التمرد الطائفي .. والتضليل الإعلامي
التمرد الطائفي .. والتضليل الإعلامي!
أ.د. حلمي محمد القاعود
تتكشف كل يوم تجليات التمرد الطائفي من خلال الحوادث التي يكون النصارى طرفاً فيها ، وتظهر ملامح تخطيط أقلية الأقلية في الداخل والخارج لقيادة الطائفة إلى مواقف مشينة ومعيبة وخاسرة ، من أجل إشباع شهوة قادة التمرّد في الظهور والثراء والتعبير عن التعصّب في ظل الشيطان الأكبر الذي يلعب بالسذّج والخونة في كل مكان بحثا عن مصالحه وطموحاته .. ولا يعنيه أبداً أن يخرج المتمردون من خدمته خاسرين ضائعين .. حتى لو هتفوا له وباسمه في مواجهة الأغلبية ؛ تمرّداً عليها ، واستعراضاً لعضلاتهم ..
في أحداث دير "أبو فانا " بملوي قتل الرهبان المسلحون مسلماً وأصابوا آخرين في نزاع على قطعة أرض " وضع يد " أراد النصارى الاستيلاء عليها عنوة أو بقوة النفوذ التي تجعل بعض السلطات تنحني أمام إرادتهم القاهرة ؛ وراحوا يبنون عليها سوراً لتتم ملكيتهم للأرض بالقوة ، ويتشرّد زرّاعها الفقراء المسلمون .. وقد جرت محاولات عديدة سابقة ، كان يتم فيها التفاهم العرفي أو الودي الذي يحفظ للزراع الفقراء المسلمين حقهم في زراعة الأرض والعيش منها .. أما هذه المرّة فقد تحوّل الرهبان ؛ دعاة المحبة والرحمة ومباركة اللاعنين وإدارة الخد الأيمن والأيسر والتبشير بقيم المسيح عليه السلام ، إلى محاربين وبلطجية يستخدمون السلاح ( أنى لهم ذلك ؟ ) ضد الزرّاع الفقراء المسلمين ، وقتلوا واحداً منهم وأصابوا آخرين ! وواضح أن المسلم في مصر لا قيمة له ولا ثمن ، لأنه سقط متاع ، ولا تطبق الأحكام العرفية والقوانين إلا عليه .. أليس عبدا رخيصا في سوق النخاسة المعاصر ؟ أما الرهبان الذي قاتلوا بالسلاح فهم أرق من النسمة ، ويتطوع المنافقون والأفاقون بنفي تهمة استخدامهم للسلاح ، وكأن المصابين من المسلمين هم الذين أصابوا أنفسهم !
كان من الطبيعي وفقا لمواريث العرف الصعيدي أن ينتفض أهل القتيل ليأخذوا بثأره ، وينتقموا لشرفهم المستباح ، في ظل الدولة الرخوة الغائبة الخاضعة للتمرد الطائفي ، المدارية له دائماً من أجل عيون الشيطان الأكبر ، وخوف التشهير بها . لم يستطع الصعايدة أن يقتلوا أحداً من الرهبان وانتهت المعركة بخطف أربعة منهم أطلق سراحهم بعد قليل ، وإصابة آخرين ، مثلما حدثت إصابة في الفريق المكلوم المظلوم .. واستيقظت السلطة الرخوة آخر المطاف لتقبض على قرابة عشرة من المسلمين ، واثنين من النصارى أحدهما المقاول الذي كان يبنى السور ، والآخر ابنه ، وتم سحب اتهام الراهب الذي قيل أنه هو الذي أطلق الرصاص ؛ من أجل المواءمة وإخماد النار !
كانت الأمور تتجه إلى التصفية ، والجلوس عرفياً للمصالحة ، ولكن قادة التمرّد في الداخل والخارج حرّكوا عناصرهم من الخونة والمرتزقة ، ليقلبوا الحقائق ، ويشعلوا النار من جديد ، وجلجلت في الأفق ، وعلى صفحات بعض الصحف المحلية والدولية مقولات يسارية قديمة من عينة " استحلال الآخر " و " الاعتداء على الأقباط " و " الفتنة الطائفية " و " التطرف الوهابي " و " جماعات التخلف السلفية " ... الخ ، وتوهجت مواقع النصارى على الشبكة الضوئية بخطابات الإثارة والكذب والتضليل لشن حرب صليبية ضد الإسلام والمسلمين وأجهزة الأمن المصرية والنظام المصري كله ، وانطلق المأجورون يرسلون بالبريد الإليكتروني رسائل تفرز قبحاً ودمامة وتعصباً وشيطنة للفقراء المسلمين عند دير " أبو فانا " ، بل إن كتبة النظام من الطائفيين المتعصّبين راحوا – بلا خجل – يدينون الإسلام والمسلمين ، ويستبقون التحقيقات ، ويخالفون الحقائق الساطعة سطوع الشمس ، وتتحدث عن المعتدى الطائفي المستقوى بالسلاح والبابا وأمريكا أنه ضحية المسلمين المتخلفين الذين يكرهون الآخر! ثم تحرّكت المظاهرات التي تضم مئات النصارى الذين تجمعوا من شتى الأماكن ليرفعوا اللافتات المهينة للدولة والمواطنة ، وتهتف للبابا ، وتستنجد بأمريكا وبوش ، وسبق أن قامت هذه المظاهرات عام 2004م لمناسبة إسلام وفاء قسطنطين التي اعتقلها البابا ، واستنجد المتظاهرون يومها بشار ون ودعوه للتدخل في البلد البائس ، وكان من ضمن الهتافات أخيرا " أمريكا فين .. الإرهاب أهو " و " ولا هنخاف ولا حنطاطى خلاص بطلنا الصوت الواطى " .. ولا شك أن هذه الهتافات غايتها استفزاز المسلمين وإذلال السلطة وتحقيق مطالب غير مشروعة ، فضلاً عن جذب النصارى الذين لا يشاركون في التمرّد ، ويرون المسألة بمنظور آخر .
الأخطر من ذلك كله إصرار البابا على الظهور في صورة زعيم دولة الكنيسة ، وذهابه وهو مريض إلى المستشفى الذي يُعالج فيه الرهبان المصابون ( كانوا على الأسرة بملابسهم الكهنوتية وتبدو صحتهم جيدة ! ) واشتكوا إليه من الاعتداءات المستمرة (!) ، وقد رد عليهم بأنه يعرف كل شيء وسيفعل اللازم وسيناقش الاعتداءات منذ عام 1926م ، ولن يفوّت ما جرى ! وكأن دولة مصر العربية محيت من الخريطة ! ثم وهو الأخطر أنه أعلن رفض المصالحة ووضع رجاله ستة شروط مهينة ومذلة للنظام والمجتمع كله ليقبل بالجلوس للمصالحة !
نحن إذاً ، أمام تخطيط يتجاوز الأحداث اليومية التي يمكن أن تجرى بين المسلمين أنفسهم ، إلى شئ آخر يبدو بشعاً وفظيعاً ، وخاصة إذا انطلق ردّ الفعل الأعمى من عقاله ، ولم تمكن السيطرة عليه !
وإذا كان موقف اليسار الذي يتمرغ في المال الطائفي مفهوماً ، وموقف قادة التمرّد الطائفي العملاء معروفا ، فإن موقف بعض القساوسة غير مفهوم ولا معروف ، اللهم إلا إذا وضعناه في سياق القنابل أو الألغام التي بشّر بها الأنبا " بيشوى " فى كلامه للصحافة .. وما بالك بوكيل مطرا نية ملوي الذي يُسوّغ قتل " المسلم " الذي راح ضحية سلاح الرهبان ، بأنه كان مختل العقل ، ويذهب إلى الدير باستمرار وكانوا يطردونه من هناك ، وأن أهله كانوا يتمنون موته ليتخلصوا منه ؟
هل هذا كلام يليق برجل دين فى تسويغ جريمة قتل بشعة ؟
هل يرضى أن يكون أخاه أو ابنه أو قريبه هو القتيل – حتى لو كان مختل العقل ؟
إننا أمام تخطيط فيه جرأة ووقاحة وعدوان يستهدف الدولة كياناً وعقيدة وتاريخاً ، ويستهين بمصير الأقلية غير المسلمة لحساب الشيطان الأكبر ، ولا أظن قادة التمرّد سيكونون ببعيد عن آثار هذا التخطيط الإجرامي ونتائجه الكارثة ، لأنهم فى لحظة ما ستحترق أصابعهم على الأقل ، ولا بأس من تذكيرهم بالمعلم يعقوب الخائن ، ومصيره النكد !
أما كتّاب السلطة الطائفيون الذين يُدافعون عن التمرّد الطائفي ، ويُسوّغون تصرفاته الإجرامية – ومثلهم بعض المحامين المتعصّبين – فإن دفاعهم متهافت وغير مقنع ، ولعل إعلان الداخلية عن تعرّض محلات الذهب التي يملكها المسلمون لحوادث عنف أكبر بكثير مما تتعرض له محلات الذهب التي يملكها نصارى ، يلقم هؤلاء المتمرّدين حجراً ، ويؤكد أن صناعة الذهب وتجارته ليست حكراً على النصارى وحدهم ، ويُثبت أن التضليل الإعلامي للتمرّد الطائفي ، لن يُغيّر الحقائق ولن يُقنع المصريين أن الجماعات الإسلامية تستحل أموال النصارى وتعتدي عليهم ، وأن النصارى مضطهدون بسبب دينهم .. فهذا كله كذب وافتراء وزراعة للشر لن تنتج إلا الجحيم .