مصر الجارة، وغزة الامتداد
م. محمد يوسف حسنة
ذهبتُ مودعاً بعض الأصدقاء غادروا للقاهرة عبر معبر رفح خلال اليوم الأخير لفتح المعبر، بطريق العودة إلى غزة اختار صديقي محمد أن يتجه بنا من شرق القطاع لغربه، وطوال الطريق كنت أنظر لتعاريج وتضاريس الحدود وتداخلها، تداخل جغرافي والتحام كبير لدرجة أنك تشعر بأنك في الأراضي المصرية فلا يفصلك عنها سوى جدار بسيط وتشاهد الجنود وعلم مصر خفاقاً تداعبه نسمات الهواء، وصلنا الحدود المصرية مع بحر غزة، قدمٌ تلامس مياه غزة وقدمٌ تلامس مياه مصر، تذكرت حينها مصر جارة التاريخ والجغرافيا وكيف كانت المعاملة السائدة على مدار عقود طويلة، حيث احتضنت مصر طلبة غزة ومرضاها بل وسالت دماء جنودها وخيرة أبنائها دفاعاً عن أرض غزة، بل أن تحرير القدس وهزيمة التتار كان على أرض فلسطين بجيوش إسلامية تجمعت وانطلقت من مصر.
وغزة كانت على الدوام وفية لجارتها المتشابكة معها دينا ولغة ودما وعرقاً وتاريخاً وجغرافيا فجزء ليس باليسير من أبناء غزة يحملون الجنسية المصرية، ولم تشكل غزة يوماً تهديداً لها، بل كانت غزة دوماً تُصر على تصدير مصر على أنها راعي المصالحة بين الفصائل الفلسطينية، وراعي أي اتفاق تهدئة مع العدو بعد أي عدوان، والمحاور بالنيابة عن فصائل المقاومة في أي صفقة تبادل أسرى، فغزة تنظر لمصر على أنها عمقها، وبوابتها إلى العالم الخارجي ومتنفسها، وليس من مصلحة أحد في غزة أن تُغلق تلك البوابة أو تنهار العلاقة الطيبة مع أي نظام يحكم مصر.
انطلقت شرارة ما يسمى " بالربيع العربي" وانتفض الشعب المصري على نظام الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك، واستطاع الشعب عبر ثورة جماهيرية أن يُطيح به، لتمر مصر بتغيرات كبيرة ومخاضات عسيرة، وكانت غزة ليست بعيدة فتأثرت وعانت من المخاض والتغيرات، وباتت العلاقة في شد وجذب، فامتازت بالانسيابية والمرونة إبان حكم المجلس العسكري، ثم امتازت بالسلاسة حد الاندماج ووحدة الموقف إبان الرئيس المعزول محمد مرسي، ثم مالبثت أن تدهورت ووصلت حد القطيعة رغم بعض الاتصالات في الفترة التي سبقت حكم الرئيس المصري الجديد عبد الفتاح السيسي وبعد توليه مقاليد الأمور بمصر ومنها اتصالات رعاية اتفاق وقف اطلاق النار الخاص بالعدوان الأخير.
تسابقت وسائل الإعلام المصرية وعقب كل هجوم إرهابي يقع في مصر وشمال سيناء تحديداً ويسقط فيه شهداء مصريين بكيل الاتهامات لغزة وإلصاق مجمل ما يحدث في سيناء بغزة، وأنها من تقف وراء تلك الهجمات الإرهابية الدامية، صنع الإعلام المصري من غزة عدواً يجب محاصرته ومعاقبته، ووصلت التعبئة ضد غزة حد الطلب عبر فضائيات مصرية وإعلاميين مصريين بضرب غزة ومعاقل المقاومة فيها، تحت ذريعة التصدي للإرهاب والقضاء على جذوره، إلا أن غزة تجاهلت هذه التهديدات واعتبرتها كأن لم تكن فليس الجيش المصري من يقصف غزة.
وتم إغلاق معبر رفح نافذة الأمل ورئة غزة للعالم الخارجي بسبب اضطراب الأوضاع في سيناء، ليُترك مليون وثمانمائة ألف فلسطيني يُعانون ويلات الحصار ويُهدد حياة مئات المرضى ومستقبل آلاف الطلاب الدارسين في الخارج ومثلهم من حملة الإقامات، لا أبالغ إن قلت توقفت الحياة بغزة بإغلاق معبر رفح.
سوء تقدير المواقف وبعض القرارات غير المحسوبة والميل لجهة دون أخرى لدى البعض في غزة، سمح بتنامي تيار العداوة لغزة ومن فيها، حتى أن شتم غزة وأهلها ومساواتهم بالعدو الإسرائيلي ملئت صفحات التواصل الإجتماعي المصري، شتائم لم تكن تخرج من شعب كثير ما خرج لنصرة غزة بل أنه أهدى ثورته في 25 يناير لفلسطين وحاصر السفارة الإسرائيلية وطرد السفير من مصر واعتبر ثورته مقدمة لتحرير فلسطين وقدسها.
الأزمة قائمة والأسباب معروفة والنتيجة أن أي صدام مصري فلسطيني ( غزاوي) لا يخدم إلا أجندة المحتل، ومن الحكمة بل ومن الضرورة بل ومن المفروض شرعاً تصويب العلاقة وإعادتها مع مصر ونظامها الحاكم إلى ماكانت عليه سابقاً دون تأخير ومهما تطلب الأمر.
فمن غير المقبول أن تصبح غزة في نظر المصريين عدو وتتراجع أولوية العداء للعدو الحقيقي ( اسرائيل)، ومن غير المنطق أن ينشغل بعض الفلسطينيون بأمر داخلي مصري على حساب الشعب الفلسطيني ومصالحه ويترتب على أقوالهم واعلام البعض منهم اجراءات تسهم في زيادة معاناة أهالي قطاع غزة.
قامت حركة الجهاد الإسلامي مشكورة بمبادرة طيبة لرأب الصدع مع الأشقاء المصريين تكللت حسب بيان الجهاد بالاتفاق على جملة تسهيلات لأهالي قطاع غزة ومنها فتح معبر رفح لمدة يومين، على أن تستمر تلك التسهيلات تباعاً في الفترة القادمة.
سبق وتبع ذلك قيام نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس السيد اسماعيل هنيه بتوجيه رسائل مباشرة لمصر تضمنت التأكيد على عدم تدخل حركته في أي شأن عربي داخلي، خاصة مصر، وبأن ليس للحركة أي دور أمني أو عسكري في داخل سيناء ولا في أي بقعة من أرض مصر، وأن أمن مصر من أمن غزة.
تلاه تأكيد د. محمود الزهار عضو المكتب السياسي لحركة حماس بأن فتح معبر رفح من قبل مصر خطوة مقدرة ولا خلاف مع القاهرة، تبعه قيام الحكومة المصرية بالطعن قضائياً ضد القرار القاضي باعتبار حماس منظمة إرهابية.
مؤشرات تُدلل أن أصل العلاقة لابد أن يعود لما كان، وأن هنالك حرصاً من الأطراف على بلوغ اتفاق والالتقاء من جديد لإعادة اللحمة والعلاقة الطيبية بين غزة ومصر.
جهود يجب أن يُعززها مصالحة شعبية مصرية فلسطينية، لتخفيف حالة الاحتقان الشعبي ضد غزة، واعتبار أن غزة هى من تجلب الويلات لمصر، خصوصاُ أن التعبئة ضد غزة استمرت فترة طويلة وزرعت وهماً يقينيا في أذهان العديد من أبناء الشعب المصري.
الاعلام في الطرفين يجب أن يبدأ ببث ما يعزز اللحمة ونبذ الفرقة والاختلاف، وعلى نشطاء الإعلام الجديد في الطرفين تبني مبادرة لدفع المصالحة وتعزيزها، وإعادة روح المحبة والتسامح بين شعبين في الأصل لا خلاف بينهما.
إن الشباب الذي هب في مصر دفاعاً عن غزة أثناء عدوان 2012 وساند غزة أيضاً في عدوان 2014 والشباب الفلسطيني مطالب بالوقوف بجدية أمام هذه التحديات، وأن يقود مبادرة لتنقية الأجواء وتحقيق المصالحة بدل تراشق الاتهامات والشتائم عبر صفحات التواصل الاجتماعي.
البوصلة تنحرف والعدو يشاهد الاختلاف مطمئن لانشغال المنطقة عنه، يستمر بقتل الفلسطيني وتهويد القدس، وبناء المستوطنات، ويُطيل ويُؤخر اعمار غزة، آن وقت المصالحة وافشال مخططات العدو.
ومصر عليها ألا تنسي أنها الكبيرة دوماً والدولة المحورية والمركزية، عليها أن تتصرف مع غزة من هذا المنظور وتقوم بفتح معبر رفح فهذا متطلب انساني قبل أن يكون متطلب عروبي قومي اسلامي، على ثقة بأن مصر الرسمية ومصر الشعبية لن تقبل أن يبقى مليون وثمانمائة ألف مواطن فلسطيني يُعانون الحصار والفقر ويُكابد مرضاهم المرض دون أن تدخل، وعلى يقين بأن سحابة الصيف ستزول وأن قرارات قادمة ستصوب العلاقة وتصحح المسار.