نستذكر عطر بعض شهداء الثمانينيات رياحين الربيع العربي "1 "
بمناسبة دخول الثورة السورية سنتها الخامسة
نستذكر عطر بعض شهداء الثمانينيات
رياحين الربيع العربي "1 "
مؤمن محمد نديم كويفاتيه
مع دخول ثورتنا السورية علمها الخامس ، والتي تُعتبر الأنقى والأعظم والأطهر ماعلى الأرض من ثورات ، والتي سُمّيت بالكاشفة أستذكر هنا بعض رياحين الجنّة من الرعيل الأول ممن بذلوا أرواحهم ودمائهم من أجل حريتة شعبهم وكرامته ، ممن سطروا بدمائهم الزكية أروع ملاحم البطولة والفداء ، ليكونوا شعلة لمن يأتي بعدهم ينير لهم الطريق ، بعد أن كانوا هداة مهديين لطريق الحق ، عندما استطاعوا باخلاصهم لله وتفانيهم من أجل دعوة ربهم أن ينير درب الكثير ممن كان لاهياً عن الله وواجبه نحو وطنه ، فكان من هؤلاء التلاميذ الشهداء ممن قضى نحبهم ، ومنهم من انتظر وعمل طويلاً رغم كل المآسي التي أحاطت بهؤلاء على إشعال الثورة ، لتتوج معاناتهم التي استلهم منها الثوار المعاني الكثيرة ، وعملهم الدؤوب رافداً مهماً لاشعال الثورة السورية الكبرى ضد الطغيان والإستبداد 15 مارس آذار 2011 ، والتي دخلت عامها الخامس دون كلل أو ملل رغم تواطؤ العالم ضد ثورتنا ، وكان من تلك الرياحين الشيخ الشهيد الربّاني موفق سيرجية رحمه الله الذي تتلمذ على يد كبار علماء سورية ومنه الشيخ طاهر خيرالله والشيخ العالم الرباني عبدالله علوان الذي علمه وآخرين الفقه ودربهم على الخطابة ، وكان منهم على سبيل المثال الشيخ مجد مكي والمهندس الشهيد وليد عطار الذي كتب بدمه وهو ينزف تلك العبارة الشهيد وليد عطار ، وهؤلاء وآخرون من كانوا منارة أهل السبيل الراقية والواسعة بعدما كانت مظلمة ، تلك المنطفة المخملية قدمت الكثير من أبناءها وقوداً لثورة الثمانينيات ، وامتداتها لثورة 2011
الشيخ الشهيد الرباني موفق سيرجية رحمه الله
لم يكن موفق سيرجية انساناً عادياً بل استثنائياً بكل ماتعنيه الكلمة ، إذ نشأ في أسرة متحررة بعيدة عن هموم الدين والدنيا والناس وهو من مواليد 1956 ، كان والده رحمه الله يعمل في تجارة الأفلام السينمائية ، وأمه لم تكن ملتزمة ، وأعمامه والجو المحيط به في فساد كبير ، ومع ذلك كان التزامه كبيراً بأمور الدين والدعوة حتى استطاع تغيير والديه والعديد من اسرته فيما بعد لما يملكه من دماسة الخلق وحسن المعشر وحلاوة الروح الفكهة التي يتحلّى بها مع الجدية في تناول الأمور ، وكان مع أصدقائه ومحبيه الكثيرين نعم الصديق والأخ ، ولاتفارق البسمة وجوههم عند لقاءه ، وكان خطيباً المعياً يجتمع الى خطبته المئات ، حتى أن جامع عباد الرحمن يمتلئ بطابقيه وداخل أروقة المستشفى وعلى الأرصفة يأتونه من كل أنحاء مدينة حلب ليستمعوا الى خطبه المؤثرة في الدعوة الى الله ، والجريئة في انتقاد النظام ، فلم يبالي حينها بالكثير من التهديدات التي تصله ، وكان نظام الاجرام متخوفاً منه ومن أمثاله من ثورة تقوم حينها لتتوج فيما بعد بثورة الثمانينيات التي قضى فيها شهيدا مع ثمانية من اخوانه في الصاخور ، لينطبق عليهم قوله تعالى " من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا "
وكان الشيخ الشهيد لايهتم بنفسه كثيراً سوى بملبسه أثناء خطبة الجمعة ، وكانت معرفتنا به عندما كان يسكن مع والديه في حي السبيل ، حيث عرفه أبناء حيّه من خلال مداومته على صلاة الجماعة في المسجد أثناء ذهابه وإيابه فتأثروا به ، ومن ثم كانوا من الحاضرين لخطبته ، وانتقلوا بعدها الى أمام جامع الروضة عند سوره الشمالي ، وكان من حفّاظ الشعر والمناظرين به ، وكان قد درس في كلية الشريعة بعد تركه للمعهد الهندسي ن وكان ذكياً فطناً لمّاحاً وخطيباً المعيا صدّاحاً بالحق ولايخشى في الله لومة لائم ، ومحاوراً مقنعاً يجذب محاوره اليه بصدق حديثة وقوّة حجته واخلاصه لله سبحانه ، كانت الحرية وعنفوان الشباب تملأ جوانحه ، اعتلى منبر جامع عباد الرحمن على صغر سنّه ، فكان من أشهر وأقوى خطباء مدينة حلب ، فقصده البعيد والقريب والصغير والكبير وحتى أعدائه كانوا يتابعون كل كلمة يقولها ، ولازلت أذكر خطبته الوحيدة التي لم أحضرها وبالتالي لم أسجلها ، والتي تكلم بها عن منافقي ذلك العصر وقصد محمد الشامي والمطران كبوجي وأمثالهم ، وهم في يومنا كثر ، فكان الشيخ الشهيد من أهم الوعاظ لمنطقة السبيل المخملية والموجهين لها الى الخير مع شباب أمثاله آنذاك كالمهندس الشهيد وليد عطّار الذي سطر بدمه الذكي وهو ينزف عبارة " الشهيد وليد عطار " ، والشيخ الجليل مجد مكي حفظه الله الذي لازلنا ننهل من بحر علمه وأخرون امثالهم ، وكان له تأثيره الواضح على أسرته فأباه الذي ضاقت به الدنيا فيما بعد بسبب التضييق عليه ، والذي أصبح يعمل في محل سفريات لم يكن يقطع الصلاة ، وكذلك أمّة التي أُصيبت بألم شديد بعد استشهاده ، فتأتي بعد خطبة الجمعة لتحرض الناس للقيام على النظام الفاشي وأخته تحجبت والتزمت دينها عدا عن العديد من أبناء عمومته وأخواله ، ويجب ألا ننسى قصة فتح قبره بعد 7 سنوات كما رواها أصحابها والتي سأضعها خاتمة المقالة فماذا وجدوا ؟
أما على صعيد العمل العام ، فلقد تخرج من تحت يديه وإخوانه العديد من الفئات العمرية الشابّة كان منهم الدعاة والمجاهدين والشهداء ممن استشهدوا في ساحات الوغى ثم لحق بهم الشيخ الشهيد موفق رحمهم الله جميعا ، ومنهم من تمت تصفيته في سجون تدمر الأكثر اجراماً والشهيرة باقامة المذابح داخلها لمئات المعتقلين الاسلاميين ، ومنهم الرعيل الأول من الشباب ممن قضى إعداماً ونشرت صور بعضهم ، ومنهم من انتظر وثابر واستمر حتى استقرت عيناه بثورة الحرية والكرامة الربيعية في آذار – مارس 2011 المجيدة ، فعملوا عليها جنوداً مجهولين ، بعضهم من وراء الكواليس لصعوبة الموقف عند قيام الثورة ، والآخر قدّم الكثير متلاحمين مع شعبنا المجاهد البطل ، ليسطروا جميعاً ملاحم وبطولات فاقت الخيال رغم تآمر العالم أجمع على ثورتنا وإرادة شعبنا ، وهم مُستمرون حتى اسقاط رأس الإجرام العالمي بشار الأسد ونظامه المشين ، وإقامة الحياة المدنية العادلة بعيداً عن الارهاب والاجرام ، تماماً كما كنا نعيش في السابق يجمعنا الوطن الواحد ، عبر القيم السامية ، دون تمييز بين فئات الشعب ، مهما تآمر علينا المتآمرون ، وخذلنا الخاذلون ، فثقتنا بالله كبيرة ، متكلين عليه سبحانه وحده لاشريك له
قصة فتح قبر الشيخ الشهيد موفق سيرجية كما رواها صاحبها حيث قال :
أنّ أباه رحمه الله علم بمكان دفن ابنه الشيخ الشهيد موفق سيرجية رحمه الله ، وذات يوم بعد سبع سنوات من استشهاده أعلنت محافظة حلب عن نيتها نقل المقبرة المدفون فيها الشهيد الى خارج حلب لجعل مكانها حديقة كما ذكروا ، وطلبوا من أهالي الموتى بنقل رفاة ذويهم لمن أراد ، فكانت فرصة الأب ليتعرف يقينياً على مكان رقاد ابنه الشهيد وينقله الى مكان متأكد أنه يضم رفاة ابنه موفق فذهب الأب وفتح القبر وكانت المفاجأه إنه أي الشيخ موفق وصاحبه بجانبه كما هما لحظة دفنهما منذ سبع سنوات وياهول المفاجأة ، فإندفع الأب وضم ولده موفق وقال ما ظننت أن ألقاك هكذا يابني بعد هذه المده وكأنك حي وقد حُرمت من تسلم جسدك الحبيب... وحتى أنه ذكر أن الذي كان رفيق الشيخ موفق في قبره يرتدي بنطالاً أصفر لم يتغير لونه ... فقام والد الشهيد و حفار القبور بسحب الشهيد وأخذا سيارة وضعاه في المقعد الخلفي وذهبا به لمقبرة أخرى ، حتى بدايةً ظن سائق السيارة أنه جريح فسألهما إلى أية مشفى ... وذكر لي والده بأنَّ رائحتهما فيها قليل من طيب وأن الشاب الشهيد موفق مصاب فوق عينه اليسرى فمسح بأصبعه على الجرح فقال كأنه حبر قلم البيك الأحمر " كما شبهه الأب " أحمر لزج صبغ أصبعه ، والأب بعد عودته للمنزل لم يحتمل هذا المشهد إذ قلب عليه المواجع يوم استشهاده ومقتل أخيه قبل سنة ففاضت عيناه من الحزن والفرح بنفس الوقت ، وبعداها أصابه الاعياء والمرض... وصديقي هذا كان ممن يرعى والد ووالدة الشهيد في حاجياتهم اليوميه لمجاورته لهم ومازال صديقي هذا حي يرزق ومازالت القصة في رأسي حيّة أيضاً ...
حادثة الشهادة التي استشهد فيها الشهيد موفق سيرجية ومن كان معه كما رواها أصحابها
أستشهد الشيخ الشاب في معركة بحي الصاخور لم يكن هو من إختارها إنما كانت نتيجة لوشاية دلت على موقع تواجده هو ومجموعة من إخوانه في منزل بمزرعة تقع بين طريق الباب والطريق المؤدي للصاخور في حلب في تاريخ 17/02/1980 م بعد أن كان هدفاً للنظام ولمدة عام .. ظن النظام أنه بإستطاعته مباغتهم وإلقاء القبض عليهم أحياء إلا أن الله قدر أن يتنبه الشباب للقوات المحاصرة للمكان التي فاجأوها بمقاومة شرسة دامت قرابة سبعة ساعات لم يجد النظام إلا أن يرمي عليهم قذائفه الآثمة ويسقط عليهم المنزل ويدمره فكانت النتيجه نفاد عدد ليس بالقليل من قوات النظام وإستشهاد كلٍ من الشيخ الشاب موفق سيرجيه عن عمر لا يتجاوز 23 سنة و الشهيد أيمن الخطيب الذي أرعب النظام وأيمن علوان من أقارب الشيخ عبد الله ناصح علوان خطيب جامع عمر بن عبد العزيز في منطقة محطة بغداد في حلب و هيثم حزاني و فخر زنجير وباسل كسحة وشاب من بيت بيلوني وآخر من بيت آلا ... رحم الله الشباب وتقبل منهم جهدهم وجهادهم ورزقنا شفاعتهم ثمانية شباب من زهرات مدينة حلب الشهباء بذلوا أرواحهم لتكون شهادة عز وكرامة وبذرة حرية نقطف ثمارها اليوم و الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ..
من مقولات الشيخ الشاب ... كان يصف الشهاده لإخوانه فيقول : " الشهاده دح .. لمين ماكان ما بتصح " كما أنه كان يقول الشهاده مثل الورده الجميله في البستان عندما تأتي النحلة إلى البستان تحط على أجمل ورده لتمتص رحيقها ، و الشهادة تأتي للصفوة المختارة من أكرمهم الله سبحانه وتعالى بها " .
وللشهيد سلسلة من التسجيلات بعد ملاحقته وحديثه فيها عن الجنة ونعيمها وفضل الشهداء عن غيرهم ونحو ذلك
صدقوا الله فصدقهم ولم يبدلوا تبديلا .
كان خبر إستشهاده قاسياً على والدته التي فقدت من قبله أخاه الأكبر في حادث سيارة ...
كيف تم التعرف على أنه قد أستشهد ... عمد النظام الأسدي في الثمانينات إلى دفن كل من يقوم بإعدامهم بصمت وفي مقابر مجهولة ودون تبليغ ذويهم مع طمس هوياتهم لأنهم على علم بأن كثيراً من الشباب الذي قضوا على يديه كانوا من الأبرياء فلكي لا يكون تحت المساءلة ....
فكان والد الشهيد موفق بشكل دوري يخبر حراس المقابر وحفارين القبور أنه إذا أحضرت الدولة شهداء لتدفنهم في السر أن يخبروه ولهم طبعاً مكافأة مالية مجزية فوالده كان من الميسورين ودارت الإيام إلى أن أخبره أحدهم بأن عصابات النظام قد أحضرت ثمانية من الشهداء ودفنتهم في أربعة قبور لكل قبر إثنان وفعلاً وبعد كشف القبر الثاني تبين له إستشهاد ولده موفق وكما أخبر في حينها بأن مصاب بطلقة على حاجبه فوق عينه اليسرى ... تم تحديد القبر ووضع شاهدة عليه ... رحم الله سوريا وأهلها كم عانوا من هذا النظام الحاقد الجائر ... اللهم نصرك الذي وعدت ... وعقابك الذي توعدت به الطاغين الفاسدين المفسدين ..
ولما بلغ الشيخ عبدالله علوان نبأ استشهاده وجد عليه وجدا شديدا وذرفت عيناه –وقلما كانت تذرف على فقيد-فخزنه على موفق لم يبلغه حزنه على نبأ استشهاد ابنه البكر سعد-رحمه الله وجمعنا بهم جميعا في مستقر رحمته – ولا عجب في ذلك فقد وجد الشيخ عبدالله في موفق قرة عينه حيث كان فيه جملة من المواهب والمقدرات في خدمة الدعوة إلى الله تعالى مالم يجده في بنيه وأقاربه فصقلها حتى خرجت إلى الدنيا ولما كادت زهرة الدعوة تتفتح لتبث من أريجها للمسلمين حتى اغتالتها أيدي الغدر والخيانة فكان من وفاء الشيخ عبدالله لتلميذه موفق أن ألف عنه كتبيا-وهذا من العجائب أن يؤلف الشيخ عن تلميذه فأين تلامذة الشيخ عبدالله اليوم ؟ الذين تقاعصوا أن يولفوا عنه كتابا واحدا!.
تسجيل نادر- حلب 1979 الشهيد الشاب موفق سيرجيه خطيب جامع الرحمن - ردة المجتمع ودور الشباب المسلم