حين تعشق العرب ظلالها..!!
جواد بولس
من كان يحسب أن ما جرى في الدورة الأخيرة لانتخابات السلطات المحلية والبلدية هو حدث عادي، طبيعي وعابر، أخفق في قراءة الواقع وعاش يناجي، واهمًا، مواضيه، ويرضع من أثداء أيام أجدبت، ستمضي وتتركه مهزومًا عند حافة التاريخ.
أكملت نتائج الدورة الأخيرة ما كان قد بدا واضحًا في الدورات التي سبقتها؛ فالتأثير الفعليّ للأحزاب الوطنية التقدمية اضمحلّ، ولم يعد عاملًا ذا وزن حاسم في مجريات العملية الانتخابية، عصا الوطن تكسّرت، وأطلت برؤوسها "هيدرا": الحمولة والعائلة والطائفة والبلطجة.
في هذه الانتخابات، أحيا المجتمع العربي في البلاد عهد المخترة، لكنّه استحضرها بقوالب معصرنة وحديثة، قد تُضلّل وتُفتن، إذ غابت عنها الكوفية واستُبدل القمباز ببدلات من تصنيع "بوس" و"أرماني".
استشعر كثيرون ما حل من خطر ونوّهوا من كوارث قد تتبع، فالانهيارات، حين تبدأ، لن توقفها إلّا الفواجع، هكذا علّم تاريخنا الغاضب كالبرق الخلّب.
أصوات كثيرة طالبت قيادات الأحزاب بمراجعة سياساتها المحلّية، وحثّتها على وجوب استخلاص العبر والشروع بعمليات إغاثات وطنية فورية، تضمن وقف خراب قلاعنا والبدء بتنفيذ خطط إعمار جديدة تحمي البيوت وتقي الناس من شرّ ما يُخطط لهم، وممّن يستهدفون النيل من مكتسبات كفاحات الماضي وفي طليعتها: هوية مجتمعنا الوطنية الواضحة، وحدته الوطنية، ثقة المجتمع بقياداته، وقيادات تعرف ما معنى المصلحة الوطنية العامة، تحترمها وتصونها، مهما كانت الطريق صمّاء والتضحيات جساما.
رغم الخسائر السياسيّة الجليّة وفداحتها، ورغم الوعود والحاجة الملّحة لوقف النزيف، لم تُجرِ قيادات الأحزاب الكبيرة وفي طليعتها الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، أيّة مراجعة وحساب، بل مضى معظم قادتها في شطحته، وكأن شيئًا لم يحدث، متيقنين، بعناد، من صحة طريقهم، وعاجزين عن مواجهة ما يحدث.
عدت إلى ما فضحته جولة الانتخابات لرؤساء وأعضاء المجالس البلدية والمحلية، لأنني أرى أن ما يتساقط اليوم، في أسواق انتخابات الكنيست، هي وحول، حملتها رياح تلك الأيام وعواصفها؛ فالأحزاب والحركات السياسية الوطنية والإسلامية تدفع اليوم ثمن استهزائها بما حصل ويحصل منذ عقد وأكثر، والمجتمع دفع ثمن شيخوخة قياداته الفكرية وتهالك غضاريف مفاصلها الحزبية، حتى بدا عجز بعضها صارخًا، وشلل الآخرين موجعًا.
لعل ما جرى في اجتماع الناصرة، المنعقد مساء الاثنين الماضي، يعكس بعضًا من أزمة الجماهير العربية في البلاد ويُبرز مجددًا أن لا حدود للعبث، ويشي، كذلك، كم أصبحت الجماهير العربية عرضة للسراب.
لقد كان صعبًا على من تابع أخبار ذلك الاجتماع تقصّي حقيقة من دعا إليه ولماذا؟ فتعددت الاحتمالات بتعدد مواقع الأخبار وأهوائها وتبقى الأبرز تلك التي أوعزت على كون النائب أحمد الطيبي وراء الحدث، الذي تصدّرت منصته لافتة كبيرة عليها كتب شعار واحد وحيد:
"من أجل تمثيل ملائم لكافة أطياف المجتمع العربي في البلاد في قائمة الكنيست القادمة".
كيف من الممكن لشعار كهذا أن يكون حقيقيًا وهو بهذه الشمولية والهلامية الراجحة؟
ثمّ ما المقصود "بكافة أطياف المجتمع العربي"؟ فكم طيفًا شارك في ذلك الاجتماع يا ترى؟ ومن هو الطيف وما هو؟ وكم طيفًا يعيش في مجتمعنا العربي؟ وهل كون ذلك الطيف عربيًا يكفي لأن يضم لقائمة العرب الفريدة، حتى لو كان متعاونًا مع الشيطان، أو ذئبًا يعيش على موائد اللئام، أو "سيّدًا" يعشق الموت على"حد الظبات" أو تاجرًا حديث النعمة والسطوة.
يستحق هذا اللقاء دراسة مفصلة، فلقد شارك فيه عدة رؤساء مجالس محلية منتخبين، وبعض أعضاء في لجنة المتابعة العليا، وأعضاء كنيست حاضرين وسابقين وتجار وأكاديميون وغيرهم، ولذلك يستحق هذا الحشد الوقوف والتحقق من مرجعياته وحقيقة ما تسعى إليه كل مجموعة بالفعل، لاسيما أن هنالك احتمالًا أن يصبح هذا النشاط، بمن دعا إليه ومن كان معنيًا بحصوله، وبما قيل فيه، نمط عمل سياسي جديدًا سرعان ما سنجده رائجًا بين العرب،وقد يطرد بمنهجية وبهدوء، خلال الأعوام القادمة، ما سيتبقى من الأحزاب السياسية القائمة بيننا والفاعلة تاريخيًا. وقد نصحو على عهد جديد تنشط فيه أحزاب عربية تمثل قوى جديدة نشأت في مجتمعاتنا ولا تتبنى برامج سياسية وطنية عامة، كما ولا تؤمن بشراكة الوطني والقومي والمحلي الخاص، وتعتمد في بنائها على الحمائلية والعائلية وتحالفات غير وطنية بمعناها الحقيقي.
مشاركة النائب الطيبي في هذا اللقاء تحسب عليه وليس له، وتعكس أزمة قائد زادت، في السنوات الأخيرة، جماهيريته ولكنّه يُلام بحق ويُعاب دومًا، أنه قائد بلا حزب، فلو كان لديه مثل هذا الحزب، لما اضطرَّ أن يشارك في اجتماع الناصرة، مشاركة لا تتعدّى كونها مضاربة ومناورة قامر بها في وجه رفاقه بالحركة الإسلامية الجنوبية بعد أن تخلّوا عنه وعاملوه ليس كحليف الأمس ورفيق دربهم الطويل، وهي كذلك استعراض لعضلاته في وجه حزب "التجمع" الذي زجر قادتُه قبل أيام الطيبي، وطالبوه، بتعالي سادة، أن يلزم حدّه وأن لا يعبث بالواقع..!
بمنأى عمّا أشاعه هذا اللقاء من إشارات وما رافقه من غمز ولمز وما كانت نوايا المشاركين فيه وما قد يتلوه من تداعيات أو سراب، فلقد حمل في ثناياه بذور ما قد ينبت في سهولنا في المستقبل من نبت وزرع وشوك، خاصة بعد أن هدهدت في القاعة توعّدات كثيرين من الخطباء والمصفقين، وبعضهم أقسم أن يلقّن الأحزاب الثلاثة (الجبهة والتجمّع والإسلامية) درسًا لن ينسوه، في وقت سمعت فيه الأحزاب شتيمتها، وأعرضت، لأنها عاجزة وليس من عفة ونبل.
أكثر ما يؤلم في المشهد العربي الحالي هو أنه غير طبيعي وغير حقيقي، فالكل يكذب فيه على الكل، والكل يكذبون على الناس. ما يجري ليس في صالح مستقبلنا، ولن يعزز ثوابت بقائنا الحر الكريم، فنحن نعيش وكأننا في زمن ابن الرومي، زمن هلامي، يزرعه البعض، عمدًا، بالفوضى، وأياد غير صديقة تنزع من قلوب ناسه الأمل والعزيمة وتغطّي أعينهم بالغبش وتحشو قلوبهم بالصدأ؛ إنه زمن يغازل فيه الشيوعيُ ابنَ الحركة الإسلامية، ويرقص القوميُّ على مزمار شيخ البادية، ويستجير فيه الطيبي بالطيف، فيبلّله مطر زيدان وجريس، زمن يستذكر فيه أحمد ويذكّر صحبُه، أن العصي إذا تجمعت قد تخيف وتوجع، فيا له من زمن أغرب من خرافة..!!