الرقمنة في الوطن العربي بين حسن أوسوء الاستعمال والتوظيف
أغرتني الندوة التي نظمتها جمعية النبراس للثقافة والتنمية بوجدة بالشراكة مع كلية الآداب بجامعة محمد الأول ، ووزارة الثقافة في موضوع : الهوية الرقمية للمجتمعات العربية بالإدلاء بدلوي في هذا الموضوع الذي يحظى باهتمام كبير لدى الرأي العام العربي نظرا لولوج العالم العصر الرقمي بوتيرة سريعة على إيقاع الرقمنة المتسارع والتي تحمل كل يوم جديدا ومبهرا يغري البشرية بالإقبال الكبير عليها .
ويفترق الناس في الوطن العربي في تعاملهم مع الرقمنة بين منبهر مقبل عليها بلهف ، وبين متوجس منها يحذرها أشد الحذر، إلى جانب فريق ثالث يحاول التوفيق بين موقف من يقدمون عليها بانبهار وبين موقف من يحجمون عن التعامل معها.
وهذه المواقف من الرقمنة في العالم العربي انبثقت من قضية كيفية استعمالها وتوظيفها ،ذلك أن أصحاب الموقف المنبهر لهم طريقتهم الخاص في التوظيف والاستعمال ، بينما المتوجسون يفضلون مقاطعتها .
والمنبهرون بالرقمنة وهم تحت تأثير الانبهار لا يبالون بما تقدمه لهم ، ويستهلكونه دون تمييز بين غث أو سمين أو بين ضار ونافع ، ولا يكادون يشعرون أن هذه الرقمنة تغير يوميا من سلوكاتهم وطباعهم ، وتصنعهم على النمط الذي خطط له صنّاعها ، وشأن هؤلاء المنبهرين كشأن من نقل من بيئته إلى بيئة أخرى وألزم بالتكيف معها وقد نقل إليها قسرا ،فأخذ في التكيف السلبي متخليا لا إراديا عما لقنته له بيئته الأم، وكأنه تحت تأثير مخدر لا يعي ما الذي يحدث له .
ولما كان صنّاع الرقمنة معظمهم من العالم الغربي الذي يطبعه التوجه العلماني ، فإن المنبهرين بها يتشربون النظرة العلمانية للحياة لأنها تقدم لهم على أساس أنها النظرة الصحيحة والوحيدة وأنها نظرة متطورة إلى الحياة على غرار التطور الحاصل في تكنولوجيا الرقمنة ، فيحصل بتلك النظرة الانبهار بها تماما كما حصل بالرقمنة، الشيء الذي يعني الاستعمال والتوظيف السيء لها عند هؤلاء لأنها تصير مجرد أداة لتطويعهم من أجل التكيف القسري مع النظرة العلمانية المعولمة مقابل التنكر غير الواعي للنظرة التي نشئوا عليها في بيئتهم الأم بل والوقوف منها موقف العداء والإنكار، لأنها في نظرهم تحول دون أن يلحقوا بركب تلك العلمانية المعولمة التي تشربوها من خلال الاحتكاك الرقمي بها .
ومقابل المنبهرين نجد المتوجسين من الرقمنة والذين دفعهم توجسهم إلى القطيعة التامة معها تماما كما تفعل الشعوب البدائية حين تغزوها مظاهر التحضر أو التمدن، فتنزوي في أدغالها خوفا من الغزو الذي تعتبره شرا ووبالا عليها . ويحمد المتوجسون الله على مقاطعتهم للرقمنة، لأنهم لم يصابوا بما أصيب به المنبهرون بها ، ويفخرون بذلك ، وهذا أسوأ تعامل مع الرقمنة عن طريق مقاطعتها والذي لا يقل سوءا عن سوء توظيف المنبهرين لها، لأنهم لا يستغلونها لتحقيق وجودهم أمام هيمنة غول العولمة العلمانية المبتلعة لكل ما لا يتبنى نظرتها إلى لحياة، وبذلك يعيش المتوجسون عزلة عن عالم الرقمنة في وقت صار فيه العالم عبارة عن قرية صغيرة بما تتيحه هذه الرقمنة لسكان المعمور وهي تزحف بأسرع وتيرة والمتزايدة باستمرار . ويحتاج المتوجسون من الرقمنة والمقاطعون لها زمنا معتبرا لاستدراك ما فاتهم من الأشواط التي قطعتها ، ومعرفة ما أحدثته من آثار سلبية في المنبهرين بها من بني جلدتهم .
وبين المنبهرين والمتوجسين من الرقمنة يوجد الذين يحرصون على حسن استعمالها وتوظيفها واستغلالها عن طريق الصمود أمام تأثيراتها السلبية ، وعلى رأسها الدعاية للعلمانية المعولمة ، والاستفادة مما تتيحه من فوائد لكن دون قطيعة معها أو تخلف عن مسايرتها ، مع الوعي التام بما تفعله من أفاعيل في المنبهرين بها.
ويذكرني ما تحدثه الرقمنة من تأثيرات إيجابا وسلبا بمقولة للمفكر والسياسي الجزائري عبد الله جاب الله الذي سألته يوما مذيعة في برنامج تلفزيوني عن وجهة نظره في الفن باعتباره قائدا ومنظرا لحركة إسلامية كانت تريد قيادة البلاد ،فشبهه في جوابه بالسكين ، وشوهد الاندهاش واضحا على وجه المذيعة وقد سبق إلى تفكيرها أنه يرفض الفن إلا أنه استرسل في كلامه وبطريقة هادئة ومتزنة موضحا أن نفس السكين الذي يستعمل لتقطيع التفاح أولقشر الرمان يمكن أن يستعمل لقتل الإنسان ، فكذلك الفن يكون بانيا كما يكون هادما حسب طريقة الاستعمال والتوظيف . وكالسكين والفن يمكن للرقمنة أن تبني وأن تهدم حسب طريقة توظيفها واستعمالها .
وهكذا نجد الرقمنة تجمع بين ما يعتبر بناء وهدما بالنسبة للمجتمعات العربية . أما الهدم ،فهو نقل الإباحية في المجتمعات العلمانية بكل أشكالها والتي يحصل بينها وبين المنبهرين بالرقمنة مع الأسف الشديد تطبيع ، فضلا عن نقل المواد العابثة المضيعة للوقت والتي يصرف فيها المنبهرون وقتا ثمينا هم أحوج ما يكونون إليه لصرفه فيما يحتاجونه في حياتهم مما يعود عليهم بالنفع والفائدة. إن شرائح طويلة عريضة في الوطن العربي خصوصا شرائح الشباب تستهويهم المواد العابثة التي تقدمها الرقمنة حتى أنها تستغرق منهم وقتا طويلا يصرفونه من وقت الدراسة والمذاكرة حتى أنهم يلازمون هواتفهم الخلوية وهم في الفصول الدراسية والدراسة جارية على قدم وساق .وبالرغم من إحالتهم من طرف المدرسين على المواد المفيدة ، فإن ما يستهويهم هو المواد العابثة التي يدمنون عليها .
ولقد خلقت الرقمنة شرخا كبيرا في الأواصر العائلية والأسرية بموادها العابثة حيث ينزوي كل أفراد العائلة وهم مدمنون على تلك المواد كل واحد منهم يبدو كالمجنون وهو يضحك وحده أويحدث نفسه ، وقلما يلتفت الواحد إلى الأخر ، وإذا حصل ذلك كان من أجل إحالته على المواد الرقمية العابثة .
وأما البناء ،فهو نقل مختلف المعارف والعلوم بكل تخصصاتها والتي تستهوي من يطلبونها ، وتوفر عليهم جهد طلبها في مضانّها بسبب التطور الهائل في طرق وأساليب وسرعة نقلها والتعامل معها رقميا .
ولقد أزالت الرقمنة الحواجز بين عموم الناس وبين المفكرين والعلماء ، وصار الجميع يجالسهم ، وينصت إلى محاضراتهم ومناظراتهم كما لو أنهم في مدرجات الجامعات والمعاهد العلمية ، فضلا عن كونها تنقل إليهم الخزانات الضخمة من كل أرجاء المعمور التي حولت الورقي إلى الرقمي . وتوظيف هؤلاء للرقمنة يكون إيجابيا ، ويستغلونها الاستغلال الأمثل، لأنهم يصرفون وقتهم فيما يفيد وينفع ضاربينا صفحا عن كل عبث لا طائلة من ورائه .
وهناك فئة من الذين يحسنون التعامل مع الرقمنة من الذين يواجهون غول العلمانية المعولمة ، وينبهون المنبهرين إلى سلبياتها وخطورتها عليهم من خلال نشر وجهات النظر المقوضة لوجهات نظرها ، وهؤلاء يقضون مضاجعها ويقلقونها ، ولا تملك أن تحول دون وصولهم إلى المنبهرين بها وتنبيههم إلى مساوئها ومخاطرها بسبب انفتاح الرقمنة على الجميع .
ومقابل هؤلاء تساهم فئة أخرى في تسويق الفكر الهادم الذي توفره الرقمنة ، وتستغل هذه الأخيرة من أجل الدعاية لتوجهاتها المنحرفة ، والمعادية لهوية الأمة الدينية ، والتي تدفع في اتجاه نقل المجتمعات العربية إلى ما تسميه مجتمعات مدنية أو علمانية لا مكان فيها للإسلام أو ينحصر الإسلام فيها في زاوية ضيقة لا تعدو ممارسة العبادات دون أدنى تأثير في الحياة اليومية . وهؤلاء يزيدون باستغلالهم للرقمنة في خطورة تأثيراتها السلبية على المنبهرين بها .
وعليه لا تصح أبدا فكرة اعتبار عموم المواطنين في الوطن العربي لا يحسنون التعامل مع الرقمنة ، أو أنهم جميعا مستلبين بما تقدمه لهم من غث .
وأخيرا نأمل أن يحصل وعي لدى الشرائح الطويلة العريضة المنبهرة بالرقمنة في وطننا العربي ،والتي لا تستفيد منها شيئا بل تصرف الوقت الثمين فيما تقدمه لها من مواد عابثة وفي نفس الوقت تشكل عليها خطورة كبيرة.
وسوم: العدد 807