لا تثقوا بالولايات المتحدة

د. حسين سرمك حسن

(5) تفاصيل العدوان الإرهابي للولايات المتحدة على دولة نيكاراغوا ، وما هي نتائجه ؟

قلنا في الحلقة السابقة أن الولايات المتحدة الأمريكية هي أوّل دولة في العالم تُدان بوصفها دولة إرهابية بقرارات رسمية من محكمة العدل الدولية والجمعية العامة للأمم ومجلس الأمن ، وذلك في عام 1986 م ، قرارات وصفتها بالدولة التي تستخدم إرهاب الدولة وذلك لعدوانها على جمهورية نيكاراغوا وتدميرها ، وأن عليها أن توقف عدوانها فوراً ، وتعوّض نيكاراغوا بـ (12) مليار دولار عن الخسائر الجسيمة التي ألحقتها بهذه الدولة (في تقارير أخرى 18 مليار دولار)  . فما هي قصّة العدوان الإرهابي الأمريكي الذي دمّر دولة نيكاراغوا وما هي نتائجه ؟

في البداية ، نيكاراغوا دولة من دول أمريكا الوسطى في أمريكا اللاتينية عدد نفوسها 5 ملايين نسمة فقط ! تبلغ مساحتها 130,000 كيلومتر مربع، وعاصمتها مدينة ماناجوا  . استعمرتها أسبانيا لقرون ، ثم استقلت منها عام 1821 ، وأصبحت جمهورية في عام 1838 م .

ما يهمّنا هو أنّ الحاكم المفضّل لدى الولايات المتحدة (الديمقراطية) لنيكاراغوا كان ديكتاتور نيكاراغوا ورئيس جمهوريتها ( أناستازيو سوموزا ) الذي سيطر وعائلته على الحكم منذ عام 1936 . كان منفّذاً للسياسات الأمريكية ، ومنح الشركات الأمريكية كل موارد نيكاراغوا ، وحكم البلاد بالحديد والنار ، وسيطر على ثرواتها هو وأسرته . بعد اغتيال هذا الديكتاتور جاء صديق جديد للولايات المتحدة ، ديكتاتور أيضاً حكم البلاد وهو إبن الديكتاتور السابق واسمه (لويس سوموزا) . في ظلّه عاشت البلاد ليلا دامساً ودامياً وحربا أهلية مرعبة هرب بسببها من البلاد (2) مليونا مواطن إلى الدول المجاورة . كانت الولايات المتحدة النصير الأول أيضاً لهذا الديكتاتور ، فتشكلت جبهة التحرير الساندينية اليسارية المعروفة للإطاحة بالديكتاتور . في عام 1967 تسلّم السلطة ديكتاتور جديد صديق للولايات المتحدة أيضاً هو (أناستاسيو سوموزا ديبايلي) وهو شقيق الديكتاتور الإبن السابق (لويس سوموزا) . واصلت جبهة ساندنستا نضالها بعد تصاعد معدلات الجوع والفقر والبطالة والأمّية والأمراض وهدر ثروات البلاد من قبل الشركات الأمريكية . أسقطت الجبهة الديكتاتور ، وبدأت برنامج بناء جذري وإصلاح اقتصادي واسع (عملت حكومة الثوار الساندينيين على تطبيق نظام اقتصادي كان مزيجًا من الملكية العامة والخاصة، تولت الحكومة الصادرات الزراعية، ووزعت الأراضي على الفلاحين ومنحتهم القروض ، طوّرت الأعمال المصرفية والتأمين، والتعدين، وتبنّت سياسات عديدة صُممت لمساعدة الفقراء وتحسين الاقتصاد الذي تضرّر كثيرًا بالحرب الأهلية . وشهدت المؤسسات الدولية بالتطور الإقتصادي الذي أخاف الولايات المتحدة لأنه سيكون أنموذجاً لدول المنطقة الأخرى) . وفي عام 1984 فاز مرشح جبهة ساندنستا في انتخابات ديمقراطية شهد لها مراقبون مستقلون حضروها من الدول الغربية . أي أن نيكاراغوا ستصبح ديمقراطية وتخرج من سيطرة الديكتاتورية . 

هنا انتفضت الولايات المتحدة وقرّرت ترتيب الحكم في نيكاراغوا وفق "ديمقراطية" الولايات المتحدة ووصفات البنك الدولي بعد إسقاط الحكم الديمقراطي المنحاز للشعب ، فأسّست جبهة معارضة هي "الكونترا" التي درّبت عناصرها الـ CIA على أعمال الإرهاب والإغتيالات وتدمير البنى التحتية . في عهد حكومة رونالد ريغان قدّمت الولايات المتحدة 100 مليون دولار لدعم الكونترا وتدريبها . أدانت محكمة العدل الدولية هذا التصرّف . اشتعلت حرب داخلية واسعة في نيكاراغوا . كان الإرهابيون يقتلون المدنيين العزل بما فيهم الأطفال ، ويغتصبون النساء ، ويحرقون القرى بمن فيها أحياء ، ويقطعون الرؤوس ويمثّلون بالجثث . في عام 1984 بدأت الولايات المتحدة بتلغيم (زرع الألغام) في موانىء نيكاراغوا ومحاصرتها اقتصاديا حد التجويع والتدمير الشامل .

 وفي سياق البرنامج التدريبي قامت (السي آي إيه) بإعداد وتوزيع كتيب تحت عنوان "عمليات نفسية في حرب العصابات" ضم إرشادات لاستخدام الإرهاب ضد أهداف محددة، بما فيها المحاكم، القضاة، والشرطة. ويدعو إلى اغتيال بعض الحكام المحليين بهدف التخويف. وقد اعترف الرئيس رونالد ريجان في مؤتمر صحفي صراحة بأن موظفًا متعاقدًا مع (السي آي إيه) قام بإعداد الكتيب. وأدانت محكمة العدل الدولية هذا السلوك .

قامت حكومة نيكاراغوا بعرض قضية الإرهاب الأمريكي على محكمة العدل الدولية فى 9 أبريل سنة 1984 واتهمت حكومة الرئيس ريجان باستعمال القوة العسكرية ضدها وبالتدخل فى شئونها الداخلية، انتهاكا لسيادتها وسلامتها الإقليمية واستقلالها السياسى وللمبادئ الأساسية للقانون الدولى المعترف بها دوليا ، وطلبت من المحكمة أن تمتنع الولايات المتحدة فورا عن استخدام القوة ضدها وان تدفع تعويضات عن الأضرار التى لحقت بالأشخاص والممتلكات والاقتصاد .

أصدرت المحكمة ثم مجلس الأمن ثم الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها الشهير بإدانة الولايات المتحدة بالإرهاب ودعتها إلى التوقف فورا عن الإعتداء على نيكاراغوا كما بيّنا في الحلقة الخامسة .

فماذا كان رد فعل الولايات المتحدة المناهضة للإرهاب ؟

قلنا أنها رفضت قرار المحكمة ، وانسحبت منها ، واستخدمت الفيتو في مجلس الأمن ضده .

لكن هل اكتفت بذلك ؟

دعونا نستمع للمؤرخ والمفكر (نعوم تشومسكي) وهو يتحدث عما قامت به هذه الولايات المتحدة بعد صدور قرار الإدانة ضدها بالإرهاب . يقول تشومسكي :

(أول ما فعلته نيكارغوا ، هو الذهاب إلى المحكمة الدولية التي أدانت الولايات المتحدة بالإرهاب الدولي (بسبب استخدامها اللاشرعي للقوة) ، ولانتهاكها المعاهدات . فأمرت الولايات المتحدة أن تنهي الجرائم وتدفع تعويضات كبيرة. وكان ردّ فعل الولايات المتحدة تصعيد الحرب ( بتأييد من الحزبين في لعبة الديمقراطية الكاذبة  !!) فأعطت لأول مرة أوامر رسمية بمهاجمة ما يُسمى بـ " الأهداف اللينة " – المقصود بها الأهداف المدنية فتم تدمير المستوصفات الصحية ، والتعاونيات الزراعية ، والجسور ومحطات الطاقة الكهربائية والمعامل والموانيء والمدارس والمجمعات السكانية وما إلى ذلك . وتابعت الهجوم إلى أن صوّت الشعب في النهاية لمرشح الولايات المتحدة الأمريكية رئيسا للبلاد ، فتوقف الرعب في العام 1990 ) .

أي أن الشعب النيكاراغوي لم يتخلّص من قصف الولايات المتحدة المرعب وإرهابها بالقصف والموت والتجويع والحصار الإقتصادي إلّا بانتخاب المرشح الذي تريده أمريكا وهي (فيولتا باريوس دي شامورو) التي كان أول قرار اتخذته كرئيسة جديدة هو إعفاء الولايات المتحدة من مبلغ التعويضات (الـ 18 مليار !!) . ومنذ عام 1990 صار حال الشعب النيكاراغوي على يديها على الشكل التالي :

ازداد الفقر الفلاحي بشدة ، يعاني 70% من الأطفال من سوء التغذية ، نسبة البطالة 50 % من السكان ، صيّادو الأسماك فقدو 80% من موارد عيشهم لصالح الشركات الأجنبية التي خولتها الحكومة حق الصيد في المياه الساحلية . عادت الأمراض الوبائية التي استؤصلت ايام الساندينيين . 90% من السكان لا يستطيعون تأمين حاجاتهم الغذائية الأساسية . 22 ألف أسرة صارت تعيش على الجذور والسلاحف والملح حسب الاتحاد الوطني للمزارعين .  مع إغراق السوق المحلية بالسلع الأجنبية تراجعت الصناعات المحلية من 3800 منشأة إلى 2500 خلال سنتين والتدهور مستمر . صارت نيكاراغوا تستورد حتى بيرتها المشهورة من شركات أجنبية تحت علامة نيكاراغوية . انخفض الدخل الفردي إلى مستوى دخل عام 1945 ، والأجور إلى 13% من قيمتها عام 1980 ومازالت في انخفاض . ألغي حق الرعاية الصحية وخفضت ميزانية الرعاية الصحية بمقدار 40%  فتدهورت المستشفيات ونقصت الأدوية وتصاعدت وفيات الأطفال مع تناقص وزن المواليد الجدد وهو أمر تضاءل كثيرا في ظل الحكومة اليسارية السابقة . 80% من المومسات بدأن العمل في السنة الماضية أي بعد سقوط اليساريين وأغلبهن من المراهقات . أعلنت الولايات المتحدة أنها ستعطي الأولوية في المساعدات لمواطني الولايات المتحدة في نيكاراغوا ورجال الأعمال البارزين ولقادة الكونترا (الإرهابيين) السابقين .

وكيف صار حال نيكاراغوا بعد العدوان الإرهابي الأمريكي ، وما هي الخسائر التي سبّبها هذا العدوان ؟

تم تدمير البلاد تدميرا كاملاً

سقط  75 ألف ضحية بينهم 29 ألف قتيل

أصبحت نيكاراغوا الآن ثاني أفقر دولة في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية ، ولن تنتعش بعد ذلك أبدا كما يقول نعوم تشومسكي .

آلاف الأطفال في الشوارع يستنشقون المواد اللاصقة ، أعداد هائلة من العاطلين عن العمل ، أشكال شبه بشرية تنقب في أكوام القمامة في العاصمة ، طرد المزارعون من أراضي التعاونيات وأعيدت إلى اسرة سوموزا ،

وأكّدت التقديرات أن إجمالي الناتج المحلي النيكاراغوي يجب أن ينمو بمعدل 5 بالمئة سنوياً على مدى الخمسين سنة القادمة حتى يسترد مستوياته الانتاجية لعام 1978 !!

وباختصار لقد تمّت إعادة نيكاراغوا إلى العصور الوسطى كما فعلوا ويفعلون بالعراق. 

وفي انتخابات عام 2002 قامت الولايات المتحدة بتصرف آخر ، "كلبي" حسب وصف تشومسكي ، وهو تهديد الشعب النيكاراغوي بأن لا يعيد "الخطأ" وينتخب مرشح الساندنستا ثانية .. وإلّا ... . جاء ذلك في تحذير للشعب النيكاراغوي أصدرته وزارة خارجية الولايات المتحدة :

(تُرى ما الذي يجعلنا ، وصحيفة سوابقهم هي هذه ، نصدّق بأن أعضاء قيادة الجبهة الساندينية للتحرر الوطني قد تغيّروا . إننا واثقون من أن شعب نيكاراغوا سوف يفكر ملياً في طبيعة وسيرة المرشحين ويختار نوابه بحكمة وحصافة) .

وبعد ما ذاقه الشعب – ولسنوات طويلة - من دمار وخراب وقتل وحرق وتجويع واغتصاب وقطع رؤوس وتهجير ، عرف من ينتخب . انتخب مرشح الولايات المتحدة وكان من موظفي البنك الدولي الذي سلّم كل شىء للشركات الأمريكية . وفي هذه الحالة قبلت أمريكا بالنتائج الديمقراطية هذه المرة .

ملاحظات خطيرة :

------------------

# كان المشرف على (فرق الموت) الإرهابية وتدريبها في هندوراس وإرسالها لتقطيع جثث ورؤوس المدنيين النيكاراغويين الأبرياء وحرقهم ، هو السفير الأمريكي (جون نغرو بونتي) الذي أرسلوه لنا سفيرا ، والله وحده يعرف ماذا فعل في العراق . ثم اختارته الولايات المتحدة سفيرا لها إلى الأمم المتحدة ليقود " الحرب على الإرهاب " دوليّاً !!

# الولايات المتحدة تتبجح بحريّة الصحافة وأن صحافتها منبر للديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان . الصحف الأمريكية الكبرى مثل نيويورك تايمز والواشنطن بوست وغيرها الكثير ساندت العدوان الإرهابي على نيكاراغوا (سنخصص حلقة خاصة تفضح حرية الصحافة المزعومة) . هتفت النيويورك تايمز بعد تدمير نيكاراغوا وسقوط مرشح الشعب قائلة في عناوينها الرئيسية :

(إننا متحدون متضامنون في الإبتهاج بهذه النتيجة ، وفخورون بهذا النصر الذي تكلّلت به نزاهة الولايات المتحدة)

ووجّه رئيس تحرير مجلة (نيو رباببليك) (ميكايل كينزلي) انتقادات لاذعة إلى منظمات حقوق الإنسان لانفعالها الزائد عن الحد تجاه تبريرات وزارة الخارجية الأمريكية للهجمات الإرهابية على "الأهداف الرخوة" في نيكاراغوا داعيا إلى حسابها ضمن سياسة التكاليف والعائدات خصوصا أمام الديمقراطية التي سوف تتحقق . ثم أعلن : (نستطيع أن نفتخر بأننا قمنا بدور ملهم لانتصار الديمقراطية في زماننا) . 

في الختام ننقل ما قاله قال "كارلوس ساليناس" مدير العلاقات الحكومية في منظمة العفو الدولية (آمنستي انترناشيونال) آنذاك :

(الأمريكيون اللاتينيون أدرى من معظم الشعوب الأخرى بأن الحكومة الأمريكية هي أحد أكبر عرّابي الإرهاب ورُعاته) .

لكن مأساة نيكاراغوا المبكية هذه هي جزء بسيط من المأساة المرعبة والخراب الرهيب الذي سبّبته الولايات المتحدة لأمريكا الوسطى خصوصا وأمريكا اللاتينية عموماً . فما هي طبيعة هذه الماساة وهذا الخراب . هذا ما سنتناوله في الحلقة المقبلة .

لا تثقوا بالولايات المتحدة :

(7) خلّي أمريكا تڇفّينا شرها وما نريد خيرها

من إيزنهاور إلى بوش : لماذا يكرهنا العالم ؟

اخترتُ هذا التعبير الذي أعلنه الشيخ العراقي الباسل المقاتل "قيس الخزعلي" للصحفيين عبر الفضائيات (26/1/2015) والمأخوذ عن مثل عراقي معروف ليكون عنواناً لهذه الحلقة ، ففي هذا التعبير خلاصة ما نريد قوله ، وهو إعلان يثلج القلب والضمير لأن قطاعا مهمّاً من القادة العراقيين يدرك طبيعة الدور الأمريكي التخريبي في العراق . لقد دمّروا وطننا . ولكن قبله دمّروا كلّ بلد امتدت إليه إيديهم .

وقد يقول قائل إنّ هذه المواقف تعبّر عن كره غير مبرّر للولايات المتحدة الأمريكية . وقول القائل هذا يشعر به الساسة الأمريكيون قبل غيرهم باستمرار . هل تعتقد سيّدي القارىء أنّ السؤال الذي طرحه الرئيس الأمريكي المدمن والمتأتىء "جورج بوش الإبن" بعد أحداث الحادي عشر من أيلول وهو :

(لماذا يكرهنا العالم مع أنّنا طيّبون ؟)

هل تعتقد أخي القارىء أنّه سؤال جديد على الساسة الأمريكيين الذين يندهشون لأن العالم يكره دولتهم وهي أعظم وأقوى وأحدث دولة في التاريخ ؟

نفس هذا السؤال طرحه الرئيس الأمريكي "دوايت إيزنهاور" وهو الرئيس الرابع والثلاثون للولايات المتحدة (1953 – 1961) طرحه في مناقشة داخلية على هيئة مستشاريه في عام 1958 حيث سألهم ، وبالحرف الواحد :

(هناك حملة كراهية ضدنا في العالم العربي ليس من قبل الحكومات فحسب ، بل من قبل الشعب . فما هو السبب ؟) .

فجرى نقاش حول ذلك ، وقدم مجلس الأمن القومي تحليله قائلا :
(هنالك إدراك في المنطقة بأن الولايات المتحدة تدعم أنظمة قاسية وحشية فاسدة ، وتحول دون قيام الديمقراطية ودون التنمية ، وتفعل ذلك كله بسبب اهتمامها بالسيطرة على مخزون النفط في المنطقة ) .

وأضافوا قائلين :

(من الصعب مواجهة هذا الإدراك لأنه صحيح ، وليس صحيحا فقط ، بل ينبغي أن يكون صحيحا . ومن الطبيعي أن ندعم الحكومات القائمة وأن نمنع ظهور الديمقراطية ، ونحول دون التنمية ، لأننا نريد الاحتفاظ بمصادر الطاقة في المنطقة ، ولهذا هناك حملة كراهية ضدنا من قبل الشعب ، وهذا هو سببها ) .

إذن شعور الأمريكان بأن الشعوب تكرههم ، ومعرفتهم بالأسباب الحقيقية معروف وليس غريباً ، ولكن الأغرب هو أنهم يصرّون على الأسباب التي تجعلهم مكروهين وهذا ما نسمّيه "البنية" ، البنية النفسية والعقلية العدوانية ، التي ترسخت مثل الإسمنت ولا ينفع معها سوى الكسر .

لكن هل هذا الكره هو بين الشعوب فقط كما يرى الرؤساء الأمريكيون ؟

سيندهش السادة القرّاء حين يعلمون أنّ هذا الكره موجود حتى بين فئة "التكنوقراط" المُعجبين بالنموذج الأمريكي والذين تُطبّل الولايات المتحدة لدورهم وتعتبرهم مفتاح الخلاص للشعوب المتخلّفة . وهذه مفارقة عجيبة كشفها المؤرّخ والمفكر "نعوم تشومسكي" حين أظهر أنه ليست الشعوب فقط هي التي تكره سياسات الولايات المتحدة بل حتى "مريدوها" !! . فقد أجرت الصحافة الأمريكية خصوصا "الوول ستريت جورنال" استقصاء في الشرق الأوسط لإيجاد جواب عن سؤال جورج بوش الإبن الهام : " لماذا يكرهوننا ، مع أننا طيبون ؟ " . لم تجره على قطاعات شعبية أو مجموعات سياسية معارضة أصلا لسياسات الولايات المتحدة ، بل على ما يسمونهم " المسلمين المتموّلين " ، أي المصرفيون والمحامون ومديرو فروع شركات وبنوك الولايات المتحدة في العالم ، وهم أناس ضمن إطار نظام الولايات المتحدة وبالتالي يحتقرون "الإرهابيين" الذين يكرهون الولايات المتحدة لأنهم يشكلون هدف هؤلاء الأساسي ويلاحقونهم ، وكان بعضهم يرتدون البذلات الامريكية ويجلسون في كطاعم "مكدونالدز" . فماذا كان رأي هذه المجموعة في الولايات المتحدة ؟ .

لقد تبين أنهم مُعادون لسياسات الولايات المتحدة – مثل السياسات الاقتصادية العالمية التي هم جزء منها !! ، ولكن اعتراضهم الأساسي يتركز على واقعة أن الولايات المتحدة الأمريكية تعارض الديمقراطية والتنمية وتدعم الأنظمة الفاسدة الوحشية . وهم يعترضون بقوة على دعم الولايات المتحدة طرفا واحدا هو الاحتلال العسكري "الإسرائيلي" القاسي والوحشي الذي مازال مستمرا .

كما كان بعضهم يتساءل : إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية عدوّة للأصوليات والرجعية فلماذا يكون أفضل حلفائها هي أشدّ الدول أصولية ورجعية في المنطقة كالسعودية ؟ وإذا كانت الولايات المتحدة – أيضاً – حامية الديمقراطية في العالم فلماذا يكون أفضل أصدقائها هم الديكتاتوريون والطغاة في المنطقة والعالم ؟                                                                     

وكان جوابهم النهائي هو أنهم يكنون كرها كبيرا لسياسات الولايات المتحدة ، رغم أنهم في قلب النظام الأمريكي كله . هذا جواب على سؤال جورج بوش (من كتاب االقوة والإرهاب جذورهما في عمق الثقافة الأمريكية لتشومسكي) .

لكن هذا الكره هل هو بالنسبة للعرب فقط ؟

كلاّ . إنّه كره شامل يستعر في أغلب أرجاء المعمورة ويمتد حتى إلى بعض الشعوب الغربيّة كما سنرى في حلقات مستقلة مقبلة .

وفي ختام الحلقة السابقة (السادسة) نقلنا تصريحا لـ "كارلوس ساليناس" مدير العلاقات الحكومية في منظمة العفو الدولية (آمنستي انترناشيونال) آنذاك قال فيه  :

(الأمريكيون اللاتينيون أدرى من معظم الشعوب الأخرى بأن الحكومة الأمريكية هي أحد أكبر عرّابي الإرهاب ورُعاته)

ولا يعود هذا الموقف إلى الدمار الرهيب الذي سبّبته الولايات المتحدة لدولة نيكاراغوا التي أعادت شعبها إلى العصور الوسطى ، والتي أدينت الولايات المتحدة الأمريكية من قبل مجلس الأمن والأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية ، بسبب عدوانها العسكري على نيكاراغوا (تدمير الأهداف المدنية وقتل وإصابة ما لا يقل عن 75 ألف (بينهم 25 ألف قتيل) بأنها دولة إرهابية وهو أول وصف لدولة إرهابية في التاريخ المعاصر فحسب ، بل إلى التدمير المُرعب الذي شمل كل دول أمريكا اللاتينية أيضاً .

فما هو الخراب الذي سبّبته الولايات المتحدة لدول أمريكا اللاتينية ؟

سنمضي مع ملسل الخراب والتدمير الدموي الذي سبّبته الولايات المتحدة لدول أمريكا اللاتينية ، وحالات الإفقار الشامل الذي سببته لدول كاملة ، وإخراج أمم كاملة من الحياة والتاريخ ونبدأ بتدمير دولة هاييتي وشعبها في الحلقة المقبلة.