عناصر جديدة في الصراع السوري

ظهرت شعارات معارضة للنظام الكيماوي، في شهر تشرين الثاني الماضي، على جدران بعض مدن وبلدات محافظة درعا، كما لو كان تكرراً للشرارة التي أطلقت الثورة السورية، قبل نحو ثماني سنوات في المنطقة نفسها.

ففي ذلك الزمن، اعتقلت أجهزة المخابرات عدداً من أطفال درعا اتهمتهم بكتابة شعارات، كان أشهرها «اجاك الدور يا دكتور»، وعرضتهم لتعذيب شديد، أدى إلى مقتل عدد منهم، ورفضت مناشدات أهاليهم لإطلاق سراحهم. وباقي القصة معروفة.

جاء ظهور هذه الشعارات الجديدة بعدما سيطرت ميليشيات النظام على «مهد الثورة» في إطار الخطة الروسية المسماة بـ«مناطق خفض التصعيد» التي كانت نتيجتها سقوط ثلاث منها في يد النظام، ولم يبق غير الرابعة، محافظة إدلب وبعض جوارها، وهي مهددة بالمصير نفسه، مع وقف التنفيذ، مؤقتاً، بفعل اتفاق سوتشي بين روسيا وتركيا.

الجديد الذي يمثله هذا الحدث هو أنه أول إشارة إلى بداية مقاومة شعبية ضد النظام في مناطق يسيطر عليها.

تعززت تلك الإشارة بأحداث أخرى كالهجومين المسلحين على مواقع لميليشيات النظام في بلدتي اليادودة والصنمين، أديا إلى مقتل عدد من عناصرها. ثم كان هناك تفجير في موقع آخر لقوات النظام في مدينة درعا، قتل فيه ستة ضباط برتبة ملازم، تخرجوا حديثاً من الكلية الحربية. وأعلنت «حركة المقاومة الشعبية» عن نفسها باسمها المكتوب على بعض الجدران.

من المبكر جداً، في الوقت الحالي، الحديث عن انطلاق مقاومة مسلحة ضد النظام، أو التكهن بحجمها، أو ما يمكن أن تقوم به من عمليات في مقبل الأيام. فمن الطبيعي أن تكون حركة من هذا النوع حريصة على السرية الشديدة، بالنظر إلى الظروف الصعبة للعمل في مناطق يسيطر عليها النظام. حتى المقاومة المدنية لا يمكنها أن تكون إلا سرية، تستغل ظلام الليل لكتابة شعارات على الجدران أو توزيع منشورات في المناطق السكنية. مع توقع كلفة بشرية باهظة إذا بدأ النظام بالرد، فهو لا يتقن غير حرق ما يعتبره الحاضنة الشعبية لأي معارضة مدنية أو مسلحة، بحيث يجعل أي مقاومين محتملين يتخلون عن العمل درءاً للعمليات الانتقامية بحق السكان. واقع الحال أن تلك المؤشرات الأولية لمقاومة شعبية ظهرت، أصلاً، رداً على عمليات انتقامية قامت بها ميليشيات النظام، من اعتقالات وقتل تحت التعذيب لعدد ممن سلموا أنفسهم في إطار «المصالحات»، فضلاً عن التعامل مع سكان تلك المناطق كجيش احتلال لا روادع تقف في وجهه.

حتى المقاومة المدنية لا يمكنها أن تكون إلا سرية، تستغل ظلام الليل لكتابة شعارات على الجدران أو توزيع منشورات في المناطق السكنية. مع توقع كلفة بشرية باهظة إذا بدأ النظام بالرد

بالمقابل، لا يمكن استبعاد أنواع من العمليات العسكرية ضد ميليشيات النظام، في كل المناطق التي سيطر عليها النظام، بعد سنوات من خروجها عن سيطرته، للسبب نفسه، أي لأن النظام يتعامل مع تلك المناطق بدافع ثأري لا يخلو من الطائفية، فينهب البيوت المهجورة، وينكل بالسكان، ويمنع من نزحوا من العودة إلى بيوتهم، ويقوم باعتقالات، ويجند الرجال في صفوف ميليشياته. أمام كل هذا القهر والإذلال، سيكون هناك دائماً من يفضلون احتمال الموت على العيش كعبيد تحت سلطة قوة قاهرة، بصرف النظر عن الجدوى السياسية لأي مقاومة من هذا النوع. بل يمكن لدافع الثأر وحده أن يشكل سبباً كافياً لعمليات تستهدف ميليشيات النظام والميليشيات الأجنبية «الرديفة» التي استجلبها من لبنان والعراق وغيرهما.

تزداد فعالية عامل الشعور بالقهر، إذا انتهت الحرب فعلاً بتسوية سياسية مجحفة تبقي على النظام، كما يريد حليفاه الروسي والإيراني، وتكرس ما جرى من تغيير ديموغرافي في بعض المناطق، ويُفرض على عموم السكان نظام عبودية لا يمكن لكائن بشري أن يتحمله. ففي هذه الحالة المفترضة سيوجد دائماً أناس يتساوى عندهم الموت وحياة العبودية. أما هل يمكن لحالات من هذا النوع أن تشكل مقاومة فاعلة لها هدف سياسي قابل للتحقيق، فهذا يتوقف على شروط التسوية التي يفترض بها إنهاء حالة الحرب. فإذا نظرنا إلى فشل محاولات المفوض الأممي المستقيل ديمستورا في تشكيل اللجنة الدستورية، وحالة الحرب المجمدة مؤقتاً حول إدلب، وغياب أي توافق دولي حول الحل السياسي، سنرى أن نهاية الصراع وبداية التسوية ما زالتا بعيدتي المنال. وسيكون محكوماً على أي عمليات مقاومة، في الوقت الحالي، بأن تبقى عمليات منفردة، لن تؤثر على النظام وحلفائه، بل قد تكون له تداعيات مؤلمة على السكان المدنيين.

أما في مناطق سيطرة النظام المستدامة، أي تلك المناطق التي لم تخرج في أي وقت عن سيطرته، فمن الواضح أن هناك استسلاما كاملا أمام القوة الغاشمة، وهي صورة عن الوضع الذي يريد النظام فرضه في جميع المناطق الأخرى التي استعادها في السنتين الأخيرتين. تطرح تكهنات غير واقعية عن أن البيئات الموالية ستعارض النظام ما أن ينتهي «الخطر الخارجي» الذي دفعهم للاحتماء بالنظام، أي بعد القضاء على المجموعات المسلحة الإسلامية. صحيح أن ظروف العيش في تلك المناطق ليست مقبولة، وأن الميليشيات الموالية تتصرف خارج سيطرة النظام، لكن تلك البيئات قد خسرت أي فرصة لمعارضة النظام بعد سكوتها، في أحسن الافتراضات، على ما لحق بالسكان في مناطق سيطرة المعارضة المسلحة من عمليات إبادة وتهجير.

تبقى منطقتان: أولها مناطق سيطرة الأمريكيين، شرقي نهر الفرات، خارج كل التوصيفات السابقة، حيث تسيطر قوات «قسد» وعمادها قوات كردية مدعومة من الولايات المتحدة. فمصير تلك المناطق رهن بالسياسة الأمريكية المتذبذبة التي لا تستقر على حال، والهواجس الأمنية التركية. وهناك جو مشحون، تحت الرماد، له طابع التوتر العربي ـ الكردي بسبب مسالك «قسد» وانتهاكاته بحق السكان. والثانية مناطق سيطرة المجموعات المسلحة التابعة لتركيا، في «درع الفرات» وعفرين.

هذا التصنيف لمختلف المناطق السورية، يعني فيما يعنيه، غياب إطار تحليلي موحد للحالة السورية. فلكل منطقة ديناميات خاصة ومنطق مختلف. وهو ما يجعل من أي مشروع مقاومة شعبية تلي الحرب ضرباً من الإعجاز.

وسوم: العدد 803