المحكمة الخاصة بلبنان: ألم تسقط ورقة التين بعد؟
(أستاذ محاضر في القانون - جامعة جورجتاون في واشنطن)
اغتيال الرئيس الحريري كان بهدف خلق فتنة داخليّة وتعميق الشرخ بين طوائف لبنانيّة أساسيّة. أمّا الإجراءات القضائّية التي اتُخذت فكانت بحجّة محاسبة المسؤولين عن هذه الجريمة، لكن طريقة تنفيذها أظهرت أنّها اتُخِذت بهدف تضليل العدالة عن تعيين الفاعل ومحاسبته. وقد استلزم ذلك استلاب سيادة لبنان، وتعطيل دور وفعاليّة مؤسسات الحكم فيه، ولنستعرض الدليل على ذلك:
في التجاوزات التي رافقت إنشاء المحكمة
لم يسبق للأمم المتّحدة أن اتخذت إجراءات قضائيّة مماثلة لما اتخذته بشأن جريمة اغتيال الرئيس الحريري، لا قبل ارتكاب هذه الجريمة ولا بعده. وعلى سبيل المثال فإنّ اغتيال بنازير بوتو، رئيسة وزراء باكستان السابقة، لم يلق أيّ اهتمام دوليّ يذكر؛ علماً بأنّها كانت لا تقلّ شهرة، على الصعيدين الدولي والمحلّي الباكستاني، عن الرئيس الحريري. وقد وقع اغتيالها في كانون الأوّل من العام 2007، أي في حمأة فترة إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان، وفي ظروف وبوسائل مشابهة لتلك الّتي أدّت لاغتيال الحريري.
ما يؤكّد انتفاء أي اهتمام لمجلس الأمن في بلوغ العدالة ومراعاة أحكام القانون الدولي الجنائي في ما اتخذ من إجراءات قضائيّة، بما فيها إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان، هو امتناعه عن اتخاذ أي إجراء حيال جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانيّة الموثّقة التي ارتكبتها إسرائيل خلال عدوانها على لبنان في العام 2006، أي خلال الفترة الزمنيّة التي تلت اغتيال الرئيس الحريري (2005) وسبقت إقامة المحكمة الخاصة بلبنان في العام 2007. لا بل إن مجلس الأمن لم يتدخّل لوقف ارتكاب الجرائم التي تشكّل المبرّر الوحيد لإنشاء محاكم جنائيّة دوليّة. وقد لعب ممثل الولايات المتحدة في مجلس الأمن في حينه، ومستشار الأمن القومي الحالي للرئيس ترامب، جون بولتون، دوراً أساسيّاً في منع اجتماع مجلس الأمن من أجل اتخاذ قرار بوقف العدوان والجرائم الإسرائيلية على لبنان، في حين كان يقوم بدوره الرئيس في هندسة المحكمة الهجينة الخاصة بلبنان.
المحكمة الخاصة بلبنان أقيمت خدمة لمصالح خارجيهة منافية للمصلحة اللبنانيّة وخلافاً للقانون وللمألوف في إنشاء مثل هذه المحاكم على الصعيد الدولي. فهي الوحيدة بين المحاكم التي أقامها مجلس الأمن، الّتي لا تنظر في جريمة ضدّ القانون الدولي وتندرج ضمن الجرائم المنصوص عنها في النظام الأساسي لمحكمة الجنايات الدوليّة، ولذلك تلتزم المحكمة الخاصة بلبنان تطبيق القانون المحلّي للدولة التي وقعت فيها الجريمة، أي القانون اللبناني.
وهي المحكمة الدوليّة الوحيدة التي أساسها القانوني اتفاقيّة ثنائيّة، بين دولة مستقلّة والأمم المتحدة، ولكنّها إتفاقيّة غير مستوفية الشروط القانونيّة لصحّتها، إن لجهة التفاوض بشأنها من قبل الطرف المختصّ، أي رئيس الجمهوريّة حسب الدستور اللبناني، أو لجهة المصادقة عليها من قبل مجلس النواب، كما ينصّ عليه الدستور نفسه.
كما أنّها المحكمة الدوليّة الوحيدة التي، بسبب تعذّر استيفاء الشروط الدستوريّة اللبنانيّة لصحّتها، يلجأ مجلس الأمن، بغية إقامتها، إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي ينصّ على إجراءات لمعالجة أحداث تشكّل تهديداً أو خرقاً خطيراً للسلم والأمن الدوليّين، وكأنّ احترام أحكام الدستور اللبناني يشكّل تهديدا خطيراً للسلم العالمي، إذ يبدو أنّ أصحاب القرار في مجلس الأمن اعتبروا أنّ مراعاة أحكام الدستور اللبناني توازي ارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانيّة التي كانت الأساس القانوني الذي لجأ إليه مجلس الأمن في كل ما أنشأ من محاكم جنائيّة دوليّة.
كذلك هي المحكمة الدوليّة الوحيدة التي يلجأ مجلس الأمن إلى الفصل السابع كمبرّر قانوني لإنشائها ولا تتولّى الأمم المتحدة كامل نفقاتها، وذلك لأنّ الجرائم الدوليّة تعتبر جرائم بحق المجتمع الدولي بأسره وليس بحقّ مجتمعٍ بعينه. لكن بالنسبة إلى محكمتنا الخاصة، يترتّب على لبنان تغطية 49% من نفقاتها، وهذا يعني، كما ثبت بالواقع، أنّ العبء المالي الذي يتكبّده اللبنانيّون سنوياً من نفقات المحكمة الخاصة يوازي أو يزيد عن حصّة جميع المحاكم اللبنانيّة من الموازنة الوطنيّة.
المحكمة الخاصة بلبنان ”تمتاز“ بفرادة مذهلة مقارنة بجميع المحاكم الجنائيّة الّتي أقامها مجلس الأمن، إن لجهة قانونيّة تشكيلها وطبيعة الجرائم التي تنظر فيها، أو لجهة القانون الواجب تطبيقه بشأن هذه الجرائم. ناهيك بالقواعد الإجرائيّة التي اعتمدتها المحكمة، خصوصاً لجهة التستّر على مصادر المعلومات بشأن الأدلّة التي يمكن أن تساق ضدّ المتهمين، فضلاً عن اعتماد سابقة المحاكمة الغيابيّة، الأمر غير المألوف في ممارسة المحاكم الجنائيّة الدوليّة.
الأخطاء والمخالفات القانونيّة التي صاحبت عمل لجنة التحقيق
الدوافع والأهداف التي حملت مجلس الأمن على اتخاذ الإجراءات القضائيّة، والتي لا تمتّ إلى السعي لبلوغ العدالة بصلة، لا تقتصر على فرادة المحكمة الخاصة بلبنان. فالأخطاء الجسيمة والتجاوزات الفاضحة والمخالفات لقواعد قانونيّة أساسيّة في الإجراءات الجنائية التي ارتكبتها لجنة التحقيق الدوليّة، التي تولّت التحقيق في أولى مراحله وربما أهمّها، لا تدع مجالاً للشك في الدوافع السياسيّة وراء جميع الإجراءات القضائيّة التي اتخذها مجلس الأمن بشأن اغتيال الرئيس الحريري والذين سقطوا معه أو اغتيلوا من بعده، ولأسباب يُرجّح أنّها مرتبطة بدوافع اغتياله.
فالتسريبات والتقارير التي كانت تصدر عن لجنة التحقيق الدوليّة، خصوصاً في عهد رئيسها الأوّل دتليف ماليس، كانت بمثابة فضائح قانونيّة تدلّ ليس فقط على غياب المهنيّة، لا بل الاستهتار ببديهيّات قواعد التحقيق الجنائي. ففي ما كانت تنقله الصحف الأجنبيّة من تسريبات، وكذلك ما تضمّنته التقارير الصادرة عن لجنة التحقيق برئاسة السيّد ماليس، كنّا نقرأ عن أسماء الشهود وعن إفاداتهم أمام المحقّق، وكذلك عن استنتاجات قطعيّة بالنسبة إلى مسؤليّة الفاعلين، في حين كان التحقيق لا يزال في مراحله الأولى، ما يشكّل مخالفة صارخة لمبدأ سريّة التحقيق المطبّق عالميّاً والمنصوص عليه في قانون أصول المحاكمات الجزائيهة اللبناني الواجب التطبيق من قبل لجنة التحقيق الدوليّة.
كانت لجنة التحقيق تتعمّد نشر هذه المعلومات في تقاريرها للتأثير في توجيه الرأي العام ولتوظيفها سياسيّاً في استصدار قرارات مجلس الأمن الدولي الملائمة لأهداف رعاة ومحرّكي الإجراءات القضائية. وكانت المعلومات المنشورة والمسرّبة من لجنة التحقيق مادة دسمة للاستغلال من قبل وسائل إعلاميّة غربيّة مثل لوموند ودرشبيغل وجروزلم بوست وسواها. وكذلك كانت تشكّل مادة للاستغلال من قبل مسؤولين في إسرائيل، وهي المنتفع الأكبر، وربّما الوحيد، من اغتيال الرئيس الحريري والأرجح أنها الفاعل أو المشارك الرئيسي في ارتكاب هذه الجريمة.
تجاوزات واخطاء لجنة التحقيق وأعمالها المشبوهة لم تقتصر على الفترة التي كان يرأسها فيها ديتليف ماليس. فبعد السيّد ماليس ترأس اللجنة السيّد برميتس لفترة وجيزة، ربّما لأنّه فضح وانتقد سلوك وتجاوزات سلفه. بعده جاء السيّد بلمار إلى رئاسة لجنة التحقيق. مع السيّد بلمار لم تتحسّن إطلاقاً الصورة التي تكوّنت عن لجنة التحقيق الدوليّة، إن لجهة مهنيّة العاملين فيها، أو لجهة استقلالها عن مشيئة صانعيها. فحسب مستندات رسميّة، نشرتها ويكيليكس (wikiLeaks) ولم يجر تكذيبها، كان السيّد بلمار يطلب ويتلقّى التوجيهات بشأن مجرى التحقيق من خلال السفارة الأميركيّة في بيروت. والسيّد بلمار نفسه قد أصبح المدّعي العام الأوّل لدى المحكمة الخاصة بلبنان بعد إنشائها وتولّيها متابعة التحقيق الذي كانت لجنة التحقيق الدوليّة تقوم به.
ولعلّ أبشع ما اقترفته لجنة التحقيق الدوليّة من تجاوزات هو سلوكها بشأن الشهادات الكاذبة لشهود الزور والتي كانت الحجّة لتوقيف أربعة من كبار الضباط المسؤولين عن المراكز الأمنيّة الأشدّ حساسيّة في الدولة، وكان توقيفهم بحجّة اشتراكهم في عمليّة اغتيال الحريري. استمرّ توقيف الضبّاط الأربعة بشكل اعتباطي لمدّة أربع سنوات تقريباً، دون توجيه أيّة تهمة لهم، ولم تعط اللجنة موافقتها على إخلاء سبيلهم مع علمها الأكيد بكذب شهود الزور وانعدام أيّ مبرّر قانوني لبقائهم قيد التوقيف.
بعد انتهاء عمل لجنة التحقيق الدوليّة، وبعد انتزاع السيادة اللبنانيّة وكفّ يد القضاء اللبناني عن ملفّ اغتيال الحريري وانتقال مسؤوليّته في ذلك الملفّ إلى المحكمة الخاصة، اصبح الاستمرار في توقيف الضباط الأربعة عبئاً تتحمّله المحكمة الخاصة بمفردها، فقامت بإخلاء سبيلهم، ولكنّها رفضت بشكل قاطع النظر بشكوى الضباط، ضحايا شهود الزور، أو التحقيق بمسألة شهود الزور، أقلّه لاكتمال التحقيق لجهة الدوافع وراء الإتيان بهم وعن مسؤوليّة من يقف ورائهم. فإنّ للمحكمة الخاصة، التي تدّعي المهنيّة والتجرّد واستهداف العدالة في كلّ ما تقوم به، مصلحة رئيسيّة لا بل عليها واجب الاطلاع على كلّ واقعة أو دافع وراء شهود الزور، وإلّا كيف يمكن الاطمئنان إلى جدّية اكتمال التحقيق الّذي على قضاة الحكم النظر في كلّ ما يتضمّن من أدلّة لإصدار حكمهم.
لو أضفنا إلى ما تقدّم رفض دول عشر، معظمها كان محرّكاً أساسيّاً في إقامة الإجراءات القضائيّة، التعاون مع لجنة التحقيق والمحكمة الخاصة بلبنان في ما يتعلّق بالتحقيق الذي تقوم به، والزعم أنّ الأقمار الصناعيّة لبعض هذه الدول كانت كلّها، وبصدفة غريبة، معطّلة أثناء وقوع الانفجار الذي أودى بحياة الرئيس الحريري، يصبح من الصعب جدّاً عندئذٍ الاطمئنان إلى استقلال وكفاءة ونزاهة جميع الّذين شاركوا في إنشاء وتفعيل الإجراءات القضائيّة بمنأى عن السيادة والرقابة اللبنانيّة.
وقع الإجراءات القضائية الدوليّة على المجتمع اللبناني
من غير المستغرب أن الشعب اللبناني في غالبيّته، وهو الطرف الأساسيّ المعني بمعرفة الحقيقة وبأن تبلغ العدالة مجراها، لا يثق باستقلال المحكمة عن مشيئة صانعيها ولا بكونها مصدراً موثوقاً للعدالة. وقد أثبتت ذلك استطلاعات الرأي التي قام بها مركز بيروت للأبحاث والمعلومات، قبل صدور القرار الإتهامي عن المحكمة وبعده. فما الهدف إذاً من قيام المحكمة الخاصة بلبنان ومن متابعة عملها إن لم تكن تحظى بثقة الشعب اللبناني، الطرف الأساسي والوحيد بين شعوب العالم، المتضرّر من اغتيال الرئيس الحريري وجميع الذين سقطوا معه، أو اغتيلوا من بعده. والمجتمع اللبناني هو صاحب المصلحة وصاحب الحقّ الأساسي في معرفة الحقيقة، وفي أن تأخذ العدالة مجراها بالنسبة إلى الفاعلين.
هناك اسباب عدّة وأخطاء كثيرة ارتكبت يمكن الرجوع إليها لتفسير ما يعانيه المجتمع اللبناني من تخبّط وضياع بالنسبة إلى تداعيات اغتيال الرئيس الحريري. لكنّ العلّة الأساس في رأينا تكمن في انتزاع السيادة اللبنانيّة والحقّ في ممارسة الرقابة على الإجراءات القضائية التي تلت الاغتيال، أكان في مرحلة التحقيق، السرّي بطبيعته، أو في مرحلة المحاكمة العلنيّة. وهذا ما تسبّب بسيطرة إرادات ومصالح خارجية على إنشاء وتسيير إجراءات قضائيّة لا يمكن للبنانيّين الركون إليها، والاطمئنان إلى استقلال وكفاءة ونزاهة القيّمين عليها.
صحيح أنّ جميع الإجراءات القضائيّة الدوليّة التي اتخذت بشأن اغتيال الحريري كانت بمشيئة خارجيّة ومن أجل بلوغ أهداف لا تمتّ إلى العدالة بصلة. لكن على الشعب اللبناني أن يدرك أنّه ما كان لذلك أن يحصل لولا تعاون مسؤولين لبنانيين هم في موقع المؤتمنين على السيادة الوطنيّة. فهؤلاء هم الّذين تنازلوا عن هذه السيادة، وهم الّذين قاموا بتعطيل أحكام الدستور اللبناني وعدم احترام مبدأ فصل السلطات بنزعهم عن السلطة القضائيّة صلاحيّتها، وهي التي لا نقاش في حقّها الحصري، دستوريّاً وبموجب القانون الدولي، النظر في جريمة وقعت على الأرض اللبنانيّة وضحاياها مواطنون لبنانيّون. وهم الّذين ضربوا عرض الحائط بصلاحيّة السلطة التشريعيّة، أقرب السلطات إلى الإرادة الشعبيّة، في المصادقة على الاتفاقيات الدوليّة وعلى الإشراف على جميع مؤسسات الحكم في لبنان، يدفعهم إلى ذلك، إمّا جهل مخجل لمعنى السيادة، أو تواطؤ يلامس الخيانة لما ألحق ويلحق من ضرر بلنان وشعبه.
السيادة، باختصار، هي ممارسة الحقّ بالاستئثار في الحكم الذاتي. وتقوم الشعوب والدول بحكم ذاتها من خلال ما تختار من قوانين ومؤسسات لتطبيق هذه القوانين، وعلى العالم بأسره احترام هذا الاختيار. فاحترام سيادة الدول هو أحد أهمّ ركائز النظام العالمي، وأساس حقّ الدول في الاستقلال، والشعوب في تقرير مصيرها. وهو كذلك الأساس لواجب الدول في عدم التدخّل في الشؤون الداخليّة للدول الأخرى.
إنّ تخلّي مسولين لبنانيين عن حقّ سيادي في التحقيق بجريمة مروّعة شكّلت ولا تزال تهديداً خطيراً للأمن والاستقرار داخل المجتمع اللبناني دون سواه، كما التخلّي عن حق الشعب اللبناني، من خلال ممثليه في الحكم، في ممارسة الرقابة على صحّة وشفافية التحقيقات والإجراءات التي اتخذت بشأن جريمة اغتيال الحريري، وكفاءة ونزاهة القيّمين عليها، هذا التخلّي هو السبب الرئيس في تعذّر اتخاذ العدالة مجراها، واطمئنان اللبنانيّين إلى تجرّد ونزاهة وكفاءة من قام بالتحقيقات وما يمكن أن يصدر عن المحكمة من أحكام، خصوصاً في ضوء ما أصبح مؤكّداً من تجاوزات في إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان وما شاب التحقيقات من فضائح ومخالفات قانونيّة.
إنّ المراقب بدقّة لكيفيّة إنشاء وتنفيذ الإجراءات القضائية بشأن اغتيال الحريري يدرك أنّ دوافع سياسيّة كانت وراءها جميعاً، أكان من قبل الطرف اللبناني أو الدولي، وبالتالي لا مفرّ من الاستنتاج أنّ معرفة الحقيقة وبلوغ العدالة هما الضحيّتان الأولىيان لتسييس الإجراءات القضائيّة. فكيف يمكن في ضوء ما تقدّم الاطمئنان إلى نتائج عمل القيّمين على هذه الإجراءات؟
في جدوى استمرار المحكمة الخاصة بلبنان.
كلّ عمل يقيّم بأهدافه وبالوسائل المعتمدة لبلوغ هذه الأهداف. والهدف المعلن لإنشاء المحكمة الخاصة بلبنان، والدافع الرئيس لقبول الشعب اللبناني بقيامها، هو أن تأخذ العدالة مجراها في اكتشاف الجناة ومحاكمتهم من قبل جهاز قضائي يتمتّع بما يلزم من الكفاءة والنزاهة والقدرة على إحقاق الحقّ. لقد بادر بعض الأطراف الخارجيّة إلى تشويه سمعة القضاء اللبناني، وساعد على ذلك مسؤولون لبنانيّون مشيّعين أن القضاء اللبناني عاجز عن القيام بواجبه في محاكمة قتلة الرئيس الحريري، بالرغم من الكفاءة المشهودة التي أثبتها القضاء في محاكمة قتلة الرئيس كرامي وسواه من مسؤولين كبار في الدولة. إنّ هذا الموقف لمسؤولين لبنانيين قد مكّن قوى خارجيّة، لها مصالح وأهداف لا تمتّ إلى العدالة أو المصلحة اللبنانيّة بصلة، من انتزاع السيادة اللبنانيّة في ما يتعلّق بجريمة اغتيال الرئيس الحريري ومن اتخاذ وتوجيه إجراءات قضائيّة إلى ما يدفع للاعتقاد بأنّه تضليل متعمّد للعدالة.
يعتقد العديد من اللبنانييّن أنّ عمليّة التشويه والتضليل وما رافقها من حملات إعلاميّة منظّمة بهدف تعميق الشرخ والهوّة بين اللبنانيّين، لم تقتصر على مسألة اغتيال الرئيس الحريري بذاتها، بل طالت اغتيال ثلاثة عشر ضحيّة سقطوا من بعده، واعتُبر سقوطهم مرتبطاً باغتيال الحريري، فضُمّت مهمّة التحقيق في اغتيال كل منهم الى اختصاص المحكمة الخاصة بلبنان. وقد رفع القضاء اللبناني يده عن التحقيق بشأن اغتيالهم منعاً ربّما من بلوغ تناقض في الأدلّة والاستنتاجات.
والجدير تذكّره هو أنّ الحملة الإعلاميّة الّتي وجّهت أصابع الاتهام إلى السوريّين بداية، كمسؤولين عن اغتيال الحريري، كانت تتكرّر بشأن اغتيال جميع الّذين سقطوا من بعده، وقد استُثمِر ذلك في تأليب الرأي العام اللبناني وفي تضليل مسار الإجراءات القانونيّة، وخصوصاً في استصدار قرارات مغرضة عن مجلس الأمن. والمذهل أنّ جميع الاغتيالات التي وقعت بعد اغتيال الحريري، قد ارتُكبت في ظلّ نشاط لجنة التحقيق الدوليّة التي كانت تضمّ أهمّ الخبرات وتتمتّع بأوسع الصلاحيات للقبض على الفاعلين. وهذا ما يدفع إلى الاعتقاد أنّ الفاعل هو غير بعيد عن المسيطر على الإجراءات القضائيّة، إذ من غير المعقول أن يقوم مجرم، مهما بلغت جرأته، على تكرار عمله الجرمي بهذا الشكل مع علمه بمدى خطورة ما يتربّصه ودون الاطمئنان إلى أنّه بمنأى عن هذه المخاطر.
حتّى تاريخه لسنا على اطّلاع بأن المحكمة الخاصة بلبنان قد أصدرت، أو أنّها تعتزم إصدار، قرار اتهام بحق أيّ طرف تعتبره مسؤولاً عن اغتيال، أو محاولة اغتيال، أي من الثلاثة عشر ضحيّة الّذين سقطوا بعد اغتيال الرئيس الحريري، أو”الشهداء الأحياء“، أو أنّها قدّمت نتائج تحقيقاتها بشأنهم إلى القضاء اللبناني ليتولّى محاكمتهم.
لا شكّ في أنّ رعاة الإجراءات القضائيّة، بما فيها المحكمة الخاصة بلبنان، والّذين تولّوا تنفيذ هذه الإجراءات، قد دمّروا، بسلوكهم، صدقيّة المحكمة، ودمّروا خصوصاً، ثقة اللبنانيين بها كمصدر للعدالة ولمعرفة الحقيقة بشأن اغتيال الرئيس الحريري والّذين سقطوا معه، أو اغتيلوا من بعده. ففي ظلّ هذا الواقع يصبح من حقّ، لا بل من واجب، كلّ مواطن لبناني أن يتساءل عن جدوى استمرار المحكمة من أجل بلوغ الأهداف التي توقّعها اللبنانيّون من إنشائها. فحتّى تاريخه، وبعد مرور أحد عشر عاما على ممارسة عملها، لم يعرف اللبنانيّون عن المحكمة سوى الأعباء الماليّة التي يتكبّدها المواطن اللبناني سنويّاً، وقد بلغت حتّى تاريخه ما يزيد على النصف مليار دولار. أمّا بشأن إنجازاتها، فلم يتصل بعلم اللبنانيين سوى محاولة المحكمة كمّ أفواه من يجرؤ على مراقبة أعمالها من الإعلاميين اللبنانيين، فضلاً عن قدرتها على زرع التباعد وتعميق الهوّة داخل المجتمع اللبناني.
ولكن حتّى لو افترض اللبنانيّون، بالرغم من تجربتهم البائسة مع الإجراءات القضائيّة الدوليّة، أنّ المحكمة يمكن أن تُظهر كفاءة مهنيّة واستقلالاً عن إرادة منشئيها، وهذا احتمال يجب أن يكون وارداً، فما المتوقّع من المحكمة في ما يمكن أن يصدر عنها من أحكام؟
يمكن للمحكمة أن تصدر أحكاماً تحقق المآرب السياسيّة لمنشئيها، وهذه توقّعات غالبيّة اللبنانيين من محكمة يعتقدون أنّها لا تتمتّع بالاستقلال عن مشيئة من أقامها، وهي ليست مصدراً موثوقاً للعدالة، فتبني أحكامها على أدلّة ظرفيّة وما راكمت لجنة التحقيق من بيّنات مشكوك في صحّتها. ويمكن كذلك لقضاة الحكم فيها التزام المعايير الواجب تطبيقها في تقييم شموليّة وقانونيّة التحقيق وقبول البيّنات والأدلّة، وذلك حفاظاً على سمعتهم المهنيّة بالدرجة الأولى، ورغبة منهم في عدم المشاركة في مزيد من تشويه سمعة العدالة الدوليّة، فيعلنون أحكاماً قد تثبت عدم مسؤوليّة المتهمين. ففي كلا الحالين لن يتحقّق الهدف الّذي يرجوه اللبنانيّون، وهو معرفة الحقيقة بشأن اغتيال الحريري وجميع الّذين سقطوا معه أو اغتيلوا من بعده. وبالتالي لن تساعد أحكام المحكمة الخاصة بلبنان على رأب الصدع في المجتمع اللبناني الّذي خلّفه اغتيال الحريري وعمّقه سلوك لجنة التحقيق والمحكمة الدوليّة الخاصة بلبنان.
ما العمل، وكيف الخروج ممّا نحن فيه إلى ما يمكن الاطمئنان إليه
قد لا يكون بالإمكان معرفة كل ما يجب أن يُعرف بشأن المسؤولين عن اغتيال الرئيس الحريري وجميع ضحايا الاغتيالات التي تلت ذلك. وليست هذه المرّة الأولى في التاريخ، والأرجح أنّها لن تكون الأخيرة. لكن ما من وسيلة لطمأنة اللبنانيّين وكلّ من يودّ أن تأخذ العدالة مجراها سوى اقتناعهم بأنّ جميع الإجراءات الضروريّة والممكنة اتُخذت، من قبل أطراف يطمئنّ إليهم اللبنانيّون، وقد جرى تنفيذها بمهنيّة وتجرّد من أجل معرفة الحقيقة بالنسبة إلى المسؤوليّة عن الجرائم التي ارتكبت، ومعاقبة الفاعلين بعد أن يثبت ذنبهم نتيجة محاكمة عادلة.
لكن بالنظر إلى الأخطاء والتجاوزات التي شابت إنشاء المحكمة وسلوكها، وكذلك المخالفات وغياب المهنيّة عن عمل لجنة التحقيق الدوليّة، لم تعد المحكمة الخاصة بلبنان تستطيع بلوغ الهدف المبرّر لوجودها، أقلّه بنظر غالبيّة اللبنانيّين. فقد أضحى استمرارها يشكّل مانعاً من توحّد المجتمع، واستنزافاً ماليّاً لا مبرّر له ولا طاقة للبنان على تحمّل تبعاته. فبالنظر إلى الانقسام الحاد في المجتمع اللبناني حول المسؤوليّة عن اغتيال الرئيس الحريري والّذين سقطوا معه، أو من بعده، وذلك نتيجة الحملة الإعلاميّة الضخمة التي رافقت اتخاذ الإجراءات القضائيّة، وبهدف تعميق الشرخ بين اللبنانيين، فضلاً عن سلوك القيّيمين على تنفيذ هذه الاجراءات، بات لا بدّ من العمل من أجل عودة الثقة لدى الشعب اللبناني بالإجراءات القضائيّة وبالقيّيمين على تنفيدذها. بلوغ ذلك يقتضي استعادة السيادة اللبنانيّة بشأن تنفيذ الاجراءات القضائيّة، أي الرقابة من قبل حقوقيّين لبنانيّين يتمتّعون بثقة كافة أطياف الشعب اللبناني.
لذلك نرى أن على السلطات اللبنانيّة اتخاذ الإجراءات القانونيّة اللّازمة، قبل أو بالتزامن مع أيّ طلب من مجلس الأمن، القيام بتأليف لجنة قوامها حقوقيّون مشهود لهم بالكفاءة والنزاهة، ويمثّلون الطوائف والتوجّهات السياسيّة الرئيسيّة في لبنان، مهمّتها الاطلاع على كافة البيّنات والأدلّة التي توافرت للمحكمة الخاصة بلبنان، والإشراف على سدّ الثغرات في التحقيق، إذا وجدت، وعلى متابعة تنفيذ الاجراءات القضائيّة بما فيها محاكمة المتّهمين كائناً من كانوا.
الشرط الوحيد للنجاح في إنهاء عمل المحكمة يكمن في وعي المسؤولين اللبنانيّين لما يشكّل مصلحة وطنيّة أساسها الرغبة في معرفة الحقيقة بالنسبة إلى مرتكبي جريمة اغتيال الحريري وجميع الّذين سقطوا معه، أو اغتيلوا من بعده. إن هذا الوعي يجب أن يشكّل الدافع لتوحّدهم في المطالبة باستعادة حقّ سيادي ما كان من مبرّر للتنازل عنه؛ كما إعادة الاعتبار للقضاء اللبناني الّذي شُوّهت سمعته من أجل تبرير قيام المحكمة الخاصة، فضلاً عن وقف النزف المالي الّذي يشكّله استمرار عمل المحكمة. فما الحجج التي يمكن الاستناد إليها لإقناع مجلس الأمن بوجوب استعادة السيادة اللبنانيّة بشأن الإجراءات القضائيّة ومعالجة تداعيات اغتيال الرئيس الحريري؟
الأساس القانوني للمحكمة الخاصة بلبنان هو اتفاقيّة ثنائيّة بين لبنان والأمم المتحدة غير مستوفية الشروط الدستوريّة، وقد أنشئت بناء لطلب من سلطة لبنانيّة، بقطع النظر عن شرعيّة طلبها. فاغتيال الرئيس الحريري كان له وقع عظيم على اللبنانيين، لكنّه لا يشكّل جريمة في القانون الدولي كجرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانيّة، وهي المبرّر الوحيد لإقامة محاكم دوليّة. والمحاكم الجنائيّة التي أنشأها مجلس الأمن تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، كالمحاكم التي قامت على أثر الحرب التي أدّت إلى تفكك يوغسلافيا، والحرب الأهلية في روندا، سقط فيها عشرات لا بل مئات الألاف من الضحايا وارتكبت فيها جرائم حرب وجرائم مروّعة ضد الإنسانيّة، تمادت في الزمان والمكان وهزّت الضمير العالمي في حينه. هذا مثال للمحاكم التي أقامها مجلس الأمن منفرداً واستناداً إلى الفصل السابع من الميثاق وقد تولّت الأمم المتحدة جميع نفقاتها.
جريمة اغتيال الرئيس الحريري تعني المجتمع اللبناني وحده، ولا تشكّل جريمة حرب ولا جريمة ضدّ الإنسانيّة كان لها وقعها على شعوب ومجتمعات العالم، وكانت المحرّك لهذه المجتمعات لإقامة المحكمة الخاصة بلبنان. فالمحكمة الخاصة بلبنان أقيمت بإرادة بعض الدول الصديقة لإسرائيل، ولأسباب لا تمتّ إلى السعي لبلوغ العدالة بصلة. وسوف يكون من الصعب على مجلس الأمن الدولي المضيّ في دعم عمل المحكمة، لو طلب لبنان وقف العمل بالاتفاقيّة الثنائيّة بينه وبين الأمم المتحدة، غير المستوفية الشروط الدستوريّة لصحتها. فحيثيّات قرار مجلس الأمن رقم 1757 المنشئ للمحكمة الخاصة بلبنان تشير إلى إفادة المستشار القانوني للأمم المتحدة بشأن ”العقبات الدستوريّة الجديّة التي يواجهها إنشاء المحكمة“. وكذلك المادة 19 من الاتفاقيّة بين لبنان والأمم المتّحدة في فقرتها الأولى تنصّ على ”أنّ الاتفاقيّة تدخل حيّز التنفيذ في اليوم الّذي يلي إفادة الحكومة اللبنانيّة الأمم المتّحدة بأنّ الشروط القانونيّة لنفاذ الاتفاقيّة باتت متوافرة“. ولكن الاتفاقيّة اعتُبرت نافذة بالرغم من عدم توافر الشروط القانونيّة لنفاذها.
إنّ إيقاف العمل بالاتفاقيّة بين لبنان والأمم المتّحدة، التي هي الأساس القانوني للمحكمة الخاصة بلبنان يمكن أن يحصل بموافقة الطرفين وهذا مبدأ عام متفق عليه في القانون الدولي ومنصوص عنه في المادة 57 من اتفاقية فيينّا بشأن قانون المعاهدات، ويمكن كذلك إنهاء العمل بها ”لظهور حالة تجعل التنفيذ مستحيلا“ ( المادة 60 ) أو ”لتغيير جوهري في الظروف“ ( المادة 62 ) من نفس الاتفاقيّة.
في نهاية المطاف، إنّ بقاء المحكمة الخاصة أو زوالها غير مقيّد بروابط قانونيّة أو حتّى بإرادة دول خارجيّة، مهما بلغ اقتدارها على المستوى الدولي، بقدر ما هو منوط بوحدة الصفّ اللبناني في وعيه المصلحة الوطنيّة، وبالتالي المطالبة بإنهاء عمل المحكمة وتحويل ما توافر لديها من أدلّة وبيّنات إلى من تُعيّن الدولة اللبنانيّة من سلطة لتلقّي هذه المعلومات ومتابعة تنفيذ الإجراءات القضائيّة. إذ ما كان للمحكمة الخاصة بلبنان أن تنوجد لولا سلوك بعض المسؤولين اللبنانيّين، عن جهل، وبالتالي عن حسن نيّة، أو عن معرفة بمضاعفات التنازل عن السيادة الوطنيّة، وبالتالي عن سوء نيّة تلامس الخيانة لما ألحقت ولا تزال تلحق من أضرار بلبنان.
ما من دولة مستقلّة، يعي شعبها وخصوصاً مسؤولوها معنى السيادة والاستقلال، تقبل بالتنازل عن سيادتها لأطراف خارجيّة في تطبيق قوانينها على أراضيها في ما من شأنه أن يهدّد أمنها واستقرارها كما فعل لبنان. فالمحاكم الجنائيّة الهجينة التي أقامها مجلس الأمن على شكل المحكمة الخاصة بلبنان، كانت بالدرجة الأولى من أجل محاكمة مسؤولين عن جرائم ضدّ القانون الدولي كجرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانيّة، وفي دول اعتُبرت فاشلة ومنقوصة السيادة. والإصرار من قبل دول مقرّرة في مجلس الأمن، أو أطراف لبنانيّة، على استمرار المحكمة الخاصة في عملها هو بمثابة إصرار على عدم اعتبار لبنان دولة فاشلة غير مكتملة السيادة، وهو كذلك تجاهل لكون العدالة ومعرفة الحقيقة هما الضحيّتان الأولىيان لتسييس الإجراءات القضائيّة. وهذا الإصرار يوازي الرغبة في تعزيز الاعتقاد لدى اللبنانيين بأنّ الإجراءات القضائيّة التي اتخذها مجلس الأمن، بما فيها إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان، كانت بهدف تعميق الهوّة بين اللبنانيين وإعاقة مجرى العدالة، لا بل تضليلها.
وسوم: العدد 780