جمهورية العشائر ودولة القانون
كثرت في الآونة الأخيرة اللقاءات والاجتماعات و"المؤتمرات" العشائريّة، ويأتي هذا كله في ظلّ ازدياد الخصومات والنّزاعات التي يتسبّب بها جاهل، ويغرق في مستنقعاتها الأفراد والعائلات والحمايل وغيرها، والسّؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هي الأعراف العشائريّة؟ ومن هم المؤهلّون لحلّ الخصومات العشائريّة؟ وهل الأعراف العشائريّة قادرة على حلّ النزاعات بين الأفراد والجماعات؟ وغيرها كثير. وفي الأراضي الفلسطينيّة المحتلة علينا الإنتباه بأنّها تعيش حالة فراغ سلطويّ، فالإحتلال يتحكّم بكلّ شيء، والسلطة الفلسطينيّة لا تملك السّلطة على أراضي الدّولة الفلسطينيّة العتيدة، وهذه فرصة سانحة للعشائريّة كي تنمو وتزدهر في حلّ الخصومات قدر استطاعتها، ومعروف أنّ العادات والتّقاليد أقوى من القانون في غياب من يحميه.
والأعراف العشائريّة ثقافة سائدة ومترسّخة في ذهن المجتمع، وهي موروثة من عصور الجاهليّة الأولى وحتّى يومنا هذا، وحتّى دولة الخلافة الإسلاميّة لم تستطع محو هذه الثّقافة من عقليّة مجتمعاتنا العربيّة، ولهذا فإنّ غالبيّة الدّول العربيّة لا يتعدّى كونها عن مجرّد تحالفات عشائريّة، اتّحدت على شكل دولة لمجاراة العصر الذي نشأت فيه الدّول. لذا فإنّ هذه الدّول لا تزال بعيدة عن المعنى الحقيقيّ للدولة المدنيّة التي يحكمها القانون.
لكنّ اللافت في الأراضي الفلسطينيّة هو النّشاط الملحوظ للعشائريّة التي يرى بعض من اتّخذوها مهنة لهم، أنّهم يعتبرون أنفسهم وكأنّهم المسؤولون عن السّلم المجتمعيّ، وأنّ البعض منهم قد اتّخذها وسيلة للكسب المّادّيّ، بل إنّ بعض الدّخلاء عليها استغلّوا العشائريّة، وأضافوا إليها التّستّر بعباءة الدّين، من أجل هضم حقوق الآخرين، أو الإستيلاء على أملاكهم، وهذا ملموس في بعض قرى شمال القدس التي غالبيّة سكّانها من المهاجرين، ممّا جعل عقاراتهم نهبا لمن لا يخافون الله، ولا يوجد من يردعهم عن ضلالهم.
وإمعانا في الضّلالة والتّضليل فإنّنا نرى من يصنّفون أنفسهم كأوصياء على حقوق النّاس من خلال ألقاب وهميّة يطلقونها على بعضهم البعض، وأحيانا يستغلّون طيبة قلوب بعض المسنّين لتحقيق مآربهم على سمعة هؤلاء، فنجد ألقابا مثل" عميد العشائر" وأمين سرّ ..." وعضو لجنة عشائر منطقة كذا" و"مستشار فلان من ذوي المناصب العليا للشّؤون العشائريّة" وكذا....
ومن اللافت أنّ الفراغ السّلطويّ شكّل بيئة خصبة للتّغوّل العشائريّ، حيث تضيع حقوق من لا عشيرة لهم لتحمي حقوقهم، وشعارهم :" إن كان الحيل بناطح الحيل فرسك بتخلّف مهير، وإن لم يكن ففرسك بتخلّف عجيل". ولهذا المثل حكاية طريفة لسنا في مجال ذكرها في هذه العجالة. لكنّ المضحك المبكي عندما تسمع بعض الدّخلاء على الأعراف العشائريّة، الذين يبدأون أحاديثهم في المناسبات العشائريّة بآيات من القرآن الكريم والسّنّة النّبويّة الشّريفة التي تحثّ على إصلاح ذات البين، وقد يخطئون بها، ومع ذلك فإنّهم ينطلقون من منطلقات يزعمون أنّها دينيّة! وأنّ أهدافهم هي مرضاة الله ورسوله وخدمة النّاس! والإصلاح بين المتخاصمين! وهم أبعد النّاس عن الدّين وتعاليمه، وحتّى عن الإصلاح العادل بين المتخاصمين، والأمثلة على ذلك كثيرة، ومنها جريمة قتل شابّ اشترك فيها عدد من القتلة من مناطق مختلفة، وعندما جاءت "الجاهة" لأخذ "العطوة" من أهل المغدور، أصرّ رأس الجاهة على أن يكون الحكم لله في هذه الجريمة، ومنذ ما يقارب السّنّة لم يعد الرّجل وجاهته لإكمال "العطوة" وإتمام "الصّلحة العشائريّة"، أي أنّه ترك الأمور سائبة، وتصرّفه هذا يحمل في طيّاته تحريضا على الأخذ بالثّأر، أو استخفافا بذوي الضّحيّة لضعفهم العشائريّ.
ومن العبث العشائريّ ما يسمّى بـ "الجلو" عندما يحكمون بجلاء عائلة قد يصل عدد أفرادها المئات عن بيوتهم، لأنّ واحدا من أبناء العائلة ارتكب جريمة قتل. وهذه عقوبات جماعيّة لا يقبلها عاقل. والأنكى من هذا " الثلاث المسربات المهربات" وهي الأيّام الثّلاث الأولى عند وقع جريمة قتل، حيث يحقّ لأهل القتيل حرق ونهب بيوت وعقارات عائلة القاتل لمدّة ثلاثة أيّام دون حساب.
ومن اللافت أيضا في العشائريّة أنّ هناك عشائريّين "يلبسون ثوب المعتدى عليه" ويتحدّثون باسمه لعدم معرفته بالأعراف العشائريّة، وعندما يأتيه عشائريّون لأخذ "عطوة" تمهيدا للصّلح، فإنّ "لابس الثّوب" يكرم "لزملائه العشائريّين" بحقّ من ألبسوه ثوبهم، وهذه مقايضة بين الطّرفين لمناسبات أخرى تكون الأمور فيها معكوسة والحديث يطول.
وسوم: العدد 808