حمل صورته وهو مضرب ولم يحمل نعش أبيه
حمل صورته وهو مضرب ولم يحمل نعش أبيه
عبد الجابر فقها
فؤاد الخفش
توقفت كثيرا عند صورة الحاج مصطفى فقهاء (رحمه الله) يحمل صورة ولده البكر وفلذة كبده المضرب عن الطعام النائب عبد الجابر وسط شوارع رام الله، يعلن عن تضامنه التام مع نجله الذي يصارع السجان في معركة النصر فيها محسوم لأصحاب الإرادات..
مؤلمة حتى الوجع هذه الصورة لشيخ تجاوز الثمانين يحمل أعباء الدهر على كاهليه، هانت عليه كل مصائب الدنيا ووقف أمام صمود نجله الاسطوري تملأ قلبه مخاوف أن يموت دون حريته، عيونه اغرورقت بالدموع وقلبه يحمل الحزن الشديد وأمله بالله كبير أن تنتهي هذه المعركة بنصر مبين.
المؤلم أكثر ألا يشارك الابن البكر حب أبيه الأول والأكثر قربا منه في وداعه والوقوف على رأسه وقت مماته وإنزاله القبر والدعاء له، كم هو مؤلم هذا المشهد وهذا الحال الذي يعيشه أحرار فلسطين دون غيرهم مصفدة أياديهم في أغلال اعدائهم يموتون مع كل خبر ألف ميتة وميتة.
أكاد أجزم أن الجميع علم بالخبر دون أن يصل الأمر حتى كتابة هذا المقال لنجله الأسير في سجن مجدو عبد الجابر، فاليوم السبت عطلة اليهود ولا اتصالات في هذا السجن ولا أخبار تصل، وهذا هو حال الرجال تحت الاحتلال يموت أباؤهم ولا يعلمون وإن علموا فيكون ذلك من باب الصدفة.
أعلم حال الأسير وقت استقباله هذا الخبر وأعلم رد فعله ومدى الألم الذي يشعر به، فأنا من عشت معهم في مثل هذه الحالات وأعلم كيف تتبدل الوجوه وتتأثر القلوب.
فمن ماتت أمه أو أبيه وهو معتقل يعو د الجرح الذي لم يندمل بالنزف، أما الأسير الذي له والدة مريضة أو والد كبير فإن إنقباضة بالقلب تصيبه فتتسرب الأوهام، ويتيخل نفسه في ذات المصاب فتبكي عيونه ويشيع أبيه في مخيلته دون أن يكون أصلا قد مات.
هذا هو حال الرجال في بلادي تحت قبضة السجان، وحالهم ليس بأفضل بعد تحررهم فعبد الجابر فقهاء سيبدأ رحله تحرره بزيارة قبر أبيه والبكاء على ضريحه والاعتذار منه بتمتمات لا يفهما إلا أصحاب القلوب الرقيقة ومن يعرف معنى موت الأب وابنه سجين.
سيتألم أكثر وأكثر أبو مصطفى حين يشاهد صور والده الأخيرة بالمسيرات المساندة للأسرى، وسيبكي حين يرى والده يحمل صوره في المسيرات، وسيتذكر أنه لم يشارك في حمل نعشه وهو أقل ما يمكن أن يفعله انسان مع أبيه المسجى.
أبو مصطفى سيتوافد جميع أحبابك للمشاركة في تشيع جثمان والدك وسيتسارعوا لحمل ذلك النعش وكأنهم يريدوا أن يسدوا مكانك، دعوا له بالرحمة ولك بالفرج العاجل والصبر والسلوان.
أبو مصطفى حسبك أن والدك من أهل الفجر لم يقطعه في أي وقت، جلست معه في ذات مرة في بيتك وسالته وقال لي: "حتى وقت البرد الشديد ونزول الثلج كنت أخرج للمسجد ومعي أحفادي نشق الخطى نحو المسجد".
تقبل الله هذا الرجل الطيب وفرج الله كربك أخي عبد الجابر ولك الله أيها الرجل، فمن سجن لسجن سار خلفك والدك الذي أحسن تربيتك يا صاحب الخلق الطيب والقلب الكبير، وهناك عند الله ستجتمع معه في جنات ونعيم وسيبدل الله ألمك فرحا وسرورا ورفعة وتمكينا، وأعظم الله أجركم وفرج كربكم وفك أسركم وعوضكم خيرا.