أوسلو ومأساة النوايا الحسنة
منذ قيام دولة اسرائيل في 15 أيّار –مايو- 1948، وحتّى اتفاقات أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية واسرائيل في عام 1993، كانت اسرائيل تملأ الدّنيا صراخا وبكاء حول رغبتها "في السّلام"، حتّى أنّها استطاعت ومن باب العلاقات العامّة تضليل العالم بذلك، وشجّعها على ذلك رفض الدّول العربيّة لأيّ علاقات سلميّة معها، مع أنّ الرّئيس المصريّ أنور السّادات خرق الاجماع العربيّ عندما زار اسرائيل في اكتوبر 1977 وألقى خطابا في البرلمان الاسرائيلي"الكنيست"، وما تبع ذلك من من توقيعه لاتفاقات كامب ديفيد التي أخرجت مصر من دائرة الصّراع العربيّ الاسرائيليّ.
وعندما ضغط الرّئيس الأمريكيّ جورج بوش الأب على اسرائيل لحضور مؤتمر مدريد عام 1991: كمكافأة للأنظمة العربية التي شاركت في حرب الخليج الأولى، عبّر اسحاق شامير رئيس الوزراء الإسرائيليّ عن موقف اسرائيل بوضوح، عندما قال: سنفاوض العرب عشر سنوات ولن نعطيهم شيئا، علما أنّ النظام العربيّ الرّسميّ خضع للضغوطات وتخلى في ذلك المؤتمر عن فكرة الوفد العربيّ الموحد، وارتضت منظّمة التحرير المشاركة ضمن الوفد الأردنيّ.
وبعدها جرت مفاوضات سريّة بين منظمة التحرير واسرائيل في أوسلو، تمخّضت عن توقيع ما عرف "باتفاقات أوسلو" في ساحة البيت الأبيض في 13-9-1993.
وبينما كانت المفاوضات السّرّيّة جارية بين المنظمة واسرائيل، صدر كتاب بنيامين نتنياهو “Aplase between nations” وترجم إلى العربيّة تحت عنوان"مكان تحت الشّمس"، طرح فيه رأيه في السّلام المتمثل، بعدم إقامة دولة ثانية بين النّهر والبحر، وطرح الأردنّ وطنا بديلا للفلسطينيّين، مع عدم الانسحاب من أيّ شبر من الأراضي المحتلة في حرب حزيران 1967، بما في ذلك هضبة الجولان السّوريّة المحتلّة، وقال أنّ العرب هم المستفيدون من هكذا سلام "لأنّه إذا اجتمعت الانتلجينسيا اليهوديّة مع الأيدي العاملة العربيّة فإنّ الشّرق الأوسط سيزدهر"! وأنّ اسرائيل ستساهم في حلّ مشكلة المياه في سوريّا! أيّ أن السّلام الذي تريده اسرائيل هو أن تكون اسرائيل سيّدة الشّرق الأوسط جميعه، وأنّ العرب سيكونون مجرّد "حطابين وسقائين" حسب التعبير التّوراتيّ.
وقد قبلت منظّمة التّحرير بنوايا حسنة باتفاقات أوسلو، التي تنصّ على تأجيل قضيّة المستوطنات والقدس إلى المرحلة النهائيّة، التي سيتم الوصول إليها عام 1999. وكذلك اعترفت المنظمة بدولة اسرائيل مقابل اعتراف اسرائيل بالمنظّمة، وفي حين اعتبرت القيادة الفلسطينيّة أنّ المفاوضات ستؤدّي إلى قيام دولة فلسطينيّة، إلا أنّ اسرائيل يبدو أنّها خطّطت من خلالها إلى إنهاء دور منظمّة التحرير والحركة الوطنيّة الفلسطينية جميعها، وأن الاتّفاقات ستكون فرصة لها لترسيخ الاستيطان وتكثيفه، وأنّ أقصى ما يمكن أن تعطيه للفلسطينيّين هو ادارة مدنيّة على السّكان دون الأرض. وقد استغلّت اسرائيل غطاء المفاوضات وضاعفت المستوطنات وأعداد المستوطنين عشرات المرّات، وفرضت حقائق على الأرض تجعل قيام الدّولة الفلسطينيّة أمرا خياليّا. وحتى اسحاق رابين "بطل سلام الشّجعان" الذي وقّع اتفاقات أوسلو واغتاله متطرّف يهوديّ عام 1996، لم يكن مع دولة فلسطينيّة، ففي مقابلة تلفزيونيّة مع نبيل شعث عضو اللجنة التنفيذيّة لمنظّمة التّحرير قال:"رابين قال أنّه مع أكثر من إدارة مدنيّة وأقلّ من دولة." وهذه صيغة مبهمة لكنها شديدة الوضوح بعدم موافقته على إقامة دولة فلسطينيّة.
وواضح أنّ الادارات الأمريكيّة المتعاقبة التي كانت ترعى المفاوضات، كانت تساهم في استغلال الوقت لإتاحة الفرصة لاسرائيل لتنفيذ مخططاتها، وفرض حقائق على الأرض لمنع قيام الدّولة الفلسطينيّة، وجاءت إدارة الرّئيس الأمريكيّ ترامب لتكشف القناع الزّائف عن وجه أمريكا، ولتعلن سياساتها بشكل واضح تجلّى، باعتراف أمريكا يوم 6 ديسمبر 2017 بالقدس عاصمة لاسرائيل، وبنقل السّفارة الأمريكيّة من تل أبيب إلى القدس، وقطع التمويل عن السّلطة الفلسطينيّة، ومحاولة شطب حقّ العودة للاجئين من خلال قطع التمويل عن وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيّين، "الأنروا" لانهاء هذه الوكالة، ووقف الدّعم المالي عن مستشفيات القدس، واغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن. وما سبق ذلك من تمويل ودعم القوى الظلاميّة التكفيريّة التي تعيث دمارا وقتلا وتخريبا في سوريا، واجبار أنظمة عربيّة على تطبيع العلاقات مع اسرائيل، وتعاون أمني معها ومع أمريكا، وتحالفات عسكريّة مع اسرائيل لمحاربة ايران نيابة عن أمريكا، مع تصفيه جناح الممانعة المتمثل بسوريّا وحلفائها، تمهيدا لتصفية القضيّة الفلسطينيّة لصالح المشروع الصّهيونيّ التّوسّعيّ.
ومعروف أنّ المساعدات الأمريكيّة للسّلطة الفلسطينيّة تأتي ضمن الالتزام الدّولي لدعم السّلطة الفلسطينيّة كنتاج لاتفاقات أوسلو التي ضمنتها أمريكا. وقيام السّلطة الفلسطينيّة ودعمها ماليّا جاء لتبرئة وإعفاء اسرائيل من تكلفة احتلالها للأراضي العربيّة، فأصبحت مستفيدة ماليّا وأمنيّا وسياسيّا واقتصاديّا، ويبدو أنّ قطع المساعدات عن السّلطة الفلسطينيّة يأتي تمهيدا للقضاء عليها، ولافساح المجال لاسرائيل لضمّ مناطق"ج" حسب تصنيف أوسلو، في حين تبقى المدن والقرى الفلسطينيّة تحت إدارة مدنيّة على السّكان وليس على الأرض، وجاء قرار اسرائيل لقانون القوميّة، وأنّ اسرائيل "وطن قومي لليهود" لمنع إقامة الدّولة الواحدة، ولمنع الفلسطينيّين من أيّ حقوق مدنيّة في أماكن تواجدهم في الأراضي المحتلّة.
وأمريكا التي تتنكّر للقانون الدّولي، ولقرارات الشّرعيّة الدّوليّة بخصوص القضيّة الفلسطينيّة ساهمت مع اسرائيل في تدمير "اتفاقات أوسلو"، مع أنّ أمريكا هي الضّامن لهذه الاتفاقات.
ويخطئ من ينتظر الاعلان عمّا يسمّى "صفقة القرن" فأمريكا واسرائيل تقومان بتطبيقها بندا بندا من جانب واحد، والنّظام العربيّ المتاخذل يساعد في ذلك، أو على الأقل فإنّ السّكوت علامة الرّضا، مع التّأكيد بأنّ القادم أكثر سوءا.
وسوم: العدد 789