من دلائل هشاشة وضعف الملقبين بالأقوياء نفاقهم للمستضعفين
يُعرَّف النفاق لغة على أنه "إظهار الإنسان غير ما يبطن"، أما تعريفه الاصطلاحي فيتميز بتسييج التعريف اللغوي بمقتضيات الدين، ليتم بذلك تصنيفه إلى صنفين:
الصنف الأول اعتقادي، وهو النفاق الأكبر الذي يُظهر صاحبه الإسلام ويُبطِن الكفر. وهذا النوع مُخرجٌ من الإسلام، وصاحبه مخلد في الدرك الأسفل من النار مصداقا لقوله تعالى في الآية 145 من سورة النساء:﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ﴾
والصنف الثاني عملي، وهو ما يُطلق عليه النفاق الأصغر، وهو عملُ شيء من أعمال المنافقين مع بقاء الإيمان في القلب، وهذا لا يخرج صاحبهُ من الإسلام، إلا إذا غلب النفاق على الإيمان فإنه يصير منافقاً خالصاً، لقوله صلى الله عليه وسلم: "أربعٌ من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدَعَها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر"
لحد الآن لم آت بجديد يستحق الكتابة سوى أني نقلت بعض ما هو متداول فيما يتعلق بتعريف النفاق، لكني أرغب من خلال الخوض في هذا الموضوع في حث القارئ الكريم على تدبر الأسباب، والحيثيات التي تُجبِر الأفراد والجماعات، والأنظمة بالخصوص على ممارسة النفاق في السياق الدولي الحالي، ذلك أنه إذا كان النفاق بمعناه الاصطلاحي قد ارتبط أساسا بالعهد المدني بعدما قويت شوكة الإسلام والمسلمين وأصبحتْ تمثل تهديدا لمعتقدات الكفار ومصالحهم، مما جعل من النفاق، بعدما أصبح ميزان القوة في غير صالحهم، المَخْرَج الوحيد للحفاظ عليها، وهذا أمر مفهوم عقلا ما دام يُمارَس من قبل الطرف الأضعف في مواجهته للطرف الأقوى، لكن الحاصل هو أنه أصبح يُمارَس من الطرف الذي يُعتقد أنه الأقوى تجاه الطرف الموسوم بالضعف، على غرار النفاق الذي تمارسه "القوى العظمى" أمثال الولايات المتحدة وفرنسا وإنجلترا وألمانيا وغيرها، تجاه البلدان المستضعفة وشعوبها عامة، وتجاه الشعوب الإسلامية بالخصوص، وهو ما يشكل لُبسا، إن لم أقل لغزا يُعتبر العمل على حله من قبل المستضعفين واجبا حضاريا، وشرعيا في حالة المسلمين، إن كانوا يرغبون في التحرر الفعلي من قيود هذه "القوى العظمى" التي تمزج في التعامل معهم، بين الهيمنة المادية بالاستعمال المباشر للقوة، وبين الهيمنة المعنوية باعتماد مختلف الأساليب، والآليات التي يلعب فيها النفاق دورا أساسيا لتدجين الشعوب وتخديرها، وهو ما ينطبق على منظومة - أقول منظومة وليس منظمة- الأمم المتحدة التي سُخِّرت آلياتُها من قَبيِل اليونسكو، واليونيسيف، الأونروا، وصندوق الأمم المتحدة للسكان، وبرنامج الأغذية العالمي، والصندوق الدولي للتنمية الزراعية... لاعتماد برامج ومشاريع تهم جل المجالات الحيوية، من تعليم وصحة وفلاحة وسكن... ظاهرُها مساعدة البلدان الفقيرة على تجاوز الاختلالات التي تعاني منها في مختلف هذه المجالات، وباطنها يُضمر الاحتيال عليها قصد تكريس تبعيتها، والحيلولة دون استقلالها الفعلي ماديا ومعنويا، حتى يتسنى لها إحكام القبضة على شعوب هذه البلدان التي تُدفَع إلى الاعتقاد بأن مصلحتها تقتضي القفز على ثوابتها ومعتقداتها، والعمل على تجسيد عدد من المفاهيم التي يُراد تمريرها من خلال هذه البرامج والمشاريع، والتي تفقد أدنى مدلولٍ لها بالنسبة لهذه القوى بمجرد تعارضها مع مصالحها. ومن المعلوم أن الواقع يزخر بما يكفي، ويزيد، من الأمثلة للبرهنة على أن النفاق هو القاعدة الخلفية لتوليد هذه المفاهيم، والسهر على شيوعها في هذه البلدان، من بينها مثال الولايات المتحدة التي تتشدق بالمساوات، في الوقت الذي تستأثر فيه مع أربع دول أخرى بحق الفيتو، ومثال فرنسا التي تعتمد في معالجتها لقضية الصحراء المغربية، نفاقا مزدوجا في تعاملها مع كل من المغرب والجزائر، ومثال فرنسا فيما يتعلق بالتعامل مع قانون 1905 الذي أصبحت بموجبه فرنسا دولة علمانية تلتزم الحياد اتجاه مختلف الأديان، في الوقت الذي تختلق فيه حيثيات وذرائع لاستثناء طيف كبير من المنتمين للدين الإسلامي، ومثال كل من فرنسا والولايات المتحدة وإنجلترا وألمانيا... في تعاملها مع أحداث غزة، ذلك أنه في الوقت الذي تطالب فيه بإيقاف الحرب، ومد أهلها بالمساعدات الغذائية، تُواصِل مد العدو الصهيوني بالزاد والعتاد وحتى بالجنود، وتُوقِف مساهماتها في تمويل وكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين الفلسطينيين الأونروا...
لا أريد الاستمرار في جرد أمثلة نفاق الغرب الموصوف بالقوة، تجاه الأمم المستضعفة، بقدر ما أرغب في استخلاص بعض الدلالات التي يُمكن اعتبار هذا النفاق مؤشرا عليها، خاصة وأنه أصبح من أهم مميزات العلاقات الدولية في عمومها، على الرغم من الاختلاف الحاصل في تسميته.
وسأقتصر على ثلاث دلالات تتعلق كل واحدة منها بمجال أو مستوى معين وهي كالآتي:
- على المستوى المادي، يُلاحظ أن قوة الغرب المادية ليست ذاتية، وإنما يستمدها من اغتصابه للموارد الطبيعية للأمم المغلوبة على أمرها، فبعد انتهاء فترة الاستيلاء عليها بالقوة أثناء الاستعمار المباشر، كان لا بد من اعتماد آليات النفاق المختلفة، للحيلولة دون الاستفاقة الكلية لشعوب هذه الأمم، ومن ثم ضمان استمرارها في نهبها، عن طريق ما يسمى باتفاقيات الشراكة، والتنمية، وما إلى ذلك من المصطلحات الديبلوماسية التي تتأسس على الحيلة والنفاق.
- على المستوى العقدي، يمكن اعتبار معرفتهم بقوة الإسلام في مجابهة خصومه من مختلف العقائد والملل باعتماد البراهين العقلية، من الدوافع الأساسية، للجوئهم إلى الكيد له، عن طريق ممارسات نِفاقية من مثل الاستشراق، والقوانين الدولية التي جُنِّدت لها جمعيات ومنظمات، للعمل على إرسائها في المجتمعات الإسلامية مكان متطلبات الشريعة الإسلامية.
- على المستوى المعنوي، يبدو لي أنهم يعلمون علم اليقين، بأنهم ليسوا أقوياء بالمستوى الذي جعلوا الشعوب المستضعفة تتصورهم به، ولنا في الهزائم التي أُلحقت بهم في كل من الفيتنام، وأفغانستان، وأخيرا على يد ثلة قليلة من الغزاويين، التي حطمت أسطورة الجيش الذي لا يقهر، دلائل على ضعفهم أمام الشعوب عندما تسترد ثقتها بنفسها، لذا يلجؤون إلى المزج بين القوة المادية من جهة، والنفاق من جهة أخرى للتأثير على الجانب المعنوي لهذه الشعوب، ويحافظوا ما أمكن لهم ذلك، على تلك الصورة التي يتخذها المهزومون نفسيا ذريعة للاستسلام والانبطاح اللذان يُطيلان من عمر سيطرتهم عليهم، وعلى كل من والاهم، وإلا فإن ثباتهم أمام صحوة ضمائر الأمم، وعلى رأسها الأمة الإسلامية لن يدوم طويلا.
في الختام أعتقد أن للنفاق ارتباط وثيق بميزان القوة في كل زمان ومكان، ليبقى نفاق المدينة نموذجا للاستثمار في التعامل مع الخصم، في إطار المعطيات التي يُتيحها الواقع المتجدد، ومن ثم فإن لجوء أي خصم لنفاق خصمه دليل على إحساسه بالضعف، إن لم يكن ضعيفا بالفعل، مهما أفرط في استغلال كل الوسائل المتاحة للظهور بمظهر القوي الذي لا يُقهر، ولا يرضى بأقل من الاستسلام والخضوع، الأمر الذي لا يمكن الانفكاك منه إلا عبر مراحل مدروسة، أولها الوعي بنقط ضعف الخصم والبحث فيها عن منافذ للمواجهة.
وسوم: العدد 1076