الأهداف البعيدة للغارات الإسرائيلية
الأهداف البعيدة للغارات الإسرائيلية
محمد فاروق الإمام
إن المتتبع لمسيرة نظام الممانعة والصمود على مدى نصف قرن أو يزيد اعتاد على مشاهدة الطيران الإسرائيلي، ليس فقط في دخول الأجواء السورية، وإنما على ضرب أهداف داخلية حيوية في طول البلاد وعرضها آمناً مطمئناً وكأنه في رحلة سياحية لا تعكرها الأنواء أو الأجواء وقد درس بدقة العوامل الجوية مسبقاً، واتخذ قرار رحلته بالتوافق مع معدي النشرة الجوية التي تصدر عن المخابرات الجوية في دمشق.
نظام الصمود والتصدي والممانعة كان على الدوام يبتلع السكين الصهيونية بكل أدب واحترام وذل وخنوع منذ استيلاء اللجنة العسكرية التي قادها الثلاثي الطائفي (حافظ الأسد ومحمد عمران وصلاح جديد) على السلطة في دمشق فجر الثامن من آذار 1963، فعندما كان حافظ الأسد قائد القوى الجوية اخترقت طائرات الفانتوم الإسرائيلية الأجواء السورية في 3/11/1964 وقصفت الجبهة السورية من شرقها إلى غربها ولأكثر من 20 دقيقة دون أن يعكر مزاج طياريها أي رد من قبل المضادات الأرضية، اللهم إلا من طلقات فردية أطلقت عليها من قبل عسكري وطني أبت حميته أن يشاهد الطائرات الصهيونية تعتدي على تراب الوطن دون أن يتصدى لها، ودفع الثمن الاعتقال والسجن والتعذيب لأكثر من سنة في سجون نظام الممانعة والصمود والتصدي.
وفي عهد اللواء حافظ الأسد وزير الدفاع وقائد الجبهة أحمد المير ورئيس الأركان أحمد سويدان تمكنت إسرائيل من دحر الجيش العقائدي في أقل من ست ساعات واحتلال مرتفعات الجولان العصية التي كانت تعرف بخط ماجنو الشرق لتحصيناتها الطبيعية والصناعية، حيث سقطت دون دفع أو مدافعة بعد إصدار وزير الدفاع حافظ الأسد أمراً بالانسحاب الكيفي من الجبهة، وهذا يعني التخلي عن كل الأسلحة التي تعيق الأفراد من الانسحاب والتراجع، وبالتالي وقوع مئات الدبابات وقطع المدفعية وناقلات الجند غنيمة بيد الصهاينة، وإصدار بيانه الشهير بسقوط القنيطرة قبل أن تدنسها قدم جندي إسرائيلي بأكثر من 18 ساعة.
وفي عهد حافظ الأسد بعد أن أصبح رئيساً للجمهورية بعملية غدر دنيئة ضد رفاقه في 16/11/1970 كانت حرب تشرين/اكتوبر 1973 التي تمكنت فيها إسرائيل من الوصول إلى مشارف دمشق والاستيلاء على 34 قرية جديدة هي كل ما تبقى من الجولان ولم تحتلها في حرب 1967. ومن ثم عقده لاتفاقية فك الاشتباك مع الصهاينة برعاية كيسنجر عند الكيلو 54 تعهد بموجبها حافظ الأسد تأمين حدود إسرائيل الشمالية من أي اعتداء في مقابل دعم إسرائيل لنظامه ووفى كلا الطرفين بتعهداتهما.
وفي عهد حافظ الأسد احتلت القوات الصهيونية الغازية بيروت عام 1982 بوجود أكثر من 40 ألف جندي سوري عقائدي أداروا ظهرهم للعدو الصهيوني وتركوا المقاومة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية في مواجهة آلة الحرب الصهيونية العاتية، ولم يفعل أي شيء في مواجهة الطيران الصهيوني الذي تمكن من إسقاط ما يزيد على 82 طائرة حربية سورية وتدمير كل منصات الصواريخ المضادة للطائرات التي أقامها النظام على طول الحدود السورية اللبنانية.
وبعد وراثة الأسد الصغير لأبيه لم تتوقف الغارات الإسرائيلة على الأراضي السورية كلما شعرت أن هناك ما يهدد أمنها حتى جاءت الغارات الأخيرة التي ضربت مرتكزات النظام العسكرية في العمق دون أن يسمع العالم أي ردة فعل للنظام تجاه هذا العدوان إلا جعجعة اعتاد العالم على سماعها من أبواق النظام وشبيحته وحلفائه (سنرد في الزمان والمكان المناسبين).
إسرائيل سارعت إلى طمأنة الأسد إلى أنها لا تزال على العهد الذي وقعته مع أبيه قائلة: إن الغارات ليس هدفها دعم المعارضة أو إسقاط الحكم، فيما سارعت طهران إلى نفي ما زعمته إسرائيل من أن الغارات استهدفت صواريخ إيرانية متوجهة إلى حزب الله في لبنان بهدف التحلل من التزاماتها التي قطعتها على نفسها تجاه النظام.
أغلب التحليلات والكلام الذي تناقلته وسائل الإعلام حول الهدف من هذه الغارات حاولت تجييرها لصالح هذا الطرف أو ذاك في الصراع بين الثوار والنظام الأسدي.
فمن ناحية يصر مؤيدو النظام على تصوير الثورة على أنها بأكملها مؤامرة كونية على محور الممانعة والمقاومة وموقف النظام الداعم لهذا المحور، وفي المقابل هنالك بعض المحللين من يقول بأن هذه الغارات جاءت دعماً للنظام السوري وإبعاد أنظار العالم عما يرتكبه من مجازر عرقية ودينية ومذهبية بشعة بحق المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ في البيضا وبانياس والقصير ومحيطها من القرى ذات الغالبية السنية.
في حين يقول مؤيدو الثورة أن المحتل الصهيوني لا يريد سقوط النظام ويدعمه وفاء لتعهداته السابقة كما ذكرنا، وكونه نظام جربه على مدى أربعة عقود نعمت فيها حدوده الشمالية بالأمن والأمان.
طبعًا الصهاينة لا يريدون انتصار الثورة لأنه خيار أكثر سوءًا لهم، فالنظام وإن كان في ظاهر الأمر أنه يعادي الكيان ويدعم المقاومة فهو قد أورث سورية تخلفًا سياسيًا وماليًا واجتماعيًا وهذا أورثها ضعفًا في مواجهة الاحتلال، فبزوال النظام ومجيء نظام وطني يسعى لمصلحة الشعب السوري وتطويره، فهذا سيقوي سورية، وبما أن موقف الثوار مثل موقف جميع السوريين هو العداء للكيان الصهيوني فهذا سيء للصهاينة وخاصة على المدى المتوسط والبعيد.
إذن فإن إسرائيل تعمل وفق أجندتها ومصالحها بغض النظر عن الموقع المستهدف، وباعتقادي فإن لإسرائيل هدفين لا ثالث لهما: الأول هو تقسيم سورية إلى دويلات طائفية تتحارب فيما بينها وتضعف قوة سورية في مواجهة الدولة العبرية، والثاني تفتت سورية وانهيار الدولة بأكملها.
ومن المؤكد أن أحد أهم أسباب تخاذل الأمريكان والغرب عن دعم الثورة السورية هو بحثهم عن ضمانات لأمن الكيان الصهيوني يأخذونها من الثوار، وحتى الآن لم يأخذوا شيئًا يريح بالهم فيلجأون للخيار الآخر وهو ترك سورية لآلة التدمير والقتل الأسدية التي – كما نراها – تأكل الأخضر واليابس، وعند انتصار الثورة فإن سورية ستحتاج لسنوات طويلة حتى تعيد بناء نفسها، وبذلك يشترون أمنًا مجانياً للدولة العبرية.
الدولة العبرية هي متأكدة من سقوط النظام وزواله وعليه فهي تعمل مسابقة الزمن لاستغلال هذا الوضع فتقوم بشن غاراتها لتدمير مواقع الأسلحة المتطورة التي زودته بها روسيا وإيران (مثل مضادات الطيران والصواريخ البلاستية البعيدة والمتوسطة المدى) وتدمير أكبر قدر منها، حتى لا تبقى مشكلة أي خطر عليها في قابل الأيام، وإن زال النظام وهذه الأسلحة موجودة فسيكون الصهاينة قد ضيعوا فرصة ذهبية لا تعوض (كما يؤمنون ويعتقدون).
قد يقول قائل أن هذه الضربات تقوي الثوار على حساب النظام، ونرد بالقول: إن الدولة العبرية لا تستهدف سوى السلاح الاستراتيجي الذي يهدد كيانها وأمنها، فالنظام لن يستخدم هذه الأسلحة لأن لا مجال لاستخدامها ضد الثوار (فالصواريخ المضادة للطيران لن تستخدم لأنه لا طائرات لدى الثوار، ومركز الأبحاث لا دور له في الحرب ضد الثوار)، ولأن ميزان القوى في التسليح يبقى كبيراً بين النظام والثوار، وقوة الثوار تكمن في الانشقاقات داخل الجيش وتآكله من الداخل وهذا يعني سقوط كل هذه الأسلحة بيد الثوار بنهاية المطاف، وهذا ما يقلق الكيان ولهذا يجب أن نتوقع المزيد من الضربات المماثلة كلما اقتربت لحظة الحسم وسقوط النظام.