موجز انطباعات أولية عن زيارة خاطفة لحلب

عبد الرحيم خليفة

القادم لحلب بعد غياب قسري، أو طوعي، لا بد ان يصاب بمزيج من الخوف والقلق على حياته بالإضافة إلى الدهشة لحال المدينة المنكوبة، وكيفية تعايش أهلها مع أقسى الظروف الإنسانية واستغراب كثير مما يجري على الآرض … في كل الآحوال..الأمر ليس بطولة أدعيها أمام أساطير صمود الناس العاديين، وليس مفخرة لعابر لم يمكث طويلا في مقابل مجاميع بشرية تتحدى الموت لتوهب لها الحياة… قال لي شاب يرسم على الجدران المهدمة وبقايا المنازل التي يطالها القصف، بعد أن عادت إليه موهبة الرسم التي تركها مع هجره لمقاعد الدراسة مبكرا؛ نتيجة سوء أحواله المعيشية وظروفه الاجتماعية القاهرة. إنه بالريشة والآلوان يتحدى الموت بأنواعه. وليس السكود أو غيره بقاتله؛ فهو يرسم لآجل الحياة؛ والبقاء؛ والخلود…وهذا ما فعله يوم سقوط السكود على أرض الحمرا، وجبل كدرو…ومع كل قصف !!! معالم كثير من الآحياء تغيرت. كثير من الأبواب طرقتها ولم تفتح أبوابها…فالوجوه ليست هي الوجوه؛ والشوارع ليست هي الشوارع.. رفض صديقي الذي رافقني طوال الرحلة أن أتجول بمفردي فالمدينة فيها “خطوط تماس” وخارطة معقدة، لايعرفها إلا أهلها. القناصة منتشرون على أسطح مبان، وفي أماكن تظنها أمنة أو”محررة…وكثيرا ما يأتي الموت بغتة… قبل حلول الظلام بساعة، أو قبل المغيب يصبح التجوال ممنوعا إراديا. كل يأخذ مكانه؛ بما في ذلك الثوار ورجال الجيش الحر؛ وغير ذلك يكون مغامرة لا تحمد عقباها… عندما يرخي الليل سدوله يصبح أطول فاصل زمني بين قذيفتين لايتجاوز الخمس دقائق؛ ومع كل قذيفة كان يقول لي مستضيفي لاتقلق …هذه بعيدة …وتلك لمنطقة كذا …وأخرى مصدرها من عندنا باتجاههم(من المناطق المحررة باتجاه مواقع النظام )…وهكذا !! الحركة في بعض المناطق المحررة تبدو أفضل منها في مناطق آخرى؛ والخدمات تتفاوت من حي لآخر. ويعود الفضل بذلك إلى لجان الأحياء..ولكن المدارس إما مقرات للهيئة الشرعية، أو تشكيلات مدنية أو عسكرية؛ أو أماكن إيواء للذين تشردوا وهجروا بيوتهم. المحال مغلقة إلا ماندر. الحياة مشلولة. السلع المتوفرة خارج إمكانات الناس وقدرتهم الشرائية في ظل اعتماد الغالبية العظمى منهم في عيشهم ورزقهم على كدهم وعرقهم (المناطق المحررة هي مناطق الفقراء والمحرومين والمهمشين في حزام الفقر، أو من محدودي الدخل). حيثما وليت وجهك تصدمك مشاهد الدمار وأثار القصف الهمجي؛ فتقرأ في وجوه الناس العابرة الحزن والتعب؛ والصبر والإرادة؛ والرغبة في الخلاص السريع… الحلبيون عامة الذين تأخروا، وترددوا بالثورة كثيرا، لاتنقصهم الشجاعة ولا البطولة؛ لكنهم يشكون كثيرا من ضعف الإغائة والتمويل وحتى ضعف التسليح. وقد شكى لي قائد كتيبة (مهندس ومعتقل سياسي سابق لمدة أربع سنوات) من الحاجة لكل شىء؛ قال وبألم وحسرة: لا أملك لا أنا ولا كتيبتي أي مبلغ من المال …أشياء غريبة تجري من حولنا …كثيرا ما تركنا نواجه أقدارنا ومصيرنا …والبعض صار تاجرا يهمه جمع العنائم …ومن كانوا بالأمس (..) صاروا اليوم ثوارا وزعماء … هنا تستوقفك أشياء وأشياء …الجدران مليئة بالكتابات والشعارات التي تخال نفسك معها أنك ببيروت أيام الحرب الآهلية …أعلام وشعارات قليلها وطني وكثيرها أممي- إسلامي …مظاهر توحي لك بأن الناس فقدت أملها من كل شىء؛ إلا من واحد قهار لاراد ولا غالب له ولإرادته!!..رجال أطلقوا لحاهم وحفوا شواربهم (سنة يتبعونها)… على معبر الموت، فوق النهر الفاصل بين منطقتين، تحضر في ذهنك وتستدعي ذاكرتك كل مشاهد التقسيم وصوره …بين مسافتين حد فاصل بين أشياء كثيرة ؛ ترى ولا ترى… تنتهي الرحلة سريعا …في طريق الإياب الذي كان غير طريق الذهاب مررنا بقرى عديدة صارت عالمية بسيطها وإسمها وأهميتها؛ تستعيد أحداثا ووقائع ومشاهد لتخلص إلى نتائج وحقائق بعضها مر…منها على سبيل المثال : 1- لاأثر يذكر للمعارضة، بما في ذلك مجلس المدينة الذي تم تشكيله مؤخرا، ومعظم من التقيناهم، لم يثنوا على دوره، وإعتبروه مسبق الصنع … 2- هناك تأثير واضح لجبهة النصرة على الآرض، سواء من خلال إدارتها للمخابز بحكم سيطرتها على المطاحن (الخبز متوفر وبسعر معقول -50 ليرة سعر الربطة الواحدة)؛ أو من خلال الانتصارات التي حققتها على الآرض.وحضور شعاراتها 3- كثير من الممارسات لاعلاقة لها بالثورة وتثير نفور الناس وإدانة أبناء الثورة الحقيقين؛ من مثل الخطف لآجل الفدية، أو السرقة، أو التعدي على الحريات العامة للناس وكراماتهم، وقضايا فساد لاتنتهي رواياتها وقصصها… 4- فوضى السلاح؛ وحمله حتى من قبل شبان يافعين؛ ربما بعضهم لم يصل لسن الآهلية القانونية؛ وعدم توفر ضوابط للكتائب التي تتكاثر وتتزايد، رغم شكوى عدم توفر السلاح النوعي … 5- شكوى مريرة من النزوح للخارج، وتخلي فئات اجتماعية كثيرة عن دورها المنوط بها… كل ذلك وغيره الكثير يشغل بال أي زائر. ويبقى السؤال المطروح إلى أين نحن ماضون ؟؟؟ طرحت السؤال على بعض من إلتقيت، وعلى نفسي أولا؛ وجاءني الجواب من رفيق الرحلة، بكل بساطة: الثورة ماضية وسنعيد لسوريا بهاءها وللثورة أصالتها؛ ولو إقتضى الآمر أن تكون بعد الثورة ثورات …!! بين الواقع والصورة التي يرسمها الإعلام مسافة تختزل بحكاية شعب وثورة لابد انها منتصرة بارادة أبنائها ودمائهم..