النضال ضد "الأبارتايد" كجزء من الصراع الشامل مع الاحتلال
عقد في لندن في 31 أيار/ مايو الماضي مؤتمر حول مسؤولية بريطانيا ودول العالم الكبرى لمواجهة نظام الفصل العنصري "الأبارتايد" في فلسطين المحتلة، بمشاركة عدد من الشخصيات الحقوقية الدولية، وحضور عدد من المؤثرين والصحفيين البريطانيين والأجانب.
تكمن أهمية المؤتمر الذي عقده "المركز الدولي للعدالة للفلسطينيين" في اتجاهين، الأول هو البناء على التقارير الحقوقية المهمة التي صدرت العام الماضي عن منظمات "بيتسيلم" و"هيومان رايتس ووتش" و"أمنستي" وأكدت أن الاحتلال يمارس سياسات الفصل العنصري ضد الشعب الفلسطيني من النهر إلى البحر، والثاني أنه يساهم في فتح نقاش فلسطيني حول أهمية النضال ضد نظام الأبارتايد الصهيوني.
قد يقول قائل، وهل يحتاج النضال ضد الفصل العنصري لنقاش داخلي فلسطيني؟ والجواب نعم. لأن فريقا مهما من المناضلين والباحثين والكتاب الفلسطينيين يعتقدون أن هذا النضال قد يحرف عن الصراع الحقيقي بين الشعب الفلسطيني وبين الاحتلال باعتبار أن النضال ضد "الأبارتايد" يسعى لتحسين ظروف الفلسطيني تحت الاحتلال وليس إنهاء الاحتلال نفسه.
أ
سيناقش هذا المقال ضد هذه السردية، لاعتبارات سياسية وتاريخية وموضوعية.
قسَّم الاحتلال الشعب والأرض في فلسطين منذ النكبة عام 1948، وأكمل عملية التقسيم في حرب النكسة التي تصادف ذكراها هذه الأيام. لم يكن التقسيم فقط جغرافيا، ولكن الأهم والأخطر هو ما تبع التقسيم الجغرافي من انقسامات سياسية ونضالية، جعلت من المستحيل أن يجتمع الفلسطينيون على استراتيجية واحدة للصراع مع الاحتلال بسبب اختلاف واقعهم السياسي والقانوني والجغرافي.
لا يمكن للفلسطيني في الضفة الغربية أن يمارس نفس نوع النضال الذي يستطيع فلسطينيو الداخل وغزة والقدس والخارج أن يمارسوه، وينطبق الأمر على غزة التي تمتلك وضعا خاصا مختلفا تماما عن القدس والضفة والداخل. فيما يتوزع فلسطينيو الشتات بين بلدان مختلفة وقوانين متناقضة تجعل من اتفاقهم على صيغة نضالية واحدة ضربا من الخيال.
استفاد الاحتلال من هذا الواقع، وعمل على تعزيزه بالسياسة والقوة أحيانا، لضمان عدم الدخول في صراع شامل مع الشعب الفلسطيني يدرك الاحتلال أنه السيناريو الأخطر عليه. ولهذا فإن الفلسطينيين يجب أن يقاوموا بكل الطرق المتاحة، كل حسب واقعه السياسي والجغرافي، لأن من المستحيل أن يقاوم الجميع بنفس الطريقة.
ا
نذكر هنا في هذه المقاربة ما حدث في "انتفاضة أيار/ رمضان" في العام الماضي، حيث لم تكن "سيف القدس" هي فقط ما سبب الألم للاحتلال، بل الصراع الشامل المفتوح من قبل كل أبناء الشعب الفلسطيني، الذي اجتمعت فيه مقاومة الفصائل في غزة مع المقاومة الشعبية في الضفة الغربية، والمظاهرات والاعتصامات في القدس، والتمرد الشعبي في فلسطين المحتلة عام 1948، بينما شارك فلسطينيو الشتات في صناعة الرواية المقابلة والمناقضة للرواية الصهيونية من خلال الكتابات والنشاط على وسائل التواصل والمظاهرات والتحالفات مع القوى الغربية والعربية المؤيدة لفلسطين.
هذه الحالة الشاملة من الصراع هي ما خلق المأزق الصهيوني في رمضان/ أيار 2021، وهي التي دفعت الاحتلال للتفكير في وقف الحرب بعد ثلاثة أيام فقط، خصوصا بسبب ما يحدث في مدن الداخل واللد على سبيل التحديد. استطاعت مقاومة غزة أن تغير طبيعة الصراع في تلك المعركة، وأدت المقاومة الشعبية في الضفة لفتح جبهة جديدة على الاحتلال، وأحرجت مظاهرات واعتصامات القدس والشيخ جراح الاحتلال وضغطت عليه عالميا، وأسقطت اللد وأم الفحم أسطورة "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، وغيرت نشاطات وفعاليات فلسطينيي الشتات النقاش في الصحافة العالمية ما دفع الغرب وخصوصا واشنطن للضغط على قادة الاحتلال لإنهاء الحرب.
من هنا تأتي أهمية النضال ضد الأبارتايد، لأنه تساهم في صناعة فسيفساء المقاومة الشاملة، ولأنها تغير في النقاش العالمي الذي سينتقل تدريجيا من المنظمات الحقوقية إلى الصحافة الرئيسية في العالم ثم إلى المجال السياسي، (وهذا هو موضوع المؤتمر الذي عقد في لندن والمشار إليه سابقا)، وهذا ما حدث سابقا مع نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا. لا يوجد تناقض بين نضال فلسطينيي العالم مع أحرار العالم ضد نظام الأبارتايد، وبين النضال الفلسطيني في غزة والضفة ضد الاحتلال، وبين نضال فلسطيني الداخل المتعدد الأشكال ضد الاحتلال والعنصرية، بل هي عملية تكاملية. كل هذه النضالات تؤدي في النهاية إلى إضعاف الاحتلال وتسجيل نقاط في الصراع الطويل بين الشعب الفلسطيني وبينه.
في جانب آخر، استطاع الاحتلال بسبب قوته الغاشمة أن يرسم بعض قواعد الاشتباك مع المقاومة الفلسطينية. أظهرت الأحداث التي رافقت "مسيرة الأعلام" نهاية الشهر الماضي ذلك، وسببت "خيبة أمل" غير مبررة -وإن كانت مفهومة- لدى الكثيرين. لا يمكن لمقاومة غزة أن تدفع ثمن الصراع دائما، لأن الشعب المحاصر لا يستطيع ذلك وهذا أمر طبيعي، ولا يمكن لمقاومة أو حركة تحرر في أي مكان في العالم أن تجعل العدو هو من يحدد طريقة وتوقيت كفاحها، ولذلك فإن من الضروري أن يكون الصراع شاملا داخل وخارج فلسطين وفق ما تتيح الظروف ووفق خطة مرسومة فلسطينيا وليس كردة فعل على الاحتلال. قد يستطيع الاحتلال رسم قواعد اشتباك في غزة بسبب القوة العسكرية الهائلة، وقد يستطيع كبح جماح المقاومة الشعبية في الضفة والقدس و48، ولكنه لا يستطيع أن يسيطر بعد الآن على الرواية خارج فلسطين المحتلة، وهنا تمكن أهمية النضال ضد الأبارتايد.
قام الاحتلال كمشروع استيطاني أوروبي في فلسطين، واستمر بدعم القوى الغربية التي عملت على ضمان تفوقه العسكري والاستراتيجي والاقتصادي. ولا يمكن لهذا الاحتلال أن يستمر إذا تحول إلى عبء على هذه القوى الغربية، وإذا فقد دعمها متعدد الأشكال.
لن يتحول الاحتلال إلى عبء إلا إذا اجتمعت عليه المقاومة في غزة، والنضال الشعبي في الضفة والقدس، والمقاومة المدنية في فلسطين الداخل، والنضال الإعلامي والسياسي ومقاومة نظام الأبارتايد في الشتات.
وسوم: العدد 984