لن تتمرس ناشئتنا المتعلمة بلغتها الأم إلا بتمكينها من التواصل مع تراثها اللغوي والفكري والعلمي والأدبي
لن تتمرس ناشئتنا المتعلمة بلغتها الأم إلا بتمكينها من التواصل مع تراثها اللغوي والفكري والعلمي والأدبي خلال مسارها الدراسي ابتداء وإعدادا وتأهيلا وعاليا
لم تتعرض لغة من اللغات للتآمر الكبير على نطاق واسع ، كما تعرضت له اللغة العربية . والسبب في ذلك أنها اللغة التي شرفها الله عز وجل بنقل رسالته الخاتمة إلى البشرية قاطبة، و هي المبشرة بكمال دينه ، وبظهوره على الدين كله إلى قيام الساعة .
ولقد كان من المتوقع أن تتصدى لهذا الدين مختلف الأديان سماوية طال كتبها التحريف بشهادة القرآن الكريم ، وهي أشدها عداء له ثم الوضعية الوثنية بعد ذلك .
وانتقل إضمار وإظهار العداء للإسلام وللقرآن الكريم إلى لغة الضاد ،لأنها هي الوعاء والوسيلة . ولقد بدأت مبكرا بوادر التآمر عليها عندما سادت النزعات الشعوبية المختلفة التي كان أصحابها، سواء المصرحون بها أو الذين يخفونها، يعانون من عقدة ضياع السيادة منهم ، وانتقالها إلى العنصرالعربي بسبب اختيار الله تعالى لغتهم وسيلة لتوصيل كلامه إلى البشرية قاطبة .
ولقد اضطر كل الشعوبيون إلى استعمال اللغة العربية ، وحاولوا الدس لها فيما يكتبون ويؤلفون بها، خلاف من كانوا موضوعيين، يكشفون عن أسرار اختيار الله عز وجل لها لنقل كلامه المقدس .
ولقد كان أصحاب النزعة الشعوبية يغتنمون بعض الفترات التاريخية للإجهاز بشراسة وعدوانية على اللغة العربية إلى أن ظهر الاستشراق الغربي اليهودي النصراني في العصر الحديث، والذي كان تمهيدا لغزو العالم العربي عسكريا ، فوجد ضالته في النزعات الشعوبية المتطرفة ، ونفخ فيها لقدح أوارها من جديد ، وذلك بأسلوب في غاية المكر والخبث ،ظاهره اهتمام بالتراث العربي ، وباطنه الكيد له . وكانت أول خطوة هذا الكيد أن شكك كبار المستشرقين في هذا التراث محاولين طمس معالمه من أجل نقض فكرة إعجاز القرآن الكريم ، لأن في نقضه إجهاز على الرسالة الخاتمة، وعلى ما حملته إلى البشربة من خير . وكان التراث العربي الجاهلي خصوصا الشعري منه هو المستهدف الأول من أجل جعل القرآن الكريم في حالة شرود ـ بتعبير لغة لعبة كرة القدم ـ ذلك أن تغييب هذا التراث أو إقصاءه عن طريق التشكيك في صحة انتمائه إلى القترة التاريخية الجاهلية ، تتعذر معه المقارنة بين أساليبه وبين أساليب القرآن الكريم ، وبهذا يتحقق إبطال إعجازه عند المستشرقين . وما لبث الفكر الاستشراقي أن استهوى بعض الأذناب المغتربين في الوطن العربية ، فتلقفوا منه استهدافه للقرآن الكريم ، وللغته ، وسوقوا ذلك في العالم العربي في فترة تاريخية عرفت غزوا غربيا صليبيا ،استكملت خلاله عملية الإجهاز على التراث، وعلى اللسان العربيين من خلال فرض الفكر الغربي وألسنته على الشعوب العربية من أجل جعل الهوة سحيقة بينها وبين لسانها وتراثها، ومن ثم طمس معالم هويتها الإسلامية .
ولقد تمكن هذا الغزو الذي كان مزدوجا عسكريا وفكريا من تحقيق الكثير مما خطط له بمكر وخبث ودهاء في عالمنا العربي ، وفي شعوبه . ولقد نشأت عن هذا التخطيط الجهنمي أجيال عربية مستغربة تتلبس بالحضارة الغربية لغة وفكرا ، وتسد مسد الاحتلال الذي رحلت جيوشه ، وبقي فكره سائدا ومسيطرا ، ولا زال العالم العربي على هذه الحال إلى يوم الناس هذا .
وبالرغم من الجهود المبذولة من طرف حماة اللسان العربي ، والهوية الإسلامية سعيا وراء محاصرة عملية التغريب الكاسحة لكل مجالات الحياة في العالم العربي ، فإنه قد استحال عليهم رتق الفتق ، وصار دعاة التغريب وأنصاره، وهم أقلية إلا أن استئثارهم بالسلطة وبالقرار، جعلهم في حكم الأغلبية ، وجعل الأغلبية الحقيقية تابعة لهم يسوقونها سوق القطعان .
ولقد كانت وسيلة دعاة التغريب هي السيطرة على النظم التعليمية في البلاد العربية ،حيث كلفت بوضع مقراراتها وبرامجها وكتبها المدرسية نخب من متشربي الفكر الغربي حد الإدمان ممن يعادون اللسان العربي، وكل حمولته الفكرية على اختلاف أنواعها . ولقد كانت دائما كل فكرة تعريب للبرامج الدراسية في الوطن العربي، تواجه مقاومة عنيفة من طرف دعاة التغريب تحت ذريعة مواكبة الركب الحضاري والعلمي ، وكأن هذه المواكبة لا يمنك أن تكون إلا بتلبس ألسنة الغرب وفكره ، علما بأن أمما أخرى في المعمور، تواكب هذا الركب دون عقدة التبعية بألسنتها وبفكرها ،وقد تقدمت عليه بأشواط ، وصار يقتفي أثرها فيما تتقدم عليه .
ولقد عطلت فكرة استحالة مواكبة هذا الركب التي يسوق لها المتغربون بإيعاز من الغرب كل تفكير جاد وإجرائي من أجل النهوض الحضاري والعلمي باعتماد اللسان العربي وسلية ككل الألسنة التي نهض أهلها دون أن تكون نهضتهم بألسنة الغرب ضرورة وحصرا ،كما هو الحال عند أمتي الصين واليابان على سبيل المثال ، فضلا عن غيرهما . ولا زال العرب عاجزين إلى يوم الناس هذا عن تعريب تعليمهم مائة في المائة من أجل استغلال الجهد والوقت اللذين يضيعان في تعلم ألسنة الغرب واعتبارها الناقلة الوحيدة للحمولة المعرفية والعلمية في المعمور . ولو انبرى من تلقوا علومهم ومعارفهم بألسنة الغرب وألسنة الشرق الأقصى هم وأهل الخبرة والمعرفة باللسان العربي، لأثمرت جهودهم ، وانطلق قطار تعريب المعارف والعلوم التعريب الناجح عوض التعريب المرقع الذي يشجع المستغرببن على تثبيط العزائم الراغبة في التعريب الناجح ، والذين يزعمون استحالته ، وذلك من أجل التمكين للغرب في البلاد العربية لغة وفكرا على حساب الهوية الإسلامية عقيدة ،والعربية لسانا .
وبالرغم من أن التاريخ أثبت أن اللسان العربي كان خلال قرون ازدهاره أهم لسان نقل علوم ومعارف الأمم السابقة ، وخطا بها بعد ذلك خطوة كبرى ، وبلغها إلى أمم الغرب التي كانت تحت وطأة عصر الظلمات ، فإن المستغربين لا زالوا يشككون في كرة أخرى ، يعود فيها اللسان العربي إلى ما كان عليه من تفوق في نقل العلوم والمعارف من جديد مهما كانت مصادرها في المعمور .
ولنعد الآن إلى ما أحال عليه عنوان هذا المقال، لنقول إن تمرس ناشئتنا المتعلمة المغربية خصوصا والعربية عموما بلغتها الأم، لن يتم إلا بتمكينها من التواصل من جديد بتراثها اللغوي، والفكري، والعلمي، والأدبي خلال مساراتها الدراسية المختلفة ابتداء، وإعدادا، وتأهيلا، وعاليا .
وأول خطوة يجب أن تُخطى من أجل هذا الهدف ،هي ربط صلة هذه الناشئة بكتاب الله عز وجل في كل المراحل الدراسية تلاوة ،ورسما، وحفظا ، وفهما ،لأنه الكتاب الذي يتجلى فيه جمال اللسان العربي . وعبر التمكن من لغة القرآن الكريم ، يتحقق التمكن من كل النصوص التراثية الراقية شعرا ونثرا ، وبذلك تنطلق ألسنة الناشئة المتعلمة بلغتها الأم من خلال أداء جيد قوامه الطلاقة، والفصاحة، والتأنق.
وهذا يقتضي أن تختفي الكتب والمؤلفات المدرسية التي تزري باللسان العربي بذريعة التبسيط والتسهيل، وهما سبب ما يعتري الناشئة المتعلمة من عجمة وعيّ بسبب النصوص المقررة التي تغلب عليها الضحالة الأسلوبية والتعبيرية ، والتي لا يجد المدرسون فيها ما يفي بالحاجة لتمكين الناشئة المتعلمة من أسرار جمال اللسان العربي الصاقل لأذواقها . ولا بد من القطيعة مع الأدب الفج الذي يسوق اليوم على أساس أنه ثورة على أدب التراث الرفيع الذي تم تغييبه تحت ذريعة غرابته وحوشيته ، وهذا ما كان الاستشراق وأذنابه يريدونه، وقد تحقق لهم ما أرادوا .
وقد يسأل سائل ،ما سبب هذا الحديث في هذا الوقت بالذات ، والجواب أن وزارتنا الوصية على الشأن التربوي يبدو أنها قد أمرت بإجراء تبار بين الناشئة المتعلمة في المؤسسات التربوية يتعلق بالتحدث باللسان العربي إلقاء من الذاكرة ، ويكون عبارة عن حديث أو خطابة في فترة زمنية وجيزة . ولعل هذا الأمر يتعلق بإقصائيات على مستوى المؤسسات التربوية تنتهي بتبار نهائي يفوز به الفائزون . ولو أن الوزارة فكرت في إلقاء الناشئة المتعلمة من ذاكرتها نصوصا شعرية أو نثرية تحفظها عن ظهر قلب من تراثنا، و تكون راقية الأساليب، لكان ذلك محققا للغاية المرجوة عوض أن تلقي حديثا من عندها بأساليبها التي لا يخلو من أخطاء في الأداء، فضلا عن تهافت الأفكار وبساطتها ، علما بأن إبداع هذه الناشئة لا يتأتي إلا بصقل أذواقها بالذكر الحكيم ، وكلام سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ، وبفصيح وبليغ النصوص التراثية الشعرية والنثرية على اختلاف أنواعها وفنونها . ومعلوم أن الفصاحة والبلاغة، لا تتأتيان للناشئة المتعلمة إلا من خلال تشرب النصوص التراثية الجميلة حفظا وتذوقا .
وإننا لنسمع بين الحين والآخر فتيانا وفتيات من مختلف البلاد العربية عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو عبر وسائل الإعلام، يلقون خطبا أو أشعارا أو أحاديث ببراعة وبأساليب تبهر السامعين ، حتى يكاد البعض لا يصدق ما يسمع ،لأنه اعتاد من الناشئة المتعلمة في هذا الزمان العي ، والعجمة ، وانعقاد الألسنة ، وقد استعجمت .
فهل توجد حقا لدى وزارتنا الوصية على الشأن التربوي إرادة حقيقية للنهوض بأداء الناشئة المتعلمة الأداء الجيد بلغتها الأم ، أم أن الأمر مجرد فكرة عابرة عبور السحاب دون قطر في يوم عاصف ؟؟؟ فإن كانت هذه الوزارة جادة حقا في هذا الأمر، فعليها أن تأخذ بالأسباب ، وستجد من يدلها عليها من أهل العلم والخبرة إن كانت فاعلة ، والله تعالى وراء القصد .
وسوم: العدد 1069