الطمأنينة عملة صعبة يفتقر إليها خلق كثير في هذه الحياة الدنيا
لفظة " طمأنينة " لغة لها عدة دلالات ،فهي عبارة عن ارتياح، وهو من الراحة ،وسكون ، وهدوء ، وثبات ، وثقة ، وخلو من قلق ، واستقرار، وهو من القرار ، وتسمى الأرض مطمئنة إذا كانت سهلا منخفضا ، واصطلاحا هي حصول الظن القوي والراسخ بالخير، وهي بهذا المعنى الاصطلاحي عملة صعبة وكنز ثمين يفتقر إليها كثير من الخلق في هذه الحياة الدنيا المعيبة بزوالها وبفنائها ، وحسبها أن تكون فانية ليكون الخلق فيها عرضة للقلق والاضطراب الشديدين ، و عرضة للشك وسوء الظن بحصول الخير فيما لا دوام له .
والطمأنينة هي فلسفة المتفائلين في هذه الحياة ، وهي عكس فلسفة المتشائمين الذين يعانون من كل أضدادها من اضطراب، وقلق ، وخوف ، وفزع، وهلع، وضيق ...
وكل الناس ينشدون الطمأنينة في هذه الحياة، لكنهم قل ما يدركونها لأنهم يخطئون سبيل الوصول إليها ، وتختلط عليهم في ذلك السبل المتفرقة عن سبيلها ، وتضيع أعمارهم وهم يبحثون عنها حتى يحين رحيلهم عن الدنيا ولمّا يذوقوا طعمها . وقليل منهم من يوفقون إلى الوصول إليها وإلى معرفة كنهها . ولا يوصل إليها ، ولا يدرك كنهها إلا بالتأمل في قول الله تعالى : (( إن الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم لذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب )) ، والذكر في هذه الآية الكريمة و إنما هو كلام الله عز وجل في رسالته الخاتمة التي أرسلها إلى البشرية من لدن بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة كي يذوقوا طعم الطمأنينة في حياتهم الدنيا استعدادا لسعادة الآخرة الأبدية .
وكلام الله عز وجل باعتباره ذكرا يتضمن استحضاره سبحانه وتعالى كمرسل أو كمخاطب عقلا ووجدانا، فضلا عن تلفظ أسمائه الحسنى، وصفاته المثلى بجارحة اللسان يحيث يكون تلفظا موازيا لحضوره في العقل والوجدان ،لا ينفك عنهما أبدا خلافا لما يعتقده البعض ممن يجعلون الذكر مقتصرا على هذا التلفظ مع شرود العقل ، وتيه الوجدان .
والطمأنينة لا تكتمل إلا إذا شملت العقل والوجدان معا ، فهذا خليل الله إبراهيم عليه السلام يسأل ربه سبحانه وتعالى أن يريه كيف يحيى الموتى ، فيسأله ربه ((أو لم تؤمن )) فيجيب : (( بلى ولكن ليطمئن قلبي )) ، وهذا الجواب من الخليل عليه السلام يدل على نشدانه كمال طمأنينة العقل والوجدان ، ذلك أن إيمانه ، وقد استقر في قلبه عليه السلام لم يغادره أو يعدمه كما أجاب عن ذلك ربه بل نشد كماله بطمأنينة القلب ليزداد رسوخا، وثباتا، وقوة .
وعندما نتأمل فيما طلب الخليل عليه السلام من ربه وهو معرفة كيفية إحياء الموتى ، نجد أنه يعبر عما يراود كل نفس بشرية من قلق بخصوص زوال الوجود بما في ذلك زوال الحياة الدنيا الفانية بطبيعتها ، وحق لهذه النفس البشرية أن تقلق وزوال الدنيا وفناؤها قدر محتوم لا راد له مصداقا لقوله تعالى : (( كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام )) .
ونشدان الخليل عليه السلام طمأنينة القلب، لا يعني طمأنينة الوجدان دون طمأنينة العقل أو الفكر بل طمأنينتهما معا في آن واحد ،لأنهما متلازمان أو هما وجهان لورقة مالية واحدة كما يقال تعبيرا عن هذا التلازم . ولا نريد الخوض في موضوع الحلاف في التمييز بين العقل والقلب كما يفعل البعض وقد حسم أمرهما الله تعالى بقوله : (( إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب الذي في الصدور )) ، وفي هذا إشارة إلى الذات المدركة في الإنسان ، وهي البصيرة ، وجماع أمرها تنسيق بديع ودقيق من صنع الله تعالى بين ملكات عدة، يكون مسارها بين مضغة نابضة في صدر الإنسان ، و بين مادة رمادية في جمجمته ، وهما معا يشتغلان على التنسيق بين حمولات الحواس المحمولة إليهما ، ولبيان كيف يتم ذلك ، نعود إلى الحوار الذي كان بين رب العزة جل جلاله ، وبين خليله إبراهيم عليه السلام حيث أمره ربه بإجراء تجربة حسية لتكتمل لديه طمأنينة العقل والوجدان معا في آن واحد ، وبناء على هذا لا تكتمل طمأنينة الإنسان إلا إذا شملتهما معا . وقد يعبر البعض غياب الطمأنينة عنده، فيعزو ذلك مرة إلى قلق الفكر، وأخرى إلى قلق الوجدان ، والحقيقة أنه قلق واحد في نهاية المطاف ، وخير مثال على ذلك تجربة خليل الله إبراهيم عليه السلام ، وكفى بها دليلا، وحجة وبرهانا ، ومن أصدق من الله عز وجل قيلا .
ونعود إلى حقيقة الطمأنينة كما جاء ذكرها في كلام الله عز وجل، وكانت مناسبته هي مجادلة الكافرين في إنكارهم صدق الذكر المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومطالبتهم إياه بأدلة غير دليل الذكر بقولهم (( لولا أنزل عليه آية من ربه )) ، يبتغون نفس الدليل الذي طلبه الخليل عليه السلام من ربه مع وجود الفارق بينه وبينهم ، ذلك أنه طلب من ربه ما طلب كي تكتمل طمأنينة قلبه، وهو مؤمن ، في حين طالب الكفار ما طالبوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم على حال شكهم وكفرهم .
والذكر وهو كلام الله عز وجل الذي جعل فيه سر طمأنينة القلوب والعقول معا يتضمن الحقائق المقنعة الماثلة للعيان ، وبذلك يعتبر في حد ذاته آية ودليلا لا ولا سبيل إلى إنكاره ،وهو مبطل لكل الأوهام ،ومزهق لكل الأباطيل . وقوله تعالى : (( ألا بذكر الله تطمئن القلوب )) المفتتح بحرف التنبيه " ألا " يدل على أن طمأنينة القلوب والعقول إنما هي حاصلة لزوما بالذكرالمنزل على رسول الله تعالى ، كما أنه يدل على الترغيب في التماسها فيه حصرا ، ويكفي الإنسان أن يعرض ما يعتريه من أحوال القلق والاضطراب فكرا ،ووجدانا على هذا الذكر لتحصل له الطمأنينة فيهما معا ، وهي طمأنينة واحدة لا تنقسم ولا تنشطر إلى ما هو عقلي وما هو وجداني .
ولما كانت طبيعة الذكر المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم العبرة فيه بعموم لفظه المتضمن لأحكام ثابتة تنسحب على الناس جميعا إلى قيام الساعة ، ليست بخصوص أسباب نزوله التي هي مجرد نماذج قابلة للتكرار في كل زمان وفي كل مكان ، فإن موضوع الطمأنينة كما جاء في الذكر الحكيم لا يخلو إنسان من الحاجة إليها حتى تقوم الساعة ، ولا مناص له من نشدانها في هذا الذكر ضرورة إذا ما عدمها فكرا ووجدانا .
وكم هم البشر اليوم في عالمنا الذين يعانون من الافتقار إلى الطمأنينة ، وهم يسمونها سعادة ، ويلتمسونها في خوض سبل غير السبيل المفضي إليها وهو سبيل قوله تعالى : (( ألا بذكر الله تطمئن القلوب )) دون غيره من سبل مادية كانت أم معنوية . فمن أقلقه أمر وجودي في حياته مهما كان ،فعليه بنهج سبيل الذكر، فإنه سيخلصه من قلقه فكرا، ووجدانا. ولبيان ذلك ، نذكر على سبيل المثال لا الحصر قلق الإنسان من الفناء ، وهو قلق لا يخلو منه إنسان مهما كان ربما أفضى به ذلك إلى اليأس والتشاؤم، فحمله على إنكار بعثه من جديد في حياة أخرى طبيعتها خالدة عكس طبيعة الحياة الدنيا الفانية . ولا يمكن أن تحصل الطمأنينة بمعناها الاصطلاحي كما مر بنا، وهو حصول الظن القوي والراسخ بالخير حين يكون الإنسان عرضة لليأس والتشاؤم ، وهو في حيرته الوجودية .
والناس في زماننا هذا كما كانوا في كل الأزمنة الماضية منشغلون على الدوام بنشدان الطمأنينة فيما لا طمأنينة ترجى من ورائه من مال، أو جاه، أو شهرة، أو علاج بالمهدئات والمسكنات و بالمسكرات والمفترات إدمانا على ذلك أو بالأوهام والخرفات، والشطحات ،أو " باليوغا "، أو بالأسفار والترحال، أو بالملذات ... أو بغير ذلك من السبل المتفرقة عن السبيل الصحيحة المفضية إلى الطمأنينة الحقة مصداقا لقوله تعالى : (( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون )) ،وما التقوى المنصوص عليها في هذه الآية الكريمة سوى وقاية الإنسان من فقدان ظنه القوي والراسخ بحصول خيره وسعادته في حياته الدنيا الفانية مهما كانت الأحوال التي يمر بها، والتي تتناوبها ضرورة المسرات، والأحزان ،لأنه مخلوق لغاية الابتلاء فيها ، وذلك ليثبت شكره الصادق على ما أنعم به عليه خالقه سبحانه وتعالى باستعمالها في طاعته ، وليثبت صبره على ما أصابه من مصائب وهي التي ما كانت لتخطئه لأنها قدر مقدور لا راد له ، وقد التزم في إيمانه اعتقادا بالجنان وتلفظا باللسان أنه مؤمن به ظنا قويا راسخا لا تنال منه قوة أو ضراوة المصاب شيئا .
وأختم بإسداء النصح الصادق لكل من يعدم طمأنينة العقل والوجدان في هذه الحياة بدعوته إلى المعاشرة الدائمة للذكر مع الاستعانة بعون منزله سبحانه وتعالى كي يلهمه فهمه على الوجه الصحيح ،وإنه لواجد فيه ضالته ، و كل ما يحتاجه لكمال طمأنينته على طريقة كمال طمأنينة خليل الله إبراهيم عليه السلام، وهي طريقة المصطفى سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم . وعلى كل مصاب، أو ملكوم، أو محروم ،أو محزون، أو مظلوم أو مقعور ، أو معبون... في هذه الدنيا ألا يغيب عنه الظن القوي والراسخ والملازم له طرفة عين أن الله تعالى كاشف ما به عجّل أو أجلّ، وأنه يؤجرعلى صبره واحتسابه الأجرالعظيم، وهو عبارة عن صلوات من ربه ورحمة ، وما أدراه ما تلك الصلوات، وتلك الرحمة اللتان تجعلاناه من المهتدين عند رب العالمين ، وحسبه سعادة أبديا أن يكون عند ربه من المهتدين .
وسوم: العدد 1016