حلم العودة للوطن لم يعد بعيداً
حلم العودة للوطن لم يعد بعيداً
خواطر شبه ذاتية
جلال / عقاب يحيى
ـ 1 ـ
قبل ثلاثين عاماً ويزيد قليلاً جئت الجزائر زائراً ب"مهمة" حضور" المؤتمر القومي" ل"حزبنا العتيد"، وبالذهن أن أعود مهما كانت الأخطار.. وإذ بالزيارة تمتدّ عقوداً، وما زال حبلها على الأعناق .
كنت، أيامها مُطارداً" متخفّيّاً" لسنوات، وأسهم في محاولات تجاوز البعث(جناحنا) لأزماته، وبناء تجربة جديدة(كان طموحنا كبيراً في أن تكون نوعية، تقاطع عوامل الأزمة ، وتلتقي مع الآخرين في تكريس التعددية، ورفض الأحادية، والحزب الواحد ـ القائد، ومجمل تلك الأفكار التي غطست في الاستبداد، ففرّخت ديكتاتورية من طراز خاص) .
كما كنا نسهم بإنجاز عمل جماعي جبهوي يكون المرآة، وجسر العبور للتغيير الوطني الديمقراطي، وكانت مشاركتنا قوية في تأسيس (الجبهة الوطنية الديمقراطية) التي عرفت لاحقاً باسم" التجمع الوطني الديمقراطي" بدءاً من قوى ثلاث: الحزب الشيوعي(المكتب السياسي) والاتحاد الاشتراكي العربي، ونحن(البعث الذي كنا نطمح إلى تغيير اسمه)، انضمّ إليها عند التوقيع : حزب الاشتراكيين العرب، والعمال الثوري.. وعلى أن تكون مفتوحة على جميع القوى والهيئات والشخصيات الديمقراطية .
اعتبرنا ما قمنا به إنجازاً كبيراً، ولو تأخّر بضع سنوات، وأنه يمثل المخرج للأزمة المحتدمة . وبالوقت الذي طفحنا به بموجات التفاؤل، والساحة تمور وتغلي(أواخر العام 1979)، بقدر ما كان ينوخ على كلكلنا شكل ووقت وفعل التغيير، وقدراتنا الفعلية في استثمار اللحظة المناسبة ..
نظرياً : بدت الظروف متاحة للتغيير وتجنيب بلادنا ما كان يعصف بها من بوادر حرب أهلية، ومن اقتتال يتخذ سمات طائفية، وقد اتجهت صوبنا عديد الأنظار بأمل أن نكون" المخلّص"، والبديل، وبالوقت نفسه لم يكن(التجمّع) يملك الوسيلة والقدرة، فكان ذلك مبعث ألم شديد، وبداية النوخ تحت ثقل الأعباء، والتطورات، خاصة وأن النظام ـ كعادته ـ قام بحملة اعتقالات واسعة(بعد توزيع البيان الأول للتجمّع) طالت جلّ قيادات وأطر (المكتب السياسي)، و(البعث ـ نحن) وعديد الناشطين من القوى الخرى والنقابات المهنية التي شقّت عصا المألوف، وسط جنون القوة، وإطلاق التهديدات بالقتل، والإفناء، وسياسة (من ليس معي فهو عدوي ـ عدو الوطن ـ وطن النظام)، وسيطرة سياسة القتل والتصفيات، وإغراق البلد في بحر الدماء، وأمواج الخوف المتلاطم، ومحاولاته تشتيت قوى المعارضة عبر محاولاته فتح حوار مع بعضها، وإطلاق سراح بعض المعتقلين مقابل التشديد على بعضها الآخر، وموضعة الطائفية المرعبة وتنصيب نفسه كحامي الحمى، والناطق الرسمي(الوحيد) لها، ونجاحه إلى حدود كبيرة في ذلك، وفي تعميم الخوف، واشتلاع المواطنية، والدوس على أبسط الحقوق، ثم البيات الطويل، والاندحار، فالانحسار .
ـ 2 ـ
كانت مجزرة حماة(ونحن في شهرها) المفصل والمنعطف فعلاً .
لقد انتصر النظام على الشعب ف "حقق السيادة المطلقة" على القوى المعارضة وعلى أي حراك ديمقراطي فعّال، ونشر الهلع في مملكة للرعب مخيفة رفع جدّرانها، وقوّى أطرها، سداها عشرات آلاف القتلى، والمعتقلين، والتصفيات الجماعية، والفتك بالحقوق والحرّيات العامة، ولحمتها : أجهزة أمنية هي العماد والمرتكز، وقد توحّشت فأوغلت وتوغّلت : فوقية، واستهتاراً، واعتقالاً على الشبهة، وإبعاداً للشعب عن الاهتمام بالشأن العام.. فسادت نظم و"قوانين" مملكة الرعب، وعمّ السواد والحزن المتجلبب برعب إظهار ما في القلوب( ناهيك ع ن التعبير)على البلد برمّته .
نعم(انتصر) النظام على الشعب، وهو انتصار فخره، وزهوه، وفجوره، فكان له ذلك(الاستقرار)، والصولات والجولات في العربدة الأمنية، وفي الفتك بالمعارضة وتصدير عديد الأزمات إليها، ليصبح القوة الوحيدة التي تربض على صدر الأمة والشعب ولا من معين، ولا أمل، ولا أفق .
ـ 3 ـ
كنت، وما زلت مؤمناً أن الهجرة القسرية امتحان عسير، وأنها ليست البديل عن الوجود في الداخل، وأن الخارج يزداد مرضاً مع تكدّس أعوام الانتظار اللا مجدي، وأن كثير ظواهر الشرذمة، والذاتية، والتشييء، والهلهلة في المعارضات الخارجية هي انعكاس لفعل أزمة الداخل . الأزمة البنيوية . أزمة عدم القدرة على إيجاد السبيل لحل المعضلة(معضلة ما أورثه النظام في شعبنا، وفي القوى السياسية، أساساً)، وبالتالي فمن شبه المستحيل أن يكون الخارج رافعة الداخل، أو بديله، أو تعويضه، وأن الخارج ينتظر تكوين تلك الرافعة في الداخل، وليس العكس، وحتى ذلك فهو عاجز عن القيام بالحد الأدنى المطلوب . (وهذه واحدة من معضلات المعادلة السورية أيضاً) .
· ـ الداخل محكوم بتلك النتائج المفروضة عليه، ولم يقدر التغلب عليها، والأزمة تفرّخ أزمات، فتتشعب، وتصبح المعارضة أكثر عرضة للشرذمة والتكوّر، والذاتوية، وإلقاء المسؤولية على الآخر(أيّ آخر) ..
· حينما فًرض التوريث المذهل، والتوريث المفاجأة للكثير(وهو مفاجأة بكل المقاييس لجوهر المزاعم بوجود حزب تاريخي، وعقائدي، قومي، ومليوني، ومؤسسات، ودولة، وشخصيات، وقيادات.. وغيرها) انفتحت شهية القوى المعارضة على استقبال التوريث بالكثير من الأماني، والرغبات وقد اختلطت الأحلام اليائسة بالممكن واللا ممكن، فتعددت الرهانات، ومعها (جملة التنازلات)، والمشاريع المتنقلة، المتدرّجة، والتنازلية، وأفكار المصالحة، فالربيع الذي لم يكتمل.. والنظام يكشف عن جوهره، وعلى أنه : الاستمرار المتأصل، والاستمرار المضطر لبعض التجميل للتأهيل والتمرير.. والاستمرار الأحادي، الأقلوي، المرتكز على ذات الأجهزة والنهج والممارسات، بفوارق كميّة اقتضتها تطورات كونية ملحوظة .
· كان ذلك تطوراً ملحوظاً في أطروحات المعارضة، وفي محاولة منها للتنازل عن فكرة التغيير الجذري إلى التغيير(السلمي ـ المتدرّج)، ثم الأكثر، عند البعض : في القبول بعودتهم، ووجودهم الفيزيولوجي، واستعدادات متكررة للتوبة، وتغيير الاسم والعنوان والمحتوى والدور.. والنظام رابض في موقعه المستبد، والمعارضة على لائحة الانتظار الطويل .
ـ 4 ـ
عندما نهض" إعلان دمشق" كأهم إنجاز جبهوي يضمّ مروحة واسعة من أطياف الشعب السوري وقواه الوطنية الديمقراطية.. استبشر الكثيرون خيراً.. فانفتح أفق الأمل، ثم اتسع سقفه وفقاً لأمواج تلك الفترة وما عرفته من تفاعلات إقليمية ـ خارجية، لكن الإشكالية ظلت قائمة : شكل، وفعل التغيير، والقدرة على ممارسته .
وطالما أن المعارضة(حتى لو اجتمعت كلها) أعجز من أن تقود فعل التغيير في اللحظة المناسبة، فإن (الفرص التاريخية) ستمرّ مرور الكرام عليها، ولن تستطيع استثمارها، ولن يبقى للبعض سوى مراهنات على الحلم، أو مراهنات على"غودو" الخارجي الذي ظهر أنه خلّبي، ومخادع، وبيّاع مأجور، ملغوم.. فتأزّم الإعلان(والعوامل كثيرة بالطبع)، ومعه اندحر ذلك الأمل الذي اقتحم الأحلام، فنام سنوات على سرير الإنعاش، ثم دخل ما يشبه الموت السريري المقترن بذلك(التحول) الخارجي الذي حصل، والذي (فكّ عزلة النظام) ليخرج من قمقمه، وهو منتشٍ، يريد تصوير نفسه مارد الموارد، واستثناء الاستثناء .
ـ 5 ـ
شاخت المعارضة، وعجزت عن إقحام الأجيال الجديدة، والعجز، ناهيك عن أنه فعل الزمن المقهور، المقسور، والطبيعي.. فإنه يولّد مفاعيله الشيخوخية من تصلب المفاصل والشرايين، وقابليات الانحناء الإجباري، وانسداد بعض الأوعية الدموية التي تغذّي المخ، مثلما ينشر رذاذه حيثما استطاع إلى ذلك سبيلاً، خاصة وأن هناك إحجاماً عاما عن المساهمة في تلك الأطر، وهناك انسداداً في الأفق، وفي عسر ولادة أشكال جديدة ..
ربما كان مفهوماً، ومن شبه المنطقي أن يحاول كثير المعارضين، الذين نأت رائحة الوطن عنهم عقوداً، أن يفكروا بوسيلة للعودة، حتى لو كانت لفترة محدودة، أو لرسم تخوم القبر الذي يأملون أن يضمّهم، فكثرت المحاولات، ثم انتقلت إلى موقف الإخوان المسلمين في "وقف معارضتهم".. بأمل أن يصفح النظام، فيفتحوا صفحة جديدة.. وما زالوا ينتظرون الصفح، وما زال النظام(مرابضاً) في موقفه...بينما رفض النظام على الدوام الاعتراف بوحود معارضين لهم انتماءاتهم ووجهات نظرهم، فأبى، أبداً، التفكير بعفو عام، أو فتح صفحة جديدة، مصرّاً على تقدّم من يرغب العودة بتقديم طلب فردي يدرس(جيّداً) بانتظار قراره .
ربما، أيضاً، تهيّأ لكثيرنا، وحال المعارضة هكذا(ضعيفة لا تهشّ ولا تنشّ ت كما يردد دوماً)، والنظام يبدو(منتصراً) في جميع الجبهات والميادين، والدنيا تتشقّلب من حولنا.. أن يُقدم على بعض الخطوات (الجديدة)، خاصة ما يتعلق منها بأولئك(المساكين) المهجّرين قسرياً فيقوم بإعلان العفو العام.. ضمن عدد من الإجراءات المطلوبة، ويضع المعارضة في الخارج أمام الخيار الحاسم .. ولكن ..
ـ 6 ـ
ولكن النظام لم ولن يفعل ذلك إلا مضطراً، والمشكلة أن مفهوم الاضطرار عند النظام خاصّ جداً، ووليد نتاج ما ترسّخ في بنية استبدادية متحجّرة، تنظر إلى المتغيّرات من ثقبها الذاتي المحكوم بالعنجهية، وسطوة القوة، والدونية للغير المفعّلة بعلب الاتهامات الجاهزة التي يثير كثيرها التفكّه والسخرية( تحليله لخلفيات الدعوة إلى يوم الغضب مثال)، وأوهام القدرة على التحشيد والبطش بالآخرين بل والفتك بهم إن اقتضى الأمر ذلك، ولذلك ينام على ما يعتقده قواه الحصينة المتماسكة، ومليشياته المدرّبة، وأكذوبة شعبيته الكاسحة .
وكما يتساءل الكثير عن مستوى صلف، و"غباء" نظم الاستبداد العربي، ومدى إيغالها في (المكابرة)، وفي اعتماد نهجها المعروف.. فإن النظام السوري الذي يتشاطر رئيسه أنه يقرأ اللوحة جيداً ويعرف مسبباتها، وأنه مقتنع بمطالب الأجيال، وأوضاع الشعوب العربية ومدى احتقانها، يصل إلى نتيجة أبدية : أنه في مأمن من الذي جرى في تونس ومصر، وأنه غيرهما.. ناسياً، أو متغافلً قصدياً أنه من نفس القماشة، وأن جل الشعب السوري يطمح إلى حياة حرّة كريمة، وإلى عدالة اجتماعية تتوزع فيها ثروات الوطن بعيداُ عن النهب واللصوصية، ودولة المواطن المتساوي بالحقوق والواجبات التي يشارك في صنعها عبر انتخابات حرة تقرر من يمثل الشعب، ومن يكون رئيس الدولة، وغير ذلك من الحريات، بغض النظر عن اختلاف بعض التلاوين، والظروف الخاصة بكل بلد .
بل إننا نقول بكل موضوعية أن الحالة السورية لا مثيل لها لجهة شدة القمع وشموليته، ولجهة مصادرة أبسط الهوامش، وهو بذلك يختلف فعلاً عن النظام المصري الذي ترك، مضطرّاً بعض الهوامش الجزئية التي كان يلعب بها وعليها، بينما ما تزال الحالة السورية مغلقة تماماً.. الأمر الذي يعني الكثير إذا ما حدثت الخلخلة، وإذا ما استطاع الشعب السوري اختراق جدران مملكة الرعب وثقبها في أكثر من موقع .
وبالوقت نفسه فإن نظاماً بمواصفات تركيبة النظام السوري سيكون الأكثر خوفاً من غد مجهول، والأكثر تشدداً في هذه المرحلة، والأكثر استنفاراً لسدّ أية احتمالات منذرة يمكن أن تحمل معها طوفان التغيير، بما في ذلك التحشيد الإعلامي، ورفع اليافطة الوطنية والقومية، والممانعة، وتصوير أن أسباب ما يجري في مصر يعود إلى موقع النظام من التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي، وليس لجهة بنيته الاستبدادية، وممارساته النهبية، القمعية. وبما فيه التلاعب بالكلمات والوعود، واستجلاب المبوّقين والمتعهدين، ناهيك عن الارتكاز الرئيس على الأجهزة القامعة، وإعدادها المسبق، واليومي للبطش السريع، المريع بأية محاولات للتعبير والتظاهر .
ـ 7 ـ
مع ذلك، ومع وعي اللوحة السورية، ووعي مصاعب تكرار ما حدث في كل من تونس ومصر في زمن قريب، فإن أجيال الشباب وهي تدكّ حصون الخوف، وتبدد ممالك الرعب، وأطواق الترهيب، وجيوش الأجهزة، ونذالة المخبرين وكثرتهم، وبلطجية الأنظمة.. إنما زرعت وعياً جديداً يطوف الوطن العربي بقوة، ويدعو شبابه في كل ساحة لتدمير الاستبداد، وإقامة الديمقراطية، وافتتاح عصر الشعوب .
الشعب السوري، ورغم شرانق الزيف، وأخطبوط الرهبة، ودعاوي التمايز.. يعرف جيداً أن دوره على اللائحة، وأن زمن العربدة، والاستبداد واحتقار الشعب وحقوقه قد ولى، وان زمناً عربياً يطرق الأبواب بقوة لا تقبل التأجيل، ويدعو الجميع إلى المشاركة في صناعته .
نعم، من حقنا، نحن (عواجيز) المنافي الإجبارية أن نحلم برؤية الوطن قريباً، أن نعانقه كثيراً وطويلاً. أن نقبّل ترابه الذي حُرمنا منه، وأن نعيش في كنفه ما تبقّى من عمر أحراراً كبشر عاديين .
نعم، من حق شعبنا أن يحلم بغد آخر مختلف يصنعه هو باختياره الحر، ليصبح الوطن وطن الجميع، ويسهم هذا الجميع في بنائه كما يشاؤون، وهو حلم لم يعد على لائحة الانتظار الطويل.. إنه يلامس العقول قبل القلوب، فتدبّ الحياة في الأجساد، وينمو الأمل، فتغزونا الأحلام الواقعية برؤية أجيالنا في الساحات العامة تنشد لحن الحياة، لحن المستقبل بلا خوف من بسطار وجلاد وقتل واعتقال .
إن أراهم يهتفون :
حماة الديار عليكم سلام أبت أن تذلّ النفوس الكرام
إنه الوطن يقتحمنا : شاباً ممتلئاً بحيوية اللهفة إلى الدخول في العصر، وبناء غد يليق بشعب سورية الحضاري، العريق، وإذ بنا ننفض كهولة العوام فتشرأبّ الأعناق، وتتجه الأعين إلى هناك .