آن الأوان لكسر هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي
شرعت تركيا مع بداية الأزمة التي طاولت عملتها في البحث عن بدائل اقتصادية تجنبها تداعيات تأثير قرار ترامب على أسواقها المالية وتجارتها الدولية، وكانت الليرة التركية قد شهدت انخفاضا حادا في أعقاب قرار ترامب المثير للجدل والقاضي بفرض رسوم تجارية على صادراتها من الصلب والألمنيوم.
وتركزت البدائل حول استبدال الدولار الأمريكي في التعامل مع دول على غرار الصين وروسيا وإيران بالعملات المحلية، إضافة إلى قيام تركيا بفرض رسوم جمركية على سبيل المعاملة بالمثل التي تظل خيارا دبلوماسيا من المفروض أن لا يفاقم الأزمة بين تركيا والولايات المتحدة؛ مهما تصاعدت تهديدات ترامب بعد تصريح وزيرة التجارة التركية باتخاذها لهذا الإجراء.
لا ينبغي أن تكون الإجراءات التي اتخذتها تركيا وإلى جوارها الدول التي اصطفت بجانبها وأبدت مواقف متضامنة ومؤيدة لها؛ مجرد ردة فعل عابرة تعود معها الأمور إلى ما كانت عليه قبيل أزمة الليرة، فالأمر يتطلب ضرورة تثمين هذه الإجراءات والسعي الحثيث نحو تدعيمها بأخرى تسير في اتجاه كسر هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي.
للوهلة الأولى يبدو أنه من العسير جدا استبدال الدولار بأي عملة أخرى؛ سواء إذا تعلق الأمر باليورو أو الجنيه الإسترليني أو الين الياباني أو حتى اليوان الصيني، أين يكثر الحديث عن اقتصاد الصين باعتبار أنه سيطيح بالاقتصاد الأمريكي خلال سنوات ليست بالطويلة ويزيحه من عرشه الذي يتربع عليه لأزيد من سبعين عاما.
وتشير الأرقام التي تبرر هذا الواقع إلى ذلك بوضوح، حيث بلغت حصة الدولار في احتياطيات 146 بنك مركزي على مستوى العالم مع نهاية العام الماضي 64 في المئة من مجموع احتياطي العملات لتلك البنوك، واحتل اليورو ثانيا باستحواذه على 20 في المئة منها، بينما لم تتعد مساهمة الين الياباني والجنيه الإسترليني الـ 5 في المئة ، هذا دون الحديث عن اليوان الصيني الذي لم تبلغ احتياطاته في تلك البنوك ما قيمته 108 مليار دولار أمريكي مشكلة بذلك نسبة تقل عن 1 في المئة.
كما أن اللجوء إلى سلة من العملات في التعاملات الاقتصادية بين الدول المتأثرة من السياسة الاقتصادية الأمريكية الجديدة لا يمثل حلا ناجعا على المديين المتوسط والطويل، وسرعان ما تعود الأمور إلى سابق عهدها بعد تراجع الولايات المتحدة عن إجراءاتها التي ستضر باقتصادها فهي لن تتمكن من الصمود مطولا لحرب اقتصادية تشنها على أقطاب الاقتصاد العالمي ودوله الوازنة في منظومته.
مرحلة فرض السيطرة
إن بروز الولايات المتحدة كقوة عالمية غداة الحرب العالمية الثانية أخذ مظهرين لطالما شكّلا منطلقا وأداة لسياستها الخارجية بعد خروجها من العزلة الدولية الإرادية ودخولها مرحلة فرض السيطرة والسعي نحو الهيمنة على العالم، تمثل المظهر الأول في قوتها العسكرية التي بلغت ذروتها مع تفجير القنبلتين النوويتين الشهيرتين؛ وقد كان هذا الحدث بمثابة الإعلان عن ميلاد تلك القوة وتنبيه دول العالم المؤثرة فيه تحديدا على ضرورة الانصياع لإرادتها دوليا، أما المظهر الثاني فتمثل في قدراتها الاقتصادية التي جسدها بشكل واضح فرضها للدولار كعملة دولية أولى غير قابلة للمنافسة ومهيمنة على التجارة الدولية.
و يشكل مظهر القوة الاقتصادية حجر الزاوية في ظاهرة هيمنة الولايات المتحدة على دول العالم، حيث أن انهيارها الاقتصادي سيؤدي إلى انتزاع مقدرتها على شن الحروب الاستباقية والمزعومة فيما يعرف بالحرب على الإرهاب الدولي، ويشل قدرتها على مواصلة استراتيجيتها في حماية الكيان الصهيوني، فيحيلها إلى مجرد قوة عسكرية رادعة ينحصر مجالها ومداها العسكري داخل حدودها الإقليمية.
و قد أثبتت سياسة ترامب العدائية الأخيرة والتي مست الاتحاد الأوربي وروسيا والصين والهند وتركيا أنّ العالم اليوم أحوج ما يكون لتصحيح مسار منظومة بروتون وودز التي تشكل مؤسساتها أضلع مثلث النظام الاقتصادي الدولي؛ ونتحدث في السياق عن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والمنظمة العالمية للتجارة، والذي أثبت أنه نظام مجحف وقائم على هيمنة الولايات المتحدة واستحواذها على القرار الاقتصادي الدولي داخل تلك المؤسسات التي تبدو من الناحية الشكلية تابعة للمجموعة الدولية، غير أنها في حقيقة الأمر خاضعة لإرادة الإدارة الأمريكية التي تتعامل معها التزاما أو تملصا حسب ما يخدم مصالحها القومية والاقتصادية.
ابتلاع اقتصاديات الدول
إن الاقتصاد الدولي المرتهن للدولار الأمريكي لا يعدو أن يكون مجرد فقاعة ضخمة سيؤدي انفجارها إلى كشف الحجم الحقيقي للاقتصاد الأمريكي وإعادته إلى مستواه الواقعي، وفضح صلته بالأزمات والمشاكل الاقتصادية التي تشهدها الدول والمنظومات الاقتصادية الإقليمية والدولية بين الفينة والأخرى والتي سببها تعمد الولايات المتحدة تضخيم حجم ديون دول العالم المقدرة بالدولار الذي لا تعكس قيمته عالميا الحجم الحقيقي للاقتصاد الأمريكي صاحب هذه العملة؛ التي تطبع منها الإدارة الأمريكية بالكمية التي تريد فتسبب المزيد من المآسي للشعوب حتى تتمكن من تكبيلها بديون تتضاعف بشكل رهيب ولا تستطيع الدول المغلوب على أمرها سداد خدمتها فضلا عن أصولها فتصبح بذلك رهينة للإملاءات والشروط والضغوط الأمريكية في صورة تعكس مدى الإبتزاز والإذلال المرتبطين بسياسة الهيمنة الدولية للولايات المتحدة الأمريكية.
انتهاك للسيادة
يبدأ تصحيح المسار بالتأسيس لمنظومة اقتصادية دولية موازية للنظام الاقتصادي الحالي؛ تكون أكثر عدالة وتضمن كرامة الشعوب والأمم ، من منطلق استحالة إصلاح مؤسسات بروتون وودز وإيقاف النزعة الأمريكية في ابتلاع اقتصاديات الدول ومقدراتها المالية والطبيعية، وهو تصرف يعكسه شرهها غير المحدود في مراكمة رؤوس الأموال التي تنهبها وتكدسها في خزانتها العامة وبنوكها التجارية عبر سلوكها الاقتصادي الدولية غير القانوني.
و مع بداية تشكّل موقف دولي متمركز حول الأزمة التركية سيكون من المفيد جدا بعد فك الارتباط بالتعامل التجاري البيني بالدولار واللجوء إلى سلّة من العملات إلى جانب العملات المحلية في تمويل المبادلات التجارية، وقبيل مرحلة المرور إلى اعتماد عملة دولية تكون بديلا حقيقيا عن الدولار الأمريكي، وحيث أن إجراء كهذا يحتاج إلى إنشاء مؤسسة نقدية ومالية دولية تضطلع بدور إصدار هذه العملة الدولية؛ من المفيد أن تتفق الدول المناوئة للسياسات الاقتصادية الأمريكية حول اتخاذ عملة إلكترونية دولية تأخذ طابعا رسميا وقانونيا كواسطة للتبادل التجاري بين الدول ريثما يتم التوصل إلى اتفاق حول العملة الورقية الدولية؛ حيث أنه من غير اليسير التوصل إليها في الوقت الحالي فإن ذلك قد يأخذ سنوات ليست بالقليلة.
و قد شكل تجاوب هذه الدول بعدما شجعها صمود تركيا أمام قرار ترامب؛ رغبة دولية واضحة في التصدي للضغوط الأمريكية وانعكاساتها على استقرارها السياسي والاقتصادي، فقد كان إبداء تضامن تلك الدول ووقوفها إلى جانب تركيا بمثابة بداية تشكّل وعي دولي كبير بمخاطر سيطرة العملة الأمريكية على مفاصل الاقتصاد الدولي.
لو أفلحت الدول المستاءة من الهيمنة الأمريكية على اقتصادياتها ومن الانتهاك الصارخ لسيادتها في إنجاح هذا المسار، فستكون الطريق أمامها سالكة لتصحيح المنظومة السياسية الدولية عن طريق إدخال إصلاحات على هيئة الأمم المتحدة وميثاقها وإضفاء المساواة والعدالة في إدارة ملفات السياسة الدولية داخل مؤسساتها، حيث أنه وبعد النجاح في تحييد الولايات المتحدة من هيمنتها الاقتصادية المرتبطة بالدولار ستكون مسألة الضغط عليها وإرغامها على الإذعان لإصلاح المنظومة السياسية الدولية أمرا ممكنا.
إنّ أيّ فشل في الاستثمار الصحيح للأحداث الأخيرة المتصلة بفرض الولايات المتحدة إملاءاتها على دول وازنة في المنظومتين الدوليتين السياسية والاقتصادية، وتلوينهما بمزاجيتها المتقلبة التي أصبحت تعكس نفسية دونالد ترامب المتعجرفة والمتغطرسة؛ سيؤدي إلى مزيد من الهيمنة الأمريكية على العالم وإلى تماديها في اختراق سيادة الدول بسهولة أكبر ولأتفه المبررات وأدنى المسوِّغات.
وسوم: العدد 786