إلى أي مدى تنسجم نتائج البكالوريا مع واقع التعليم ببلادنا؟
كنت طوال مدة ممارستي لكلٍ من عمليتي التدريس ثم التفتيش، أُومن إيمانا راسخا بأن نجاح أو فشل التلاميذ في الامتحانات المدرسية، إنما هو مُحصلة لتلك العلاقات المادية والمعنوية التي تربطهم بمحيطهم المجتمعي، والتي تؤثر في شخصيتهم إيجابا أو سلبا، بشكل مباشر أو غير مباشر. وتأتي على رأس هذه العلاقات تلك العلاقة المتبادلة بين الأساتذة والتلاميذ أنفسهم، والتي يتعين، على الأقل من الجانب النظري، أن تتبلور في اتجاه الدفع بِطَرفَيْ هذه المعادلة إلى بذل كل ما في وسعهما، من أجل الحصول على التوازن الذي يحقق الأهداف المتوخاة من العملية التربوية، في إطار عقد ديداكتيكي واضح المعالم، يستحضر الشروط المثلى التي ينبغي أن تتحقق في كل طرف على حذة، ولعل من أهم هذه الشروط مواظبة الطرفين على استيفاء جميع الحصص المقررة لجميع المواد، وعدم التفريط ولو في دقيقة من الدقائق المخصصة لها، مع التزام الجدية والمثابرة أثناء عملية الإنجاز، بحيث يتعين إعطاء كل فقرة من فقرات البرنامج أهميتها من جميع الجوانب، سواء تعلق الأمر بالجانب التربوي أو الديداكتيكي أو التجريبي بالنسبة للمواد العلمية. ولعل أهمية التفتيش التربوي تندرج ضمن السهر على تسديد مختلف الممارسات التي تتعلق بهذه الجوانب، من خلال الزيارات والتفتيشات والندوات، بهدف توجيهها التوجيه الصحيح، مع الحرص على الاستفادة من الممارسات الإيجابية، والدعوة إلى تعميمها، دون إغفال التأكيد على تفادي كل ما من شأنه التأثير السلبي على أية خطوة من خطوات العملية التعليمية التعلمية بصفة خاصة، والتربوية بصفة عامة.
واليوم، وبعد تقاعدي بمدة غير قصيرة، أجد نفسي أمام واقع يتناقض كليا مع قناعاتي التربوية والديداكتيكية التي راكمتها من خلال اطلاعي على مختلف النظريات التربوية، ومن خلال تجربتي العملية، وحتى مع بعض المقولات والأشعار التي كنت أعتبرها بمثابة مسلمات يتعين العمل على ترسيخها، ليس في أذهان الشباب فحسب، بل في مختلف شرائح المجتمع لتُصبح ثقافة سائدة في المجتمع ككل، كمقولة " من جد وجد ومن زرع حصد" وكأقوال كل من أبي العتاهية والإمام الشافعي وأحمد شوقي على التوالي:
تَرجو النَجاةَ وَلَم تَسلُك مَسالِكَها إِنَّ السَفينَةَ لا تَجري عَلى اليَبَسِ
بقدر الكد تكتسب المعــــــــالي ومن طلب العلا سهر الليـــالي
وما نيل المطالــب بالتمنـــــي ولكن تؤخــذ الدنيـــا غلابـــــا
ذلك أنه في الوقت الذي تخلَّصَتْ فيه وزارة التربية الوطنية من خيرة أساتذتها، إما عن طريق المغادرة الطوعية، أو عن طريق التقاعد النسبي، واستبدلتهم بمن سَمّوا أنفسهم الأساتذة الذين فُرض عليهم التعاقد، علما أن كلا من السياق الذي تم توظيفهم فيه، وظروف تكوينهم التي اتسمت بالارتجالية، ووضعيتهم المادية، لم يكن ليجعل منهم، أو لنقل من مجموعة غير قليلة منهم، أساتذة في مستوى التحديات التي تواجهنا، ليس على المستوى التعليمي التعلمي المحض فحسب، وإنما على المستوى القيمي والثقافي. وفي الوقت الذي يُلاحظ فيه تذمر عام لدى مختلف شرائح المجتمع بخصوص دور المؤسسة التربوية، يأتي الإضراب ليشل حركة المؤسسات العمومية لمدة غير قصيرة، بلغت في مرحلة من مراحله حد التلويح بسنة بيضاء، لتأتي نتائج البكالوريا في الدورة العادية عكس كل التوقعات، ورغما عن كل المؤشرات التي يزخر بها الواقع، بحيث بلغت نسب النجاح أرقاما قياسية في عدد كبير من المديريات، مقارنة مع نتائج السنوات السابقة. وسأكتفي على سبيل المثال لا الحصر بالنتائج المحصلة على المستوى الوطني بحيث بلغت نسبة 67,8% مقابل 59,8% في السنة الماضية بزيادة 8% وبتلك المحصلة على مستوى أكاديمية الجهة الشرقية 86,19% مقابل 76,14% بزيادة فاقت 10%.
وعلى الرغم من أن المنطق السليم لا يُسعف في إيجاد تفسير معقول لهذه النتائج، نجد أن هناك من يريد إضفاء نوع من المصداقية المتوهمة عليها، من خلال محاولة إيهام الرأي العام بأن الأطر المرجعية المكيفة لامتحانات البكالوريا التي أصدرتها الوزارة، ليس لها تأثير مهم على جوهر المقررات المفروض دراستها خلال السنة، وأكثر من هذا تداولت وسائل التواصل الاجتماعي فيديو "لأستاذ فرنسي" يهيب بمستوى موضوع مادة الرياضيات لشعبة العلوم الرياضية، مقارنة مع ما يُمتحن فيه التلاميذ الفرنسيون في نفس المادة، مشيرا إلى أن مستواه من مستوى ما يُدرس في السنوات الأولى في الجامعة الفرنسية.
إن النتيجة الأساسية التي يمكن أن يخرج بها كل من له أدنى معرفة بالمنهج العلمي، هي أنها تُلغي قاعدة الربط المنطقي بين المقدمات والنتائج، اللهم إلا بحثنا عن مقدمات أخرى يتم تحصيلها بطرق غير معهودة. وتفاديا لأي تعميم فإني أتساءل عن دور "ChatGPT" في هذه النتائج، علما أنه هو المستجد الأساسي في امتحانات هذه السنة.
في الأخير، وعلى افتراض أن هذه النتائج مستحقة، تُطرح مجموعة من الأسئلة المرتبطة ببعضها البعض، من قبيل: هل يمكن الاستغناء عن الأستاذ بالمعنى التربوي المتعارف عليه، والاكتفاء بفتح المجال أمام محترفي الساعات الإضافية داخل بعض مؤسسات التعليم الخصوصي، بل حتى في البيوت والمرائب؟ ثم إلى أي مدى يمكن اعتبار هذه النتائج مؤشرا على نجاح نظامنا التربوي في اكتساب الناجحين القيم والمعارف والمهارات التي تؤهلهم للاندماج في الحياة العملية، وفرصة مواصلة التعلم، كما هو وارد في ثنايا غايات نظامنا التربوي؟
ختاما أشير إلى أن الوضع الذي تعيشه جامعاتنا، يكشف في عمومه على أن هذه النتائج لا تعكس المستوى الحقيقي لطلبتنا، وإلا فما معنى أن ينجح أحدهم بميزة حسن أو حتى حسن جدا، ولا يُقبل في أي من المعاهد والكليات ذات الشهرة الوطنية، وما معنى أن يعجز طالب جامعي عن تحرير سيرته الذاتية، وما معنى وما معنى...؟ يبدو أن هناك تواطؤ غير معلن، بين الجهات الرسمية المسؤولة على قطاع التربية الوطنية، وبين جمهور غفير من أبناء هذا الوطن، ليصبح النجاح شعارا دون أن يستوفي الشروط المؤدية له، وهذا يذكرني بدعوة إحدى الجدات لحفيدها بالنجاح بقولها "الله يجعل الناس تقرا وأنت تنجح"، ويبقى المستقبل وحده كفيل بإسناد هذه الدعوة أو دحضها.
وسوم: العدد 1085