الاقتصاد ودوافع التظاهر في العراق

د. حيدر حسين آل طعمة

مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية

تقف العديد من الاسباب خلف اخفاق الحكومات العراقية ما بعد 2003 في تحقيق منجز اقتصادي يشار له بالبنان، رغم الوعود والبرامج الانتخابية الواعدة، وفيض الموارد المالية المتحققة وتوفر كافة مقومات التنمية والنهوض الاقتصادي. ويبدو ان تداخل الاسباب وتعدد التحديات يزيد من غموض ملامح الاصلاح الاقتصادي المطلوب لتجاوز الازمات الاقتصادية المتكررة وابعاد البلد عن الجزء الحاد من الازمة، عبر سياسات محكمة، قصيرة ومتوسطة الامد، تلائم المأزق التنموي الحرج الذي يمر به الاقتصاد العراقي منذ سنوات.

وفيما يخص ابرز ملامح الازمة الاقتصادية الراهنة يمكن الاشارة الى ما يلي:

- يتصدر التعويل على النفط في تمويل الموازنة وتحريك الاقتصاد، قائمة التحديات الاقتصادية في البلد، رغم مرور فرص متعددة لإنشاء صندوق ثروة سيادي يستخدم لتلطيف التقلبات الحادة في اسعار النفط ويحد من تسلل دورات الرواج والكساد التي تشهدها اسواق النفط العالمية باستمرار.

- يعد ملف البطالة بمثابة قنبلة موقوتة من حيث الخطورة والمضاعفات، مع ذلك، لم تعالج ظاهرة تنامي اعداد العاطلين عن العمل بحكمة وبسياسات كيسة، وكان استيعاب مئات الالاف من الايدي العاملة ضمن مؤسسات الحكومة، المنتفخة اصلا، بمثابة علاج ازمة بتوليد اخرى، وفي الغالب كانت لأغراض انتخابية وحزبية، كما يعي الجميع.

- تفاقم موجة الفساد المالي والاداري في معظم الوزارات والمؤسسات الحكومية العليا، بشكل مرعب وخطير، لم يكافح بأدوات ناجعة، وانما باستحداث مؤسسات رقابية جديدة كانت بمثابة قنوات تغذية وتسمين لجيوب الفساد الكبرى، نظرا لإنتاجها من ذات المنظومة الفاسدة.

- اضعاف دور الموازنة العامة كأداة لتحقيق النمو والاستقرار وتمتين البنية التحتية وتوفير الخدمات العامة وتحفيز القطاع الخاص، كان نتيجة طبيعية لنظام التوافق السياسي وتمزيق الملف الاقتصادي بين احزاب السلطة الحاكمة، وخصوصا فيما يتعلق بالنفقات الاستثمارية، والتي تسببت في تفجير مظاهرات شعبية متكررة للمطالبة بتوفير الماء والكهرباء وبعض الخدمات الضرورية.

- يعد ابتلاع شفافية الموازنة جزء من السطو السياسي على موارد البلد حين حجبت العديد من الحسابات الختامية بعيدا عن الجهات الرقابية والجمهور، رغم ورود الزام شفافية الموازنة بتفاصيلها في قانون الادارة المالية لثلاث مرات.

- تقسيم المؤسسات الاقتصادية العليا في البلد بين الاحزاب السياسية، وفقا لمقاساتها المشوهة، ضيع فرصة ادارة موارد البلد بكفاءة، ومواجهة التحديات الاقتصادية بشكل ملائم وبسياسات ناجعة تجنح الى تحقيق الاستدامة في النمو والاستقرار المالي والنقدي. فضلا على اشراك القطاع الخاص ليأخذ دوره المنتظر. اضف لذلك، انعكاس الصراع السياسي الحاد بين الاحزاب الكبرى على ملف الاقتصاد والخدمات على حساب حقوق الموطن في الامن والرفاه والسلام.

- ادى التفكك السياسي وتشظي النظام المؤسسي في البلد بين احزاب وكتل الى تسلل ارادات وسياسات اقليمية الى مركز القرار الاقتصادي لإنتاج قرارات اقتصادية تلائم محركات النمو الاقتصادي لدول الجوار، وتضاعف من الفوائض التجارية المتحققة مع العراق، على حساب نهضة القطاع الخاص والاستفادة من الموارد المالية في انشاء صناعات محلية قادرة على توفير الامن الغذائي والاقتصادي وتوليد فرص عمل، في الاقتصاد الحقيقي، وخارج مؤسسات القطاع العام.

- فيما يخص مكافحة الفقر والحرمان في العراق، فان العراق حقق مفارقة مذهلة حين اقترنت معدلات الزيادة في الايرادات النفطية بزيادة معدلات الفقر والحرمان في مختلف انحاء البلد، باستثناء اقليم كردستان. فعلى الرغم من غزارة التدفقات الدولارية النفطية خلال السنوات التي تلت 2003، فان الحكومة لم توفر التخصيصات والسياسات الملائمة للحد من تفاقم وانفجار هذه الظاهرة. علما ان اجمالي الفوائض المالية المتحقق عام 2013 لامست 20 مليار دولار، كان يمكن استخدامها في دعم هذه الشريحة التي لم تجني الكثير من حقها في الثروات النفطية، بسبب اقتصار قناة توزيع الريع النفطي على العاملين في الدولة والبطاقة التموينية (الهزيلة) التي تلاشت بمرور الزمن. وحتى شبكة الحماية الاجتماعية لم تساهم في حصر وتطويق هذه الظاهرة وكبح معدلات الفقر والحرمان المتزايدة بسبب شبهات الفساد وسوء الادارة التي رافقت جهود وزارة العمل والشؤون الاجتماعية.

ما ذكر لا يمثل كافة التحديات الاقتصادية التي يعيشها المواطن، ولم يمتد النقاش ايضا لهدر ثروات الاجيال اللاحقة والديون التي قد تُحَول لهم. وانما التركيز فقط على ملفات تشكل محركات ضغط وتوليد للتظاهرات الشعبية التي يشهدها البلد منذ سنوات.

ويثار السؤال المعتاد: هل من وصفات ناجعة تستوعب مشاكل الموطن الاقتصادية؟ كيف نبدأ؟ ومن اين نبدأ؟

من الصعب توفير اجوبة حاسمة في اطار النظام السياسي المشوه واستحواذه الشرس على الثروات والسلطة، خصوصا بعد سنوات من الممارسة وترسيخ الاقدام وتكوين اللجان الاقتصادية وغيرها من المصالح الحزبية والسياسية. مع ذلك، تنبغي الاشارة الى ان ارادة الشعوب تنتصر عاجلا ام اجلا ولابد من استجابة صناع القرار لهموم المواطن وضغوطه الاقتصادية والاجتماعية.

مع ذلك، وبمناسبة الاستعداد لتشكيل حكومة جديدة قد تعتمد وتنفذ برنامج اقتصادي اصلاحي بمقاسات الازمة والتحديات الراهنة، يمكن اقتراح عدد من السياسات، منها:

1- ترشيق الحكومات المركزية والمحلية افقيا وعموديا، لوقف نزيف الموارد المالية المتاحة، وخصوصا الحلقات العليا.

2- تقليص الجهات الرقابية المتعددة لصالح التعاقد مع شركات رقابة وتدقيق دولية تعمل خارج مظلة وسطوة الاحزاب السياسية الحاكمة، لوقف انتفاخ وتقيح الفساد المالي والاداري بشكله الحالي.

3- ابعاد الوزارات والمؤسسات الاقتصادية العليا عن المحاصصة والتوافقات السياسية القائمة، واختيار الكفاءات القيادية المناسبة بدقة وبحذر وشفافية.

4- انشاء صندوق استثمار لتنفيذ المشاريع الخدمية المتوقفة، كمشاريع الماء الصافي والكهرباء والصحة والتربية والتعليم وغيرها، وبتمويل من الفوائض المالية المتحققة من الفروقات بين سعر النفط المعتمد في الموازنة (46) والاسعار الجارية في الاسواق.

5- تفعيل نظام الرعاية الصحية والاجتماعية للطبقات الفقيرة عبر شبكة دعم مالي محكمة تطال كافة الشرائح الفقيرة في مختلف المدن والقرى العراقية.

6- الاستعانة بتجربة "صناديق الدعم والاسناد" للعاطلين على العمل عبر منحهم مخصصات "بدل بطالة" لحين توفر فرص عمل ملائمة، ويعد ذلك ايضا توزيعا للريع النفطي على شريحة واسعة ومهمة من الشعب.

7- تنفيذ حزمة من السياسات، وعلى مختلف الصعد القانونية والاقتصادية والاستثمارية، لتسليم قيادة قاطرة النمو والتوظيف من القطاع العام الى القطاع الخاص، مع تعزيز مشروع الشراكة المقترح.

8- العمل (منذ الان) على اعداد موازنة العام 2019 في اطار موازنة "الاداء والبرامج" بدلا من موازنة البنود الجارية، مع الزام كافة مؤسسات الدولة بتقديم الحسابات الختامية بالتوقيتات المحددة وترسيخ قواعد الرقابة والشفافية.

وسوم: العدد 785