الطَّريق إلى «جنيف 2»

د. محمد عناد سليمان

د. محمد عناد سليمان

[email protected]

لم تفتأ التَّطوّرات السّياسيّة والميدانيّة في «سوريا» ترخي أسدالها على المواقف الدّوليّة والإقليميّة من «القضيّة السّوريّة»، حتى كثر الهرج والمرج السّياسيّ من إمكانيّة انعقاد مؤتمر «جنيف2» نهاية الشّهر القادم، في ظلِّ الصّراعات الدّاخليّة للمعارضة السّوريّة المتمثّلة بـ«الائتلاف الوطنيّ السّوري لقوى الثّورة».

وقد كان لـ«لمجلس الوطني السّوريّ» موقفٌ واضحٌ في نيته عدم حضور «المؤتمر»، تحت ذرائع ظاهرها تنمّق وتزلُّف، وباطنها مكيدة وخداع؛ لأنَّ «المجلس» لم ينطلق في موقفه هذا من مبدأ الوطنيّة، والتزامه بخطّ «الثّورة السّوريّة»، أو تيقّنه من عدم جدوى «المؤتمر» نفسه؛ وأنّه يريد مصلحة «الثّورة» أوَّلا، فالسّنتان الماضيتان من عمر وعمل هذا «المجلس» أثبت أنّه بعيد عن «الثّورة» وأهلها بُعد المشرقين، وأنّه لم يبدِ اهتمامًا واضحًا بما يدّعيه من حرصه على المصلحة الوطنيَّة العُليا.

والمرجَّح أنَّ ما يحدث من صراع داخليّ ينخر في جسم «الائتلاف الوطنيّ» بين ممثّلي القوى الإقليميّة التي ساهمت في صنعه، والقوى الدّوليّة التي تسعى من أجل إبقاء حالة من الفوضى السّياسيّة فيه هو الدّافع الحقيقيّ لاتخاذ هذا الموقف، وهو صراع حول نسبة تمثيل كلٍّ من الطَّرفين في الحكومة التي لما ترى النّور بعدُ.

إذ لا يمكن قبول انفراد «المجلس» في موقفه هذا في ظلّ اندماجه مع «الائتلاف»، إذ إنَّ الاعتراف الإنسانيّ والأخلاقيّ الذي اكتسبه «الائتلاف» –وهو اعتراف غير قانوني لا يمكِّنُ أحد أعضائه من الحصول على «تأشيرة دخول»، أو «تجديد جوازه» مثلا- لا يُجيز لـ«لمجلس الوطني» أن يغرِّد وحيدًا دون العودة إلى قرار جماعيّ يصدر بشكل رسميّ عن الجسم المعترف به والمدَّعي تمثيل «الثّورة السّوريّة»، وهو عنها في حقيقة الأمر غريب وبعيد.

ونؤكّد هنا ما أعلنّاه سابقًا من أنَّ التّوسعة الأخيرة التي حدثت في جسم «الائتلاف» كان الهدف منها إيجاد قوّة سياسيّة تميل وترجح كفَّة الحوار مع «النّظام»، وتمهّد لجنوح «الائتلاف» كممثّل شرعيّ لـ«لثّورة السّوريّة» القبول بحضور مؤتمر «جنيف2»، وهو سبب أثّر بشكلٍ أو بآخر في زيادة الهوّة في العلاقة المتصدّعة أصلاً بين أعضائه. وهي توسعة لم تحدث لولا تدخّل بعض الأطراف الدّوليّة والإقليميّة كـ«المملكة العربيّة السّعوديّة»، و«قطر» التي أرخت ظلالها على تنوّع المشهد السّياسيّ، وتعدّد الآراء والمواقف المتغايرة أحيانًا والمتناقضة أحيانًا أخرى؛ بل إنَّ هذه الظِّلال ممتدّة أوراقها إلى بعض الألوية والكتائب التّابعة لـ«لجيش الحرّ»؛ ممّا جعل الحاجز منيعًا في إمكانية انضوائها تحت قيادة واحدة، واندماجها في غرفة عمليّات عسكريّة مشتركة، وهو ما يفسّر حالة الجمود في منطقة ما، والقتال المستميت في منطقة أخرى.

وبعيدًا عن هذه الخلافات، وتعدّد الآراء ووجهات النّظر التي تصدر عن «المعارضة السّوريّة» بشأن «جيف2»؛ والتي من المفترض أن تكون ذات موقف محدَّد وواضح، لا لبس فيه ولا غموض، يعكس حقيقة المأساة التي تحدث في «سوريا»، وحالات المجاعة، والحصار الذي يهدف إلى القتل الممنهج والمدروس من قبل «النّظام»؛ فإنَّ قرار حضور ممثلي أيٍّ من الطّرفين «المعارضة» من جهة، و«النّظام» من جهة ثانية ليس بيد أحدٍ منهما، فكلٌّ منهما مرهون بالقوّة الإقليميّة والدّوليّة التي تدعمه، والتي ترسم لهما الطّريق الذي يجب عليهما سلوكه، طريق يوصل في النِّهاية إلى قاسم مشترك، ألا وهو استمرار المأساة والمعاناة.

وما يزيد المسألة تعقيدًا إصرار بعض الأطراف على عدم وضع شروط مسبقة لانعقاد «المؤتمر»، وهي خطوة تصرُّ عليها «روسيا» بشكل يجعل منها وصيّة عليه، وهو في ذاته شرط مسبق يضع أوَّل حجر عثرة في المضيّ فيه. ولا بدَّ من وجهة نظري أن نفرِّق بين الشُّروط المسبقة، وبين نقاط التَّفاوض، ومعرفة حدود المساومة، وإمكانيّة التّشدُّد والتّشبُّث أو التّنازل والتّساهل، وجوانب الأخذ والردِّ والمناورة؛ وإن كنت أكاد أجزم بأنّ «روسيا» لا تريد منه إلا أن يكون محاضرة أو ندوة سياسيّة عابرة.

يضاف إلى ذلك الموقف المتميّز لـ«لملكة العربيّة السّعوديّة»، ورفضها المقعد غير الدّائم في «مجلس الأمن الدّوليّ» احتجاجًا على السّياسة التي يتّبعها «المجلس» في التّعامل مع قضايا «الشّرق الأوسط»، وفي مقدّمتها «القضيّة السّوريّة».

 إلا أنَّ هذا الموقف له أسبابه المباشرة، والتي تتمثَّل من وجهة نظري في التَّقارب «الأمريكيّ» «الإيرانيّ»، والاتّصالات التي تجري بين البلدين. موقف أثّر وبشكل كبير على المسار السّياسي للشّأن «السّوريّ» برمّته؛ بل يمكن وصفه بالمنعطف التّاريخيّ للوقوف على حقيقة وجوهر «القضيّة السّوريّة»، وما اللقاء التّشاوريّ الثّلاثي الذي شاركت فيه كلٌّ من «الأردن» و«الإمارات العربيّة المتّحدة» إضافة إلى «السّعوديّة» إلا دليل على توجّه سياسيّ جديد قد تظهر أبعاده خلال الفترة القريبة القادمة.

وقد ظهر انعكاسه في الخطاب الأخير لرئيس «الائتلاف الوطنيّ السّوريّ» السّيد «أحمد لجربا» أمام أصدقاء «سوريا» الذي انعقد في «بريطانيا»، وهو خطاب غلبت عليه رائحة الموقف «السّعوديّ» بامتياز، وعودة الشّروط المسبقة لانعقاد «جنيف2»، في ورقة ثانية ترميها على طاولة اللّعب السّياسيّ الدّولي، ولا ننكر اليد الطّولى لـ«لسّعوديّة» في «الائتلاف الوطنيّ» عامّة ورئيسه «الجربا» خاصّة؛ في رسالة واضحة متضمنة ضرورة التّنبه على تحقيق التّوازن الاستراتيجي في منطقة «الشّرق الأوسط»، وعدم العبث بأمنه واستقراره.

ولعلّها المرة الأولى التي يظهر فيها موقف عربيّ يتوافق مع خط سير «الأزمة السّوريّة»، حيث بدأت بعض الدّول تتحسَّس الخطر «الإيرانيّ»، وسير العلاقات الإيجابيّة مع «الولايات المتّحدة الأمريكيّة»، وهو موقف يجبُ على «المعارضة السّوريّة» أن تستثمره أيَّما استثمار، في محاولة جادّة لإيجاد «حليف» قويّ لها من باب التقاء المصالح وإنجازها.