أحزاب الحركة الكرديّة بحاجة إلى قادة سياسيّين
أحزاب الحركة الكرديّة بحاجة إلى قادة سياسيّين
نارين عمر
أحزاب الحركة الكرديّة في سورية وكردستان سوريا بحاجة إلى قياديين سيّاسيّين يقودونها نحو تحقيق الأهداف ونصر القضيّة. نعم حركتنا تفتقر إلى مثل هؤلاء القادة وهي بأمسّ الحاجة إليهم في الوقت الرّاهن, لأنّ هناك فرقٌ كبير بين القياديّ الحزبيّ والقياديّ السّياسيّ, لأنّنا مع الأسف دوماً نخلط الأمور في بعضها البعض, فمثلاً نطلق على كلّ متعلّم أو صاحب شهادة جامعيّة أو متوسّطة تسمية "المثقّف", والثّقافة مفردة متشعّبة الأوجه والأطر, ومتعدّدة المعاني والمفاهيم, علماً أنّنا إذا بحثنا عن المثقفين في مجتمعنا الكرديّ سنجدهم أقلّ ممّا نتصوّر, لأنّ للمثقف شروط ومقاييس لا بدّ أن يتمتّعَ بها.
وطبقاً لمفهومنا الخاطئ لمفردتي الثّقافة والمثقف ولغيرهما من المفردات والمصطلحات, نتعامل مع لفظةِ السّياسيّ كذلك, فنسمّي كلّ قياديّ حزبيّ بالسّياسيّ, حتّى أنّنا نطلق التّسميّة على كلّ حزبيّ من دون استثناء, ولكنّنا إذا عدنا إلى أحزاب الحركةِ الكرديّة في سوريا وفي كردستانها سنجدها تفتقر في معظمها إلى قياديّين سياسيّين, فمَن يقودونها هم قياديّون حزبيّون, ينطلقون من دائرتهم الحزبيّة بكلّ ما تحمل من ضيق أو اتساع.
قبل الخوض في تفاصيل هذا الموضوع أودّ أن أشير إلى أنّ طرحنا لهذا الموضوع لا يعدّ انتقاصاً من حقّ أيّ قياديّ كرديّ ولا أيّ حزبٍ كرديّ, ولكنّنا سنحاول ذكر بعض العوامل والأسباب التي تجعل القياديّ الحزبيّ بعيداً عن فنون السّياسةِ, ونأمل أن تحمل بعض أسباب التّبرير لهم, مع التّأكيد على أنّ حركتنا الكرديّة تفتخرُ ببعض القياديّين المتميّزين وهم أصلاً الأشخاص الذين ساروا بالحركة الكرديّة نحو البقاء والاستمرار جنباً إلى جنب مع الجماهير الكرديّة المخلصة.
نستطيع تلخيص أسباب وعوامل افتقار أحزاب الحركةِ الكرديّة للقيادة السّياسيّة المحنّكة إلى بعض ممّا يأتي:
-السّياسة المطبّقة بحقّ الكردِ كشعبٍ وكأمّةٍ في سوريا منذ تأسيس الدّولة السّوريّة الحديثة وقبل ذلك, القائمة على سياسة الإنكار وعدم الاعتراف به وتطبيق أبشع الممارسات الظّالمة والجائرة ضدّه.
-نشوء أوّل تنظيم حزبيّ كرديّ في سوريا في ظلّ أحزاب وتنظيمات اتسمت معظمها بالتّفرّد والتّسلّط وإيثار الذّات, وبالتّالي تأثّرها بهذه بالأرضيّة غير المهيّأة أصلاً لنشوءِ أحزاب ديمقراطيّة قادرة على قيادة الجماهير الواسعة.
-عدم تمتّع الشّعبِ الكرديّ بأيّة صلاحياتٍ دستوريّةٍ ورسميّةٍ, ما أدّى إلى عدم انخراطه في نظم الدّولة والسّلطة وعدم ممارسته لأيّ نوع من أنواع السّياسة, فالممارسة العمليّة في أيّ مجال من مجال الحياة تكسبنا الخبرة والمهنيّة, وتجعلنا أكثر قدرة على صنع القرارات وإنجاز المهام الموكلة إلينا.
-سياسة الاضطهاد والقمع والنّكران التي مورست بحقّ الشّعب الكرديّ عموماً وحركة أحزاب الحركة الكرديّة التي أدّت إلى فرض نوع من العزلة عليها, ما جعلها بعيدة عن العالم الخارجيّ ومجريات التّطوّر والتّغيّر الحاصلة فيه على الدّوام, بمعنى قطعت علاقات التّواصل والاختلاط فيما بينهم, وهذا بدوره أثّر بشكل سلبيّ على الإنسان الكرديّ وعلى القياديّ الحزبيّ بشكل أكبر تأثيراً.
-عوامل اجتماعية وعائليّة وعشائريّة قائمة على الكثير من الأنانيّة وحبّ الذّات وإيثار المصالح الشّخصيّة والعائليّة والعشائريّة على المصلحة العامّة لعموم الشّعبِ الكرديّ في سوريا ما أدّى إلى عدم التزامهم بالوفاء والإخلاص تجاه الشّعب والقضيّة.
-سبب ذاتيّ وهو برأيي هامّ أيضاً, فالقياديّ الكرديّ لم يحاول بذل المزيد من الجهدِ والوقتِ لتثقيفِ ذاته من النّواحي المختلفة, ولم يتمكّن من ممارسةِ فنون السّياسةِ وأصولها ليكون مؤهّلاً تأهيلاً فعليّاً وجديّاً لقيادة حزبه نحو سبل الصّواب والصّحّة, فأيّ شخص حين يحاول المساهمة في أيّ مجال من مجالات الحياة عليه أن يكون ملّماً بالمجال الذي يعملُ فيه إلماماً جيّداً, ومن ثمّ عليه الإلمامَ بالمجالات الأخرى ليكون قادراً على العطاء والإبداع فيه.
إذا عدنا إلى المؤسّسين الأوائل لأوّل تنظيم سياسيّ كرديّ في سوريا سنجدُ كلاً منهم مؤهّلاً للرّيادة والقيادة, لأنّه كان يواصل الّليل بالنّهار للإلمام بقضيّة شعبه وأمّته, وبقضايا الشّعوب والأمم الأخرى خاصة المظلومة والمضطهدة منها, فكلّ منهم برزَ في أكثر من مجال سياسيّ أو ثقافيّ أو اجتماعي, بل معظمهم كان ملّماً بمختلف فنون الأدب والثّقافة بالإضافة إلى ممارستهم لحياتهم السّياسيّة والحزبيّة, واهتمامهم بقضايا شعبهم الهامّة والحسّاسة على الرّغم من أنّ الكثير منهم لم يكن حاصلاً على شهادةِ جامعيّة أو ما يماثلها وفقاً لمقتضيات الظّروف التي كانوا يعيشونها, أيّ نستطيع أن نؤكّد على أنّ تثقيفهم كان ذاتيّاً في معظمه, ونستطيعُ من ناحيةٍ أخرى أن نؤكدَ على أنّ الشّهادة الجامعية أو ما يعادلها لا تكون دليلاً كافياً على سعةِ علم ومعرفةِ أيّ شخصٍ منّا, فالحياة بكلّ تقلّباتها ومتغيّراتها وطقوسها وهواجسها هي المدرسة الحقيقيّة التي يستطيع الكائن منّا الحصول على شهاداته العليا فيها.
هذه العوامل وغيرها جعلت من القياديّين الحزبيّين بعيدين كثيراً عن عالم السّياسة, ما ألحقَ الكثير من الضّرر إلى القضيّة الكرديّة, وولّد عشرات الأحزاب التي انشقت عن بعضها البعض لا لأسبابٍ ايديولوجيّة أو استراتيجيّة بل لأسباب تنظيّمية وشخصيّة قائمة على مبدأ القسمةِ والمحاصصةِ والمصلحة الشّخصيّة في غالبِ الأحيان, أو كما هو رائج بين أبناء الشّعب الكرديّ الخلاف يكون على الكراسيّ, وأيّة كراسيَ يختلفون عليها ونحن الكرد غير معترفين بنا ولا بكراسينا ولا حتّى بوجودنا وتواجدنا كشعبٍ مستقلّ صاحب قضيّة أرض وشعب؟!.
مع الأسف الخلاف في الرّأي عندنا سرعان ما يتحوّل إلى اختلاف, والاختلاف بدوره يؤدّي إلى خصومة, وهي بدورها تخلق لنا ما لا نهاية لها من الاتهامات والشّائعات والرّوايات الملفقة, بالنّهاية كلّ هذا يؤدّي إلى الانقسام والانشقاق. مع الأسف سَرَتْ هذه العادة السّيّئة في أوصال معظم الحركات والمؤسّسات والمجموعات غير الحزبيّة والتي تسمّى مؤسّسات "المجتمع المدنيّ" حتّى باتت تحاكي أحزابها في تبادل الاتهامات والشّائعات.
علينا أن نفهم ونتفهّم على أنّ "الخلاف شيء, والاختلاف شيء آخر" إن كان اختلافنا جوهريّاً ومنطقيّاً. لا يُعقل أن يتفق جميع البشر المتواجدين في أيّ مجتمع على رأي واحدٍ في المسائل المطروحة فيما بينهم ومنها الحزبيّة, لا شكّ أنّ كلّ مجموعة منّا تندرج ضمن خانة التّوافق والاتفاق في الآراء, وبالتّالي بإمكانها تشكيل تنظيم أو حركةٍ أو أيّ تجمّع كان, ومن ثمّ تستطيع هذه المجموعات التّواصل على أسس التّفاهم وتبادل الآراء والخبرات انطلاقاً من مقولة ((تلاقي المتشابهات في عالم الفضيلة)).
الآن الفرص مؤاتية للقياديّين الكورد بمختلف أحزابهم وتنظيماتهم وتجمّعاتهم ليلجوا إلى عالم السّياسة من أوسع أبوابه, ليتعمّدوا في موردِ فنونه وطقوسه, ويختاروا منها ما يخدمهم كأشخاص راغبين في القيادة والرّيادة أوّلاً, وما يخدم قضايا شعبهم وأمّتهم ثانياً ونحن نمرّ بهذه المرحلةِ التّاريخيّة والحرجة من تاريخ شعبنا ومن تاريخ الشّرق الأوسطِ والعالم ككلّ. إنّنا نعيشُ الآن حدثاً مفصليّاً. القضيّة باتت لدينا الآن" قضيّة أن نكون, بل يجب أن نكون", ليس لدينا متسع من الوقت لنقول فيه "نكون أو لا نكون", علينا أن نتفق جميعاً على وجوب تثبيتِ وجودنا وتثبيت أسس وأركان تواجدنا وماهيتنا, فقد تجاوزنا مرحلة أن نثبت للجميع بأنّنا "يجب أن نكون, بل نحن كائنون وسنظلّ", وبشروطنا ووفق المقوّمات والإمكانيّات المتوافرة لدينا.
كلّ السّبل سالكة بيسرٍ وسهولةٍ أمام القياديّ الكرديّ أو مَن يودّ أن يصبحَ قياديّاً, كلّ الطّرقِ ممهّدة لعبوره, كلّ الأبواب مفتوحة له لينطلق منها نحو تكوين شخصيته الأكاديميّة, النّاضجة, المسايرة لمتغيّرات العصرِ وتقلّباته. حتّى المعابر المائيّة باتت تسهّلُ عبوره, وتتمنّى له التّقدّم والعطاء, وكذلك الجويّة. إذاً بإمكانه أن ينطلقَ بِحُريّةٍ وديمقراطيّةٍ نحو أيّة بقعةٍ من بقاع المعمورة برّاً وبحراً وجوّاً ونهراً أيضاً, ويستطيع الاستفادة من خبرات وتجاربِ القادة الآخرين من الإخوةِ الكرد في أجزاء كردستان الأخرى وخاصة" كردستان العراق" كونها محرّرة, وبات قادتها على درجاتٍ جيّدةٍ وكافيةٍ من المعرفة السّياسيّة, وبات فيها قادة محترفون لمجمل فنون وطقوس السّياسة والقيادة والرّيادة, وكذلك الاستفادة من القادة الآخرين المجاورين للكردِ أو البعيدين عن العالم الكرديّ.
عليهم بذل المزيد المزيد من الوقت والجهد, بل عليهم مضاعفة جهودهم لتصل إلى ذروتها قبل أن يمرّ الوقت, وتضيع هذه الفرص الألماسيّة من بين يدينا.
القواعد الجماهيريّة موجودة في أحزابنا, وهي متمتّعة بكلّ أسباب الوعي والاقتدار والإخلاص, هي فقط بحاجة إلى أشخاص متدرّبين على فنون السّياسة ونظم الحكم, ليكونوا قادرين على قيادة وريادة هذه الجماهير المخلصة والسّير بها نحو آفاق الرّقيّ والاقتدار, وتحقيق الأهداف والطّموحات.