انتهت المسرحية ولكن كيف؟ ( الصراع الجيبوتي الإريتري )
قبل شهر ونيف ، رفضت جيبوتى زيارة الرئيس الصومالي لإريتريا ، ووقعت أزمة بسببها ما بين حكومة جيبوتى ، وحكومة الصومال ، وأصدرت جيبوتى بيانا شديد اللهجة بطريقة غير ديبلوماسية ، ولَم يعتذر الجانب الصومالي كما طالبت الحكومة الجيبوتية ، بل ذهبت جيبوتى إلى المجلس الدولي ، وطالبت منه عدم رفع العقوبات من إريتريا ، ولكن ما الذي تغير من اللعبة حتى تقبل جيبوتى ما كانت ترفضه سابقا ؟ ولماذا قبلت استقبال الوفد الإريتري المصاحب مع وفدي الإثيوبي ، والصومالي ؟ ما هي الجهة التى تضغظ ؟ هل وراء العملية ضغوط دولية ، أو إقليمية ؟
لدينا فى المنطقة كما قلت فى مقال سابق حراك سياسي من نوع جديد ، فكل قواعد اللعبة تتغير ، بل كل قواعد الحياة السياسية بدأت تتحرك من جديد ، والغريب أن الإنسان الذى لا يساير الأحداث بشكل يومي يجد نفسه فى خارج السياق ، والأحداث لا تجرى بلا مقدمات ، ولكن المقدمات غير مرئيّة بوضوح لمن لا يساير الأحداث بشكل شبه يومي ، فهناك تغييرات جذرية فى داخل كل دولة ، وتغييرات عميقة فى نوعية الأفكار السائدة فى المنطقة ، بل وهناك صراعات غير واضحة فى المنطقة ، فليس عبثا أن يرجع الرئيس السابق للصومال السيد حسن شيخ فى هذا الظرف ، ومن تركيا ، وليس أمرا عاديا أن يتنازل بقوة السيد جيلة ، رئيس جيبوتى من الموقف المتشدد السابق ، كما أنه ليس من المستبعد أن يقبل أفورقى كما تؤكد لى معلومات شبه مؤكدة فى قبوله للجلوس مع المعارضة الإريترية ، كل ذلك ، يجرى فى المنطقة ، وبتسارع غير عادي ، فالسؤال ، من وراء ذلك ؟
كيف تنتهى المسرحية ، الصراع الجيبوتي - الإريتري بهذا الشكل ؟ ولماذا عاد الرئيس السابق للصومال إلى الوطن ؟ ولماذا هذه المرحلة بالذات ؟ هل ثمة تحريك للرمال فى المنطقة بشكل عشوائي حينا ، وبشكل مخطط حينا آخر ؟ من يحرّك الرمال ؟ هل الدكتور أحمد آبي وحده هو الذى يخطط تحريك الرمال ؟ ولماذا ؟ ولصالح من ؟ ولماذا يسرع فى تحريك الرمال ؟
ما دور القوى الخليجية فى التحريك ؟ أين موقع الإمارات من الصراع ؟ ومن وراء التحريك ؟ وأين موقع قطر وتركيا من العملية ؟ من وراء من ؟
هناك قراءة واضحة للمشهد السياسي فى القرن الأفريقي ، وهو أن قواعد اللعبة تتم بعيدة عن جيبوتى ، فليس لجيلة بصمة كعادته سابقا فى المشهد السياسي الجديد ، ومن هنا لاحظنا أمرين فى تسارع الأحداث ، وهما أن الدكتور أحمد آبي يريد أن يخلط الأوراق بسرعة ، وأن يصنع قرنا أفريقيا جديدا ، يختلف عن القرن الأفريقي القديم فى كثير من الأمور ، ولأجل تحقيق ذلك ، فهو لا يتوقف عن العمل فى تقارب وجهات النظر ، وصناعة قرن أفريقي خال من التوترات ، وإذا نجح فى ذلك ، فإنه يضع الدولة العميقة فى إثيوبيا أمام حالة جديدة ، ومأزق سياسي نوعي ، أما الأمر الثانى ، فهو أن الجميع فى المنطقة وجد نفسه فوق السفينة ، ومن تأخر عن الركوب كالنظام السياسي فى جيبوتى التحق مؤخرا ، وخاصة حين علم بأن السفينة لا تنتظر أحدا ، بل استيقظ النظام السياسي فى جيبوتى بعد سباته العميق بأن موانئ إريتريا صارت بديلا محتملا بشكل قوي ، ولهذا تم الإتصال إلى المجتمعين فى أسمرا من قبل ( جيلة ) فى وقت متأخر من الإجتماع ، وأكّد لهم بأنه مستعد للركوب فى السفينة ، ولهذا لاحظنا بأن النظام الإريتري هو الرابح كما ذكرت فى المقال السابق ، بينما النظام السياسي الجيبوتي يسجل فى كل تحركاته الفشل ، بل يلاحظ فى تحركاته الأخيرة التخبط والتعثر فى المواقف .
يعيش النظام السياسي فى إريتريا حالة من السعادة الذاتية فى هذه الأيام ، ومن هنا نجد من الإعلام صورا جديدة تنبئ عن نسخة جديدة من السيد أفورقي ، فقد تغير من حالة العبوس إلى حالة الرضا ، فهو مبتسم دوما ، لأنه وجد من خلال الدكتور أحمد آبي نافذة سياسية للتعامل مع العالم ، بينما يعيش جيلة فى حالة يتم سياسي ، وهذا هو الذى جعل النظام جيلة يتعثر فى المواقف السياسية ، فهو الآن مستعد للدخول فى المفاوضات بلا شروط سياسية ، ذلك لأنه عرف بأن الخريطة السياسية فى القرن الأفريقي تُرسم من جديد ، وبعيدا عن جيلة ونظامه .
من وراء تحريك الرمال ؟
……………………………… لا شك فى أن الخريطة السياسية متداخلة فى القرن الأفريقي ، وليست من السهولة أن نفهم ما يجرى دون أن نقرأ جملة من الأحداث ، وبشكل مستمر ، ومركّز ، وأن نحاول قراءة الأحداث ، ونربط المنطقة بالصراع الجارى فى الإقليم ، والصراع الدولي ، فلا يمكن فهم السياسة المحلية والإقليمية بدون هذه القراءة . لدينا معطيات أربعة ، ويحتاج كل معطى إلى وقفة خاصة ، ودراسة متأنية ، ولكن من المنهجية أن نحيط شيئا من هذه المعطيات لأجل تجلية الأوضاع ، وقراءة المستور ، وفهم المجهول ، والغوص فى أعماق الموضوعات :
أولا : لا بد من فهم ظاهرة ( الدكتور أحمد آبي ) ، من هو هذا الرجل ؟ ماذا يريد ؟ كيف وصل إلى القرار السياسي ؟ وكيف استطاع أن يكون رقما صعبا فى القرار السياسي ؟ ولماذا نجح فى تجاوز الديناصورات السياسية فى القرار السياسي ؟
لدينا خريطة سياسية وفكرية من الرجل ، وهي ثلاثية التكوين ، ومن لا يقرأ تلك الثلاثية بشمولية فهو يقع فى أخطاء منهجية ، فالرجل متعلم ، ولديه شهادة عليا من جامعات علمية معتبرة ، ثم إن الرجل عمل فى كل حياته فى الداخل السياسي ، فكان واحدا من صانعى القرار ، ومن الذين عملوا مع الأحزاب الحاكمة ، والأمر الثالث هو أن الرجل عمل فى الدائرة الأمنية ، وتدرب فى الغرب ، وإسرائيل ، وترقى فى دائرة المخابرات والمعلومات الأمنية حتى وصل منها القمة ، وبهذا يعتبر هذا الرجل من القلائل الذين يجمعون فى داخلهم المعارف الدقيقة ، والمهارات السياسية والأمنية .
ثانيا : لدينا فى المنطقة صراع خطير ، وغير خفي ، ما بين الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى ، والصين كقوة صاعدة ، ولكل واحدة منهما أهدافها ، ومصالحها الحيوية ، ومن الإجتماع الأخير بين الصين والدول الافريقية تأكد بأن الصين ماضية ، وبدون تراجع نحو القارة ، وستكون هي فى العقد القادم القوة الأولى والحقيقية فى القارة الأفريقية ، ويكون هذا الوجود على حساب الغرب ، وخاصة الأوربيين ، ومن هنا تتحدث الدوائر الإستخباراتية فى الغرب أن الصين كقوة قد تصبح إستعمارا جديدا ، ولكن الولايات المتحدة ، وخاصة الدولة العميقة فيها لا تقبل أن تتنازل لصالح الصين القارة الأفريقية ، ولهذا نجد مطالب حقيقية فى الدخول فى منافسة شرسة مع الصين من قبل بعض الجهات المتنفذة من الولايات المتحدة .
ثالثا : إن الصراع الإقليمي ، والذى يحمل فى طياته الإستراتيجية العدمية ( الصراع الصفري ) قائم فى المنطقة ، وله تداعياته الخطيرة ، وخاصة ما بين القوى الحقيقية ، قطر وتركيا من جانب ، والسعودية والإمارات من جانب آخر ، فهذا النوع من الصراع يتجلى فى بعض الأحيان القرارات ، والمواقف ، وتحريك الرمال تحت الأقدام .
رابعا : غياب الفكر الإستراتيجي من المنطقة ، وبناء المواقف على الإرتجال والعفوية ، والعمل بدون نفس سياسي بعيد المدى ، كل دلك واضح فى التحركات الأخيرة ، فقد وجدت من الحراك السياسي الأخير غياب البعد الإستراتيجي ، والقائم على النظر فى الفعل ومآلاته .
لقد دخلت المنطقة صراعات سياسية خطيرة ، قديمة وحديثة ، ولكن لا توجد حتى اليوم جهات محترمة قامت بدراسة الأسباب ، والنتائج ، ولأجل هذا أصبح الناس فاقدى الذاكرة ، لا أحد قام بدراسة عميقة عن الحروب التى جرت فى منطقة القرن الأفريقي بين المسلمين والمسيحيين ، بل ليست هناك جهة محترمة درست الحرب فى الصومال الغربي ، وهذه كانت سببا رئيسيا ، ومباشرا فى سقوط الدولة فى الصومال ، وليس هناك أحد من أبناء المنطقة يعرف أسباب الصراع الإريتري الجيبوتي ، ومن هنا أؤكد بأن الصراع كان قريبا من لعبة سياسية أكثر مما هو حرب لأجل الأرض كما يقولون .
قبلت حكومة جيبوتى بدون شروط ما رفضته سنوات ، ولَم يتنازل النظام السياسي فى إريتريا عن مواقفه السابقة ، ولكن الوزيرين تعانقا ، وكأن الحرب انتهت ، ولهذا قلت : انتهت المسرحية بشكل مضحك ، فلا وزن للكلام السابق من حكومة جيبوتى ، بل الوزن كله هو رفع التلفون فى مساء الإجتماع من قبل ( جيلة ) بعد أن عرف أن الأسطول الإثيوبي قرر الرحيل من موانئ جيبوتى إلى موانئ إريتريا ، فكانت الكارثة ، بل كانت الرحلة نحو المجهول من جديد بلا بوصلة .
فى الصومال حراك سياسي من نوع جديد ، هناك حراك على مستوى رؤساء الأقاليم ، وحراك آخر على المستوى الفيدرالي ، وحراك ثالث على المستوى السياسي ، ومرتبط بتعيينات السياسيين الكبار فى مناصب شبه قيادية كما جرى للدكتور عبد الرحمن باديو ، والذى تم تعيينه كمستشار للدولة فى شؤون المصالحة ، وعودة الدم الجديد فى المشهد السياسي بقيادة الرئيس السابق ، فلا شيئ تحت الطاولة ، ولكن لا بد من فهم التحركات السياسية الأخيرة من خلال الخريطة السياسيةالجديدة .
تنتهى مسرحية خطيرة ، ولكن تبدأ مسرحية جديدة ، ومن هنا فلا بد من وعي سياسي للشعوب ، والتى تنتظر المسرحيات فقط ، فينحصر دورها فى الإنفعال ، والحديث ، والسبب هو ان الوعي ليس مشوشا فقط ، بل هو مُغيّب .
وسوم: العدد 789