الحمام بين الهواية والتجارة
لا تخلو سماء أي مدينة من سرب من الحمام ، يجوب السماء ، يحلق عالياً تارة ، وبمستوى سطوح البنايات تارة أخرى ، وإن أمعنت النظر في السطوح ، ستكتشف إن هناك شخصاً أمسك بطرف عصا بينما ربط في الطرف الأخر كيس نايلون أسود (علاكه) يلوّح بها للسرب ، وفي فمه صفارة يصفر بها كحكم مباراة كرة القدم ، قد لفحت الشمس بشرته ، وربما تبلورت بلورات الملح البيضاء تحت أذنيه وتحت خديه بعد جفاف العرق ، مستغرقاً في تأمل السرب رغم درجات الحرارة المرتفعة ، غير عابئاً بأشعة الشمس ولا بالغبار حين يضرب المدينة.
الحمام من بين كل أنواع الطيور ارتبط باسم صاحبه صاحب الكلمة الشهيرة (المطيرجي) ، التي اكتسبت سمعة سيئة بمرور الزمن بسبب بعض الممارسات اللاأخلاقية لهواة تربية الحمام (المطيرجيه) ، والتي من أهمها أذى وازعاج الجيران ، وهذه لوحدها كافية لتشويه سمعة مربي الحمام ، أضافة الى الغش ، الخداع ، الكذب ، النفاق ، السرقة وغيرها.
اليوم ، مربو الحمام فصلوا بين المربي وبين المطيرجي ذو الصفات السيئة ، بينما من يتحلى بالنبل والفروسية خلعوا عليه عدة ألقاب منها (الكابتن – الجنّاي الأصيل – الهاو - المربي) ورفضوا وشجبوا ممارسات المطيرجيه اللاأخلاقية ، ونعتوهم بـ(الجوعية) ، والتي لها معاني ربما أسوء من متعلقات كلمة المطيرجي !.
أصبحوا شريحة كبيرة في المجتمع ، شريحة سكنت سطوح المنازل والبنايات بعد أن حولوها الى مهبط (مطار) للحمام الطائر ، وإن غرّد أحد المرشحين في الانتخابات العراقية صارخاً ((يا مطيرجية العراق انتخبوني !)) لفاز بكل تأكيد ، لكن لا أحد يرجو ودهم ولن يفكر بالاقتراب منهم خشية أن يلحقه شيئاً من سوء السمعة المتعلق بهذه الشريحة ، فالأعم الأغلب من الناس لا تفرق بين المربي والمطيرجي ، كلاهما سواسية ، كلاهما يجني الحمام ويطلقه في الأجواء ، كلاهما يصفّر ، كلاهما يلوح بالعصا والعلاكه ، كلاهما يزعج الجيران .
ليس كل الحمام يتمتع بخاصية الطيران ، بل كثير منه لا يطير ، باقٍ في الأرض كباقي الطيور الداجنة ، يدعى بـ (حمام الزينة) ، له عشاقه ومحبيه ، هذه الفئة لا ترغب بالحمام الطيار ، وتفضل تدجينه لغرض التسلية وقضاء أوقات ممتعة ، أو العمل على تكاثره ومن ثم المتاجرة به كمصدر ثانوي للرزق.
الغريب ، إن أحداً لا يعبأ بالحمام كثروة وطنية ، لو نالت شيئاً من الاهتمام لحققت واردات لا يستهان بها ، دول متقدمة حققت عائدات مالية كبيرة من هذه الصنعة ، كألمانيا وبلجيكا ، فلم يعد الحمام للتسلية فقط ، منه ما يعد كلحوم للمائدة ، ومنه ما يخوض السباقات ، ومنه للتسلية ، ولكل ثمنه ، قد ينخفض وقد يرتفع الى درجة خيالية!.
أصبح الحمام يشكل تجارة رابحة على صعيد المشاريع الكبيرة ، ومصدر رزق ثانوي على صعيد المشاريع الصغيرة ، اكتسب المربي العراقي خبرة في هذا الميدان بمرور الزمن ، وبعد الانفتاح وسهولة التواصل عبر الشبكة العنكبوتية اكتسب خبرات أكثر ، تلاقحت أفكاره مع أفكار البلدان الأخرى ، فكانت النتيجة انجازات كبيرة ، وعوائد مالية ممتازة على صعيد العمل الفردي غير المدعوم.
المربي العراقي الجيد بدأ يصدر منتجه من الحمام الجيد ذو المواصفات الخاصة الى بعض البلدان المجاورة ، كالكويت والسعودية وقطر وغيرها ، الذين يتلقفون الحمام العراقي بشغف كبير ، الأمر الذي يدر الخير الكثير.
لكل مدينة في العراق حمامها الخاص ، الذي عرفت به ، يسمى بإسمها ، كالأحمر البغدادي ، والنجفي والمصلاوي والزبيري والبصراوي والاربيلي والكركوكي وغيرها ، لكنها جميعاً غير مسجلة عالمياً ، بسبب الاهمال وعدم مراعاة هذا الميدان الحيوي المهم ، ما دعا بعض الدول الى انتهاز واغتنام الفرصة وتسجيل الحمام العراقي وضمه الى أنواع الحمام لديهم ، فسجلت تركيا الحمام المصلاوي والأحمر البغدادي على انه حمام تركي ، وسجلت الكويت الحمام الزبيري والبصراوي على إنه حمام كويتي ، والسعودية اختارت أنواع أخرى من الحمام العراقي وأضفت عليه طابعها ، الغريب إن المجتمع الدولي المختص وافق على ذلك دون أي اعتراض ، خصوصاً وإن العراق لم يعترض أو يطالب بشيء ، مصادرة وسرقة فكرية في وضح النهار!.
وسوم: العدد 1004