لا تثقوا بالولايات المتحدة 9
لا تثقوا بالولايات المتحدة:
(9) البرازيل: خدعة "عملاق الجنوب" ومؤامرة "الخصخصة"
د. حسين سرمك حسن
(البرازيل مثل العاهرة التي ملابسها الخارجية نظيفة وملوّنة ، ولكن ملابسها الداخلية وسخة وقذرة)
الرئيس الأمريكي
ريشارد نكسون
كتاب (1999 نصرٌ بلا حرب)
تمهيد :
-------
البرازيل أو - رسمياً – "جمهورية البرازيل الاتحادية" هي أكبر دولة في أمريكا الجنوبية ، وثالث أكبر بلد في الأمريكتين ، وخامس أكبر دولة في العالم، سواء من حيث المساحة الجغرافية أو عدد السكان ، حيث تبلغ مساحة البرازيل (8.511.965) كم2 ، ويبلغ عدد سكانها (188.078.227) نسمة.
كانت البرازيل مستعمرة للبرتغال بدايةً منذ هبوط المستكشف "بيدرو الفاريس كابرال" فيها عام 1500 حتى عام 1815. في عام 1815، رُقّيت البرازيل إلى رتبة مملكة عند تشكيل مملكة البرتغال والبرازيل والغرب المتحدة . بقيت البرازيل مستعمرة برتغالية حتى 1808 عندما نُقلت عاصمة الإمبراطورية من لشبونة إلى ريو دي جانيرو بعد غزو نابليون البرتغال. وقد تحقق الإستقلال في 1822 عندما تم تشكيل الإمبراطورية البرازيلية، وهي دولة موحّدة يحكمها نظام ملكي دستوري ونظام برلماني. أصبحت البلاد جمهورية رئاسية في عام 1889، عندما أعلن الانقلاب العسكري الجمهورية في البرازيل، مع وجود مجلسين تشريعيين. يعود تاريخ التصديق على أول دستور إلى عام 1824. دستور البرازيل الحالي والذي وُضع في عام 1988، يُعرّف البرازيل بأنها جمهورية فدرالية. ويتكون الإتحاد من اتحاد منطقة العاصمة الاتحادية، واتحاد 26 ولاية.
وعود الرئيس الأمريكي إيزنهاور للبرازيليين :
---------------------------------------------
طمأن الرئيس إيزنهاور خلال زيارة عام 1960 البرازيليين بأن :
(نظام شركاتنا الخاصة الواعية اجتماعيا يعود بالفائدة على جميع الناس ؛ الملّاكين والعمال على حدّ سواء. في ظل الحرّية ييرهن العامل البرازيلي بسعادة على مباهج الحياة في ظل النظام الديمقراطي) .
فماذا كانت نتيجة هذه الوعود الأمريكية ؟
الإنقلاب العسكري هو أول نتيجة للوعود الأمريكية :
---------------------------------------------------
دبّرت إدارة الرئيس "جون كنيدي" الإنقلاب العسكري في البرازيل عام 1964 ، وساعدت على تحطيم الديمقراطية البرازيلية ، التي خُطّت في سبيل الإستقلال . دعمت الولايات المتحدة الانقلاب الذي وضع حجر الأساس لعمليات التعذيب والإرهاب على طريقة النازي . دمّر الإنقلاب الحياة البرلمانية التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية ، وبدأت فترة دمويّة مُرعبة خرّبت الحياة في االبرازيل لمدة ثلاثة عقود . (مرّت الأرجنتين وتشيلي وغيرهما بفترة دموية مشابهة من منتصف الستينات إلى الثمانينات وسوف نتناولها قريباً) .
كيف قامت الولايات المتحدة بالتخطيط للإنقلاب العسكري ؟ :
----------------------------------------------------------
بدأت الولايات المتحدة الأمريكية بالتخطيط للإنقلاب العسكري بعد أن أصبح السيّد (خواو غولارت) رئيساً للبرازيل عام 1961 . قلق العسكريون من جاذبيّة هذا الشخص اليساري وخطابه الشعبي ، وأغضبتهم جهوده الهادفة لرفع الحد الأدنى لأجور العمال المدنيين ، وزادت مخاوف جماعة رجال الأعمال الأمريكيين عندما أصدر قراراً يفرض قيوداً على الاستثمار الأجنبي ويحدّ من تحويل الأرباح ، لأنّ هذا التحويل يستنزف الاقتصاد البرازيلي . وبالرغم من أن هذا الرجل كان معادياً للشيوعية إلّا أن رجال الأعمال الأمريكيين ومسؤولي السفارة الأمريكية شعروا بالخوف من علاقاته مع العمال والمنظمات الفلاحية وتعيينه عددا من الشيوعيين في مناصب عالية . اعتبرت وكالة المخابرات الأمريكية (السي آي أي) هذا نهجاً شيوعياً صريحاً . أخبر الجنرالات البرازيليون (وأغلبهم تمّ تدريبهم في الولايات المتحدة) السفير الأمريكي في البرازيل بأنّهم يحضّرون لانقلاب . بمبادرة شخصية من الرئيس "جون كندي" بدأ الدعم السرّي والعلني للمرشحين اليمينيين . أرسل جون كندي شقيقه "روبرت كندي" ليبلغ الرئيس البرازيلي "غولارت" بأنّ الولايات المتحدة الأمريكية قلقة من مضايقات رجال الأعمال الأمريكيين والمستثمرين الأجانب ، وتسرُّب الشيوعيين والقوميين اليساريين المعادين للولايات المتحدة إلى الحكومة ، وأن على الرئيس "غولارت" أن يهتم بأن يشغل المواقع الإدارية والإقتصادية "المفتاحية" في البرازيل أشخاصٌ موالين للولايات المتحدة ، وأن يفرض السياسات الاقتصادية التي تريدها .
لم ينصاع الرئيس "غولارت" لهذه "الأوامر" ، فتوتّرت العلاقات . حثّ مدراء الشركات الأمريكيون آنذاك الولايات المتحدة على وقف تام للمعونات الإقتصادية لتسريع الانقلاب . حذّرت السفارة الأمريكية من أن "غولارت" يرقّي الضبّاط ذوي الميول القومية على حساب الضبّاط الموالين للولايات المتحدة وللديمقراطية (لاحظ أن الديمقراطية ترادف الولاء للولايات المتحدة بالنسبة للأمريكان) . زادت المساعدات العسكرية . قدّمت الـ CIA تمويلاً لتظاهرات في بعض المدن . وفي 31 آذار قام الجيش بانقلاب وصفه الأمريكيون بـ (العصيان الديمقراطي) ، ورحب السفير الأمريكي بالانقلاب باعتباره "ثورة ديمقراطية" ووصفه بأنّه (الانتصار الوحيد الأكثر حسما للحرية في منتصف القرن العشرين) وقال : (إن انتصار الحرية هذا – أي الإطاحة العنيفة بالديمقراطية البرلمانية وبالرئيس المُنتخَب – لا بد أن "يخلق جوّاً أفضل بكثير بالنسبة للإستثمارات الخاصة) . أهّلتْ تلك الإنجازات الولايات المتحدة للقب "مُلهمة انتصار الديمقراطية" ، كما أطلقت عليها الجريدة الليبرالية (نيو ريببلكان – الجمهورية الجديدة) . ويخبرنا "توم ولف" أن الثمانينات "جاءت بأعظم الفترات الذهبية في تاريخ الإنسانية" .
بعد الإنقلاب أُطيح بالنظام البرلماني بعنف ، وسُحقت الحركة العمالية . خُفّضت الأجور 25% خلال السنوات الثلاث الأولى . أُعيد توزيع الدخل لصالح جماعات الدخول العالية . اعتبرت "النيويورك تايمز" (القمع الوحشي والهجوم على مستويات المعيشة شرطاً أوّلياً لدورة جديدة من النمو الرأسمالي في الاقتصاد الداخلي البرازيلي) . الآن قدّم البنك الدولي أوّل قروضه بعد أن رفض ذلك لمدة 15 عاما ، وازدادات المعونة الأمريكية مع زيادة التعذيب والقتل والجوع والأمراض ووفيات الأطفال ... وأرباح الشركات . صارت الولايات المتحدة تُشرف على كلّ جوانب السياسة الاقتصادية البرازيلية.
تكتيك دخول البنك الدولي إلى ساحة اللعبة :
------------------------------------------
بالطبع ، يبدأ العسكريون – وبتخطيط من الولايات المتحدة - بهمّة ، في صنع مأساة اقتصادية – وغالبا ما يكون ذلك باتباع وصفات المستشارين الأمريكيين – وبعيد الفراغ من ذلك ، يسلّمون المشكلات للمدنيين الذين سيجدون اقتصاداً مُصادراً ، وقطاعاً عامّاً مُباعاً ، وثروات مُستباحة يتلاعب بها 3 – 5 % من السكان ومن يرتبط بهم ، مقابل حالة من البؤس العارمة تطيح بأكثر من 80% من السكان . هنا يأتي حبراء البنك الدولي ليعرضوا خدماتهم لإنقاذ الإقتصاد المُحطّم .
وبالنسبة للولايات المتحدة – وفي كثير من الأحوال - لم يعد الاحتلال العسكري السافر ضرورياً ، فقد برزت وسائل حديثة مثل : صندوق النقد الدولي ، والبنك الدولي .
يُقرض البنك الدولي البلدان مقابل شروط تتمثل في سياسة "تحرير الاقتصاد" ، أي تهيئة الاقتصاد الوطني لاختراق المال الأجنبي ، وتحكّمه فيه ، مع تخفيضات حادّة في خدمة المجتمع . يكرّس هذا تقسيم المجتمع إلى أقلية ثرية وأكثرية تعاني الحرمان والفقر المدقع .
تهيء الديون والفوضى الاقتصادية التي ينجزها العسكريون – كما قلنا - الساحة أمام شروط وقواعد صندوق النقد الدولي ، إلّا إذا حاولت قوى سياسية وطنية ذات شعبية التدخل ، وفي هذه الحالة يعود العسكريون لاستعادة الاستقرار ! وفي حالة بلدان أمريكا اللاتينية – ومنها البرازيل - يكون عذر المخابرات الأمريكية حين تدبّر الإنقلابات هو إبقاء الشيوعية بعيدة عنها (المقصود بالشيوعيين أولئك الميّالون إلى الفقراء والذين طالموا رغبوا في نهب الأغنياء على حد تعبير "جون فوستر دالاس" وزير خارجية الولايات المتحدة آنذاك).
وتقدّم البرازيل حالة كاشفة على هذه السياسة التدميرية حيث تتمتع بثروات طبيعية تمكنها من أن تكون أغنى دول العالم . كذلك تمتعت بتنمية صناعية عالية المستوى . ولكن بفضل انقلاب عام 1964 ، ومن ثم "المعجزة الاقتصادية" التي يشيد الكلّ بها ، أصبح أكثر البرازيليين يعيشون مثل الأثيوبيين ، وأقلّ من سكان أوروبا الشرقية . دع عنك التعذيب والقتل والأساليب الأخرى لضبط عدد السكان كما سنرى ! .
أهداف الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية عموماً والبرازيل خصوصاً :
---------------------------------------------------------------------
تتلخّص أهداف الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية عموماً والبرازيل خصوصاً بما يأتي :
- إبقاء المنطقة سوقاً مفتوحة لفوائض الإنتاج الصناعي في الولايات المتحدة وللاستثمارات الخاصة.
- استغلال احتياطيها الهائل من المواد الخام.
- منع النزعات القومية الاقتصادية.
- منع أي تطوّر صناعي مُفرط يمكن أن ينافس الشركات الأمريكية.
- وبالنسبة للبرازيل كانت القاعدة هي : (لا بأس بتنمية البرازيل طالما لا تتعارض هذه التنمية مع الأرباح والهيمنة الأمريكيتين ، وطالما استمر ضمان تحويل أرباح كافية للخارج) .
- تشجيع التنمية الزراعية طالما تجنبت برامج تقوّض الإستقرار كالإصلاح الزراعي ، وتعتمد على المعدات الزراعية الأمريكية .
- تشجيع البضائع التي تكمل الإنتاج الأمريكي كالبن والكاكاو والمطاط والجوت .
- خلق أسواق جديدة للسلع الزراعية الأمريكية مثل منتجات الألبان والقمح .
- تأتي الرغبات البرازيلية في المرتبة الثانية ، وهي مفيدة (للطبطبة عليهم قليلا وجعلهم يعتقدون أنك تحبهم كما يقول "جون فوستر دالاس" أيضاً) .
مؤامرة الخصخصة :
---------------------
قرّرت الحكومة البرازيلية - برغم المعارضة الشعبية القوية -
الشروع بعمليّة "الخصخصة" حسب شروط البنك الدولي ، ومعناها الدقيق بيع القطاع العام
حسب شروط البنك الدولي واستجابة لخططه في "تحرير" الإقتصاد . وقد شعرت قيادات الشعب
البرازيلي السياسية والنقابية – العمالية خصوصاً - بأن هذه "الخصخصة" مؤامرة . تقوم
هذه المؤامرة المُحكمة التي يتبعونها مع كلّ بلد على دور من يُسمّون بـ "رجال
الإقتصاد المأجورين" الذين يقومون عبر الندوات والفضائيات والمقالات والمؤلفات ،
والمناصب التي يحتلونها في البلد المعني ، بإشاعة أنّ شركات القطاع العام غير
مُربحة وأنّها مُفلسة وليست قادرة على دفع رواتب منتسبيها ، وأنّها عبء على الدولة
وعلى الميزانية وعلى كاهل المواطن ، وأن بيعها إلى القطاع الخاص يعني تطوّرها
وملاحقتها للتطوّرات العلمية الحديثة وتزويدها بأحدث الآلات والمعدات التكنولوجية ،
كما أنّه يعني تشغيل أيدي عاملة ويقضي على البطالة ويضمن تسليم رواتب العاملين فيها
في مواعيدها ، بالإضافة إلى ما يعنيه من إغراق للسوق بالسلع .
لكن ما هي الطريقة الخبيثة التي يتبعها خبراء البنك الدولي والتكنوقراط المرتبطين
به وخصوصاً رجال الإقتصاد المأجورين ؟
إنّه الطَرْق المستمر على تخلّف القطاع العام ، وعلى شطارة القطاع الخاص ، وعلى ضرورة بيع شركات القطاع العام ، مع رسم صورة زاهية ومتعالية للقطاع الخاص والشركات الأجنبية – الأمريكية خصوصا – كـ "منقذ" يحمل التطوّر والرفاهية .
لكن ما الذي يفعلونه لتحقيق أفظع الأرباح من هذا الهدف – الشراء بأرخص الأسعار والبيع بأغلى الأسعار كما هو معروف عن السلوك الإقتصادي الرأسمالي - ؟
إنّهم يشكّلون لجنة لتقييم كل شركة من شركات القطاع العام من "خبراء" اقتصاد هم في الحقيقة خبراء اقتصاد مأجورين (راجع كتاب اعترافات رجل اقتصاد مأجور الشهير لجان بركنس الخبير السابق في البنك الدولي) أو يحيلون عمليّة التقييم لشركة حسابات اقتصادية خاصّة دوليّة "مشهورة" . تقوم هذه اللجنة أو تلك الشركة بوضع صورة سيّئة لشركة القطاع العام المطلوب تقييمها كشركة فاشلة موشكة على الإفلاس وليس لها ربحية ، وتقترح بيعها وتضع "سعراً" للبيع زهيد جداً !! يتم تسريب خبر التقييم والسعر بصورة سرّية – وبمالغ رشا كبيرة – للشركات الأمريكية والأجنبية متعددة الجنسيات التي تخطط لشراء تلك الشركة منذ سنوات ، فتسرع لتقديم العروض وشراء الشركة .
لناخذ مثالاً محدّداً من البرازيل :
--------------------------------
قرّرت الحكومة البرازيلية بيع شركة " فال " التي تسيطر على مصادر واسعة من اليورانيوم والحديد ومعادن أخرى ، وشركات صناعية ، ووسائل مواصلات ، بما في ذلك تكنولوجيا متطورة وتحقق أرباحا طائلة (أي أنها ليست خاسرة كما اشاع خبراء الإقتصاد المأجورون) ، بلغ دخلها في عام 1996 أكثر من 5 مليارات دولار، كما أن آفاق المستقبل بالنسبة لها ممتازة . وهي واحدة من ست شركات أميركية لاتينية مُدرجة في قائمة الخمسمائة شركة الأكثر ربحا في العالم . قدرت الحكومة ثمنها أقل كثيرا من قيمتها الحقيقية . قالت الحكومة انها اعتمدت على تحليل "مستقل" قامت به شركة "ميريل لنش" التي "صادف" أنها مرتبطة بالشركة العملاقة الأنجلو – أمريكية التي اشترت هذه الشركة !! التي هي المكون المهم من مكونات الاقتصاد البرازيلي .
معجزة أم مأساة ؟ :
-------------------
في تاريخ "أمركة" البرازيل الذي امتُدح كثيراً يقول "جيرالد هاينز" منذ 1945 استخدمت الولايات المتحدة البرازيل "كحقل تجارب للاساليب العلمية الحديثة للتنمية الصناعية المبنية على أسسس راسمالية متينة . أصبحت البرازيل – كما تذكر صحافة رجال المال – تحت نير الحكم العسكري "محبوبة مجتمع رجال الأعمال العالمي في أمريكا اللاتينية" ، وفي نفس الوقت يذكر فيه تقرير البنك الدولي أن ثلثي السكان لا يجدون من الطعام ما يكفي لنشاطهم الجسدي العادي . ويصفون عام 1989 بأنه عام نجاح سياسات أمريكا في البرازيل وأنها "قصة نجاح أمريكي حقيقي" . فعلا ، كانت سنة ذهبية بالنسبة لعالم رجال الأعمال حيث زادت الأرباح ثلاثة أضعاف عمّا كانت عليه عام 1988 ، بينما انخفضت أجور عمال الصناعة – وهي من أكثر الأجور تدنيا في العالم – بنسبة 20% أخرى ، وأدرج تقرير الأمم المتحدة حول التنمية البشرية البرازيل بمستوى ألبانيا .
مع تولّي التكنوقراطيون لإدارة السياسة الاقتصادية عام 1967 ومعهم بدأت ما سمي بـ (المعجزة الاقتصادية البرازيلية) بنمو غير مسبوق في الإقتصاد . ولكن معها تم تخفيض الأجور ، وازدادت الرقابة ، وألغي استقلال القضاء ، وألغيت المناهج التي تروّج للنزعة الوطنية .
في 1970 ، أُعلن أن القمع سيكون قاسياً ، وصار التعذيب طقساً مُروّعاً وذبحاً محسوباً للجسد والروح ، وتعذيب الأطفال والاغتصاب الجماعي للزوجات أمام أسرهن . قدمت حمّى التعذيب تحذيرا واضحا لكل من يحمل أفكارا يسارية ، بل لكل من تسوّل له نفسه الإعتراض على نتائج "المعجزة" .
صارت البرازيل جذّابة من جديد لمستثمري القطاع الخاص . حصل توسع سريع في الناتج القومي الخام والاستثمار الأجنبي ، وحصل تحسّن درامي وهائل من الناحية التجارية ، ومثّل حقنة قويّة في ذراع الجنرالات وتكنوقراطييهم ، فقد التزموا بقوة بالمبدأ القائل : (إن الردّ الحقيقي على الفقر والتوزيع غير العادل للدخل إنما هو النمو الاقتصادي السريع بحيث تزيد الكعكة الاقتصادية بمجملها) . تراوحت معدلات النمو في 1965- 1981 بحدود لم تتجاوز الحكم البرلماني 1947 – 1964 . بالكاد زادت معدلات الادخار الاجتماعي خلال (سنوات المعجزة) . غصّت الأسواق بالسلع الكمالية من أجل الأغنياء . صحيح صارت البرازيل الأسرع نموا بين أسواق التصدير الصناعي ما وراء البحار ، لكن السكّان في قمة سنوات المعجزة 1975 ، كان 68% منهم يحصلون على الحد الأدنى من السعرات الحرارية اللازمة للنشاط الجسدي ، 58% من الأطفال يعانون من سوء التغذية ، مصاريف وزارة الصحة صارت أقل مما في 1965 . زار "هنتنغتون" البرازيل عام 1972 وحثّ على تخفيف الإرهاب الفاشي !
في الثمانينات ، انفجرت فقاعة "المعجزة" في أزمة الثمانينات
الاقتصادية العالمية المعروفة ، حيث تراجعت ظروف التجارة ، وذهبت بدعائم من يمسكون
بالسوط وكيس النقود معاً .
بعد أربع سنوات من التدهور الاقتصادي الحاد ، عاد الإقتصاد يتعافى ، والفضل إلى
التصنيع الذي حلّ محل الإستيراد الذي فرضه البنك الدولي . اضطر الجنرالات إلى
مغادرة المسرح تاركين أمر إدارة الحطام الإقتصادي والإجتماعي لحكومة مدنية يديرها
التكنوقراط .
معجزة البرازيل تستند إلى وجود (برازيلان مختلفتان تماماً) !!
فعندما بلغت المعجزة ذروتها في السبعينات كان النزاع الأساسي في البرازيل بين 1%
وربما 5% من السكان وهم النخبة ، و80% ممن تُركوا خارج النموذج البرازيلي للتنمية .
استفادت الأولى ، وغاصت الثانية في بحر البؤس . الحكومة البرازيلية نفسها - وفي عام
1986 - قالت برغم التبجّح بأن البرازيل هي الاقتصاد الثامن في العالم الغربي ،
فإنها كانت في الوقت نفسه تُصنف مع أضعف دول أفريقيا وآسيا تطوّرا عندما تكون
المقارنة وفق مؤشرات الأحوال الاجتماعية ، وهذا بعد عقدين من اطلاق يد التكنوقراط .
وفي تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية (التعليم والصحّة .. إلخ) صُنّفت البرازيل
في المرتبة (80) بعد ألبانيا وتايلاند .
وفي تشرين الاول 1990 ، أعلنت منظمة الأمم المتحدة للغذاء والزراعة أن أكثر من 40%
من السكان (أي 52 مليون إنسان) يعانون الجوع ، وتقدر وزارة الصحة البرازيلية أن
مئات الألوف من الاطفال يموتون جوعا كل عام ، أما النظام التعليمي فيقف مباشرة فوق
بنغلادش حسب تقرير اليونسكو لعام 1990 . أمّا تقرير لجنة (مراقبة أمريكا) لعام 1992
فقد أعلن أن البرازيل تعجز عن تأمين عيشٍ مقبول لسكانها البالغين 182 مليونا بحيث
أن ثلثهم مصابون بسوء التغذية . ينتشر الجوع والمرض بشكل مخيف . التشغيل العبودي
للعمال المتعاقدين الذين يُعاملون بكل وحشية أو يُقتلون بكل بساطة إذا هربوا قبل
تسديد ديونهم عملاً . تقرير الكنيسة الكاثوليكية 1992 وجد (4000) عامل مُستعبد
يستخرجون الفحم النباتي في مشروع مُموّل من الحكومة العسكرية ، يعملون 16 ساعة
يومياً بلا أجر يُضرَبون ويُعذّبون ، بل يُقتلون أحيانا . يملك 1% من المزارعين نصف
الأراضي الزراعية ، والتركيز على المحاصيل التصديرية حسب وصفات السادة الأجانب .
المالكون يستدعون فرقاً مسلحة أو قوات الشرطة لحرق المنازل والمواشي واغتيال
النقابيين والقساوسة والممرضات والمحامين الذي يحاولون الدفاع عن الفلاحين ، ولدفع
الفلاحين نحو مناطق الأكواخ أو مناطق الأمازون حيث يُتهمون بحجة أنهم يحرقون الغابة
لأنهم ينظّفون قطعة صغيرة لزراعتها والبقاء أحياء . يصف الباحثون البرازيليون سكّان
تلك المنطقة بأنهم جنس جديد (أقزام) يملكون 40% من الامكانات العقلية البشرية
العادية بسبب سوء التغذية في بلاد أرضها أكثر خصوبة في العالم ، ولكن تمتلكها
المزارع الكبرى التي تنتج المحاصيل التصديرية النقدية .
صارت البرازيل مركزاً لانجازات عالمية مثل عبودية الأطفال حيث يعمل (7) سبعة ملايين طفل كعبيد أو مومسات ، ويُستغلون ويُدفعون للعمل بما يفوق طاقتهم ، ويُحرمون من التعليم والصحة حسب منظمة العمل الدولية . الاطفال الأوفر حظّاً يعملون لصالح مروّجي المخدّرات مقابل مواد لاصقة يستنشقونها لجعل الجوع يذهب عنهم.
تستحق البرازيل جائزة في التعذيب ، وقتل الأطفال المُشردين على يد قوات الأمن (عملية إبادة الشبان) حسب تعبير مديرية العدل في ريو دي جانيرو.
رصدت لجنة برلمانية (15) فرقة من فرق الموت في ريو دي جانيرو وحدها ، من الشرطة ويموّلها التجار . يتم العثور على جثث من تقتلهم هذه الفرق خارج الأحياء السكنية ، وتكون أيديهم موثقة وتبدو عليها آثار التعذيب وثقوب الرصاص ، أما الفتيات المشرّدات فيُجبرن على العمل كمومسات . سجّل معهد الطب الشرعي مقتل (427) طفلا في ريو وحدها خلال العشرة أشهر الأولى عام 1991 ، قُتِل معظمهم على يد فرق الموت . وأفادت لجنة برلمانية أن (7000) سبعة آلاف طفل قُتلوا خلال السنوات الأربع الماضية . إنها ضريبة (الطرق العلمية الحديثة في التنمية المستندة بقوة على الرأسمالية) كما تتبجح الدوائر الإقتصادية الأمريكية.
المعنى الحقيقي لـ (المعجزة الإقتصادية) هو أرباح كبرى للمستثمرين الأجانب وحياة مرفّهة للنخبة المحلية ، وزيادة البؤس لعموم الناس.
أفادت تقارير وزارة التعليم البرازيلية أن أكثر من ثلث ميزانيتها يذهب في إطعام التلاميذ ، لأنّ أغلبهم لا يحصلون في طعامهم إلّا على تلك الوجبة المجّانية . وطبقا لمجلة (الجنوب) تفوّقت البرازيل في عدد وفيات الاطفال على سري لانكا . يعيش ثلث السكان تحت خط الفقر ، ويشحذ ويشم الغراء (الصمغ / السيكوتين) سبعة ملايين طفل ، تركهم آباؤهم في الشوارع . يسكن الملايين في أكواخ متهالكة في أحياء مُعدمة ، أو ينامون تحت الجسور .
تلك هي البرازيل ، واخدة من أغنى بلاد العالم بالثروات الطبيعية .
والحال شبيه بذلك في كل أمريكا اللاتينية . أما في أمريكا الوسطى ، فقد ارتفع عدد القتلى بمساندة القوات الأمريكية إلى 200,000 كما سنرى ذلك قريباً .
بينما كانت (المعجزة) بسبيلها للإنهيار ، كانت انجازات البرازيل تُعلن في الصحافة والتلفاز على أنها إظهار لروائع رأسمالية السوق الحرة ، وانها النتيجة السعيدة للمعونة والإرشاد الأمريكيين . أمّا بعد الإنهيار فقد اعتُبرت البرازيل مثالاً على الفشل في اتباع النصائح الأمريكية الخلّأقة وللانحراف عن العقيدة الاقتصادية الصحيحة .
معجزة الرئيس (لولا دي سيلفا) وطيحان حظّ الرؤساء العرب :
------------------------------------------------------------
لم يحصل أي انتخاب علني شعبي خارج الكونغرس لرئيس البرازيل إلا في عام 1989 ، وبعد سلسلة من الترشيحات والفشل أرادت منها الولايات المتحدة ترتيب (قصة نجاح جديدة للرأسمالية ذات النمط الأمريكي) ، حصل العكس وتفاقم الإنهيار حيث انخفض النمو الاقتصادي من 5% إلى 3% ، وتراجع الدخل الفردي 6% والانفاق على الصحة 32% وعلى التعليم أكثر من ذلك .,. إلى أن تم انتخاب السيّد (لولا دا سيلفا) رئيسًا للجمهورية في شهر أكتوبر 2002م ، بعد أن حصل على أكثر من 51 مليون صوت بنسبة (62%) من اجمالى عدد الأصوات ليصبح لولا دا سيلفا (صبّاغ الأحذية ، وعامل الحديد السابق ، ومؤسّس ورئيس حزب العمال الحالي) أوّل رئيس يساري اشتراكي مُنتخب منذ إنشاء جمهورية البرازيل في 15 من نوفمبر عام 1889م . لُقِّب لولا بـ (بطل الفقراء) ، وفاز بدورة ثانية عام 2006 ليترك الرئاسة ويرفض تعديل الدستور ليحصل على رئاسة ثالثة . في عهد هذا الرجل حصل النهوض التنموي الحقيقي ، وتنفسّت الناس الصعداء . كانت البرازيل على شفا الهاوية، وهى الآن تتمتع بفائض يزيد عن 200 مليار دولار ، واصبحت صاحبة أقل نسبة غلاء بين دول العالم الثالث، وذلك بفضل مجهودات دا سيلفا. نجح في توفير ما يقارب 60 مليار دولار خصصها لمساعدة الأسر الفقيرة والقضاء على ظاهرة توارث الفقر. وبفضل مجهودات هذا الرئيس أصبحت البرازيل من ضمن قائمة الدول المؤثرة في الخمس عشرة سنة المقبلة. وهناك توقّعات بأنه بحلول عام 2040م ، سيكون اقتصاد البرازيل أكبر من اقتصاد ألمانيا واليابان معاً، نظراً لمقوّماتها الاقتصادية الضخمة في مجالات الزراعة والصناعة والاكتشافات البترولية الجديدة.
لقد نجح الرئيس لولا دا سيلفا في تطبيق برنامج "بولسا فاملى" ؛ وهو برنامج لتحسين الأوضاع الاجتماعية ، حيث حُسِّنَتْ أوضاع (8) ثمانية ملايين أسرة فقيرة، وذلك بتوفير دخل بحد أدنى وهو : 160 دولارًا شهرياً . ولقد بلغت تكلفة هذا البرنامج اكثر من 80 مليار ريال برازيلى . وتم تمويل هذا البرنامج من خلال الضرائب التصاعدية التي تمثل أكثر من 40 % . واشترط الرئيس على كل الأسر المستفيدة من هذا البرنامج أن يواظب أبناؤهم على الدراسة. والهدف الأساسى من تطبيق هذا المشروع هو تخفيف وطأة الفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية. وبعد أن انتهت فترته الرئاسية، قال إنه لا يمكن تعديل الدستور ليتمكن من أن يترشح للمرة الثالثة ، وفي تصريح للرئيس لولا دا سيلفا لمجلة برازيلية قال :
(ناضلتُ قبل عشرين سنة، ودخلتُ السجن لمنع الرؤساء من أن يبقوا في الحكم أطول من المدة القانونية . كيف أسمح لنفسى أن أفعل ذلك الآن ؟) .
ملاحظة عن هذه الحلقات :
-------------------------
هذه الحلقات تحمل بعض الآراء والتحليلات الشخصية ، لكن أغلب ما فيها من معلومات تاريخية واقتصادية وسياسية مُعدّ عن عشرات المصادر من مواقع إنترنت ومقالات ودراسات وصحف وكتب خصوصاً الكتب التالية : ثلاثة عشر كتاباً للمفكّر نعوم تشومسكي، كتاب أمريكا المُستبدة لمايكل موردانت ، التاريخ السري للامبراطورية الأمريكية لجاك بركنس ، أمريكا والعالم د. رأفت الشيخ، تاريخ الولايات المتحدة د. محمود النيرب، الولايات المتحدة طليعة الإنحطاط لروجيه غارودي، الفردوس الأرضي د. عبد الوهاب المسيري، وغيرها الكثير.