الجديد في مفاوضات سد النهضة.. مصر عطشت
كما كان متوقعا، انتهت الجولة الخامسة من مفاوضات سد النهضة بمزيد من التسويف، إثيوبيا تضع العصا في العجلة، وأطراف النزاع كل له مشربه ويتضرر بنسب، وإن كان أحدهم سيتحصل على مكاسب تفوق أضراره، أما الآخر فالكابوس بدأ يتحول إلى حقيقة تملأ الواقع كما تملأ إثيوبيا سدها.
أزمة مصر في مفاوضيها وحالة التراخي التي يعيشونها، وغير معلوم إن كانت قلة خبرة أم أوامر، أم أن القيادة السياسية الحالية في البلاد لها دور في توجيه الوفد المفاوض. والأخيرة هي الأقرب، فمن يعرف كيف تدار الأمور في مصر، يدرك أن الجهات الأمنية التي تسيطر عليها القيادة السياسية هي من تتحكم في أدق تفاصيل حياة المصريين، بداية من الخبز انتهاء بالمسائل المصيرية كمياه النيل مرورا بتعيين حكم مباراة كرة قدم، ويروج لكل هذا إعلام يتلقى تعليماته من المخابرات.
دأبت إثيوبيا منذ بدأت المفاوضات على الاستفادة من عامل الوقت بشكل كبير، حتى مع تغير القيادة السياسية، فإن آبي أحمد عمل بنفس السياسة التي عمل عليها سلفه هايلي مريام ديسالين، فالقضية واضحة لدى الإثيوبيين ومساراتها مخططة مسبقا، لأن هناك دولة بمؤسساتها تعمل من أجل صالح شعبها.
اعتراضات الوفد المصري المفاوض وطلباته بإلزام الأطراف المتفاوضة بآلية تحكيم ملزمة، لم يلق صدى لدى المفاوض الإثيوبي ولم يحرك فيه ساكنا، فهدفه واضح، أما المفاوض المصري فكأنه يلعب على الشكل خوفا من الاقتراب من المضمون حتى لا ينكشف.
النظام المصري دخل المفاوضات وفي ذهنه أن ما يقدمه من خدمات على المستوى الإقليمي بحماية الاحتلال الإسرائيلي والتنسيق معه أمنيا في سيناء، أو محاربة الإسلام السياسي في مصر والسودان وليبيا، ومناكفته تركيا في البحر المتوسط، سيشفع له عند كل من أمريكا والكيان الإسرائيلي، ويجعلهما يضغطان على إثيوبيا من أجل إخراجه من الأزمة التي ستقلب عليه الشعب، لكن الحقيقة أن لا أمريكا ولا الاحتلال سيقدمان شيئا. فالأولى تريد دولة وظيفية بمعايير محددة، لا تلعب حبال السياسة كما يحاول النظام المصري بخطا غير مدروسة، ولا الاحتلال الإسرائيلي سيقبل بدولة مستقرة ناهضة. والغريب أن النظام يتغافل عن الدور الإسرائيلي في سد النهضة.
أما الأمر الآخر فهو تلك السياسة التي لم تترك صديقا للنظام ولا للشعب المصري، فتدخلات النظام في الشأن السوداني جعلت منه مكروها شعبيا في الداخل السوداني. وظنه أن حكومة السودان ستخضع لإملاءات العسكر هو ظن خاطئ، فالسودان تعيش ثورة لا تزال متقدة. وحادث المريض المسن الذي مات بالإهمال الطبي في مستشفى المطرية التعليمي منذ أيام، والذي كشفت عنه إحدى المصريات المترددات على المستشفى في مقطع مصور، ملأ وسائل التواصل الاجتماعي وأشعل نار الغضب في مصر وانتقلت شرارة الغضب إلى السودان. وهذا جعل النظام المصري وحيدا في مفاوضاته مع إثيويا، لا سيما أن السودان غير موقفه من السد بعد أن أيقن أن نفعه أكبر من ضرره عليه.
حالة العزلة التي تعشها مصر، ناتجة عن الأزمة التي تسبب فيها النظام المصري، فلا شك أن نظاما مستقرا منتخبا لا يستوي مع نظام منقلب جاء على دماء الشعب وحريته. فالأخير وهو يبحث له عن شرعية خسر كثيرا وأفقد البلاد الكثير من أوراق ضغطها وقبولها وأسلحتها الناعمة. وأي عاقل يمكن أن يعقد مقارنة بين مصر الخمسينيات والستينيات ومصر الآن، فلم يعد لمصر تلك المكانة الفاعلة في محيطها الأفريقي ولا حتى العربي.
لقد استفادت إثيوبيا كثيرا من الوضع الذي تعيشه مصر الآن، والتخبط الذي يدير به النظام في مصر البلاد. أزمات طبقات بعضها فوق بعض، أزمة شرعية وأزمة رؤية وأزمة سياسات وأزمة أولويات وأزمة توجهات وأحلاف، كلها تأخذ مصر بعيدا عن محددات سياستها الراسخة وتدخلها في تحديات الأمن القومي، في وقت يشهد فيه العالم تحولات كبيرة تستدعي من الدول التي تبحث لها عن مكانة في عالم ما بعد التحولات؛ أن تتأنى وتوازن وتعرف أين ستضع قدميها في ظل ثوابتها واحتياجاتها.
انتهت الجولة الخامسة من مفاوضات سد النهضة والأعمال مستمرة، والنظام المصري يبحث عن مبررات لا حلول، مبررات إعلامية يرضي بها الشعب أو بالأحرى يسكته ويكيد بها معارضيه، ولتذهب القضية إلى الجحيم، وهو ما يستلزم حراكا شعبيا فاعلا لحل الأزمة من خلال دبلوماسية شعبية، وحلولا اقتصادية لاستخدام المياه، ومبادرات من المخلصين في إيجاد البدائل، لأن خلاصة نتيجة الجولة الخامسة من المفاوضات هي أن مصر عطشت.
وسوم: العدد 881