فيه، أسنانه يزيد طولها عن 30 سنتمتر...شخيره كصوت الرّعد وهو يلتهم فريسته...ليس سريعا في مشيته... يمشي كما وحيد القرن...يتغذّى على الّلحوم وعلى النّباتات... كما قالت مكامانتو التي لم تنتبه إلى محمود كيف قفز إلى حضن والده خائفا، وكيف احتمت زينب بسعاد التي طوّقت كتفيها بيدها اليمنى واحتضنتها تهدّئ من روعها.
قالت سعاد: لا تخافا يا أبنائي فهذا الحيوان اسمه "درسان" وهو لا يؤذي البشر! وسأثبت لكم ذلك الآن... خرجت من الباص...اتّجهت إليه...في هذه الأثناء كان قد فصفص عظام الفيل...قذف نابيه وعظامه جانبا...اقتربت منه سعاد...مدّت يدها تتحسّس رقبته...التفت إليها...فتح فمه قليلا كأنّه يبتسم لها... دفن محمود رأسه في صدر والده يرتعد خوفا...لم يشاهد ما قامت به سعاد، ولم يسمع لوالده وهو يقول له:
هذا حيوان لا يؤذي البشر يا محمود...انظر إلى سعاد كيف تداعبه... انتبه عبد المعطي لابنه محمود وقد تبلّلت ملابس جزئه السّفليّ من شدّة الخوف...أمّا زينب فقد عقدت حاجبيها...علت وجهها صفرة...انكمشت على نفسها...تقيّأت...ازدادت نبضات قلبها...تكوّرت على نفسها...أغلقت عينيها وأخذت تردّد:
ماما...ماما
تظاهر أبو محمود بالشّجاعة وعدم المبالاة مع أنّه كان يرتعد خوفا.
قالت ماكامنتو عندما رجعت سعاد في يديها نابا الفيل:
والآن دعونا نواصل طريقنا.
قالت زينب: سنعود إلى البيت...لا أريد أن أرى شيئا...أنا مريضة.
انتبهت سعاد إلى ملابس محمود المبلّلة، انتزعته من حضن والده...احتضنته...قبّلته...حادثته...داعبته... لكنّه لم يستجب لها...قالت لماكامنتو:
أعيدينا إلى سيّارتنا.
اشترت سعاد ملابس جديدة لمحمود، ألقت الملابس المبلّلة في سلّة النّفايات، مرّت على المستشفى...شرحت للطّبيب عمّا جرى لمحمود وزينب...تحدّث معهما الطّبيب حوالي ساعة... عادوا إلى وضعهم الطبيعيّ دون أن يتناولوا أيّ علاج...توجّهت بهم بعدها إلى مطعم يقع في أعلى ناطحة سحاب تقع على قمّة جبل مرتفع، المطعم يدور ببطء ليرى مرتادوه المدينة والحدائق من عليّين. هبّت رياح خفيفة...تشكّلت غيوم بيضاء...بدت لهم كأنّها جبال ثلجيّة...تناولوا عشاءهم.
عادوا إلى البيت فرحين إلّا أبا محمود كان عابسا.
*****
سأل عثمان شقيق عبد المعطي عن أراض للبيع في منطقة القدس،
وضع اعلانا في الصّحافة لمن لديهم أراض أو بيوت في القدس للبيع،
قرأ الاعلان زميله في الجامعة الدّكتور سامر، اتصل به وقال:
هناك تسوية مكوّنة من غرفة وحمام ومطبخ صغيرين في حارة السّعديّة.
عثمان: أبحث عن أرض واسعة، لا تقلّ عن دونم، أو بناية كبيرة. ما تطلبه ثمين جدّا...لا تقوى على ثمنه.
عثمان: الثّمن ليس مهمّا، فخير الله كثير.
- أقول لك الثمن ملايين وليس ألوفا.
عثمان: قلت لك أنّ ثمنها متوفّر إن وُجدت.
• هل عثرت على كنوز قارون، أم أنك مجنون يا عثمان؟
عثمان: لا هذه ولا تلك لكنّ المال موجود.
استغرب الدكتور سامر ما سمعه من زميله السّابق صديقه عثمان، فهو يعرف أحواله المادّيّة جيّدا...تذكّر سيّارة عثمان التي كانت تعمل ساعات وتتعطّل أيّاما... الرّجل ليس بخيلا، لكنّه فقير لا يملك شيئا...بالتّأكيد أنّه أصيب بمسّ من جنون، ولولا ذلك ما استقال من الجامعة...وهذا أمر يستدعي أن أزوره؛ لأطمئنّ على صحّته.
وجد الدكتور سامر سيّارة مارسيدس موديل سنتها أمام بيت عثمان...ظنّها سيّارة صديق جاء لزيارته...استقبله عثمان وهو يرتدي بدلة فاخرة سوداء اللون... يضع ربطة عنق حمراء على قميص أبيض...رحّب به...دخلا صالون البيت...سأل سامر:
يبدو أنّ في ضيافتك شخصا مهمّا أو ثريّا.
عثمان مازحا: بل ضيفي رجل علم هو أنت.
سامر: لمن سيّارة المرسيدس المتوقّفة أمام البيت؟
عثمان يجيب بهدوء ولا مبالاة:
السّيّارة لي.
سامر: أنا جادّ في سؤالي.
عثمان: وأنا صادق باجابتي.
سامر: من أين لك هذا؟
عثمان: هدّئ من روعك يا صديقي...أبواب الرّزق واسعة...وأنا لم أحصل على قرش واحد بالحرام أو بالاحتيال.
سامر: لكنّ السّماء لا تمطر ذهبا ولا فضّة.
عثمان: دعك من التّفكير بهكذا أمور...بعد أن نتناول عشاءنا سنتحدّث عن عمل مشترك...فأنا أفكّر بافتتاح شركة عقارات... نشتري أراضي في القدس ومحيطها نبني عليها... نبيع الشّقق لمن يحتاجونها من أبناء شعبنا بتسهيلات كبيرة؛ لتعزيز وجودنا العربيّ في عاصمتنا، فالمدينة مهدّدة بناسها، مقدّساتها، تاريخها، ثقافتها، طابعها العمرانيّ، كلّ شيء في عاصمتنا مهدّد، وحمايتها فرض عين على كلّ منّا... لكن في البداية أريد أرضا تطلّ على القدس القديمة؛ لنبني عليها بيتين؛ واحدا لي والثّاني لأخي عبد المعطي...أريدك أن تكون مهندس الشّركة الأوّل... فأنت تحمل شهادة الأستاذيّة "الدكتوراة" في الهندسة، سأخصّص لك راتبا يساوي ثلاثة أضعاف راتبك في الجامعة أو يزيد.
فتح سامر فاه مرتبكا غير مصدّق ما تسمع أذناه، معتقدا أنّ صديقه عثمان مجنون 100% ترواده أحلام يحسبها حقيقة...حوقل...أسند ظهره إلى الكنبة التي يجلس عليها، وأشغل تفكيره في تفسير ما يسمع.
في هذه اللحظة دخل وليد بن عثمان يقول بصوت طفوليّ:
بابا عمّي عبد المعطي وولداه زينب ومحمود عادوا من رحلتهم.
نظر سامر وعثمان من نافذة الصّالون...رأوهم بملابس جديدة فاخرة...يُنزلون من السّيّارة عدة حقائب سفر كبيرة...يبدو أنّها ثقيلة.
صباح اليوم التّالي تجوّل محمود وصديقه طارق في القدس القديمة، زارا كنيسة القيامة، أدّيا صلاة الظهر في المسجد الأقصى، تناولا طعامهما في مطعم فندق "الأميركان كولوني". ضحكا من الأيّام الخوالي التي كانا يزوران القدس فيها ويعودان إلى بيتيهما مشيا على الأقدام؛ لأنّهما لا يملكان قرشين أجرة الباص. قال محمود لصديقه طارق:
يجب أن نضاعف اجتهادنا في المدرسة كي نكمل تعليمنا الجامعيّ، في جامعة متقدّمة.
طارق: من سينفق علينا في الجامعة؟
محمود: لا تقلق...خير الله كثير.
عاد محمود وطارق إلى بيتيهما سعيدين، وجد سعيد شقيقته زينب في انتظاره، ابتسمت له وقالت:
فاتتك رؤية مقابلة مع الدّكتور أحمد زويل الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء.
محمود: ماذا قال فيها؟
زينب: قال أنّ المشاكل الاقتصاديّة في مصر وغيرها من الدّول جميعها لا يحلّها إلّا العلم، وإذا ما تعلّمنا يا محمود، فسنستطيع تحقيق ما نصبو إليه، وما علينا إلّا الجدّ والاجتهاد في الدّراسة، لنتعلّم في واحدة من جامعات البلاد العجيبة.
وسوم: العدد 714