وقفة مع جائزة الخطابة التي استحدثتها الوزارة الوصية على الشأن الديني
تداولت وسائل التواصل الاجتماعي خبر استحداث الوزارة الوصية على الشأن الديني جائزة الخطابة لأول مرة . وقدمت بين يدي هذا الحدث كلمات ألقاها أعضاء من المجلس العلمي الأعلى، تحدثوا فيها عن أهمية خطب الجمعة ، وما يجب أن تكون عليه ، وما يجب أن يكون عليه من يتولون إلقاءها بين أيدي رواد المساجد أيام الجمع .
والذي يستوقف في هذا الحدث هو استحداث هذه الجائزة لأول مرة ، وهي من المحدثات المستحسنة التي تحمد عليها الوزارة الوصية على الشأن الديني، لأنها التفاتة إلى السادة الخطباء الذين يرابطون فوق المنابر ، و قد لا يقدر كثير منهم مجهودهم ، وهم لا يسلمون من ألسنة الناس وقالتهم ، بل لا يسلم بعضهم أيضا من غضب الوزارة نفسها فتلفظهم بعد طول مدة في الخطابة ، مع أن السبب قد مجرد رأي أو موقف عبروا عنه في خطبهم أو مجرد عبارة عابرة وردت فيها دون أن تراعي الوزارة ما أبلوه لسنوات فوق المنابر . ولا توجد وزارة من الوزارات تتعامل مع التابعين لها بما تنهجه وزارة الشأن الديني في تعاملها مع الخطباء بحيث لا تتدرج في معاقبتهم كتدرج باقي الوزارات من تنبيه أو إنذار أو توبيخ أو عزل مؤقت .... بل تلجأ إلى العزل المؤيد مباشرة . ورحم الله الشاعر زفر بن الحارث حيث يقول منبها من لم يرع له سابقة :
أيذهب يوم واحــــد إن أساتــــــــه بصالح أعمــالي وحســـــن بلائيا
وقد ينبت المرعى على دمن الثرى وتبقى حزازات النفوس كما هيا
والغريب أن تفكر هذه الوزارة اليوم في تكريم الخطباء وهي التي سرحت منهم عددا لا يستهان به سراحا غير جميل غير آسفة على ذلك مع موافاتهم بقصاصة ورق عليها عبارة تمنعهم من مزاولة جميع الأنشطة الدينية . ومن النوادر في هذا أن أحد الخطباء المشهورين الذين توصلوا بمثل هذه القصاصة سأل من حملها إليه هل يشمل هذا المنع صلاتي في المسجد أيضا باعتبارها من الأنشطة الدينية ؟
ولم تخل مبادرة تكريم الوزارة للخطباء من عيب أو لنقل من نقص لأنها اعتبرت تكريم البعض رمزيا يجزىء عن تكريم جميع الخطباء في البلاد، علما بأن الأصل في الجوائز أن يقع التباري عليها ، وأن تقدم لأصحاب الأعمال المتميزة ، شريطة أن يذاع التباري بين جميع الخطباء، ويطلع الناس على خطب المتميزين منهم ، ويقتنع الجميع باستحقاقهم الجوائز والتكريم . وما أظن الوزارة نهجت هذا النهج فيما استحدثته من تكريم ومكافأة ، إذ لو أرادته تكريما حقيقيا لأعلنت عن مباراة ، وحشرت كل من يتقدم إليها من خطباء في قاعات كقاعات الامتحانات المحروسة ، وجردتهم من كل وسيلة إلا الأوراق والأقلام ، وحددت لهم موضوع خطبة معينة مشترطة فيها توفرها على معايير وقواعد فن الخطابة المتعارف عليها عند أهل العلم الاختصاص ، ثم تخضع للتصحيح وفق معايير مضبوطة ، ونزيهة ، وتنشر الخطب المتميزة على موقع الوزارة كي يطلع عليها جميع من خاضوا المباراة ، وتطمئن قلوبهم بأن الفوز كان مستحقا لا محاباة فيه ولا زبونية، فضلا عن اطلاع الرأي العالم عليها .
والغريب في هذا الذي استحدثته الوزارة أنه جاء في وقت فرضت فيه وصاية على الخطباء إذ تولت بنفسها موافاتهم بخطب من إعدادها مصاحبة لتنزيلها ما أسمته خطة تسديد التبليغ ، ولم تُبق لهم سوى مهمة إلقاءها ، ولم تبق لهم في إعدادها جمالا ولا نوقا ، وإن معظمهم ليكتفي بقراءتها دون أن يستوفي ما تقتضيه الخطابة من تميز في الإلقاء، وتمثل للأساليب . وغير خاف أن هذا الذي فرضته على الخطباء يقتل فيهم الإبداع ، علما بأن الخطابة فن من فنون الكلام كالشعر و النثر قصة، ومقالة، ورسالة ،ومقامة ، ومسرحية ....وكلها تقتضي أولا وجود المواهب التي هي منة من الله عز وجل ، ومن ينكر المواهب في هذه الفنون ، ويقتحم مجالها لن يكون سوى متطفلا عليها ، ويكون واضح التكلف فيها.
ومع أن الوزارة تراجعت عن إلزام الخطباء بما صارت توافيهم به من خطب ، فلا زال السواد الأعظم منهم، لا يجد مندوحة عنها إما لعجز أو لكسل أو لخوف من عتب أو نقمة الوزارة .
ولقد صارت هذه الخطب التي تدخل ضمن ما سمي تسديد التبليغ لا تبارح فكرة واحدة ووحيدة كل جمعة ، ومفادها أن صحة الإيمان تفضي إلى صالح الأعمال ، وهذه الأخيرة تؤدي على الحياة الطيبة . ولم تعد الخطب تلامس شيئا من واقع الناس المعيش مع ما يعرفه هذا الواقع من أحداث جسام على رأسها الأخطار التي تتهدد أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ، وما يصاحب ذلك من إبادة جماعية للشعب الفلسطيني الذي ما حمله على انتفاضته سوى ما يتهدد الحرم المقدسي من أخطار . وطيلة سنة كاملة لم تأمر الوزارة الخطباء بتناول هذا الأمر الجلل في خطبهم ،ولم توافهم بخطبة واحدة تتناوله ، ولم تراع إرادة الأمة المغربية التي تخرج باستمرار في مسيرات مليونية تضامنا مع شعب يباد بكل وحشية . ومن الخطباء من لا يجرؤ حتى على الدعاء معه . ولقد سألت أحدهم عن عدم تخصيص جزء من دعاء ختم الخطبة هل ذلك مما تلزمكم به الوزارة ؟ فأجاب بالنفي ، ثم سألته هل تخشى الوزارة إن فعلت ؟ فقال : لا ، فقلت إذن ما يمنعك من الدعاء ، فقال أنا أدعو معهم في نفسي ، فقلت ألا يحسن بك أن تدعو والناس يُؤمِّنون على دعائك عسى الله أن يستجيب دعاءهم بوجود الصالحين بينهم، فانصرف معرضا عني أحسبه فعل ذلك متبرما من كلامي .
وبعض الخطباء يدعون للمستضعفين في فلسطين ، فيجهر الناس بالتأمين ، وفي ذلك تعبير صريح عما يعانونه من جراء ما يشاهدونه طيلة سنة من مجازر وحشية رهيبة ترتكب في حق أبرياء أطفالا، ونساء، ومرضى، وعجزة .
أفلا يسترعي هذا الجهر بالدعاء انتباه الوزارة الوصية ، فتأمر الخطباء بالدعاء لإخواننا المستضعفين في فلسطين انسجاما مع إرادة الشعب المعبر عنها في العديد من الوقفات والمظاهرات والمسيرات المليونية ؟
ويبدو أن الوزارة في خطة تسديدها للتبليغ قد انطلقت من فكرة وجود هوة بين الدين والتدين لدى المغاربة ، وهي فكرة تحتاج إلى دليل يجب أن تسبقه دراسة ميدانية دقيقة ما أظن أنها أنجزت . وهي بمنطلقها الذي اعتمدته تنهج نهج دعوة الإسلام عند بدايته بدءا بالمرحلة المكية التي كان التركيز فيها على العقيدة ثم مرورا إلى المرحلة المدينة التي كان التركيز فيها على التشريع ، وهذا ما يوحي بأن أصحاب خطة تسديد التوجيه ربما اعتبروا الشعب المغربي دون رصيد عقدي ، وأنه يمر بما مر به أهل الجاهلية قبل البعثة المحمدية ، ولئن صح هذا الاعتبار فهو قياس فاسد لاختلاف الزمان، والمكان، والحال .
وإذا ما كانت الوزارة قد التفتت إلى الخطباء تكرمهم ، وترصد لهم جوائز أو مكافآت ، وهي تحمد على ذلك ، فإنه يجدر بها أن تكون التفاتتها على الوجه المطلوب في التكريم والتثمين ، شريطة أن يصنف الخطباء إلى فئات يكون أفرادها ممن تتساوى وتتكافأ مستوياتهم العلمية والمعرفية ، ويكون التباري بينهم على أساس ذلك دون أن تقصى فئة من الفئات مهما كانت مستوياتهم.
وأخيرا يلزم أعضاء المجلس العلمي الأعلى أن يراجعوا الوزير في طريقة تعامله مع الخطباء الذين عزلهم إذا ما كانوا بالفعل يحرصون إلى احترام الخطباء ويسعون إلى تكريمهم كما يدعون ، وعليهم أن يلزموه بتقديم الاعتذار لكل من عزلهم إن كانوا حقا يقدرون قيمة المدد التي قضوها فوق المنابر ، ويقدرون بلاءهم ، وهو ما يلزمهم أخلاقيا، وهم العلماء ورثة الأنبياء الذي من المفروض أن يرثوا عن رسول صلى الله عليه وسلم فضلا عن علمه شيئا من خلقه العظيم ، وهو الذي لم يبخس أحدا أبدا جهدا بذله أو سعيا سعاه في خدمة دين الإسلام.
أما سكوت السادة العلماء في المجلس العلمي الأعلى عما يتعرض له الخطباء حتى وإن أخطئوا، لا يليق بهم وهم أهل حل وعقد ، وإليهم يرجع في كل مشورة أو أمر يهم دين الله عز وجل . أما إن لم يخطىء الخطباء فالسكوت عن ظلم الوزارة لهم لا يليق بمكانة هؤلاء العلماء حتى لا نصف سكوتهم بما لا يليق بمكانتهم العلمية مما يوصف به سكوت غيرهم . وليذكر السادة العلماء أنهم سيغادرون هذه الحياة ، وقد أحصى الله تعالى أعمالهم ، وأحصى عليهم أيضا سكوتا لا يحسن بهم حيث يجب أن يصدعوا بالحق، ولا يخافون في ذلك لومة لائم .
وسوم: العدد 1097