آفة الأغبياء أدعياء الذكاء أو أصحاب الذكاء الغبي

قد يبدو للبعض أن عنوان هذا المقال  يتضمن جمعا بين نقيضين ،علما بأن النقيضين لا يجتمعان، ولا يرتفعان معا ، ويُمثل لهما بالوجود والعدم ، خلاف الضدين اللذين يتعاقبان في موضع واحد ،ويمثل لهما بالسواد والبياض .

ولتبرير جمعي في هذا العنوان  بين نقيضين: هما الذكاء والغباء ، أنبه إلى أن المقصود هو الوقوف عند حالة شريحة من البشر الأغبياء الذين يظنون بأنهم أذكياء ، ويعيشون في هذا الوهم دون وعي بحقيقة غبائهم ، ودون أن يقيض لهم الله تعالى من ينبههم إلى عيبهم أو إلى آفتهم .

وهذه الشريحة توجد في  المثقفين والمتعلمين ، وفي الجُهّال ،و في أشباه المتعلمين، وأشباه المثقفين على حد سواء . وإذا ما ألتمسنا العذر للجُهّال وأشباه المتعلمين ، وأشباه المثقين  ، وهم  جميعا موضوع  إشفاق لجهلهم أو قلة معرفتهم، وضحالة ثقافتهم  ، فلا عذر للمتعلمين  والمثقفين الذين يصيرون موضوع سخرية وتنذر عند الناس  بسبب جهلهم بغبائهم وادعائهم الذكاء .

ومشكل هذه الشريحة  وتحديدا المتعلمين  والمثقفين منهم، يكمن في تعاملهم مع غيرهم وهم يركبون غرورهم ظانين بأنفسهم  الذكاء والفطنة ، فيستخفون  بهم ، ويستغفلونهم ، بل ويستغلّونهم ...، وفي ظنهم أن غيرهم لا يعلمون منهم ذلك ظانين بهم  الغفلة، وربما بلغ بهم الأمر ظن الغباء والسذاجة  بهم ، ومن ثَم تسول لهم أنفسهم استغلالهم  دون خجل بكل أنواع وأشكال الاستغلال دون أن يخطر لهم على بال في لحظة من اللحظات أن من يستغفلونهم ويستغلونهم إنما يشفقون عليهم إما لعلاقة قرابة أو لعلاقة صداقة أو لعلاقة زمالة في العمل أو لعلاقة جوار ... وأنهم يكتمون تضجرهم  من سوء خلقهم  ، ويستسمجونه  ، ولا يمنعهم من إظهار  امتعاضهم  سوى مروءتهم أو حياؤهم  ، أو تدينهم ، أو حرصهم على  صيانة علاقتهم بهم ،والتي تترتب عن انهيارها خسارة تلحق بهم  ، وهم أول ضحاياها، إذ يخسرون من كانوا يسدون إليهم المعروف ويحتسبون أجرهم عند الله عز وجل .

وأهل المروءة من أولي الألباب يحذرون بشدة في معاملاتهم الوقوع في  سلوك الأغبياء الذين يظنون توهما أنهم أذكياء ، وهم في الحقيقة إنما  يركبون غرورهم، وأنهم مجرد مغرضين وأصحاب مصالح إذا ما أدركوها تنكروا للجميل ، وصدق عليهم قول الشاعر المتنبي في بيت شعره الشهير :

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته         وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

وشر اللئام الأغبياء الذين يظنون بأنفسهم الفطنة والذكاء والشطارة ، و يشجعهم غباؤهم على استغفال واستغلال الناس الذين لا يبالون بسوء سلوكهم ترفعا عن مسايرتهم في ذلك، مع أنهم لو شاءوا لقابلوا سوءهم  بسوء مثله أو يفوقه ،ويكون البادىء أسوأ ، ولا يمنعهم  من مجاراتهم إلا حكمة الشاعر صلاح الدين الصفدي القائل :

وإن ُبليت  بشخص لا خلاق لهم       فكن كأنك لم تسمع ولم يقـــل

ولا تمار سفيها في محــــــاورة       ولا حليما لكي تنجو من الزلل  

ومما يكرس الغباء لدى أدعياء الذكاء وقد يبلغ عندهم حد الزمانة ، أنهم يكررون  مرارا استغفال واستغلال من يخفضون  لهم الجناح ، ويفاخرون بذلك إذا ما خلوا إلى  السفلة من أمثالهم. وقد يعادون من يحسنون إليهم ويقضون حاجاتهم متنكرين لهم ، ثم يعيدون كرة الرجوع إليهم بوجوه صفيقة  عندما تدعوهم إلى ذلك حاجاتهم  ومصالحهم ، ولا يجدون في ذلك معرة أو عيبا مشينا .

ومن عيوب الأغبياء أدعياء الذكاء الغيبة، والنميمة، والحسد، وسوء الخلق ... فهم كما يغتابون،  وينمون في حضرة  الناس غيرهم  الغائب خصوصا الذين يعتبرونهم منافسين لهم ، يفعلون نفس الشيء مع من يسمعون نميمتهم وغيبتهم  ،  والدافع وراء ذلك  إنما هو حسد منقدح في صدورهم لسوء تربيتهم وسوء خلقهم.  وهؤلاء إذا حضروا المجالس استبدوا بالحديث فيها متعالمين  ، وهم يحقرون كل متحدث  فيها ، و قد يسخرون منه  تلميحا أو تصريحا لوقاحة فيهم ، ويظنون بأنفسهم الأهلية لتصنيف غيرهم في العلم والمعرفة وفق أهوائهم  وهم تحت تأثير آفة حسدهم ، وآفة جهلهم بغبائهم . وويل من قال فأحسن في حضورهم المجالس ، وويل لمن أثنى الناس عليه وذكروه بخير في حضرتهم . وقد تبلغ بهم الوقاحة وسوء الخلق أن يُوعزوا إلى أصحاب  المجالس ألا يأذنوا لغيرهم بالحديث ، بل قد يتظاهرون بإسداء النص إلى غيرهم  كي لا يتحدث وهم حاضرون حتى  لا يفوت عليهم فرصة الحديث ، ومن غبائهم  أنهم يظنون أن هذا الغير لا يعي ولا  يدرك قصدهم  الماكر ، وخبث نواياهم . وأسوأ ما فيهم أيضا أنهم يرتزقون ويتاجرون بأحاديثهم ، وهم يستغلون بذلك الناس ، ويقضون مآربهم  ظانين بهم الغفلة، والسذاجة ،والبله، والغباء .  

ولو اطلع الأغبياء أدعياء الذكاء على من يظنون أنهم قد استغبوهم ، لما غشوا محافلهم أبدا ، ولا رغبوا في الأحاديث فيها ، ولتمنوا لو أنهم لم  يعرفوهم ، ولم تجمعهم بهم صلة ، وصدق الشاعر أبو تمام إذا يقول :

ليس الغبي بسيّد في قومه         لكن سيّد قومه المتغابي  

وسوم: العدد 1091