إرسال أجهزة أمنية فلسطينية إلى القدس؟
منير شفيق
من يتابع المقاومة الشعبية في القدس، ولا سيما في المسجد الأقصى وحوله، كما في القرى التي اعتبرها العدو من القدس الكبرى، يلحظ أن ثمة تصعيداً للمقاومة، وزيادة ملحوظة في إرهاصات لانتفاضة تكون القدس منطلقها، وهو ما يتهدّد بالتأكيد انتقال شرارتها إلى الضفة الغربية. فالقدس تقدّمت في مقاومتها وحراكاتها الشبابية خلال الستة أو السبعة أشهر الماضية، عما هو الحال في الضفة الغربية عموماً. والسبب كوْن القدس وضواحيها لا تقع تحت سيطرة الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وتعيش مواجهة مباشرة مع قوات الاحتلال والمستوطنين. وهو ما برز بشكل مزعج للعدو خلال إحياء ذكرى يوم الأرض في 30 آذار/ مارس الماضي، حيث كانت المواجهات ضدّ قوات الاحتلال مميّزة، بصورة خاصة في القدس.
من هنا يجب أن تُفسّر خطوة حكومة نتنياهو الأخيرة بالسماح لمجموعة من أجهزة الأمن الفلسطينية للدخول والتمركز في بلدات أبوديس والرام وبدو، وبلباسها الرسمي. وهو ما كان ممنوعاً عليها منعاً باتاً من قبل. لأن هذه البلدات تدخل في إطار القدس الكبرى التي أعلن العدو ضمّها لدولته. وقد أُعلن أن هذه المجموعات تتألف من 90 ضابطاً وشرطياً، وستكون خطوة أولى لتُعزّز لاحقاً بعد أن تُثْبِتَ قدرتها على تحقيق الهدف الذي جاءت من أجله.
سببان وراء هذه الخطوة واضحان وضوح الشمس. الأول: العدو عاجز أمام الشعب الفلسطيني في المواجهة المباشرة. والثاني: العدو أكثر قدرة من خلال تعاون الأجهزة الأمنية الفلسطينية معه ضدّ شعبها ومقاومته وانتفاضته. وهذه الحقيقة هي الدرس الذي تعلّمه من تجربته في الضفة الغربية، حيث راح يتمتع بحماية الأجهزة الأمنية، وهي الدرس الذي تعلمه من مواجهاته في القدس، لا سيما خلال الأشهر الماضية. ناهيك بالطبع عن درس المقاومة في قطاع غزة.
ولهذا من المضحك حين يُعْلَن أن السماح للأجهزة الأمنية الفلسطينية بالتمركز في "أبوديس والرام وبدو" يستهدف العمل ضد مرتكبي الجرائم والمخالفات.
وتأبى الوقائع والأحداث إلاّ أن تؤكد المرّة بعد الأخرى، كما على طوال التجربة الفلسطينية المعاصرة، صحة استراتيجية المقاومة والانتفاضة في مواجهة الاحتلال، وصولاً إلى دحره وتفكيك المستوطنات وتحرير القدس والضفة وإطلاق كل الأسرى.
وتأبى الوقائع والأحداث، وفي خط موازٍ للأول، إلاّ أن تؤكد المرّة بعد الأخرى، خطأ استراتيجية التفاوض، فالتفاوض مع الخدمات الجلية المقدمة للاحتلال والاستيطان من خلال الاتفاق والأجهزة الأمنية. وذلك في محاولة إقناع العدو بمنح سلطة رام الله "دولة"... فيا للوهم والمنطق المدمّر للذات.
لقد اندحر الاحتلال وفكت المستوطنات من قطاع غزة تحت ضغط المقاومة والانتفاضة بين 2000 و2005، فيما استشرى الاستيطان وتمتع الاحتلال بالحماية في الضفة الغربية، لا سيما في المرحلة التي تلت الاتفاق الأمني، ومن خلال الخدمات التي قدمتها الأجهزة الأمنية، التي بُنيت بإشراف الجنرال الأمريكي دايتون، لضرب المقاومة في الضفة الغربية ومنع اندلاع الانتفاضة. وذلك ما بعد 2006-2007 إلى اليوم.
هاتان حقيقتان لا يجادل فيهما أحد إلاّ مكابر ينطح الحقيقة نطحاً. ولكنه لا يضرها، وكما قال الشاعر الأعشى، "كَنَاطِحٍ صَخرَةً يَوْماً ليَفْلِقَهَا فَلَمْ يُضِرْها وَأوْهَى قَرْنَهُ الوَعِلُ".
لقد شنّ جيش العدو الصهيوني ثلاث حروب على قطاع غزة لتجريده من سلاح المقاومة، وإعادة سلطة رام الله إليه، خصوصاً أجهزتها الأمنية. ولكنه فشل في حروبه الثلاث، ونزلت به هزيمة عسكرية منكرة في الحرب الأخيرة تموز/آب - يوليو/أغسطس 2014.
أما في المقابل فالاستيطان تضاعف أضعافاً خلال تلك المدة في الضفة الغربية. ولا تسل عن الاعتقالات والاغتيالات وعمليات المداهمة، ولا عمّا بذلته الأجهزة الأمنية من جهود لقمع الحراكات الشبابية، والحيلولة دون اندلاع الانتفاضة في الضفة الغربية، خصوصاً بعد استشهاد محمد أبو خضير، أو خلال حرب 2014.
أما المضحك أكثر، حتى القهقهة، فهو إعلان الأجهزة الأمنية بأنها ذاهبة إلى أبو ديس والرام وبدو للعمل ضد مرتكبي الجرائم والمخالفات (المرورية مثلاً، أو إذا شئت مخالفات البناء).
طبعاً لا شك في أن قرار حكومة نتنياهو بالسماح لأجهزة أمن فلسطينية بالدخول في مناطق ضمن إطار القدس يحمل في طياته إقراراً بهزيمتها أمام مقاومة أبناء القدس الكبرى، كما فيه ما يمسّ النظرية الصهيونية المتعلقة بيهودية القدس. الأمر الذي يؤكد أن تمسّك الكيان الصهيوني بالقدس قابل للاهتزاز، وفرض التراجع عليه إذا ما ووجه بانتفاضة مقدسية – ضفوية فلسطينية شاملة.. فمهما ظهر نتنياهو متشدداً ومتشنجاً، إلاّ أنه قابل للانحناء أمام العاصفة إذا ما هبّت عليه، ووجد أن التراجع أقل خسارة من العناد والهزيمة الأكبر.
صحيح أن هذا التراجع تحت السيطرة بالنسبة إلى نتنياهو، لأنه هو الذي قرر دخول الأجهزة الأمنية، وقبلت سلطة رام الله أن تذهب لتحقيق الهدف الموكل لها. أي قمع انتفاضة القدس. وهي سترجع بخفي حنين إذا ما تمكنت من تحقيق مهمتها المشينة (ولا نقول أكثر الآن).
ولكن تظل هذه الخطوة مؤشراً على أن الكيان الصهيوني لا يتراجع إلاّ أمام المقاومة والانتفاضة. أما من خلال المفاوضات وخدمات الأجهزة الأمنية وغيرها من الخدمات والتنازلات فسيزيد طمعاً في التوسّع بالاستيطان والتهويد وتثبيت الاحتلال. وهو ما فعله في ظل المفاوضات والاتفاق الأمني.
ولهذا لا بدّ من التوجه إلى أفراد الأجهزة الأمنية بتحذيرهم ألاّ يلعبوا دور مخلب القط الصهيوني ضدّ أهلنا في أبو ديس وبدو والرام. وليأخذوا درساَ مما فعلوه في الضفة الغربية تثبيتاً للاحتلال والاستيطان، وما فعله سلام فياض من بناء مؤسسات تحت وهم إقناع العدو بأن يقيم دولة فلسطينية يطمئن لها بسبب ذلك.
ومن ثم جاءت التجربة العملية لتثبت أن العدو بسبب ذلك، وصل إلى الإعلان عن رفضه لحل الدولتين (وهو حلٌ تصفوي للقضية الفلسطينية). فهل يظنون بما سيفعلونه في القدس حين يحمون الاحتلال في الاعتداء على المسجد الأقصى وتقسيمه، وفي تهويد القدس وضرب المقاومة وإجهاض الانتفاضة، ستأتي مكافأتهم من طينة أخرى؟
وبالمناسبة، لو أن ما تفعله الأجهزة الأمنية من تعاون مع العدو إلى حد حمايته، من خلال ضرب المقاومة وقمع محاولات الانتفاض، حدث في أي وضع آخر في العالم عدا الوضع الفلسطيني لاعتُبِر، وبإجماع، بأنه خيانة للشعب والوطن والقضية. ومن ثم عومِلَ قادتها وأفرادها معاملة العملاء في حالة الحرب. وما كان لينجو أي سياسي يدعمها أو يدافع عنها من هذه المعاملة كذلك.
هذا الموقف أجمعت عليه كل الثورات والمقاومات التي عرفها العالم، وتُجمِع عليه كل الدول بغض النظر عن طبيعتها أو سياساتها بالنسبة إلى المتعاملين مع عدوها، خصوصاً، في حالة الحرب.
وهذا الموقف أجمعت عليه كل فصائل م.ت.ف من النشأة إلى توقيع اتفاق أوسلو. وكان هذا موقف ياسر عرفات حتى بعد توقيع اتفاق أوسلو. ولم يتغير الموقف إلاّ بعد توقيع الاتفاق الأمني وتكليف الجنرال دايتون بإعادة بناء الأجهزة الأمنية في 2007، فتشكلت أجهزة تنسِّق أمنياً مع العدو الصهيوني ضدّ المقاومة، ولقمع أيّ احتمال لانتفاضة ثالثة. ومع ذلك تجد من بين قادة الفصائل وكوادرها في م.ت.ف، ولا سيما سلطة رام الله، من يسّمي التعاون الأمني مع العدو وما فعلته الأجهزة الأمنية "عملاً وطنياً" أو "جزءاً من المشروع الوطني الفلسطيني". وذلك باعتباره طريقاً لإقناع العدو بالموافقة على إعطاء سلطة رام الله دولة، مع ترتيبات لانسحاب الاحتلال وبقاء بعض المستوطنات، وتعديلات في الحدود، وشروط أمنية أخرى. أما الفلسفة الوهمية وراء ذلك، فهي طمأنته على أمن دولته من الجانب الفلسطيني.
على الرغم من أن ما تقوم به الأجهزة الأمنية كان حماية للاحتلال وتثبيتاً له وتغطية لاستشراء الاستيطان، وقد ذهبت كل مسوّغات الذين دافعوا عنها هباء منثوراً، إلاّ أن انقساماً فلسطينياً ما زال مستمراً حولها، وهو ما يحول دون معاملتها معاملة المتعاونين مع العدو. وذلك حرصاً على بقاء حربة الصراع موّجهة إلى العدو، والرفض الحازم للاقتتال الفلسطيني تحت الاحتلال.
ومع هذا، ما زالت الأجهزة الأمنية ماضية في مهمة التعاون مع الاحتلال، وقد أخذت تمدّ ذلك إلى القدس، بالرغم من صدور قرار من المجلس المركزي الفلسطيني بوقف التنسيق الأمني.
والسؤال إلى متى يستمر هذا الوضع المقلوب على رأسه.. أما آن لفتح وثياتها أن تضع له حداً؟ وأما آن لفصائل م.ت.ف من أن تأخذ موقفاً حازماً من التعاون الأمني مع العدو؟