لحظة انتظار في مطار
لا يخلو إنسان من أن يأتي عليه حين يجد نفسه في مطار يكون إما مسافرا أو مودعا لمسافر أو مستقبلا له . ومع أن السلوكات البشري في كل المعمور واحدة في ارتياد المطارات سفرا وتوديعا واستقبالا نظرا لتشابه الإجراءات بها ، فإن الثقافات المختلفة تضفي عليها مما تتمايز به عن بعضها البعض .
وبالأمس وجدتني في مطار أنجاد بمدينة وجدة الذي أرتاده غالبا مستقبلا لمسافر أو مسافرين من عشيرتي الأقربين أو مودعا لهم ، واتخذت لي مكانا بمقهى المطار، واغتنمت فرصة انتظار رحلة ابنتي القادمة من مدينة الدار البيضاء لأجيل بصري فيما يحدث داخل قاعة المطار لأنني لست ممن تشغلهم هواتفهم الخلوية عن تأمل ما يدور حولهم من أحوال الناس .
و خطر ببالي أن أجري مقارنة بين المسافرين سفر ذهاب ، وسفر قدوم ،والمودعين لهم وداء ذهاب ، واستقبالهم استقبال قدوم ، فعاينت أحوالا جديرة بالاهتمام ، ذلك أن المسافر في ثقافتنا المغربية، ومن يودعه أو يستقبله تكون له تصرفات وأحوال خاصة أهمها طغيان العاطفة، وهو ما أريد الوقوف عنده تحديدا حيث يكتسي غالبا توديع المسافر صبغة شبه جنائزية حيث تدر العيون الدموع بسخاء بين المسافر ومن يودعونه ، وهم في الغالب كثر ، ويكون فيهم دائما الأكثر دموعا، والأكثر تأثرا ممن معه من المودعين ، ولا يخلو منهم من يواسيه أو يعاتبه إشفاقا على المسافر المودّع الذي تغلبه هو الآخر الدموع غالبا ، وقليل من يغالبها . ويكون عناق المودع أشد حرارة حين يكون السفر إلى بلد يعيد أو تكون مدة الغياب عن الأحبة طويلة. والغريب أن بكاء الوداع غالبا ما يكون معديا ـ إن جاز التعبيرـ حيث ينتقل من مجموعة مودعين إلى أخرى لأن طبيعة الإنسان المغربي عاطفية إلى أقصى الحدود . ويكون الوداع أكثر عاطفة حين تودع الأمهات الأبناء أو البنات . وغالبا ما تكون الإناث سباقات إلى البكاء بدموع سخية نظرا للطف جنسهن. ومع أن دموع الذكور غالبا ما تكون شحيحة نظرا لخشونة جنسهم ، فإنها تكون أكثر تعبيرا عن شدة التأثر ، ومن كان أصبر على البكاء، ومع ذلك يغلبه ، فإنه يكون أشد تأثرا من غيره . وإذا كانت دموع الأمهات غالية ، فإن دموع الآباء تكون أغلى باعتبار الطبيعة التي فطر الله تعالى عليها الأمومة والأبوة .
وفي الجانب المقابل للوداع في المطار يصطف من يستقبلون أحبتهم تحدوهم اللهفة لرؤية من يشتاقون إلى رؤيتهم ، وتشرئب أعناقهم نحو بوابة الوصول . والمستقبلون كالمودعين فهم غالبا ما يكونون كثرا ،وفي أغلب الأحيان يصطحبون معهم صغارهم ،الشيء الذي يضفي على الاستقبال نكهة خاصة خصوصا وأن الصغار يملؤون قاعة الانتظار حيوية ونشاطا بلعبهم وحركاتهم ، وهم أول المستقبلين للقادمين ، والأشد عناقا لهم .
وخلاف وجوه المودعين البادية الحزن ، تعلو السعادة وجوه المستقبلين إلا أن القاسم المشترك بين هؤلاء وأولئك هو الدموع لكن شتان بين دموع الوداع التي يغلب عليها الحزن ودموع الاستقبال التي يطبعها الفرح . وهكذا نجد داخل قاعة المطار الواحدة خليط من المشاعر الجيّاشة حزنا وفرحا .
وإذا ما كانت مشاهد الوداع معدية، تنتقل من مودعين إلى آخرين ، فإن مشاهد الاستقبال تكون هي الأخرى معدية حيث تنتقل من مستقبلين إلى آخرين إلا أن المشترك بين الجميع هو المشاهد العفوية غالبا ، باستثناء بعضها التي لا تخلو من بعض التكلف . ومما يلاحظ في طقوس الاستقبال ما يشبه المباهات بين المستقبلين خصوصا من تدور بينهم أحاديث لتزجية وقت الانتظار، فيسرون إلى بعضهم البعض بأخبار من ينتظرونهم من أحبتهم، فتتكوّن لديهم أفكار وتصورات عن القادمين وإن كانوا لا يعرفونهم حسب الطريقة التي يقدمون بها لهم ، الشيء الذي يجعل المستقبلين ينخرطون في نوع من المباهاة فيما بينهم عن قصد في الغالب، ودون قصد أحيانا .
ومما أثار انتباهي وجود فرقة فلكلورية خارج قاعة المطار تعزف ألحان الجهة الشرقية على شرف استقبال الوافدين قريبا من أجواء ابتهاج الاستقبال ،وبعيدا عن ممر المغادرين ،وعن أجواء الوداع الحزينة .ولست أدري هل كان الوافدون ومن يستقبلونهم يغمزون أكف أعضاء الفرقة بشيء مما يدخل السرور على أنفسهم أم أنهم كانوا يجودون عليهم فقط بابتسامات إعجاب لا تخلو في الغالب من سخرية خصوصا في زمن طغيان الغلاء ، وقد أصر صانعونه عمدا وعن سبق إصرار على المضي في تكريسه إلى أجل غير معلوم إلا أن يشاء الله عز وجل رفعه عن البلاد والعباد كما رفع الوباء .
ومما سجلته رحلة يوم أمس مساء أن طائرة من الخطوط الملكية المغربية القادمة من العاصمة الاقتصادية طوحت بركابها في رحلة دون مكيف لما يقرب أو يزيد من الساعة في أجواء الوطن وفي عز صيف حار حرارة فوق العادة . ومع كثرة احتجاج الركاب ،لم يبال طاقم الطائرة باحتجاجاتهم بل صمّوا آذانهم دونما اهتمام بمعاناة صغار وعجزة لم يتنفسوا الصعداء إلا بعد مغادرة جحيم طائرة بلا مكيف . ولقد خالط حديث غياب المكيف أحاديث الاستقبال حيث بادر بعد التحية والعناق كل مستقبل ـ بفتح الباء ـ بمستقبليه ـ بكسرها ـ بحديث عطل المكيف ، ولا يخفى ما يصاحب الاحتجاج في ثقافتنا المغربية من أوصاف قدحية ينعت بها من يحتج ضدهم، وأقلها أنهم في الغالب أولاد حرام .
كانت هذه لحظة انتظار في مطار بما فيها من لقطات محزنة وأخرى سارة في آن واحد سجلتها لأنها غالبا ما لا يتطرق إليها أحد مع أنها من صورة من صور عاداتنا وثقافتنا التي نعتز بها أيما اعتزاز على ما يعتريها مما يعتري كل الثقافات من انتقادات .
وسوم: العدد 990