المدارس ومعركة الاستقلال

د. نور الدين صلاح

لست مجانباً للصواب إذا قلت إن الشعب السوري يخوض معركة استقلال ثانية بل يستكملون معركة الاستقلال الأولى التي تحققت في العقد الخامس من القرن الماضي وسطا عليها حزب شمولي واحد احتكر السلطة والنظام، ثم اختزل هذا النظام في طائفة ثم في أسرة واحدة وبإمكاني أن أقول في فرد واحد حيث يؤله اليوم صراحة قولاً وفعلا، بل ويتصرف في البلد كأنه إله يفعل ما يشاء ويتصرف كما يريد، والاستقلال يعني الحرية ويدرك الشعب السوري أن الحرية في سوريا مصادرة بحيث صار الشعب في سوريا أشبه بركاب طائرة مخطوفة، فهذا الحزب الشمولي صادر كل فكر مخالف وكل حراك فكري أو ثقافي معارض، وفرض سيطرته على مناحي الحياة الفكرية والثقافية بدءاً من مؤسسات التعليم مروراً بالمنتديات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية بموجب المادة الثامنة من الدستور التي نصت على قيادة الحزب للدولة والمجتمع، حتى المدارس القرآنية في المساجد صار اسمها مدارس الأسد، مستغلا كل موارد الدولة في هذا الاتجاه فقد تماهت الدولة في الحزب وتماهى الحزب في الدولة فصارا وجهين لعملة واحدة، فالدولة هي الحزب والحزب هو الدولة

فرضت طلائع البعث على المرحلة الابتدائية وشبيبة الثورة في المرحلتين الإعدادية والثانوية واتحاد الطلبة في المراحل الجامعية، وسخرت مواد كالثقافة القومية الاشتراكية، حتى مادة التربية الوطنية اختزلت في الحزب والقائد، ومادة الفتوة التي كانت تدرس في المرحلة الثانوية كانت تعكس العقيدة العسكرية الحزبية الشمولية، والتدريب الجامعي كذلك والأنشطة المصاحبة من معسكرات صيفية إجبارية كمعسكرات الفتوة ومعسكرات التدريب الجامعي، فضلاً عن المعسكرات الحزبية الطلائعية والشبيبية، فالتعليم عقائدي والجيش عقائدي والإعلام في خدمة الحزب حتى الدين في مصلحة القائد والجميع يذكر عند قرب الاستفتاءات الرئاسية ولا أقول انتخابات لأنه ليس في سوريا انتخابات، بل هناك مرشح واحد هو مرشح الحزب القائد ومرشح الجبهة الوطنية التقدمية (المعارضة) تصوروا مرشح النظام والمعارضة واحد !!!!!! نذكر جميعاً التعليمات التي كانت تصدر للأئمة والخطباء في المساجد بحض المواطنين على الاستفتاء لصالح الرئيس وتعداد مناقبه ومنجزاته الثورية

وكلنا درسنا في المدارس والجامعات السورية ودرسنا هذه المقررات في مراحل التعليم المختلفة ونعلم هذه الأحادية حتى في القراءة التاريخية المزورة لأحداث سوريا ما بعد الاستقلال فقد زوروا التاريخ، وقُرأ هذا التاريخ من منظور واحد خاص جداً وهو منظور الحركة التصحيحية المجيدة التي قادها الرئيس الراحل حافظ الأسد، حتى رفقاء الدرب زُور تاريخهم وشوهت صورتهم في أذهان الناشئة والطلاب

واليوم انطلقت الثورة فكان وقودها هؤلاء الشباب فهم حملة مشاعلها ومبدعوها ومنظروها، وبدأ النظام برشوة هؤلاء في الجامعات والمدارس وذلك بإقامة دورات استثنائية تكميلية وتخفيض شروط النجاح بحيث يحق للطالب مثلاً الترفع مع حمله ست مواد في الجامعات وزيادة فرص الدراسة في الجامعات، ونحن لسنا ضد مساعدة الطلاب ومراعاة ظروفهم، لكن نحن ضد مصادرة حرياتهم وقمعهم كما حصل في كلية العلوم وغيرها في جامعة دمشق وكما حصل في السكن الجامعي في جامعة حلب من قمع واعتقال وفصل للطلاب من الدراسة، واتخاذ القرارات الجائرة في هذا السكن بحيث منعت شريحة كبيرة من الطلاب من السكن فيه بحجة قرب قراهم من حلب، واليوم طالت أيدي الغدر مدرسي هذه الجامعات ممن لهم رأي موال للمعارضة والمظاهرات فاغتيل بعض هؤلاء على يد الشبيحة وعملاء النظام، لقد حول النظام المدارس إلى معتقلات ومراكز للتحقيق والتعذيب، وبعض المدارس صارت مأوى للشبيحة يقيمون ويرتعون فيها، واستخدمت أسطح المدارس وشرفاتها مراكز ثابتة للقناصة، هذه المدارس التي من المفترض أن تكون مصدر إشعاع وتنوير وتربية وتعليم صارت في حس الناس مراكز للأمن والقمع والشبيحة والخوف

بدأ العام الدراسي واجتمع الطلاب بعد صيف ساخن رأى الطلاب فيه النظام على حقيقته، واكتشف الطلاب مدى الزيف والتضليل الذين كانا يمارسان عليهم، ما زالت الشعارات الحزبية مرفوعة في جنبات المدرسة تشكل تحدياً صارخاً وإهانة مدوية لمشاعر التلاميذ وهم يصطفون لتحية العلم، وصور الرئيس إلى جانب العلم، نظر الطلاب إلى قاتل النساء والأطفال والمسنين ومستبيح الأموال والأعراض والدماء، وطُلب منهم أن يهتفوا للقائد والحزب والوطن، فهتفوا للوطن وسخروا من شعارات الحزب وهتافاته وحولوها بفطرية إلى شعارات مضحكة أو مؤيدة للثورة، وبدأت حركة التعبير الفطرية بتمزيق صور الرئيس وتمزيق المقررات الحزبية كمنهاج الثقافة القومية، وبعضهم عمد إلى طمس اسم المدرسة التي تمثل رمزاً حزبياً أو تحمل اسم شخص يمثل هذا النظام وحوّل الطلاب بحركة إبداعية فطرية أسماء هذه المدارس إلى أسماء شهداء الثورة، ولما قمعوا من بعض المدراء والمدرسين الحزبيين تحولت هذه المظاهر الاحتجاجية إلى مظاهرات تنادي بشعارات واحدة (لا دراسة ولا تدريس حتى يسقط الرئيس) بهذه البساطة والعفوية بدأت هذه المظاهرات لكن النظام الذي قتل حمزة الخطيب وهاجر الخطيب وقتل على يديه من شهداء أطفال الثورة ما يربو على مائتين وعشرين حتى اليوم، لم يتورع عن فتح النار عن بعض هذه التظاهرات فقتل ثمانية طلاب وجرح العشرات في مدرسة واحدة، وحوصرت بعض المدارس واقتحم بعضها وبدأت حملات التنكيل والاعتقالات في صفوف أبناء هذه المدارس مما حمل الكثير من الأهالي على الإحجام عن إرسال أبنائهم إليها، ثم بدأت ظاهرة خطف الفتيات وطالبات المدارس من قبل الشبيحة فقد سجلت سبع حالات في حمص وحدها مما اضطر الأهالي أيضاً إلى منع بناتهم من الذهاب إلى المدارس، إن الحقيقة التي أريد أن أشير إليها تتمثل في أمور :

الأول : كما سقطت التماثيل بمعاول الثوار ومزقت صور الرئيس ورموز نظامه بأيديهم سقطت شعارات الحزب وإيديولوجياته من نفوس طلابنا وأبنائنا وعقولهم ومشاعرهم، وهذه نتيجة طبيعية فسقوط الأصنام على الأيدي نتيجة طبيعية لسقوطها من النفوس والقلوب، وأصبحت شعارات الحزب العقائدية والسياسية والاجتماعية مثار ضحك وسخرية وتندر، إن هذه الحالة أعلنت بجلاء شهادة وفاة حقيقية لهذا الحزب المتسلط المتخشب

الثاني : عادت الروح التي كنا نعرفها ونسمع عنها إلى المدارس، فقد كانت المدارس مراكز انطلاق الثورات والاحتجاجات على المستعمر الفرنسي ومن جاء بعده من الطغاة والمستبدين، وكانت المدارس الأماكن الساخنة للحوارات الفكرية والثقافية، ولقد استطاعت أداة القمع عبر عقود من السنين أن تنزع هذا الدور منها وأن تبث الرعب والخوف بين أبنائها، واليوم عادت لتأخذ مكانها الطبيعي والرائد

الثالث : لكن بالمقابل سوف تضم المدارس في ثناياها من رأى القتل في الشوارع وكان شاهداً على الهمجية واقتحام البيوت والحرمات وبعضهم دخل المعتقلات ورأى إهانة الكرامة والتعذيب بصنوفه وأشكاله وهذا ما سيترك ندبة نفسية، وسينقل هذه الصور البشعة إلى محيطه ودائرة تأثيره وسوف تتعرض الهوية الوطنية إلى اختبار عسير وهزة عنيفة، هل يعقل أن ابن الوطن يفعل بمواطنه مثل هذا !!!!

هذا الانفصام النفسي سوف يترك أثره وسوف يولد ندبة لن تمحى بسرعة وسوف يمر وقت طويل وطيف هذه الذكريات المؤلمة لا يفارق مخيلة أبناء هذا الجيل، فضلاً عن الاستقطاب الكبير الذي حدث في المجتمع وسالت فيه الدماء وانتهكت فيه الحرمات، لقد رأى أبناء الجيل وطلاب المدارس جيشهم العربي السوري بأبشع صورة وأسوأ ما يمكن للخيال أن يتصوره، لقد رأى الدبابة السورية تقتحم الشوارع وتندس بين البنايات وتنشر الرعب والخوف، ورأى أفراد الجيش يقتحمون البيوت ويضربون ويشتمون ويقتلون ويسحلون، ورأى الرصاصة السورية تستقر في صدور الأطفال والأمهات ، فأي صورة للوطنية سوف تبقى في الوجدان !!!!

إن هذا الجيل يحتاج إلى إعادة تأهيل وطني من جديد نتيجة هذه الهزات النفسية العنيفة، والذي سيساعد في ذلك نجاح الثورة وسلميتها وتعاملها الحضاري والقانوني مع المخالف، وتصحيح المؤسسات القمعية لصورتها وعلى رأس ذلك الجيش الذي ينبغي أن ينحاز إلى الشعب ويعدّل الصورة المشوهة التي رسمها لنفسه، ويقف الموقف الصحيح في المعركة التي زج بها

أيها الضابط سيراك ولدك التلميذ وأنت تعتقل زملاءه وتقتحم مدرسته وتعتدي على حرمتها وتقتل هذه الطفولة البريئة ورجال الغد وأمل المستقبل، تذكر أيها الضابط أنك أب قبل أن تكون ضابطاً وتذكر أن ولدك معرضٌ لما تعرّض له أبناء وطنك، ولن تغني التبريرات ولا الذرائع التي يسوّقها النظام لجرائمه، وإن النار التي أشعلها النظام سيكتوي بها وليس أحد بمعزل عنها، وسيكتب التاريخ عن طاغية النظام قاتل الأطفال وستكون الرواية بليغة صادقة لأن من سيكتبها هم طلاب المدارس شهود الثورة الحقيقيون

مركز الدراسات الإستراتيجية لدعم الثورة السورية