نديم العروضيين المجلس الخامس أ.د.محمد جمال صقر

تفريغ مريم الصاوي ومراجعة أميرة ناصف

سلام عليكم!

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته!

طبتم مساءً -يا أبنائي!- وطاب مسعاكم إلينا! باسم الله -سبحانه، وتعالى!- وبحمده، وصلاةً على رسوله، وسلامًا...

صلى الله عليه، وسلم!

ورضوانًا على صحابته وتابعيهم حتى نلقاهم! كيف حالكم، كيف أمسيتم؟ بارك الله فيكم، وشكر لكم، وأحسن إليكم، ويسر لنا ولكم كل عسير، وسهل كل صعب!

فرغنا في لقائنا السابق من الممارسة الأولى، التي بها انتبهنا إلى نمطٍ وزنيٍّ يسمى بحر المتقارب، ونمطٍ قافوي كذلك فيه تفصيل. وقد مارسنا ذلك من خلال قصيدة لطيفةٍ بديعةٍ جدًّا للشاعر اليمني الكبير عبد الله البردوني، فحققناها، ودققناها، ولحناها، ثم كتبناها، وخرَّجنا على السبورة منها بيتين، ثم انتقلنا إلى تخريجها كاملةً معًا، ثم أضفنا إلى تصويرها بياناتها، وانتهينا. وهكذا ستفعلون في البحث مثلًا، لا في الواجب؛ في الواجب يُخرَّج كل بيت من أبيات العمل الذي تناولناه معًا، ثم الذي نعثر عليه مما يشبه ما تناولناه- أما في البحث، فإنكم تختارون ديوانًا كاملًا، ديوانًا كاملًا من شعر أحد الشعراء، تخرِّجونه من خلال تخريج بيتين من كل قصيدة، بيت المطلع وبيت آخر يحمينا من أن ننخدع ببيت المطلع، لأن بيت المطلع ربما كان خَدّاعًا يتغير فيما بعد في سائر القصيدة، تقدمون بطاقةً عروضيةً كاملةً وافية لكل قصيدة من قصائد الديوان المختار. ولا ألزمكم بشاعر، لكيلا تقولوا: أثقلتَ علينا؛ فكل واحد حر: منكم من سيختار ديوان بشار وهو آلاف، هو مئات القصائد بآلاف الأبيات، ومنكم من سيختار ديوان زهير وهو لا يكمل خمسين قصيدة، أو ديوان فلان وهو عشرون قصيدة. كل واحد حر، كل واحد يختار نفسه، ويدل عليه اختياره:

"نَابَ عَنْكَ الَّذِي تَخَيَّرْتَ إِذْ كَانَ دَلِيلًا عَلَى اللَّبِيبِ اخْتِيَارُهْ"!

ربما اختار بعضكم عملًا ما، لأنه يريد أن يُدِلَّ بنفسه، أذكر أني درَّستُ هذا المقرر لقسم الموسيقى، فاختارت طالبة اسمها أصيلة ديوانًا صعبًا، وجعلتْ فيه بحثها وليست متخصصة -هي طبعا حصلت في آخر المطاف على ألف ناقص- كانت تتورط في الكلمات الصعبة، وتجتهد أن تحققها؛ لذلك كنتُ أحكي ما تفعله لصديقاتها -والقسم أكثره فتيات- فكنَّ يقُلن: هذه جدولها قليل، أي عندها فرصة للتنقيب والتفتيش، كانت تأتيني كثيرًا لتسألني وتحل المشكلة، ما شاء الله! طيب! فأنت حر، تختار القليل أو الكثير، الصغير أو الكبير، القديم أو الحديث أو الوسيط، كما تشاء- لِتُقدِّم نفسك من خلال عملك. اخترت الديوان، تقرؤه، تحققه، تختار من كل قصيدة بيتين، تقدم بهما بطاقة القصيدة العروضية، قبل هذا تبدأ بمقدمة في صفحة أو صفحة ونصف، ثم بعد هذا تقدم خاتمة تُصفّي فيها ما عثرت عليه: كثر في شعره كذا، وقل كذا، وهكذا. منكم من يكتفي بإضافة هذه المعلومات، ومنكم من لا يكتفي حتى يفسرها، حتى يستنبط منها معطيات، ويُفسر المعطيات، هكذا الباحث؛ البحث ليس عَدًّا، ليس جمعًا، لا، بل البحث تفتيش عن الأسرار؛ بَحَثَ يبحث -"يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ"- تحفر في أرض المادة التي بين يديك، حتى تولد معطياتها، وتفسر نتائجها، تُرى: لماذا كان هذا؟

أعرف أن بعضكم سيصعب عليه جدًّا أن يفسر، لكنه يستطيع. أنا لا أطالبك بالمعجزات، بل بالاستفادة مما حصلته من ثقافة: فإذا كثر الشيء في شعر فلان فهو نافع له يساعده على أداء ما يريد، أي تستطيع، لن يصعب عليك أن تجد تفسيرًا لما تولده من معطيات، تمام؟ بل بعضكم يصل إلى درجة الرسوم البيانية، والاعتماد على المتاحات في تصوير المعلومات والبيانات، شيء بديع! يُفاجئني الطلاب بالأعاجيب، بالأعاجيب، وربما دخل بعضكم على برنامج "إس بي إس إس" ، فصبَّ المعلومات، وولد المعطيات، وفسرها، ولاسيما طلاب التربية الذين يدرسون هذا برنامج، أليس كذلك؟ تدرسونه؟ تدرسون برنامج "إس بي إس إس"؟ هو من أهم البرامج الإحصائية التي تساعد الباحثين في العلوم الإنسانية، وهذه الجامعة الغراء تتيح لكم ولنا كذلك التدرب عليه؛ فهو برنامج مهم جدًّا في تكوين المعطيات وتحليلها، وتحليلها إحصائيًّا، وأنتم في كلية التربية تدرسون الإحصاء أصلًا، فاستفيدوا، أنتم أساتذتنا في هذا أصلًا، أنتم في هذا أساتذتنا، أنا لم أدرس هذا، لم أكن في كلية التربية، فهذه نعمة ينبغي أن تتمسكوا بها وأن تستفيدوا منها.

نعود! هذا البحث -وهو بخمس عشرة درجة- أما هذا الملف فبعشر درجات، لكن فيه ما فيه، فيه علمٌ كثير جدًّا، لا أريد أن أرى بياض الصفحة، لا أريد أن أرى هذا البياض، من كثرة الكتابات والنقول والواجبات، لا أريد أن أرى هذا البياض، ولا أريد شيئًا غير الملف، لا أريد هذه الإضافات من الأوراق الملحقة، أنا لا أريد إلا الملف. اكتب كل شيء، حُلَّ كل شيء، إذا فرغنا من قصيدتنا بحثتَ لها عن قصيدة كما بحثَتْ أَملُ -ها!- لكن تنقلها إلى الملف، وتُحللُها كما حللنا تمامًا تمامًا، وتضيف البيانات في الآخر كما فعلنا، كأنك ستدِّرس الكلام من خلال قصيدتك، وكل واحد حر، يختار ما يريد، منكم من يختار الغزل، ومنكم من يختار الدعوة، كل واحد حر.

طيب! الآن نستطيع أن ننتقل إلى ممارستنا الثانية من خلالِ قصيدةٍ قصيرةٍ لطيفة، عثرتُ على بعضها في كتاب "الصداقة والصديق"، لأبي حيان التوحيدي، ثم أتممتها من غيره، وقد سميتها "أَتَانِي عَنْكَ"، لمحمود بن حسن الوراق، المتوفي سنة عشرين ومئتين، وهذا تاريخ متقدم، تاريخ متقدم، من زمان العزة، من زمان الاستشهاد -عاش هذا الرجل أكثر عُمره في القرن الثاني، وأنتم تعرفون أننا نستشهد بكلام أهل القرن الثاني في الحضر، وبكلام أهل القرن الرابع في البدو، في المدر (البدو أو البادية)، يقولون: حضر ومدر، والمدر الطين- فينبغي أن يقدر، أي إذا رأيتم إذا رأيتم الكلام من ذلك الزمان الأول نفيسًا جدًّا، فقدروه تقديرًا مُضَاعفًا، لأنه من زمان ما قبل الفساد أو الاشتغالات الزائدة، من زمان الصفاء. سميتُها "أتاني عنك"، هل سماها صاحبها هذا الاسم؟ لا، لم يكونوا يسمون القصائد، على رغم أن القرآن قد تسمَّتْ سورُه، ونحن دائمًا نقلد القرآن؛ فلماذا لم يسموا قصائدهم كما سمَّى القرآن سوره؟ يبدو أن القرآن أعجزهم عن أن يفكروا في هذا، لأن القرآن لما نزل أذهل العرب، أذهلهم، ولوَّحهم، وحوَّل أحوالهم؛ فلم ينتبهوا إلى أنفسهم، وإلا كان ينبغي أن يستفيد منه الشعراء، وأن يسموا قصائدهم كما تسمت السور. "أَتَانِي عَنْكَ"، عنوان مأخوذ من مطلع القصيدة، كما كان القدماء يفعلون، لم يكونوا يجدون للقصائد عناوين؛ فكانوا يأخذون من مطالعها، يقولون لك: هل قرأت "قفا نبك"؟ هل حفظت "قفا نبك"؟ ما قولك في "قفا نبك"؟ ...، وهكذا، يسمونها "قفا نبك"، ها!

أَتَانِي عَنْكَ

أَتَانِي عَنْكَ مَا لَيْسَ عَلَى مَكْرُوهِهِ صَبْرُ

فَأَغْضَيْتُ عَلَى عَمْدٍ وَقَدْ يُغْضِي الْفَتَى الْحُرُّ

وَأَدَّبْتُكَ بِالْهَجْرِ فَمَا أَدَّبَكَ الْهَجْرُ

وَلَا رَدَّكَ عَمَّا كَانَ مِنْكَ الصَّفْحُ وَالْبِرُّ

فَلَمَّا اضْطَرَّنِي الْمَكْرُوهُ وَاشْتَدَّ بِيَ الْأَمْرُ

تَنَاوَلْتُكَ مِنْ شَرِّي بِمَا لَيْسَ لَهُ قَدْرُ

فَحَرَّكْتَ جَنَاحَ الذُّلِّ لَمَّا مَسَّكَ الضُّرُّ

إِذَا لَمْ يُصْلِحِ الْخَيْرُ امْرَأً أَصْلَحَهُ الشَّرُّ

"أَتَانيِ عَنْكَ مَا لَيْسَ عَلَى مَكْرُوهِهِ صَبْرُ"!

خلاص، ومع هذا:

"فَأَغْضَيْتُ عَلَى عَمْدٍ وَقَدْ يُغْضِي الْفَتَى الْحُرُّ"،

سكت، وصبرت، ليس هذا لعجز فيَّ وذل؛ فإن الحر ربما صبر على صاحبه والتمس له المعاذير فقال: ربما، ربما، ربما.

"وَأَدَّبْتُكَ بِالْهَجْر ِفَمَا أَدَّبَكَ الْهَجْرُ"،

سمعتم الكلام الجميل! الله على الكلام المتراقص!

"وَلَا رَدَّكَ عَمَّا كَانَ مِنْكَ الصَّفْحُ وَالْبِرُّ"،

لم يمنعك مما تفعل لا صفحي ولا بري، ما الصفح؟

العفو.

العفو. ما البر؟ أهو العفو؟

الإحسان.

الإحسان. من المجيبة؟ أحسنتِ! أحب هذا، أحب أن تكونوا معي على الخط، أن تكملوا العبارات هكذا من غير استئذان، لا أحب الاستئذان، أحب أن تكملوا العبارات من غير استئذان، فكأننا شخصٌ واحد يتكلم، ها! طيب ثم ماذا؟

"فَلَمَّا اضْطَرَّني الْمَكْرُوهُ...

"اضطرني"، أرأيتم هذا الفعل كيف استعمله؟ اضطرني تقول: اضطررتني إلى أن أفعل كذا، أنتم تقولون في أكثر الكلام: اضطُرِرتُ. كأن هذا غير موجود، سبحان الله! العادة العادة، العادة طبيعة ثانية؛ فاكسروها، اكسروا العادات!

"فَلَمَّا اضْطَرَّني الْمَكْرُوهُ...

 أتدرون من أين جاء "اضطرّ" هذا؟ من "الضر"، من الضاد والراء والراء، "فَلَمَّا اضْطَرَّني الْمَكْرُوهُ"، أي بلغ مني مبلغًا كبيرًا، كأنه ألصقني في الحائط لا أستطيع أن أتحرك.                                                                                     

"... وَاشْتَدَّ بِيَ الْأَمْرُ"،

ها، ماذا فعل؟

"تَنَاوَلْتُكَ مِنْ شَرِّي بِمَا لَيْسَ لَهُ قَدْرُ"،

يا سلامًا! كأنه أمسكه -ها!- وغمسه في الشر، ثم قذف به، ها! كان جدي رجلًا قويًّا جدًّا، كان في طول هذا الباب!

ما شاء الله!

وفي عرضه، وكان حميًّا، ذا حمية، كان إذا رأى الخطأ لم يسكت عليه -رحمه الله!- فمرة مر على الشاطئ، فوجد شابًّا يُغازل فتاة تغسل مواعينها -كنا قديمًا نغسل المواعين في البحر، قبل أن تكون لدينا صنابيرُ وكذا- يقول: فَأَنَّبَهُ -يبدو أن الشخص لم يرتدع- فأمسك به، قال جدي: فكانوا يقيمونني به ويقعدونني به -ها! كأنه ألصق نفسه به عند الضرب، أي عصره عصرًا- فكانوا يقيمونني به ويقعدونني به، تذكرت هذا بقول الشاعر: "تَنَاوَلْتُكَ مِنْ شَرِيّ بِمَا لَيْسَ لَهُ قَدْرُ"، كأنه أمسك به، وأحاط به، وعصره، ها! فماذا حدث؟

"فَحَرَّكْتَ جَنَاحَ الذٌلِّ لَمَّا مَسَّكَ الضُّرُّ"،

يا ذليل، وأخذ جناح الذل من قول ربنا: "وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ"، ومن قديمٍ يستفيد الشعراء من القرآن الكريم.

"فَحَرَّكْتَ جَنَاحَ الذُّلِّ...

تحته، تحت العصر -ها!- كما يفعلون في حلبات المصارعة، ترون المصارعة -ها!- حينما يقول: استسلِمْ، فيوقف المصارعة، هذا جناح الذل هذا. فيُحكَم للعاصر على المعصور، يُحكَم للعاصر على المعصور بالفوز، المسكين لا يتنفس أصلًا تحت العصر، فيُترك كيلا يموت، فيُضرب الجرس، وتُنْهَى المباراة!

"فَحَرَّكْتَ جَنَاحَ الذٌلِّ لَمَّا مَسَّكَ الضُّرُّ

إِذَا لَمْ يُصْلحِ الْخَيْرُ امْرَأً أَصْلَحَهُ الشَّرُّ"!

والإنسان فيه الشر والخير، تجرّب الخير فإن لم ينفع جرّبت الشر، كما قال الشاعر:

"إِذَا أَنْتَ لَمْ تَنْفَعْ فَضُرَّ فَإِنَّمَا يُرَجَّى الْفَتَى كَيْمَا يَضُرَّ وَيَنْفَعَا"!

ها! إذا أنت لم تنفع فضر، المهم أن تفعل شيئًا، لا أن تعيش وتموت هكذا، بل كما قال المتنبي:

"وَتَرْكُكَ فِي الدُّنْيَا دَوِيًّا كَأَنَّمَا تَدَاوَلُ سَمْعَ الْمَرْءِ أَنْمُلُهُ الْعَشْرُ"!

لابد أن تفعل شيئًا في هذه الدنيا. "إِذَا أَنْتَ لَمْ تَنْفَعْ فَضُرَّ"، طبعًا هذه سخرية، طبعًا سخرية؛ من الذي يحب أن يضر الناس؟ من؟ لكن يقصد: لا تذهب من هذه الحياة هكذا كأنك لم تأت إليها! في مرة كان أحد الشباب يحدو بالقافلة، يُغني -تعرفون أن الحُداء غِناء الأعراب، غناء الأعراب الحُداء- يغني للإبل حتى تتعلق بالغناء، ثم يسرع لتسرع، يسرع لتسرع حتى يصل، هذه طريقة الغناء في البدو، يغني للإبل، والإبل طِرَاب أصلًا، تتعلق بالغناء، ثم قليلًا قليلًا يسرع الإيقاع يسرع يسرع؛ فتسرع الإبل، والنتيجة أن يصل سريعًا. أرأيتم كيف يفعلون! وإبل العرب طِراب -لهذا قيل: "لَنْ تَدَعَ الْعَرَبُ الشِّعْرَ حَتَّى تَدَعَ الْإِبِلُ الْحَنِينَ"، أي بينهما علاقات- كان يغني:

أَنَا الْغُلَامُ الَاسْمَرْ

اَلْخَيْرُ فِيَّ وَالشَّرّْ

وَالشَّرُّ فِيَّ أَكْثَرْ"!

كلام جميل هذا! ها! انظروا إلى الشيطان كيف يقول؟ يقول: انتبهوا أنا شرير!

ها مَنْ يقرأ؟ طبعًا هذا سهل لا منافسة. أنا من الأول أعترف بإلغاء المنافسة، سنعقدُها اللقاء القادم، هذه الأبيات السهلةُ لا منافسةَ عليها، فمن يقرأ مجانًا؟ ها! ميسون تحب القراءة المجانية، اقرئي!

أَتَاني عَنْكَ مَا لَيْسَا عَلَى مَكْرُوهِهِ...

مَا لَيْسَ، بالغت في الفتح قليلًا، أعيدي!

أَتَانيِ عَنْكَ مَا لَيْسَ عَلَى مَكْرُوهِهِ صَبْرُ

جميل.

فَأَغْضَيْتُو عَلَى عَمْدٍ...

فَأَغْضَيْتُ، مرة أخرى من غير إشباع!

فَأَغْضَيْتُ عَلَى عَمْدٍ وَقَدْ يُغْضِي الْفَتَى الْحُرُّ

لا بأس.

وَأَدَّبْتُكَ بِالْهَجْرِ فَمَا أَدَّبَكَ الْهَجْرُ

نعم.

وَلَا رَدَّكَ عَمَّا كَانَ مِنْكَ الصَّفْحُ وَالْبِرُّ

لا حول ولا قوة إلا بالله!

فَلَمَّا اضْطُرَّنيِ...

ها! فَلَمَّا اضْطُرَّنيِ؟ رأيتِ؟ وقعت في العادة، والعادة محكمة، بل للعادة سلطان، للعادة سلطان؛ فاجتهدوا ألّا تتعودوا الأخطاء، عافانا الله وإياكم! ليتنا نتعود الصواب لا الخطأ، ها! كيف نقول يا ميسون؟

فَلَمَّا اضْطَرَّنِي الْمَكْروهُ وَاشْتَدَّ| بِيَ الْأَمْرُ

انظروا كيف تقف؟ لا، لا، "فَلَمَّا اضْطَرَّنِي الْمَكْرُوهُ وَاشْتَدَّ بِيَ الْأَمْرُ"، ها! ماذا فعل؟

تَنَاوَلْتُكَ مِنْ شَرّي بِمَا لَيْسَا لَهُ قَدْر

بِمَا لَيْسَ، أعيدي!

تَنَاوَلَتْكَ مِنْ شَرِّي بِمَا لَيْسَ لَهُ قَدْرُ

فكانوا يقيمونه به ويقعدونه به، أمسك به، وأحاطه حتى عصره بيديه، ها! فماذا حدث؟

فَحَرَّكْتَ جَنَاحَ الذُّلِّ لَمَّا مَسَّكَ الضُّرُّ

يستاهل، ها!

إِذَا لَمْ يُصْلِح الْخَيْرُ اِمْرِئًا أَصْلَحَ...

خطأ، ما هكذا نؤدي.

امْرَأً...

إذا تعثرتِ عند همزة الوصل -عافانا الله وإياك!- عُدت إلى أول البيت تعيدينه! لقد قلتِ: إِذَا لَمْ يُصْلِح الْخَيْرُ، ووقفت هنا، ولا يجوز هذا، فعلي أن تعودي لتعيدي من الأول: إِذَا لَمْ يُصْلِح الْخَيْرُ امْرَأً؛ وإلا اضطررت إلى قطع همزة "امْرِأً"، فكسرت الوزن، لا حل، لا حل إلا أن تعودي إلى الأول لتعيدي البيت؛ إذن؟

إَذَا لَمْ يُصْلِح الْخَيْرُ امْرَأً أَصْلَحَهُ الشَّرُّ

وهذا أصعب الأبيات أداءً في هذه المجموعة، تأملوا توالي الحركات المتنافرات والإدغام، حدث هذا أكثر من مرة؛ فصعّب البيت. "إِذَا لَمْ يُصْلِح الْخَيْرُ امْرَأً"، كنت أحفظها في الأول "إِذَا لَمْ يُصْلِحِ الْخَيْرُ فَتًى"، ثم لما راجعتها في أصلها وجدتها "إِذَا لَمْ يُصْلَح الْخَيْرُ امْرَأً" وهذا أصعب طبعًا، لكن ماذا أفعل؟ كأنه أراد أن يصعب الأداء، ليدل على شكاسة طبعه، على اضطراب طبع هذا المرء الذي سيصلحه الشر لما عجز الخير. ها، جميل، طيب! نكتب البيتين الأولين -أحسنتِ، يا ميسون!!- نكتب البيتين الأولين.

"باسم الله"! سؤال لماذا نضع علامة تأثر؟ من يجيب؟ لماذا نضع هذه العلامة "!"، بعد "باسم الله"؟ لماذا؟ من يعرف؟

للتعظيم.

لا، بل لأن هذه الجملة -هي جملة حذف أكثرُها، أصلها "أبدأ باسم الله"- بعد الحذف منها واستعمال "باسم الله" الاستعمال المعروف، تحولت إلى الإنشائية، فوجب أن نعبر عن إنشائيتها بعلامة التأثر. ماذا يقول الرجل؟ يقول: "أَتَانِي عَنْكَ" ما معني "أَتَانِي عَنْكَ"؟ بلغني أنك تذكرني. "أَتَانِي عَنْكَ مَا لَيْسَ عَلَى مَكْرُوهِهِ...

صَبْرُ".

صَبْرُ. طبعًا الكلام قليل؛ فأنا مُنتشر على السبورة، "أَتَانِي عَنْكَ مَا لَيْسَ عَلَى مَكْرُوهِهِ صَبْرُ"، نختار بيتًا آخر ويكفينا الثاني، لا بأس بالثاني إنه يسد المسد. "فَأَغْضَيْتُ"، ما معني "فَأَغْضَيْتُ"؟

تجاهلت.

صبرت، سكت، تحملت، كأنه كسر عينه، وقال: لنتحمل! "فَأَغضَيْتُ عَلَى عَمَدٍ"؟

عمْد.

ما الفرق ما بين العمَد والعمْد؟ العمَد: الأعمدة، والعمْد؟

القصد.

القصد، "فَأَغْضَيْتُ عَلَى عَمْدٍ وَقَدْ يُغْضِي الْفَتَى الْحُرُّ"، ها! كتبنا، كيف كتبنا؟ كتبنا كما تيسر، خلطنا بين الخطوط المختلفة -ماذا نفعل؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله!- فبعضها على النسخ، وبعضها على الرقعة، وبعضها على الديواني، وبعضها على الثلث، تشكيلة لو رآها الخطاطون لجأروا منها بالشكوى، لكنها على أية حال ليس فيها خطأ إملائي. تأكدوا، يا جماعة؛ فكل ابن آدم خطاء! طيب! مقبولة؟ مقبولة، نبدأ نشكل، ها: "أَتَانِي"، نشكل في أثناء النطق، لكيلا نُرحِّل الحركات، تقربوا إلى الله بالإملاء والتشكيل!

أستغفر الله!

تقول: أستغفر الله؟ استغفر الله! تتقرب إليه بالعمل الصالح، أفاسدٌ هذا العمل! تتقرب إلى الله بكل عمل مُتقن تعمله. قديمًا سمعت خطاطًا عراقيًّا يقول من باب عطف الناس على الخط -والعراقيون الخطاطون مشاهير معروفون، منهم الآن أكبر الخطاطين "يوسف ذو النون" هذا رأس الخطاطين، رأيته في مكتبة الإسكندرية- سمعت خطاطًا يقول: يا أخي، في الحديث -ها! تحول إلى محدث!- في الحديث "من خط السين وحسنها دخل الجنة"، على طريقة وضع أصحاب الحرف للأحاديث، فلان من النجارين يضع حديثًا في النجارة، هذا في الحدادة، هذا في كذا، فصارت عندنا أحاديث حِرَف يمكننا أن نجمعها ونضع فيها كتابًا "أحاديث الحرف الموضوعة"، فهذا في بيع الخُضْرة، وهذا في اللحوم وهذا في كذا، وبعضهم يقتطع من القرآن الكريم ما ينفعه في...

في الحديث.

في حرفته، كما في وضع هذا الخياط "فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا"!

هههه!

ها! حتى قال لي أحد العلماء: حتى إن إحدى الفاسدات وضعت على البيت "إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحِيي"!

أستغفر الله!

لا يستحيي -ها!- طبعًا هذا عبث في الكلام! "أَتَانِي عَنْكَ مَا لَيْسَ عَلَى مَكْروهِهِ...                                                                         

صَبْرُ.

صَبْرُ، يا سلامًا! استمتعوا، تقربوا إلى الله بحسن الإملاء والتشكيل، ها"؟ فَأَغْضَيْتُ عَلَى عَمْدٍ... مع الأسف كتابة هذا على الحاسوب تفقدنا متعة الإملاء والتشكيل، متعة! وَقَدْ يُغْضِي الْفَتَى الْحُرُّ، يا سلامًا! متعة متعة! طيب! كتبنا، وشكلنا، ها! متأكدون من أننا لم نخطئ؟ لم نخطئ؟ هاا! الله أكبر! الله أكبر! فلنلحن إذا، ما دمنا قد ضبطنا هذا الكلام في اللغة فلنضبطه في اللحن، ولحنه معروف، تربيتم عليه، أنا وأنتم تربينا عليه من خلال "سبيستون" ها؟ كانت "سبيستون" تعرض علينا أناشيد من هذا، ها! كيف نقول؟

أَتَانِي عَنْـ       ـكَ مَا لَيْسَ    عَلَى مَكْرو       هِهِ صَبْرُ

فَأَغْضَيْتُ      عَلَى عَمْدٍ        وَقَدْ يُغْضِي الـ ـفَتَى الْحُرُّ

"بلاد العُرْب أوطاني"، النشيد -ها!- هذا هو. بلاد العر.. أنا في قسم الموسيقى أذيع عليهم الأغنية، " بلاد العُرْب أوطاني"، وغناها ناس كثيرون حتى (كاظم الساهر) غناها. "أَتَانِي عَنْـ ـكَ مَا لَيْسَ  عَلَى مَكْرُو "، هكذا تغنى، أتذكرون حين حدثتكم عن الرسول -عليه الصلاة، والسلام!- حينما سألهم: غنيتم؟ فلما لم يجدهم غنوا قال: "هلا قلتم: أَتَيْنَاكُمْ أَتَيْنَاكُمْ فَحَيُّونَا نُحَيِّيكُمْ"، وهو لحننا الآن؛ فهو إذن لحن شريف، أشرف الألحان؛ لأن الذي نبهنا عليه رسول الله...

صلى الله عليه، وسلم!

هذا لحنٌ شريف، إذا صحت الرواية فقد نبهنا على أن نستعمله رسول الله نفسه -عليه الصلاة، والسلام!- وكلُّ كلام رواه فهو أشرف الكلام: كلام ربنا أشرف الكلام، ثم كلام رسوله الذي علمه وأدبه تأديبًا، ثم ما رواه من كلام غيره، وقد حدث. حُدِّثنا -وقد تبين لي من تخريج الألباني أنه حديث موضوع- أنه كان في السوق فرأى قس بن ساعدة على جبل أحمر، يعظ الناس، وروى كلامًا من كلامه: "أيها الناس ما فات مات، وكل ما هو آتٍ آت"، فهذا ينبغي أن يكون من أشرف الكلام. كلام ربنا إذن أشرف الكلام -سبحانه، وتعالى!- ثم كلام نبيه -صلى الله عيه، وسلم!- ثم ما رواه نبيه من كلام الناس، كقوله: "أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلُ". شريفة! رواها هو -ما شاء الله!- هل يطمح الواحد منا إلى أكثر من أن يروى كلامَه العظماءُ! في مرة من المرات ذكر سماحة الشيخ أحمد (مُفتي عُمان)، شيئًا فعله الدكتور محمود الريامي، انظر إلى الشرف، فكان شيئًا نهنئ عليه الدكتور محمودً، نهنئه بأن سماحة الشيخ، ذكر بحثه، قال: "وقد فعل الدكتور فلان كذا"، هل بعد هذا شرف ؟ وأشرف منه أن يذكره السلطان قابوس، وأشرف منه أن يذكره الصحابة -رضي الله عنهم!- وأشرف منه أن يذكره الرسول -صلى الله عليه، وسلم!- وأشرفه منه أن يذكره رب العالمين، عز، وجل!

الله!

ومن هؤلاء الذين ذكرهم؟ من الذي ذكر باسمه في القرآن؟

زيد.

زيد، هل هناك شرف بعد هذا! صار اسمه قرآنًا يتلى في الصلوات على مدار الزمان! وهناك من ذكر بموقفه دون اسمه، سبحان الله! هل بعد هذا شرف! طيب! هكذا نُخَرِّجُ هذا كما تعودنا، ونُغنّيه في وقت التخريج كذلك.

أَتَانِي عَنْـ| خط

ـكَ مَا لَيْسَ| خط

عَلَى مَكْرُو، أين نضع الخط؟

بعد الواو.

بعد الواو. "هِهِ صَبْرُ|" هذه سهلة. فَأَغْضَيْتُ| عَلَى عَمْدٍ| وَقَدْ يُغْضِي الْـ، أين؟

بعد لام "أل".

بعد لام "أل"، فَتَى الْحُرُّ| ثم نكتب صوت العزف أو العزيف، عزيف الجن:

أَتَانِي عَنْـ

ددن دن دن

كَ مَا لَيْسَ

ددن دن د

عَلَى مَكْرُو

ددن دن دن

واو المد حرف ساكن "ن"، وسين "ليس" حرف مفتوح "دَ".

هِهِ صَبْرُ|

ددن دن دن

اتفقنا على أن هاء الضمير إذا تحركت بعد متحرك وجب؟

إشباعها.

إشباعها؛ فكأن لها هنا ياءً غير مكتوبة، طبعًا لها ياء غير مكتوبة، ونحن هنا أناسٌ أصواتيون؛ لا نعبأ بالكتابة، يمكنني أن أكتب لكم بالحروف اللاتينية، يمكنني أن أكتب البيتين بالحروف اللاتينية، لا مشكلة. المهم أن أتكلم العربية، طبعًا نحن يسرُّنا وينفعنا أن نكتب بالحروف العربية المعروفة، التي تنتمي إلى الكتابة المصرية التي ضربت في الأرض حتى بلغت الحجاز. لقد كنت أُدَرِّس الكتابة العربية في جامعة الدول العربية، كنت أدرس الكلام كيف كُتِب؟ والكتابة كيف نشأت؟ أنا غير متخصص، لكن طُلِب مني هذا، فدرّستهُ، فاستفدت. ترون أنتم أنفسكم كيف كتب القرآن الكريم بطريقة غيرناها نحن الآن؛ فنحن نجتهد أن نحسن قدر الطاقة. أما المصحف فلأنه يجمع القراءات المتواترة حافظنا عليه كما هو، وأضفنا إليه من غير تغيير في أصله، جاء الخليل، ففعل كذا، وجاء من قبله ومن بعده ففعلوا كذا، دون أن يغيروا...                                                                                                             

في أصله.

فَأَغْضَيْتُ

ددن دن د

عَلَى عَمْدٍ

ددن دن دن

وَقَدْ يُغْضِي الـ

ددن دن دنـ

فَتَى الْحُرُّ

ددن دن د؟ لا، ددن دن دن. لماذا ألح على هذا؟ لأن بعضكم يخطئ في الواجب، وفي البحث، وسيخطئ وينسى هذا، لأنه سيرجع إلى البيت، ويشتغل بالغداء والملابس والسيارات، والزيارات والمؤانسات، وسينسى هذا التنبيه، ليجد الخطأ في الواجب، وفي البحث؛ ليجده هنا كتبها "ددن دن د" خطأ! هذه "ددن دن دن"، لأن هذا موضع وقف، والوقف يحتاج إلى سكون، والسكون ضد الحركة. معنى هذا أنك أشبعت هذه حتى نشأ لها بعدها مد غير مكتوب، لأن الكتابة عرف.

طيب! فرغنا من كتابة صوت العصا، فلْنكتب تفعيلات الخليل إكرامًا له، لأنه مخترع العلم، والمصطلحات أدوات العلم.

طيب! تعرفون أن الخليل بنى علمه على نظرية الدوائر، هذه النظرية التي كشف بها صلات البحور؛ فاكتشف أن هذا البحر وذاك البحر وذلك البحر من عائلة واحدة؛ فجمع هذه المجموعة، ورسمها على دائرة واحدة، ثم قال: مِن هنا إلى هنا يبدأ بحر كذا، ومن هنا إلى هنا يبدأ بحر كذا، ومن هنا إلى هنا يبدأ بحر كذا. صنع دائرة ببحور الأسرة الواحدة، عبقريٌّ قطعًا! عمل مدهش! وكان يستدل بالبحور في الأسرة بعضها على بعض؛ استدل بالهزج مثلًا في عائلته، على أخويه الرجز والرمل، والرجز مسدس التفعيلات (مستفعلن مستفعلن مستفعلن مستفعلن مستفعلن مستفعلن)، وكذكل الرمل (فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن)؛ فانتبه إلى أن الهزج ينبغي أن يكون مثلهما مسدَّسًا (مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن) -وهذا كان في خيال الخليل فقط؛ فلم يحدث في الواقع أن كان البيت من الهزج ست تفعيلات- فلعلكم تقولون له: ما هذا، يا أستاذ! تضحك علينا! تضللنا! ولعله يقول لكم: ما ضللتكم، بل استدللت بالأخوين على أخيهما، كما تستدلون أنتم ببعض الإخوة في الأسرة على بعض. تسمعون أن فيها ثلاثة أولاد، وأن اثنين منهم صالحان برّان تقيان مجتهدان؛ فتقدرون أن الثالث مثلهما، وربما اكتشفتم العكس فيما بعد! لكن المهم أنكم مضيتم على منهج منطقي، أغلب الناس في الأسرة صالحون؛ فهذا صالح حتى يثبت العكس، فلما اطلعتم على الواقع اكتشفتم أنه فاسد؛ فماذا تفعلون؟ تحاولون أن تعالجوا هذا الخلل بإضافة تنبيه زائد، وهذا ما فعله الخليل؛ ماذا فعل؟ قال: "البيت من الهزج: مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن مرتين، وهو مجزوء وجوبًا". ما معنى مجزوء؟ حُذِف جزء، حذفت تفعيلة من كل شِطر من شِطري البيت. أرأيتم كيف حل المشكلة!

مفاعيل.

مفاعيل فقط؟ مفاعيلُ، ونضع ضمة، حتى ننتبه. ما مفاعيلُ هذه؟ مغيرة. ما اسم تغييرها؟ الكَفُّ، وهي به مَكْفوفة. ما الكف؟ حذف ساكن السبب الخفيف، متى كان سابع حرف في التفعيلة. ذكرت لكم حينما كنا نتكلم عن القبض في المتقارب، أنه سيحدث في أكثر من مكان، وله في كل مكان اسم، التغيير هو هو، حذف ساكن السبب الخفيف، لكنه إذا حدث ثانيًا سمي الخَبْن، وإذا حدث رابعًا سمي الطَّيّ، وإذا حدث خامسًا سمي القَبْض، وإذا حدث سابعًا سمي الكَفّ، والتفعيلة به مكفوفة. إذا أردتم أن ترمزوا إليها بالكاف لم يكن من بأس، على أن تذكروا رموزكم في الصفحة الأولى.

مشكلة العصا أنها لا تستطيع أن تمنع السكوت، مفاعيلُ مكفوفة؛ فما الكف إذن؟

حذف ساكن السبب الخفيف.

حذف ساكن السبب الخفيف متى كان؟

سابع حرف.

سابع حرف. والكف زحافٌ لطيف جدًّا، لطيفٌ جدًّا! بل ربما كان أحسن في بعض الأحيان من السلامة؛ قال الأصمعي: "رُبَّ زِحَافٍ أَطْيَبَ فِي السَّمْعِ مِنَ الْأَصْلِ"! ألم تكتبوا تلك العبارة من قبل؟ مساكين، مساكين؛ كيف إذن سآخذ الملف فارغًا من مثل هذه العبارات؟ هذه عبارة من الحكمة العالية، تنفعنا في علم العروض- وهي من حكم علم العروض- وفي غير علم العروض؛ ألم يحدث لكم في حياتكم أن فعلتم أمرًا كنتم تظنون أنه خطأ، فبان أنه أفضل من الصواب؟ يحدث؛ رب تصرُّف كنت تظنه خطأ مفسدًا مدمرًا للعمل، فإذا هو أفضل شيء في العمل!

هناك في عبث العابثين يستعملون ما يسمى الكتابة العروضية، كيف يكتبون؟ تدرون كيف يكتبون "وَقَدْ يُغْضِي الْـ"؟ طيب، انتبهوا، انتبهوا! لو كتبناها كتابة عروضية لقلنا: "وَقَدْيُغْضِلْ" هكذا! وكيف يكتبون "فتى الحر" كتابة عروضية؟ هكذا: "فَتَلْحُرْرُو"! ما قولكم في هذا العبث؟ هذا أشبه بِحُرُوز السَّحَرة (أَحْجِبَتِها)، هل تعرفونها؟

نعم.

هل رأيتم شيئا منها من قبل، هل جربتم فتح شيء منها؟             

لا.

أنا جربت، نعم! فماذا رأيت في الداخل؟

لا شيء!

بل رأيت! كانت جدتي دائمًا تصنع لي منها -رحمها الله!-، ففي مرة فتحت واحدًا، فوجدته راءات مرتبة فقط، راءات مرتبة ما زلت أذكرها! كلام فارغ، كلام فارغ!  أهذا العبث يغني عن كلام رب العالمين في كتابه! معقول! يا أخي، اكتب لنا شيئًا من القرآن مثلًا، اكتب لنا حكمة تنفعنا في حياتنا! تكتب عبثًا لا دلالة له، لا معنى له؛ كذلك الكتابة العروضية! ثم هم لا يتقنونها أصلًا. أتحداهم! أنا حققت "مظهر الخافي في علمي العروض والقوافي"، لسعيد بن خلفان الخليلي، فوجدته -وهو المحقق المدقق- يخطئ في الكتابة العروضية! من ورطك في الكتابة العروضية؟ لماذا وَرَّطت فيها نفسك؟ وهو رجل كبير عظيم. فكان أحيانًا يفعل غير ما ينبغي! هذه الكتابة العروضية طبيعتها غير طبيعية! لا، الأفضل أن تكتب الكتابة العادية، وأن تستهلك جهدك في ضبطها، لا في تحويلها إلى هذه الرموز السخيفة، لا، تمام؟ طيب! الآن نكمل عملنا جماعةً، لكن بعد أن أوصيكم: شُدّوا دساتين أعوادكم، وأَحْموا طبولكم ودفوفكم، واشربوا، واطربوا -اشربوا ما شئتم من القهوة العمانية، أو التركية، أو البدوية والبدوية أحسنها، أو ما شئتم من عصير التوت المقدس- واطربوا -ما الطرب؟ البهجة؛ فابتهجوا؛ فأنتم الآن في عمل مبهج- ولا يتقدمن عازفٌ...                                                                                                   

عازفًا.

عازفًا، فالعمل؟

واحد.

جماعي، فإن ظن أنه يحسن...

فإنه يسيء.

فإنه يسيء، واجعلوا النغمة...

أكثر زرقة.

ما معنى أن تكون أكثر زرقة؟ لا نعرف -يا أستاذ!- هذه حالة تعرفها أنفسُنا ولا تؤديها ألسنتُنا، حالة نعيشها، لا ندري كيف تكون! سحر، سحر، ها!

أَتَأنِي عَنْـ

ـكَ مَا لَيْسَ

عَلَى مَكْرو

هِهِ صَبْرُ

فَأَغْضيْتُ

عَلَى عَمْدٍ

وَقَدْ يُغْضِي الْـ

فَتَى الْحُرُّ

وَأَدَّبْتُـ

ـكَ بِالْهَجْرِ

فَما أَدَّ

ـبَكَ الْهَجرُ

وَلَا رَدَّ

ـكَ عَمَّا كَا

ـنَ مِنْكَ الصّفـ

ـحُ وَالْبِرُّ

فَلَمَّا اضْطَرْ

ـرَنِي الْمَكْرُو

ـهُ وَاشْتِدَّ

بِيَ الْأَمْرُ

تَنَاوَلتُـ...

ما شاء الله! تنتظرون حتى تقلبوا الصفحة!

ههه!

لا حول ولا قوة إلا بالله! هل سمعتم بعازفين في فرقة يقولون للجمهور: انتظروا حتى نقلب الصفحة!

ههه.

بس لحظة نقلب الصفحة! يا للعار! يا للعار! أي عار هذا! جهّز الصفحة، واقلب سريعًا من غير تعطيل، بسرعة، هذا هو، مساكين مساكين، ها!

وَلَا رَدَّ

ـكَ عَمَّا كَا

ـنَ مِنْكَ الصّفـ

ـحُ وَالْبِرُّ

فَلَمَّا اضْطَرْ

ـرَنِي الْمَكْرُو

ـهُ وَاشْتِدَّ

بِيَ الْأَمْرُ

تَنَاوَلتُـ

ـكَ مِنْ شَرِي

بِمَا لَيْسَ

لَهُ قَدْرُ

فَحرَكَّتَ

جَنَاحَ الذُّلْ

ـلِ لَمَّا مَسْـ

ـسَكَ الضُّرُّ

إِذَا لَمْ يُصْـ

ـلِحِ الْخَيْرُ امْـ

ـرَأً أَصْلَـ

ـحَه ُالشَّرُّ

صعب -ها!- صعب، أعيدوا، أعيدوا!

إِذَا لَمْ يُصْـ

ـلِحِ الْخَيْرُ امْـ

ـرَأً أَصْلَـ

ـحَه ُالشَّرُّ

إِذَا لَمْ يُصْـ، قل يا أحمد، ها!

إِذَا لَمْ يُصْـ

ـلِحِ الْخَيْرُ امْـ

ـرَأً أَصْلَـ

ـحَه ُالشَّرُّ

هو أصعب الأبيات قولًا وعزفًا، ولا يستحيل أن يحدث. طيب! قد خرجنا الوزن، فما قافية البيت الأول، ولماذا؟

صَبْرُ.

لماذا؟ ها!

مَكْرُوهِهِ صَبْرُ.

هل سمعتم مسعدًا ماذا يقول؟ "مَكْرُوهِهِ صَبْرُ"، ما شاء الله! البيت كله قافية!

هههه.

لا بأس عليك، إن شاء الله! ما قافية البيت الأول -البيت الأول كله قافية!- ما قافية البيت الأول؟ "صَبْرُ" فقط -يا مسعد!- فقط، لماذا؟ ها! علمتَنا -يا أستاذ!- أو علمنا الخليل أن القافية آخر ساكنين، أين آخر ساكنين؟ الباء والواو الأخيرة غير مكتوبة، وما بينهما، ما الذي بينهما؟                                                                                                                      

الراء.

الراء المضمومة. وما الذي قبلها، ما المتحرك الذي قبلهما؟

الصاد.

هي إذن "صَبْرُ"، ها!

صَبْرُ.

ها!

صَبْرُ.

وقافية الثاني؟

حرُّ.

حُرُّ، ها!

هجرُ.

هجر، ها!

برُّ.

برُّ، ها!

قَدْرُ.

قَدْرُ، ها!

ضُرُّ.

تعثرتم في "ضُرُّ"، لأنها لأنها مشددة، أبدلت اللام ضادًا لأنها شمسية، وأدغمت في الضاد، الضاد الأولى ليست منا، هي آخر ما لا علاقة لنا به، نبدأ من الضاد الثانية إلى الآخر، إذن...

ضُرُّ.

ها!

شَرُّ.

شَرُّ، وهكذا في "شَرُّ". طيب! ما أقوى الحروف المكررة؟

الراء.

الراء، هل يماري في هذا أحد؟ يستحيل، يستحيل أن يماري في هذا أحد، الراء سيد الحروف، وهو متصف في أصله بالتكرار، وأنا أسألكم -ها!- عن الحرف المكرر، من هذا الذي يفتش عن شيء غير الراء! رررررر، والراء هي صوت المكرر! هذا سيد الحروف -يا أبنائي!- الراء سيد الحروف. لي نص على موقعي اسمه "من تكاذيب الأعراب"، أتحدث فيه، أتخيل أن الحروف العربية اجتمعت في مسجد، تأخذ على شيخ، والشيخ يتكلم عن مشكلات، وبعد أن تكلم عنها مشكلة كانت بين حرفين من الحروف، توجه إلى القبلة ليدعو والحروف تؤمن. المشكلة التي حدثت كانت بين حرفين يجور أحدهما على الآخر دائمًا، هما القاف والكاف -طبعًا بعض الناس ينطق القاف كافًا، وبعضهم ينطق الكاف قافًا، مثل كثير من الحروف عندنا في بلادنا العربية، فهذه مشكلة- فجلس يتكلم فيها: يا جماعة، لا يجوز، يا جماعة، كذا، وبعد أن فرغ من الكلام في المشكلة اتجه إلى القبلة يدعو ويؤمنون، في آخر الدعاء قال: "اللَّهُمَّ اقْبَلْ مِنْ عَبْدِكَ حَرْفِ الرَّاء"؛ فانكشف أن السيد هذا المطاع هو حرف الراء، وأنا أقدره كثيرًا؛ لهذا تمسكت به في أسماء أولادي كلهم، بنتي رِيم الأستاذة بجامعة بيكين، بعدها ابني بَرَاء -وسيكون مثلها، إن شاء الله، أستاذًا بالجامعة- بعدهما ابنتي رِهَام -وهي طالبة ممتازة جدًّ- بعدهم سُرَى -وهي ممتازة مثلهم، لكنها شيطانة- وأخيرًا يأتي فُرَات، وهذا لاعب كرة محترف، سيكون -إن شاء الله!- رونالدو المستقبل!

هههه!

حتى زوجي "فريدة"، وعائلتي "صَقْر"، هذا تقدير رب العالمين! سيد الحروف الراء، طيب! فما حركته؟

مضموم.

الضمة، هل قبله ألفٌ أو واو أو ياء ساكنات؟

لا.

هل قبل الذي قبله ألف؟

لا.

لو كان قبله ألف، أو واو، أو ياء ساكنات لقلنا هذه القافية مُرْدَفة بالألف أو الواو أو الياء. ولو كان قبل الذي قبله ألف لقلنا هذه القافية مُؤَسَّسة، لكنها ليس فيه لا هذا ولا ذاك؛ فهي مجردة منهما، مجردة، تمام؟ فما الذي بعده؟

واو.

واو، فهو موصول بالواو، هي التي وصلت به إلى الغاية. هيا، اكتبوا بيانات هذه البطاقة! ماذا نقول في البيانات؟

هذه قصيدة.

هذه قصيدة، هَزَجيّة الأبيات التامة؟ الوافية؟ لا تامة، ولا وافية!

المجزوءة.

أحسنت! المجزوءة. يا جماعة، قلت لكم: نذكر البحر، ونذكر طول البيت منه. والبيت كما ترون، لم يستوف عدد التفعيلات، فكيف نسميه تامًّا أو وافيًا! شرط التام والوافي استيفاء أعداد التفعيلات، فإذن ماذا نسميه؟ نقول: هذه القصيدة هزجية الأبيات المجزوءة، تمام؟ انتهينا. انتقلوا إلى صورتي العروض والضرب! بالمناسبة بعد الجزء تصير التفعيلة الثانية هي العَروض، والرابعة هي الضَّرْب؛ فهذه التي كانت قبل العروض تصير هي العروض، كأنها نائب العميد يصير العميد في غياب العميد، وهذه تصير الضرب طبعًا، تُحذف هذه وتقوم هذه مقامها، فيجري عليها ما كان يجري على تلك. ومن الذي أدرى الشاعر؟ الشاعر يقول ولا يعبأ بعلم الخليل، فهذه عنده في الطرف الأول، وهذه عنده في الطرف الثاني، طيب! ماذا رأيتم على تفعيلة العروض؟ رأيتموها تسلم أحيانًا وتُكَف أحيانًا، فأما تفعيلة الضرب فسالمة أبدًا، وإذا رأينا التفعيلة تتغير وتسلم عممنا السلامة، فكيف بها إذا سلمت في كل موضع؟ هي في الضرب سالمة في كل موضع، فأما في العروض فكفت أحيانًا وسلمت أحيانًا، فسنعمم السلامة، ونحن في هذا الموضع نسمي السلامة؟

صحيحة.

صحة، لأن هذا موضع علة، وعدم العلة صحة، فنعمم كلمة الصحة؛ فماذا نقول؟ هذه القصيدة هزجية الأبيات المجزوءة الصحيحة العروض والضرب -تمام؟ ننتقل إلى القافية ها!- رائية القوافي، ما حركتها؟

مضمومة.

المضمومة، ها!

موصولة.

لا، قبل هذا.

المجردة.

المجردة، أي من الردف والتأسيس، ها!

الموصولة.

الموصولة بالواو، لا بد أن تقول هذا، لأنها ربما وصلت بالواو، أو الألف، أو الياء، أو الهاء، بل ربما وصلت بغيرها كما سأعلمك في القوافي. ها! ماذا قلتم في البيانات؟ هذه مهمة، هذه بطاقتها الشخصية، هذه القصيدة هزجية الأبيات المجزوءة الصحيحة العروض والضرب، رائية القوافي المضمومة المجردة الموصولة بالواو. أحسنتم! انتهينا. بهذا نكون قد فرغنا من هذه الممارسة تمامًا.

طيب! ألا تلاحظون صلة هذا بالممارسة الأولى؟ سأعزف لكم لتنتبهوا. تذكروا ما درسناه في المحاضرة السابقة: ددن دن| دن،  ددن دن| دن، ددن دن| دن، ددن دن| دن، تأملوا هذا، ماذا ترون؟ أنه كأنه قد زِيدَ ضربة، قد زِيدَ إلى كل جزء من أجزائه ضربة؛ فبدلًا من "ددن دن"،  صرت تقول: "ددن دن دن"، أضفت "دن"، وهكذا تتولَّد الألحان والأنغام بعضها من بعض، فمثلًا ربما جلست على المكتب تذاكر، تفكر في مسألة -ها، تأمل معي!- تفكر في مسألة، فتضرب بالقلم مثلًا وأنت شارد -ها!- ثم فجأة أدخلت رِجلَك في الموضوع وأنت شارد، ها!                                                                           

هههه!

هكذا تتركب الأنغام -يا جماعة!- أتخيل أن الشاعر ولَّد الهزج من المتقارب -ولم يقل بهذا أحد في التاريخ- ولَّد الهزج من المتقارب بضربة أضافها هكذا في شَرْدة من شَرَداته -عندكم "الشردة" في العمانية معناها الهروب!- في شردة من شرداته فعل ذلك، فقال: ما شاء الله! هذه إضافة ستغير لي الحال، فأضاف هذه؛ فولد وزنًا جديدًا من وزن قديم، تمام؟ إن الذي أقوله لكم مازال يُحير العلماء: كيف نشأت الأوزان؟ وكيف تطورت؟ شيء محير جدًّا، يحير العرب والعجم في الشعر العربي، كيف تولدت الأوزان؟ كيف خرج بعضها من بعض وازدادت إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه؟ أنا أدعي أنها بدأت على وجه واحد، ثم فَرَّعتِ الوجوه بعضها من بعض، فعليك أن تكتشف السر، الخطوة المنطقية الموسيقية التي تلي هذا، طيب! لماذا أقول هذا؟ لأنه سينفعني في الممارسة الثالثة.

الآن لن نضيع ما بقي من الوقت، وسنستمتع فيه بنص ممارستنا الجديدة، وهو قصيدة طويلة قياسًا إلى ما سبق، لعبد الله البردوني نفسه، لكن وقت نظمها محدد، نظمها سنة خمس وسبعين وتسعمئة وألف الميلادية، هذا وقت ينبغي أن يُفتَّش عنه، ما الذي حدث في تلك الأيام؟ لأنه سيتكلم كلامًا خطيرًا، يا جماعة! هذه قصيدة "سندباد يمني في مقعد التحقيق"، قصيدته السابقة كانت "مغن تحت السكاكين"؛ فدائمًا يفتش عن الأزمات؛ ذاك مغنٍّ تحت السكاكين، وهذا سندباد رحالة في مقعد التحقيق. انظروا إلى المفارقات، والمفارقات -يا جماعة!- موطن الفن، ينبغي للفنان أن يتتبع المفارقات، ما المفارقات؟ الأشياء التي تجمع الأضداد، شخص لا يُتوقع منه كذا ففعل كذا مثلا، تمشي في الشارع فتجد شخصًا ضخمًا يحمل حقيبة هكذا كالتي يحملها الأطفال في الحضانة مثلا، مفارقة، ... وهكذا! والفنان هو الذي يمشي ينتبه إلى المفارقات، أما سائر الناس فيمشون فقط!

سِنْدِبَادٌ يَمَنِيٌّ فِي مَقْعَدِ التَّحْقِيقِ

كَمَا شِئْتَ فَتِّشْ أَيْنَ أُخْفِي حَقَائِبِي أَتَسْأَلُنِي مَنْ أَنْتَ أَعْرِفُ وَاجِبِي

أَجِبْ لَا تُحَاوِلْ عُمْرُكَ الْإِسْمُ كَامِلًا ثَلَاثُونَ تَقْرِيبًا مُثَنَّى الشَّوَاجِبِي

نَعَمْ أَيْنَ كُنْتَ الْأَمْسَ كُنْتُ بِمَرْقَدِي وَجُمْجُمَتِي فِي السِّجْنِ فِي السُّوقِ شَارِبِي

رَحَلْتَ إِذَنْ فِيمَ الرَّحِيلُ أَظُنُّهُ جَدِيدًا أَنَا فِيهِ طَرِيقِي وَصَاحِبِي

إِلى أَيْنَ مِنْ شَعْبٍ لِثَانٍ بِدَاخِلِي مَتَى سَوْفَ آتِي حِينَ تَمْضِي رَغَائِبِي

جَوَازًا سِيَاحِيًّا حَمَلْتَ جِنَازَةً حَمَلْتُ بِجِلْدِي فَوْقَ أَيْدِي رَوَاسِبِي

مِنَ الضِّفَّةِ الْأُولَى رَحَلْتُ مُهَدَّمًا إِلَى الضِّفَّةِ الْأُخْرَى حَمَلْتُ خَرَائِبِي

هُرَاءٌ غَرِيبٌ لَا أَعِيهِ وَلَا أَنَا مَتَى سَوْفَ تَدْرِي حِينَ أَنْسَى غَرَائِبِي

تَحَدَّيْتَ بِالْأَمْسِ الْحُكُومَةَ مُجْرِمٌ رَهَنْتُ لَدَى الْخَبَّازِ أَمْسِ جَوَارِبِي

مَنِ الْكَاتِبُ الْأَدْنَى إِلَيْكَ ذَكَرْتُهُ لَدَيْهِ كَمَا يَبْدُو كِتَابِي وَكَاتِبِي

لَدَى مَنْ لَدَى الْخَمَّارِ يَكْتُبُ عِنْدَهُ حِسَابِي وَمَنْهَى الشَّهْرِ يَبْتَزُّ رَاتِبِي

قَرَأْتَ لَهُ شَيْئًا كُؤُوسًا كَثِيرَةً وَضَيَّعْتُ أَجْفَانِي لَدَيْهِ وَحَاجِبِي

قَرَأْتَ كَمَا يَحْكُونَ عَنْكَ قَصَائِدًا مُهَرَّبَةً بَلْ كُنْتُ أَوَّلَ هَارِبِ

أَمَا كُنْتَ يَوْمًا طَالِبًا كُنْتُ يَا أَخِي وَقَدْ كَانَ أُسْتَاذُ التَّلَامِيذِ طَالِبِي

قَرَأْتُ كِتَابًا مَرَّةً صِرْتُ بَعْدَهُ حِمَارًا حِمَارًا لَا أَرَى حَجْمَ رَاكِبِي

أَحَبَّيْتَ لَا بَلْ مِتُّ حُبًّا مَنِ الَّتِي أَحَبَّيْتُ حَتَّى لَا أَعِي مَنْ حَبَائِبِي

وَكَمْ مِتَّ مَرَّاتٍ كَثِيرًا كَعَادَتِي تَمُوتُ وَتَحْيَا تِلْكَ إِحْدَى مَصَائِبِي

وَمَاذَا عَنِ الثُّوَّارِ حَتْمًا عَرَفْتَهُمْ نَعَمْ حَاسَبُوا عَنِّي تَغَدَّوْا بِجَانِبِي

وَمَاذَا تَحَدَّثْتُمْ طَلَبْتُ سِجَارَةً أَظُنُّ وَكِبْرِيتًا بَدَوْا مِنْ أَقَارِبِي

شَكَوْنَا غَلَاءَ الْخُبْزِ قُلْنَا سَتَنْجَلِي ذَكَرْنَا قَلِيلًا مَوْتَ سَعْدَانَ مَارِبِي

وَمَاذَا وَأَنْسَانَا الْحِكَايَاتِ مُنْشِدٌ إِذَا لَمْ يُسَالِمْكَ الزَّمَانُ فَحَارِبِ

وَحِينَ خَرَجْتُمْ أَيْنَ خَبَّأْتَهُمْ بِلَا مُغَالَطَةٍ خَبَّأْتُهُمْ فِي ذَوَائِبِي

لَدَيْنَا مِلَفٌّ عَنْكَ شُكْرًا لِأَنَّكُمْ تَصُونُونَ مَا أَهْمَلْتُهُ مِنْ تَجَارِبِي

لَقَدْ كُنْتَ أُمِّيًّا حِمَارًا وَفَجْأَةً ظَهَرْتَ أَدِيبًا مُذْ طَبَخْتُمْ مَآدِبِي

خُذُوهُ خُذُونِي لَنْ تَزِيدُوا مَرَارَتِي دَعُوهُ دَعُونِي لَنْ تَزِيدُوا مَتَاعِبِي

انتبهوا! "سندباد يمني في مقعد التحقيق"، طلبه الشرطي إلى مركز الشرطة، وأجلسه ليحقق معه. نتكلم هنا عن الشرطة اليمنية، لا علاقة لنا بالشرطة العمانية، لا تورطونا! الشرطة العمانية -ما شاء الله!- سُمعتها طيبة، حتى الذين اعتُقلوا وخرجوا تكلموا كلامًا طيبا، سليمان المعمري مثلًا اعتقل وخرج، فذكر كلامًا بديعًا قرأته له عن الشرطة. معاوية الرواحي اعتُقل وخرج، قرأت له كلاما طيبا عن الشرطة العمانية، فدعوها جانبًا، ولنتكلم عن اليمنية!

"كَمَا شِئْتَ فَتِّشْ...

من الذي يقول؟

الشاعر.

السندباد يقول للشرطي: كما شئت فتش! احتجزه، فقال: قف حتى أفتشك! مرة كنت في مطار بكين، وأوقفتني شرطية طويلة ورشيقة وحاسمة جدًّا -ما شاء الله!- قالت لي: ما هذه الحقيبة؟ ما الذي فيها؟ جَنِّبْ، جَنِّتْ، افتح! فإذا الحقيبة كلها كتب، ضعنا! هذه البلاد شيوعية، والشيوعية أخطر شيء عندها إدخال الكتب الغربية؛ لهذا تمنع، الواتساب ممنوع، الفيس بوك ممنوع، كذا ممنوع، كذا ممنوع، كذا ممنوع، كل هذه الأشياء ممنوعة في الصين، لا يتيحون إلا ما يعجبهم. عندهم برنامجهم الصيني "ويتشات"، يسد هذا المسد، لا فيسبوك ولا واتساب إلا سرقةً، يسرقه الشباب ببرامج أخرى ويدخلون أنفسهم، لا يجوز كذا ولا كذا ولا كذا، ممنوعات ممنوعات ممنوعات، والحزب الشيوعي مسيطر على البلاد كلها. ضعت، إما أن أُعَاد من حيث جئت، وإما أن تُصادَر الكتب! لولا أن أدركتني رحمني ربي بالدكتورة الصينية وو (زكية)، أستاذة اللغة العربية، التي كانت تعمل بمصر -وكنت أعرفها هي وزوجها، اسمها الصيني "وُو"، واسمها العربي "زكية"؛ فهم إذا درسوا العربية تسموا أسماء عربية- قالت لها: لا، هذا أستاذ بالجامعة، وهذه كتبه... الحمد لله! أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله! نجوت بالكتب!

كَمَا شِئْتَ فَتِّشْ أَيْنَ أُخْفِي حَقَائِبِي

أنا مسكين، فمن الذي يقول: "أَتَسْأَلُنِي مَنْ أَنْتَ أَعْرِفُ وَاجِبِي"، من؟

الشرطي.

تسألني! من السائل! ومن المسؤول! احترم نفسك! أنا أسأل، وأنت تجيب فقط!

أَتَسْأَلُنِي مَنْ أَنْتَ أَعْرِفُ وَاجِبِي

أَجِبْ لَا تُحَاوِلْ عُمْرُكَ الْإِسْمُ كَامِلًا ثَلَاثُونَ تَقْرِيبًا

تقريبًا! الرجل -ما شاء الله!- لا يعد!

كم عمركَ؟ عندي كتير من سنين، ولا يهمك، عايز ثلاثين تِحصَّل، أربعين تِحصَّل، خمسين تِحصَّل، ولا يدري أصلًا! الحياة في العذاب لا يُدرى ما هي!

ثَلَاثُونَ تَقْرِيبًا مُثَنَّى الشَّوَاجِبِي

هذا عمره، وهذا اسمه. "مثنى" من أسماء اليمنيين المعروفة، لأن سيدنا المثنى بن حارثة حكم اليمن، كما حكم عمرو بن العاص مصر، وكما اشتهر عندنا اسم "عمرو"، اشتهر عندهم اسم "مثنى"، محبة للصحابي الذي حكم البلد، ونشر فيها دين الله، سبحانه، وتعالى! ها!

نَعَمْ

من الذي يقول: نعم؟

الشرطي.

خطأ، بل السندباد، أي بعد أن أجبتك، نعم، ماذا تريد؟ ها! خَلّص، نعم! هو طبعا لا يقول بهذه الجرأة: نعم، بل بمنتهى الذل والانكسار.

أَيْنَ كُنْتَ الْأَمْسَ

كُنْتُ بِمَرْقَدَي وَجُمْجُمَتِي فِي السِّجْنِ فِي السُّوقِ شَارَبِي

ههه! كل شيء في وادٍ، الراجل يعيش حياة من التمزق والتشتت لا تضاهى، أي أنا لا أعرف، أنا مشتت يا أخي، بعضي هنا، وبعضي هناك، وبعضي هنالك.

رَحَلْتَ إِذَنْ

وعلى رغم هذا اتخذها الشرطي منفذًا لإدانته، ولم يرحمه. رحلت إذن، همممم!

فيِمَ الرَّحِيلُ

فحاول صاحبنا أن يتفلسف عليه، ليكسر حدة الموقف:

أَظُنُّهُ جَدِيدًا أَنَا فِيِه طَرِيقَي وَصَاحِبِي

إِلى أَيْنَ مِنْ شِعْبٍ لَثَانٍ بِدَاخِلِي

من الذي يقول: إلى أين؟

الشرطي.

خطأ، هذا السندباد الآن قالها نيابة عن الشرطي، بدليل النصف الثاني من البيت:

مَتَى سَوْفَ آتِي حِينَ تَمْضِي رَغَائِبِي

كأنه يقول له: أنا سأكمل لك الأسئلة من قبل أن تقول، ستسألني كذا كذا كذا -ها!- الإجابة كذا كذ كذا، ستسألني كذا ههه الإجابة كذا كذا! فيقول:

جَوَازًا سِيَاحِيًّا حَمَلْتَ جِنَازَةً حَمَلْتُ بِجِلْدِي فَوْقَ أَيْدِي رَوَاسِبِي

مِنَ الضِّفَّةِ الْأُولَى رَحَلْتُ مُهَدَّمًا إِلَى الضِّفَّةِ الْأُخْرَى حَمَلْتُ خَرَائِبِي

يتفلسف طبعًا -هاا!- والمسكين عندنا الشرطي، معروف في بلادنا -لا نتكلم عن شرطة عمان، استثنوها الآن!- الشرطة عندنا معروفة بالغباء، لا يدخل كليات الشرطة والجيش إلا الضعاف من الطلاب، إلا من رحم ربي! أنا أخي ضابط، وهو أذكانا أصلًا، أذكانا وأفقهنا، مشغول بالفقه مع أنه ضابط مدفعية، لكنه ذكي ونشيط وكذا، يعني هذا موجود، لكن السمة الغالبة لدينا هي هذه -ها!- حينما يجد الدرجات في الثانوية قليلة -ماذا يفعل؟- يحلها بالانتماء إلى هذه المؤسسات التي تقبل أقل الدرجات، فطبعًا حينما يسمع هذا التفلسف يقول له:

هُرَاءُ غَرِيبٌ لَا أَعِيهِ

فيسخر منه:

وَلَا أَنَا

كلام فارغ، سامحني أنا أحيانًا أقول مثل هذا الكلام الفارغ!                                                                                                                  

مَتَى سَوْفَ تَدْرِي حِينَ أَنْسَى غَرَائِبِي

ما معني "أَنْسَى غَرَائِبِي" هذه؟ فقال له:

تَحَدَّيْتَ بِالْأَمْسِ الْحُكُومَةَ مُجْرِمٌ

"تحديت بالأمس"! ومن أنا حتى أتحدى!

رَهَنْتُ لَدَى الْخبَّازِ أَمْسِ جَوَارِبِي

هل يتوقع من شخص رهن أمس لدى الخباز جواربه أن يتحدى الحكومة؟ معقول هذا! فلما رأى الحجة القوية، غير الكلام:

مَنِ الْكَاتِبُ الْأَدْنَى إَلَيْكَ ذَكَرْتُهُ لَدَيْهِ كَمَا يَبْدُو كِتَابِي وَكَاتِبِي

يبدو أنه استُجْوِب يعني قبل هذا التحقيق، وسجل له بعض الناس محضرًا، فقال له: "ذكرته لديه كما يبدو كتابي وكاتبي"، أي ذكرته منذ قليل، لديه كما يبدو كتابي وكاتبي. فيقول له:

لَدَى مَنْ

فيقول له:

لَدَى الْخَمَّارِ يَكْتُبُ عِنْدَهُ حِسَابِي وَمَنْهَى الشَّهْرِ يَبْتَرُّ رَاتِبِي

فبان أنه يسخر منه، أنا مسكين، أنا رجل شحاذ، لا أجد قوت يومي، تسألني عن الكاتب الأدنى! أنا رجل لا أجد، لا أرتاح في الحياة، فأذهب إلى الخمارة، أقضي يومي وليلي في السكر، والكاتب الذي أعرفه هو كاتب الحساب في الخمارة، هذا الكاتب الذي أعرفه، يحسُب عليَّ الكؤوس، ويطالبني في النهاية بثمنها، ولا أجد؛ فيضربني، أو يفعل بي ما شاء، هذا الكاتب، هذا أهم كُتّاب نُوبِلَ الذين أعرفهم! فيقول له وكأنه يبادله سخرية بسخرية مماثلة:

قَرَأْتَ لَهُ شَيْئًا

فيرد بسخرية مماثلة:

كُؤُوسًا كَثيِرَةً وَضَيَّعْتُ أَجْفَانِي لَدَيْهِ وَحَاجِبِي

تعرفون -أو لا تعرفون- أن السكير يتساقط حاجباه، فيحاول أن ينقل الكلام. هذه مبارايات في السخرية المتبادلة، لكن طبعًا الأستاذ فيها هذا السندباد، لأن السخرية -يا جماعة!- فن رفيع من الأدب، السخرية فن رفيع، لا يقدر عليه أى أحد! لا تظن أن هؤلاء الشُّرَط يسخرون، هؤلاء يتكلمون بأسلحتهم. فيقول له:

قَرَأْتَ كَمَا يَحْكُونَ عَنْكَ قَصَائِدًا مُهَرَّبَةً

فيرد:

بَلْ كُنْتُ أَوَّلَ هَارِبِ

مهربة! أنا الهارب، والهارب لا يُهرِّب! فيقول له:

أَمَا كُنْتَ يَوْمًا طَالِبًا

يبدو أنه يبحث له عن مشكلة من أي زمن؛ حين كنت طالبًا هناك، حينما كنت في الروضة، كما اعتقلوا طفلًا في أول الابتدائية، اعتقلوه، واتهموه بأنه كان بحيازته أسلحه، وماش في المظاهرات، وهو طفل أصلًا صغير، ها! وقد صنع فيلم في هذه الحكاية، رأيته في هذه الإجازة الماضية اسمه "خلاويص". الفيلم كله قائم على اعتقال طفل صغير متهم بكذا وكذا وكذا، سبحان الله! فهذا -ما شاء الله!- يفتش له عن مصيبة، يقول له: أما كنت يوما طالبا؟ فيجيب:

كُنْتُ يَا أَخِي وَقَدْ كَانَ أُسْتَاذُ التَّلَامِيذِ طَالبِي

هذا البيت الذي أحبه وأردده عليكم دائمًا:

أَمَا كُنْتَ يَوْمًا طَالِبًا كُنْتُ يَا أَخِي وَقَدْ كَانَ أُسْتَاذُ التَّلَامِيذِ طَالبِي

أنا كنت أستاذه في أشياء لا يعرفها.

قَرَأْتُ كِتَابًا مَرَّةً صِرْتُ بَعْدَهُ حِمَارًا حِمَارًا لَا أَرى حَجْمَ رَاكِبِي

فينقل له الحديث إلى سياقٍ آخر، كما يشاء هذا الشرطي -له أن يفعل ما يشاء-:

أَحَبَّيْتَ

ما "أحبيت" هذه؟ المفروض أن يقول له: أَأَحْبَبْتَ؟ ما أحبيتَ هذه إذن؟ باللهجة، استعملها البردوني باللهجة، وكثيرًا ما كان يفعل، إذا قرأتم ديوانه، أو فتشتم عن مسجَّلاته على النت- وجدتموه يخلط الفصحى أحيانًا ببعض العامية، ولا سيما من الأغاني اليمنية، حتى في القصيدة التي قالها في الرسول -عليه الصلاة والسلام!- أدخل مقطعَ أغنيةٍ يمنية! من الذي يقول؟                                                                                                        

الشرطي.

لَا بَلْ مِتُّ حُبًّا

من الذي يقول؟

السندباد.

فيقول له:

مَنِ الَّتِي

لم يكمل صلة الموصول، انتبهوا، أي: من التي؟

أحببتها.

من التي أحببتها؟ فيقول له:

أَحَبَّيْتُ حَتَّى لَا أَعِي مَنْ حَبَائِبِي

أي من كثرة من أحببت -ما تِعِدِّشْ يا جِيمي، العدَدْ في اللَّمُون- ما أكثر حبائبي، لو جلسنا نعد ما بنخلص! من التي أَحْبَبْتَ؟ "أَحَبَّيْتُ" هذه عجيبة جدًّا، لا هي فصحى، ولا هي عامية، "حَبِّيت" عامية، أما "أَحَبَّيْتُ" هذه فهي في منطقة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، كيف؟ لأنه لو أرادها عامية لقال: "حَبِّيت"، ولو أرادها فصحى لقال: "أَحْبَبْتُ". لا قال هذه ولا تلك، قال: "أحبيت حتى لا أعي من حبائبي"! لو استمعتم إلى البردوني لوجدتموه ينطق القاف جافًا على طريقة اليمن كما في جال (قال)، حتى في إنشاد الشعر لا يستطيع في القاف إلا هذا! فيمضي له في طريق الكلام عن الحب:

وَكَمْ مِتَّ

فيقول له:

مَرَّاتٍ كَثيِرًا كَعَادَتَي

فيقول له:

تَمُوتُ وَتَحْيَا

من القائل؟

الشرطي.

يعبث به، يلاعبه قليلا، لا بأس، قليلٌ من الملاعبة لا يضر، "تموت وتحيا"، "تلك إحدى مصائبي"، لو حكيت لك عجائبي ما انتهينا!

وَمَاذَا عَنِ الثُّوَّارِ

ها! سندخل الآن في الجد، في الجد!

حَتْمًا عَرَفْتَهُمْ نَعَمْ حَاسَبُوا عَنّيِ تَغَدَّوْا بِجاَنِبِي

وأنا في الخمارة -عافاكم الله!- أطلب الكؤوس بعد الكؤوس، أو أطلب أن يطعمني، رأوني، كنت بجانبهم -نعم- وعطفوا عليّ، فلما لم أجد ما أدفعه للرجل دفعوا عني، حاسبوا عني! انظروا إلى أول علاقته بالثوار، انتبهوا؛ ستتطور العلاقة! جلسوا بجواره في المقهى، وعرفوا مأساته، وحلوا المشكلة.

وَمَاذَا تَحَدَّثْتُمْ

ها! من الأول.

طَلَبْتُ سِجَارَةً أَظُنُّ وَكِبْرِيتًا بَدَوْا مِنْ أَقَارِبِي

ها! بدأت الآن العلاقة؛ لما عطفوا عليه، واقتربوا منه، وحنوا- أحس أنهم منه وأنه منهم. ها!

شَكَوْنَا غَلَاءَ الْخُبْزِ

ها! بدأت السياسة: والله الأسعار -يا أخي- نار!

شَكَوْنَا غَلَاءَ الْخُبْزِ قُلْنَا سَتَنْجَلِي

إن شاء الله! بعد يومين، في المشمش، إن شاء الله!

هههه!

ها تعرفون "في المشمش"، عند المصريين؟ يعني في المستحيل -إن شاء الله!- في الأحلام.

قُلْنَا سَتَنْجَلِي ذَكَرْنَا قَلِيلًا

دخلنا في السياسة الصريحة:

ذَكَرْنَا قَلِيلًا مَوْتَ سَعْدَانَ مَارِبِي

سعدان ماربي هذا شبيه بالعزيزي، تعرفون العزيزي مفجر الثورة التونسية؟ هذا كأنه هو "ذكرنا قليلا موت سعدان ماربي"، الآن تأزمت المشكلة.

وَمَاذَا وَأَنْسَانَا الْحِكَايَاتِ مُنْشِدٌ إِذَا لَمْ يُسَالْمِكَ الزَّمَانُ فَحَارِبِ

الآن تُبْنَى عقيدة الثورة؛ المسكين السكير صار في آخر المطاف ثوريًّا!

وَحِينَ خَرَجْتُمْ أَيْنَ خَبَّأْتَهُمْ بِلَا مُغَالَطَةٍ خَبَّأْتُهُمْ فِي ذَوَائِبِي

ذوائبي

هذه كناية عن اعتقاده عقيدتهم، خبأتهم في عقلي، آمن بعقيدتهم وانتمى إليهم، انتهينا. "وحين خرجتم أين خبأتهم بلا مغالطة"؟ بعد كل هذا ماذا تتوقع؟ ناس أحسوا بي وأكرموني، وعرفوا مشكلاتي، وتحدثنا، وتسامرنا، وتطورنا، وذكرنا البلاد والعباد وكذا، لابد لابد أن أُداخلهم ويُداخلوني، وأومن بما يؤمنون.

لَدَيْنَا مِلَفُّ عَنْكَ شُكْرًا لِأَنَّكُمْ تَصُونُونَ مَا أَهْمَلْتُهُ مِنْ تَجَارِبِي

بيريحوه من المخازن وكذا، لا، عندهم الملفات، شايلها عند الشرطة! فغضب الرجل. قال له:

لَقَدْ كُنْتَ أُمِّيًّا حِمَارًا وَفْجأَةً ظَهَرْتَ أَدِيبًا

فيرد عليه:

مُذْ طَبَخْتُمْ مآدِبِي

أي منذ حكمتمونا وتحكمتم في مآدبنا، تأزمت الأحوال، وأنضجتني الأزمة! ومن قديم تنضج الأزمة الأدباء، وتفجرهم، وتولدهم توليدًا. أنا منذ حكمتم وأزمتم الأوضاع تحولتُ إلى ما ترى؛ فلا يملك إلا أن يقول:

خُذُوهُ

فيرد:

خُذُونِي لَنْ تَزِيدُوا مَرَارَتِي

متعود، بسوّي عندكم اشتراكْ!

دَعُوهُ دَعُونِي لَنْ تَزِيدُوا مَتَاعِبِي

هي في الداخل مثلها في الخارج! تعرفون صورة جاءتنا على الواتس -ها!- لجماعة يرفعون رايات الحرية -ها!- وهم خارجون من قفص إلى قفص، هههه! من قفص إلى قفص -ها!- عندي هذي على موقعي كذلك، وقد علقت عليها تعليقًا ساخرًا! طيب -يا جماعة- هذه قصيدة ثقيلة، نحتاج في أدائها إلى شخصين: من يقدم كلام الشرطي، ومن يقدم كلام السندباد؛ فمن أحسن من يقدم كلام الشرطي؟ من الذي ترونه شرطيَّ البيت مثلا؟ من شرطي البيت؟ الأب أم الأم؟

الأب.

الأب شرطي البيت! الأم طبعًا، الأم طبعًا، هي التي تحاسب. أنتم في عمان تسمونها وزارة الداخلية، ونحن في مصر نسميها الحكومة -الحكومة يا أخي، لازم أروح، الحكومة!- وفي إيران يسمونها وزارة الحرب، مباشرة مباشرة، بلا لف ولا دوران! فإذا كانت الأم في مصر هي الحكومة، وفي عُمان هي وزارة الداخلية، وفي إيران هي وزارة الحرب- فسنختار منكم فتاةً لأداء كلام الشرطي المتجبر، وفتًى لأداء كلام السندباد المسكين! فمن تؤدي كلام الشرطي؟ من؟ من غير خطأ؟ من تستطيع؟ سالمة؟ اتفقنا، ومن الشباب، من؟ من؟ من؟ أحمد؟ طيب. سيؤدي أحمد كلام السندباد، وسلمى كلام الشرطي، وإذا أتقنا ولم يخطئا حصل كل واحد على خمس درجات، إذا قبلا المنافسة، عندنا هنا منافسة! هذه قصيدة صعبة تستحق المنافسة، إذا قبلا المنافسة وأدياها من غير خطأ حصل كلُّ واحد على خمس درجات، وإذا أساءا طردتُهما أو حذفتُ من كلٍّ منها خمس درجات، وإذا لم يقبلا المنافسة فهما في حل من الثواب والعقاب؛ وعطفا عليهما ورأفة بهما أرى أن يرفضا المنافسة من الأول، لأنها ثقيلة، لكن هذا في اللقاء القادم. بارك الله فيكم! وشكر لكم، وأحسن إليكم! والسلام عليكم.

عندنا الآن مجال يومين للتجهيز، يومين للتجهيز. أما نشوف! خلاص، يا أحمد؟

الأمور طيبة.

بتجهز نفسك يعني، ولا خطأ واحد!

إن شاء الله!

وسوم: العدد 1095